فقال عيد منصور: ويثرى ثم يلجأ إلى الدين ليكفر، فتتحول سرقاته بقدرة قادرة إلى ربح حلال، الدين عند عم زهران هو المشجع الحقيقي على ارتكاب كافة الآثام!
ثم وهو يضحك عاليا: ولذلك فهو يسرق قوت الفقراء ويمضي ووجهه ينور بالإيمان والطمأنينة!
وكنت أتابعهم وهم يصلون في المقهى بعين متأملة ساخرة، يركعون ويسجدون ويسدلون جفونهم خشوعا وامتثالا ، وأتذكر كم أنهم أوغاد لصوص لا يحق لهم أن يبقوا ساعة واحدة فوق سطح الأرض، ولم أجد جدوى في مناقشاته، فدائما أراه مطمئنا واثقا من نفسه، يؤمن بالشر كما يؤمن بالخير، ويطيع الشيطان كما يطيع الله، ويتردد بينهما تردد التاجر الماهر في السوق الحرة الذي يحرص في النهاية على أن يزيد دخله على منصرفه. وجعلني ذلك أتلمس وجوه الأعذار لأوغاد مثل خليل زكي، وسيد شعير، بل وعيد منصور، ممن لم يتعاملوا معاملة جادة مع دين فانطلقوا في الحياة بوحي غرائزهم وعقولهم العملية الجافة، خلال أجواء من الصراع العنيف القاسي. ولذلك أيضا ترديت كثيرا فريسة لكآبة روحية معتمة كدت أرفض تحت وطأتها التجربة الإنسانية كلها، وكانت تلك المشكلة مدار أحاديث لا تنتهي بيننا، قال رضا حمادة: الظاهر أنه لا يوجد تاجر شريف!
فقال عيد منصور: لا يوجد إنسان شريف.
فتساءلت: ماذا عن دور الدين؟
وتساءل عيد منصور: لم نتمسك بالأخلاق ما دامت تقود إلى الفشل؟
وعاشت تلك المشكلة معي أعواما، وأعواما؛ حتى ناقشتها في صالون الدكتور ماهر عبد الكريم، بدءا من نقد الواقع المصري، وانتهاء إلى دراسة الخير والشر في ذروتها الفلسفية، ويدعونا ذلك إلى تذكر الدكتور إبراهيم عقل وفلسفته في المثل الأعلى، وسلوكه المناقض لفلسفته! وأذكر بالمثل قول الأستاذ سالم جبر: مهما يكن من أمر فلا يمكن تجاهل المرحلة التي قطعها الإنسان من الغابة إلى القمر!
أو قول رضا حمادة: توجد سجايا قيمة جديرة باسترداد الثقة، مثل تفاني الرجل في خدمة أسرته، مثل الذكاء الوقاد المولع بالحقيقة، مثل بعض مواقف البطولة النادرة.
وقوله أيضا: لا تغال في المثالية وإلا مت تقززا!
وأثرى زهران حسونة في أثناء الحرب ثراء فاحشا فارتفع إلى مرتبة أصحاب الملايين. وأسس شركة للمقاولات عام 1945 ولكني أغضيت عن التشهير به مذ قتل ابنه الطالب بكلية الهندسة في معركة القنال عقب إلغاء معاهدة 1936. سار الرجل وراء النعش معتمدا على ذراعي صديقين محمر العينين شارد اللب، واقتصرت علاقتنا وقتذاك على تبادل المجاملات في المناسبات، ولكن عيد منصور وكد لي أنه ما زال يجمع النقود ويؤدي الصلاة، وكان أوثقنا صلة به بحكم أعماله التجارية. واستمر ازدهاره المالي في صعود، وأقام في قصر المعادي، وتزوج في الخمسين من فتاة في العشرين بحجة زهد زوجته الأولى في المسرات الزوجية عقب وفاة بكريها، ولكن ظل الحج نزهته الروحية كل عام، وازداد نشاطه بعد الثورة. لم يكن من الملاك الزراعيين، ولكن شركته أممت فيما أمم من شركات عام 1961، وهكذا تقوض ذلك البناء الشامخ الذي نحتت أحجاره من الذكاء والغش والإرادة والانتهازية والإيمان والفجور، وكان رضا حمادة يعلق على الأحداث بامتعاض شديد، مؤكدا موقفه الثابت من الثورة، فقلت له: ولكنك عرفت الرجل تماما.
Página desconocida