[مقدمة]
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله بديع الوجود وما حواه، ومخترع الأزل وما عداه، الذي شهدت لوامع الأنوار القدسية في ذوات العقول الرضية بأنه كان ولا وجود (1) ولا عدم، ونطقت الآثار العلوية الأزلية في ذوات الأنفس (2) الزكية بأنه كان ولا حدث ولا قدم، المقر على ذاته دوحة الوجود والأزل، وأول واقع من الاختراع في الأول الذي اتخذه الجهلاء معبودا وأشركوا بالله (3) من حيث ظنوه توحيدا، بأنه لا إله منه ومن دونه من المبدعات إلا فاطره، وعز ببديع فعله ذلك عن التشبيه، وتكبر بعظيم صنعه عن التحديد، وتعالى عما يقول الظالمون علوا كبيرا. أحمده بما دلنا عليه من أسمائه العظام، وأعبده من تلقاء أولياء مصابيح الظلام، وأشهد أن لا إله مما وقع تحت الابداع وحصره سمة الوجود والاختراع إلا هو، إلها متقادسا عن الصفات، متجاللا عن السمات، متعاززا عن الموصوفات، متنازها عن الموسومات.
وأشهد أن محمدا عبده ورسوله الذي اصطفاه وانتجبه واجتباه،
Página 13
فأيده بمواد البركات القدسانية، وأمده بفيض السعادات النفسانية، فشرع الشريعة وأحكم قواعدها، وبسط الحكمة وأعلن أوابدها، وأدى الأمانة بنصب الاعلام، ونصح الأمة باتباع الامام، صلى الله عليه صلاة متضاعفة ما تعاقب الملوان (1) واختلاف الجديدان، وعلى أبرار عترته أئمة الهدى، ومصابيح الدجى، الذي نور الله بهم عرصات الحنادس، ودفع ببركاتهم تمويهات الأبالس، أفضل السلام والتحيات.
أما بعد، فإنني لما رأيت سيد العظماء، وزين الوزراء، السادات الاجلاء، وقائد الجيوش النجباء، فخر الملك وزير الوزراء أطال الله بقاءه مخصوصا من الله بالفطنة والفهم، ممنوحا من (2) الدراية والعلم، متوجا بشرف الولاية النبوية، معتصما بالعصمة العلوية، متدينا بمحبة العترة الطاهرة آل طه ويس وتخيلت أن بعضا من الشياطين الذين يوسوسون في صدور الناس من الأبالسة الملاعين قد تمكن من عالي مجلسه، وألقى إليه من الكلام ما أثر في نفسه صدا عن سبيل الله، وجرأة على الله، وإخلالا بطاعة الله، وجحود الآيات من الله. ثم لم يكن في خدمته من كان له انبعاث في إظهار ما وصل إليه من مواد البركات من جهة أولياء النعمة، وسادات الأمة الذين افترض الله طاعتهم، سلام الله على العابر والغابر، والقائم منهم فينا والناظر، بعثتني حمية الدين، وصدق الولاء واليقين، وقضية ما أرجع إليه في الله من صحة الاعتقاد، وحكم ما افترض الله علي في سبيله من الجهاد، على أن أقرر وجوب الإمامة، وصدق مقامات آل طه ويس من الأئمة، عليهم من الله التحية
Página 14
والسلام، وصحة إمامة القائم في عصرنا منهم مولانا أمير المؤمنين عبد الله ووليه المنصور أبو علي الحاكم بأمر الله، سلام الله عليه وعلى الأئمة الطاهرين، وافتراض طاعته واتباعه بمقدار اليسير الذي تناهى إلي من أنوارهم، وأتى عليها ببراهين نيرة لا ترد (1)، ودلالات بينة لا تهد، وأن أجعل (2) ذلك إليه في كتاب ليقف عليه، وينظر منه على صحة المذهب الشريف، والاعتقاد يتصور لديه رجاحة أهل الطاعة بما شملهم من فضل الله بالاستمداد، ففعلت وسميته (3) بكتاب المصابيح في إثبات الإمامة لصاحب الزمان عليه السلام، إذ المورود فيه من الدلالات كالمصابيح التي هي كالرجوم للشياطين، إذ المورود فيه من الدلالات كالمصابيح التي هي كالرجوم للشياطين، وجعلته في مقالتين: إحداهما في إثبات المقدمات التي يحتاج إليها في إثبات الإمامة.
وثانيتهما في الإمامة. وأنا أستعين بالله وبوليه عليه السلام في إتمام ذلك وأستمد المعونة منه ومن حسن رأفة وليه، وأسأله العصمة والتوفيق لا يراد الشئ كما أخذته من أولياء النعمة عليهم السلام.
والمقالتان تجمعان أربعة عشر مصباحا يشتمل جميعها على ماية برهان وخمسة براهين.
Página 15
المقالة الأول في إثبات المقدمات وهي سبعة مصابيح:
المصباح الأول: في صدر الكتاب وبيان العلة الداعية إلى تقديم المقدمات وترتيبها، في برهان واحد.
المصباح الثاني: في إثبات الصانع، يشتمل على سبعة براهين.
المصباح الثالث: في إثبات النفس وأنها جوهر حي باق غير عالم في بدء وجودها، يشتمل على عشرة براهين.
المصباح الرابع: في إثبات صورة السياسة الربانية التي هي دار الجزاء وأن داره غير الدنيا، يشتمل على عشرة براهين.
المصباح الخامس: في إثبات وجوب وجود الشرائع والرسوم التي هي العمل، يشتمل على سبعة براهين.
المصباح السادس: في إثبات وجوب التأويل الذي هو العلم، يشتمل على سبعة براهين.
المصباح السابع: في إثبات الرسالة ووجوبها، يشتمل على سبعة براهين.
Página 17
المقالة الثانية في إثبات الإمامة ووجوبها وهي سبعة مصابيح
المصباح الأول: في إثبات الإمامة يشتمل على أربعة عشر برهانا.
المصباح الثاني: في إثبات وجوب عصمة الامام يشتمل على سبعة براهين.
المصباح الثالث: في إثبات بطلان اختيار الأمة للامام يشتمل على سبعة براهين.
المصباح الرابع: في إثبات كون صحة الامام بالنص من الله تعالى واختيار الرسول (ص) يشتمل على سبعة براهين.
المصباح الخامس: في أن الإمامة بعد النبي صلى الله عليه وآله لأمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام من دون غيره، يشتمل على سبعة براهين.
المصباح السادس: في أن الإمامة بعد مجئ النصر بها إلى جعفر ابن محمد الصادق عليه السلام لإسماعيل وذريته عليهم السلام من دون إخوته، يشتمل على سبعة براهين.
Página 19
المصباح السابع: في إثبات وجوب إمامة صاحب الزمان الامام الحاكم بأمر الله أمير المؤمنين سلام الله عليه وافتراض طاعته على المقالات كلها يشتمل على سبعة براهين.
Página 20
المقالة الأول في إثبات المقدمات
Página 21
المصباح الأول في صدر الكتاب، والبيان عن العلة الداعية إلى تقديم المقدمات وترتيبها على ما رتبت عليه في برهان واحد.
البرهان الأول:
نقول: إن الأشياء كلها لا تخلو من أصول يرجع إليها في إثباتها، ومن علل تتقدم عليها، وبها تصح أعيانها، ومن قوانين عليها تكلم في إيجابها، ومتى لم تكن تلك القوانين ممهدة، ولا تلك العلل مقررة، ولا تلك الأصول مثبتة (1)، كان الكلام على فروعها غير مفهوم ولا معلوم، وكان يعرض تسرع السامع إلى دفعها لاشتباه القواعد عليه فيها.
وإذا كانت الأصول مثبتة (2)، والعلل مقررة، كان إيجاب الفروع لازما لا محيص عنه، كالنار التي هي علة الاحراق والاسخان متى وجدت كان إحراقها وإسخانها واجبا لازما لا ينكر (3).
Página 23
وكالسراج الذي هو سبب الضوء في الظلمة، متى وجد كان الضوء واجبا لا يدفع.. وكالجزاء الذي إذا ثبت كان العمل واجبا لا ينكر.
ولما كانت إمامة الامام وخلافته لا تصح إلا بصحة كون الرسول ورسالته وامتناع بقائه، ولا رسالة للرسول إلا بصحة وجود المرسل والمرسل إليه جميعا (1). وكون المرسل إليه عاجزا عن الوصول إلى المرسل مع كونه قادرا على قبول (2) الرسالة والعمل بها، ووجوب الجزاء على الطاعة والعصيان لاستحالة استخلاف الخليفة من المستخلف مع بقائه، وارتفاع توهم غيبته، وامتناع وجوب ارسال الرسول من المرسل مع عدم من يرسل إليه، وكون المرسل إليه عاجزا لا استطاعة له (3) ولا قدرة على قبول الرسالة والعمل بها، أو وجود المرسل إليه السبيل إلى المرسل بغير واسطة أو بطلان الجزاء على قبول المرسل إليه الرسالة وطاعته فيها أو نبذها.
وكان كل واحد من هذه الأسباب التي لا تصح الرسالة التي هي علة للإمامة إلا بها، وكانت هذه الأسباب كل سبب منها هي علة لما دونه ومتعلقا بما سواه، وكانت كلها كالأصول احتجنا إلى تقديم الكلام عليها، أولا ليكون لنا إلى المراد طريقا، ولما نورده من الغرض في تقرير الإمامة وإثباتها تصديقا، وكان الأولى بتقديم الكلام عليه إثبات الصانع الذي هو المرسل، وتعلق وجود الكل بوجوده الذي لولاه لكان الأيسية لاء.
Página 24
ثم إثبات أنفس البشر للحاجة في إيجاب الرسالة إلى وجود من يرسل إليه أولا، وكونها جوهرا شريفا حيا قادرا غير عالم في بدء وجودها قابلا للآثار بعلم واختيار باقيا بعد فناء الأشخاص.
ثم إثبات الشرائع والأعمال لحاجة الأنفس في الوجوب في الحكمة تمايزا لرب من المربوب، مع كون الأنفس مختارة قادرة على فعل الخير والشر.
ثم إثبات الشرائع والأعمال لحاجة الأنفس في استحقاق الجزاء إلى أعيان الأعمال الشريفة الموضوعة المشابهة لعالمهما، ثم إثبات التأويل الذي هو العلم لحاجة الأنفس إلى إعلامها وثوابها وعقابها ومعادها بما تراه وتدركه من جهة الحس وتعريفها الحكم، والمعاني التي تجيئها من جهة خالقها بالرسالة المتضمنة أعيان الأعمال التي (1) هي أدلة محسوسة على ما لا يرى.
ثم إثبات الرسالة التي هي آخر المقدمات فإنه إن لم يجب في الحكمة إيجاد أعيان الأعمال ليقع بالعمل بها استحقاق الجزاء ولم يلزم منها نصب الأمثلة لامتناع وقوع معرفة النفس إلا بها المعاد (2)، ولم يفترض فيها إقامة الوسيلة لامتناع الله تعالى عن الروية لم تقع الحاجة إلى الرسول الذي هو يمثل الأمثلة، ويرسم الأعمال، ويكون الوسيلة.
ثم الانتقال إلى الكلام على الإمامة التي هي الغرض في هذا الكتاب، إذ بامتناع بقاء الرسول في هذا العالم وجبت الإمامة ليصير
Página 25
ذلك كله كالسلسلة بعضها متصل ببعض، ففعلنا وجعلنا المصابيح جامعة لبراهينها على ما هي مختصة به بحسب الحاجة والله الموفق للصواب.
Página 26
المصباح الثاني " في إثبات الصانع "
البرهان الأول: نقول:
إن السبيل إلى معرفة ما يراد معرفته من طرق ثلاثة: إما من جهة الحس على ما ينقسم إليه من سمع، وبصر، وشم، وذوق، ولمس، وهو المأخذ به أولا في معرفة ذوات الأشياء.
وإما من جهة العقل على ما توجبه قضاياه وتقاسيمه بواسطة الحس، وإما من جهة البرهان والاستدلال الذي يقوم من بين الحس والعقول جميعا.
ولما كان الصانع ليس بذي كيفية فيكون مدركا بحس، ولا بذي سمة فيكون معقولا يعقل كان السبيل (1) إلى إثباته من جهة إقامة البراهين من بين الحس والعقل على صنعه الذي هو أكبر شهادة.
وإذا كان ذلك كذلك، وكنا إذا عللنا العالم ودللنا على حدثه كان بحدوثه وجوب المحدث الصانع، كالمضروب إذا قامت الشهادة
Página 27
عليه وجب به ضرب وضارب، قلنا: إن علة الشئ في وجوده غير عين الشئ كما نرى عيانا أن علة وجود حركة الطاحونة غير الطاحونة، وعلة وجود حركة أشخاص (1) الحيوان غير الأشخاص، إذ لو كانت ذواتها علة لحركتها لكانت أبدا متحركة لوجود ذواتها، ولكانت حينئذ لم تكن علة بل كانت عين الشئ، ولما كنا نراها باقية بعد الحركة لا تتحرك.
صحيح أن علة وجود الأشياء غير ذواتها، وكان العالم بما يحويه ذاتا واحدة بمعنى أنه من حيث الجسمية شيئا واحدا، وكان البعض منه متحركا والبعض ساكنا، ثبت أن حركة المتحرك وسكون الساكن لا من قبل ذاته، إذ لو كان من قبل ذاته لكانت الابعاض كلها متحركة أو ساكنة ، إذ الذوات ذات واحدة، وإذا ثبت أن حركة المتحرك منه، وسكون الساكن منه لا من قبل ذاته، وجب أن يكون من يتحرك مسكن يحفظ نظام الكل وترتيبه (2) وهو غيره، والمحرك المسكن هو الصانع، إذ الصانع ثابت.
البرهان الثاني:
لما كان العالم بكليته جسما ذا أجزاء وأبعاض معدودة (3) متغايرة بالاشكال والصور مثل ما نعاين أن صورة الأفلاك والكواكب التي هي أبعاض المعالم غير صورة الماء وصورة النار، وشكلها غير صورة الأرض والهواء، وصورة أشخاص المواليد غير صورة الهواء والأفلاك، وكل ذلك على تباين صورة منتضد (4).
Página 28
والبعض بالبعض متصل، كالباب الذي كله خشب وهو ذو أبعاض وأجزاء، وصورة بعض أجزائه التي هي الألواح مخالفة لصورة الاجزاء الأخرى التي هي الأعمدة وغيرها، فكل ذلك تباين صورته متصل والبعض بالبعض منتضد (1).
ومعلوم أن كل شئ جمعه، والشئ الآخر معنى من المعنى فهو في ذلك المعنى وإن كان كل واحد منهما يختص بمعان (2) آخر مثله وشكله، ولما وجدنا معنى تخالف الاجزاء والنضد قد جمع العالم والباب، وكان الباب لم يجتمع أجزاؤه إلا بفعل فاعل، كان العالم في أجزائه (3) لم فالمحدث يقتضي محدثا صانعا، والصانع ثابت.
البرهان الثالث:
لما كان في المشاهد أن عالم اللغات على أنواعها من لغة العرب، والفرس، والعبراني، والسرياني، والنبط، والروم، والزنج، والترك، وغير ذلك مؤلف من أجزاء معلومة معدودة مثل الحروف البسيطة التي: آ، ب، ت، ث، وبها تسكن العبارة (4) عما في النفس من صور المحسوسات والمعقولات بالنطق، وكانت هذه الحروف لا تأتلف من ذواتها إلا بمؤلف يؤلفها فيقدم واحدا أو يؤخر واحدا مثل قولنا فضة، التي لم يكن تقدم الفاء وهو في أصل الحروف بعد الضاد على الضاد التي هي في الأصل قبل الفاء إلا بتقديم مقدم وتأخير مؤخر.
Página 29
وكان العالم عالم الجسم مماثلا في كونه أجزاء معلومة، وأعيانا متغايرة، وصورا مختلفة لعالم اللغات والنطق، كان منه العلم بأن ائتلاف أجزائه مع العلم بأنها غير قادرة على حركة، ولا هي حية ولا عالمة، فيتوهم أنها ائتلفت (1) بذاتها واجتمع إلى بعض بعضها لو كان جائزا، وكونها مع ائتلافها متضادة متنافرة لم تكن إلا بفعل فاعل وجمع جامع، وإذا كان ائتلافه لم يكن إلا بفعل فاعل والفاعل الصانع، فالصانع ثابت.
البرهان الرابع (2):
لما كان سمة ما لا يستحيل عما عليه عنصره ولا يتغير ولا يقبل الفعل أن يكون لا مفعولا، وكان سمة ما يقبل الفعل الذي به يستحيل من حال إلى حال ويدخل عليه التغيير أن يكون مفعولا، وكان العالم بأفلاكه ونجومه ومواليده لا نراه على حالة واحدة من أن تكون إذ الكواكب أبدا طالعة أو غارية، أو أن يكون أبدا نهارا وليلا، أو أن تكون الموجودات من المواليد أبدا باقية على حالتها، وكانت الاستحالة من حال الكينونة الطلوعية والنهارية إلى حال الفسادية، والغروبية والليلية فيه موجودة، كان من ذلك العلم بأن من قبيل ما يقبل الفعل به يستحيل ويتغير (3) إن مفعولا، وإذا كان (4) من قبيل من يقبل الفعل (5) كان مفعولا.
وإذا كان صح مفعولا انتفى فاعلا، والفاعل هو الصانع، إذا الصانع ثابت.
Página 30
البرهان الخامس:
لما كان العالم محسوسا مدركا وكان لا يخلو بجميع ما فيه من خمسة أقسام، أما مبصرا وهو مدرك البصر، وإما مسموعا وهو مدرك السمع، وإما مشموما وهو مدرك الشم، وإما مذوقا وهو مدرك الذوق، وإما ملموسا وهو مدرك اللمس.
وكان لو كان العالم بأقسامه هذه بأن يستحق القدمة لكان الذي يدركه وهو مدركه أولى بأن يستحق القدمة، إذ من قضايا العقل أن الذي يدرك أجل من مدركه (1). وأن الذي يحوي أعلى من المحوي، وكانت القوى التي بها يدرك العالم التي هي المشاعر الخمسة محدثة، فالعالم المدرك أولى بأن يكون محدثا، إذ العالم محدث، والمحدث يقتضي محدثا، والمحدث هو الصانع، فالصانع ثابت.
البرهان السادس:
لما كانت الأشياء لا تدرك إلا ما كان من عنصرها ولا تدرك ما علا عليها " إلا ما كان " (2) دونها، وكان محدث لا من عنصر القديم ولا هو عال عليهما، كان من ذلك الحكم بأن العالم لو كان قديما لكان غير مدرك " ولا " (3) محسوس بحواس محدثة.
ولما كان مدركا محسوسا ملموسا مبصرا مذوقا بحواس محدثة مفعولة قد علت الحواس بإدراكها إياه، وكان لا عالم الطبيعة إلا ذلك، كان منه العلم بأنه محدث مثله، والمحدث يقتضي محدثا، إذا للعالم صانع، فالصانع ثابت.
Página 31
البرهان السابع:
لما كان العالم ذا أجزاء وأبعاض، وكان كل بعض مختص بمعنى هو في البعض الآخر معدوم، من ضياء، ولطافة وكثافة، وشفافة، ونور، وظلمة، وكان لو كان هذا العالم قديما لم يتقدمه صانع صنعه ورتبه كما هو لكان لا يكون اختصاص جرم الشمس بأن يكون مضيئا أولى من جرم الأرض، ولا اختصاص جرم الماء بأن يكون رطبا سائلا أولى من النار، ولا اختصاص الهواء بأن يكون لطيفا أولى من الأرض، ولا اختصاص جرم الأرض بأن يكون كثيفا ثقيلا أولى من الهواء والنار.
وكان لما كان الاختصاص في أبعاضه موجودا كان منه ألا يجاب بأنه لعلة صار البعض مختصا بمعنى هو في الآخر معدوما، وإذا حصلت العلة وجب أن يكون له فاعلا فعله، إذ لولا كان الفاعل وتخصيصه كل بعض ما هو يختص به لكان مع عدم الفاعل لا يجب اختصاص بشئ منه، بمعنى دون الآخر، ولكانت الابعاض كلها شيئا واحدا، إما كثيفا، أو لطيفا، أو مضيئا أو مظلما. إذا للعالم صانع، فالصانع ثابت.
Página 32
المصباح الثالث في إثبات النفس وأنها جوهر حي قادر غير عالم في ابتداء وجود ذاتها، باق بعد فساد الجثة بما تكسبه من العلوم والعمل..
البرهان الأول:
لما كان حركة كل متحرك لا تخلو إما أن تكون من داخل وإما أن تكون من خارج، وكان من كان حركته من خارج إما مجرورا جرا وإما مدفوعا دفعا، وبطل أن تكون حركة شخص البشر (1) بجر أو دفع ثبت أن حركته من داخل، وما كان حركته من داخل إما طبيعيا وإما من محرك مختار.
وكان ما كان (2) طبيعيا لا يسكن البتة كحركة النار، وما كان من محرك مختار تارة يتحرك وتارة يسكن وبطل أن تكون حركة الشخص طبيعيا لا يسكن البتة، ثبت أن حركته (3) من محرك مختار، والمحرك المختار نسميه نفسا. إذا النفس ثابتة (4).
Página 33
البرهان الثاني:
لما كان لشخص البشر قوة وغضب وامتعاض من مثل ما يفعل بالموتى من غسلهم وتحنيطهم وتكفينهم وسد منافذهم، وكن من حال الموت لا يغضب ولا يمنع إذا فعل به ذلك، ويبطل منه غضبه ومنعته من غير بطلان ذاته أو جارحة من جوارحه.
كان من ذلك العلم بأن غضبه من ذاته ولا من قوة " إذ لو " (1) كان من ذاته لكان غاضبا مانعا ممتعضا بوجود ذاته.
ولما لم يكن من ذاته كان من غيره، والغير هو الذي نسميه نفسا. إذا النفس ثابتة.
البرهان الثالث:
لما كان سكون كل ساكن لا يخلو إما أن يكون بالطبع وإما أن يكون بالقهر، وكان ما كان سكونه بالطبع لا يكون زوال سكونه بالطبع إلا بتحريك محرك، مثل حجر الطاحونة الذي إذا تركه المحرك له عاد إلى حال سكونه، وما كان سكونه بالقهر لا يدخل السكون عليه إلا بإمساك ممسك مثل ارتعاد القصبة في الماء الجارية التي لا تسكن إلا بإمساك ممسك. وإذا تركها الممسك عادت إلى حال حركتها.
وإذا كان شخص البشر سكونه عند الموت لا بقهر قاهر، ولا بإمساك ممسك إياه، ثبت أن سكونه بالطبع، ولما كان سكونه بالطبع لزم أن زوال سكونه لم يكن إلا بتحريك محرك إياه، وأن سكونه حين كان ساكنا لم يكن إلا في ترك المحرك تحريكه إياه، وإذا لزم أن زوال سكونه بتحريك محرك إياه وسكونه في ترك المحرك تحريكه، ثبت أن له في حال حركته محركا إذا تركه لم يتحرك، والمحرك هو الذي نسميه نفسا. إذا النفس ثابتة (2).
Página 34
البرهان الرابع:
نقول: إن كل شئ اتحد بحد شئ فهو عينه ومثله، ولما كان حد الجوهر أنه قابل للمتضادات من غير استحالة عن ذاته، وكانت النفس المحرك لشخص البشر قابلة للمتضادات مثل العلم، والجهل، والشجاعة، والجبن، والسخاء، والبخل، من غير استحالة عن ذاتها، وكان كل قابل للمتضادات من غير استحالة عن ذاته جوهرا، كانت النفس جوهرا. وإذا كانت جوهرا كانت باقية قائمة بذاتها. إذا (1) النفس جوهر باق.
البرهان الخامس:
لما كان طبيعة الجوهر أن يكون حاملا وطبيعة العرض أن يكون محمولا، والجوهر أن يكون قابلا والعرض أن يكون مقبولا، والجوهر أن يكون مكانا والعرض أن يكون متمكنا.
وكانت النفس مما يحمل لا مما يحمل، ويقبل لا مما يقبل، ويتمكن منه لا مما يتمكن، كان منه الايجاب أنها موصوفة بصفة الجوهر. وإذا كانت موصوفة بصفة الجوهر في كونها حاملة لا محمولة، وقابلة لا مقبولة، ومكانا لا متمكنة، كانت جوهرا، فإذا النفس جوهر، وإذا كانت جوهرا، كانت قائمة باقية لا تبيد.
البرهان السادس:
لما كان العلم صورة الشئ على ما هو به من حال هيئته، وماهيته، وكميته، وكيفيته، ولميته، والعالم هو المتصور بهذه المعارف، وكانت " أنفس " (2) البشر عند ابتداء نشوئها لو أمسكت عن تعليمها معارف الأشياء واحدا بعد واحد بالزمان والمدة
Página 35