وأعقب ذلك مشاجرة عنيفة بين البك وحرمه، تصدعت لها جدران البيت، وعصفت بالشارع الهادئ حتى ازدحمت خصاص النوافذ بأشباح الحريم، وغادر الرجل البيت فلم ير بعد ذلك، ولكن شاع في الحي أنه تزوج من الغجرية، وأقام معها في الدرب الأحمر، ووجدت الزوجة نفسها بلا رجل فلعبت دوري الرجل والمرأة معا.
كانت غريبة الأطوار حقا، ومن آي ذلك أنها سمحت لحنان باللعب مع أترابها على حين منعت أخاها الأكبر سليمان من مغادرة البيت إلا بصحبتها! كان صبيا جميلا رشيقا، كنا نراه وهو يلعب في الحديقة منفردا أو مع خادمة، وكان وديعا مهذبا أرق من أخته نفسها، وكنا نبادله النظرات فنود لو يلعب معنا، ويود لو نلعب معه، ولكننا ظللنا غرباء حتى غادر مع أسرته الحي، وتعلق قلبي بحنان قبل أن أناهز البلوغ، كانت بيضاء، زرقاء العينين ناعمة الصوت، وكانت ليالي رمضان فرصة هنية للصغار من الجنسين، يجتمعون في الشارع بلا اختلاط، ويتراءون على ضوء الفوانيس وهم يلوحون بها في أيديهم، وكنا نترنم بأناشيد رمضان ونتبادل مشاعر الحب وهو كامن في براعمه المغلقة، وقنعت عواطفنا الساذجة بتبادل النظرات، وإظهار الرشاقة في الجري والغناء، أو المخاطبة بالابتسام في خفاء. ولما بلغت الثانية عشرة من عمرها منعت عن الطريق والمدرسة معا. لم يكن بيتها يؤمن بالتعلم أو العمل ويعتبرهما من ضروريات الفقراء فحتى سليمان هجر المدرسة قبل أن يحصل على الابتدائية. وباختفاء حبيبتي من الطريق اشتد ولعي بها، وصارت شغلي الشاغل. وكانت تريني نفسها خطفا من النافذة، أو نتبادل المشاعر بإشعال أعواد الثقاب في الظلام فوق الأسطح، وخطونا خطوة جديدة بفضل خادمتها التي ترددت بيننا خفية حاملة التحيات والورود، وسعدت بذلك سعادة لا توصف، فطمعت في المزيد منها، ولكني لم أدر كيف، وتسلل إلى روحي قلق نشيط غامض تتجاذبه قوى خفية من البهجة والكآبة، وإذا بأمها تزورنا ونادرا ما كانت تزور أو تزار، وبصراحة لا يمكن أن تصدر إلا عن امرأة مثلها اقترحت أن نتزوج!
وأحدث اقتراحها ذهولا، وقالوا لها: إنه شرف كبير ولكنهما لم يبلغا الثالثة عشرة من عمرهما.
فضربت بعصاها الأرض وقالت باستهانة: الزواج يعقد أحيانا بين أطفال في الأقمطة.
فقالوا: ولكنه لم يتم دراسته الابتدائية بعد وما زال أمامه مشوار طويل.
فقالت بعجرفة: بنتي غنية، ولن يجد حاجة إلى شهادة أو وظيفة. - ولكن التعليم ضروري والوظيفة ضرورية. - كلام فارغ. - إنه لا يملك ولن يملك شيئا، ولن يقبل أن يكون مجرد زوج لزوجة غنية.
فتساءلت بحدة: والعمل؟ - لا سبيل إلا الانتظار حتى يتم تعليمه ثم له أن يتزوج بعد ذلك. - وما مدى هذا الانتظار؟ - عشرة أعوام على الأقل.
فصرخت المرأة: إنكم تركلون النعمة.
ووقفت غاضبة ثم رددت بنبرة أقوى: إنكم تركلون النعمة!
وغادرت البيت عابسة متعجرفة، ودار تحقيق معي لمعرفة الأسباب المجهولة التي تقف وراء تلك الزيارة الغريبة، ولم أكن أتخيل إمكان وقوع ذلك. ولم أشك في أن الأم المجنونة اطلعت على سر ابنتها، فتنازلت لاقتراح الحل السعيد كما تتصوره وهي واثقة من قبوله، وتأثرت لذلك غاية التأثر، ورغبت رغبة صادقة في الاعتذار إلى حنان، ولكن هالني أنها لم تعد تلوح في نافذتها، كما كفت خادمتها عن المجيء إلي، ورجعت عصر يوم من المدرسة لأعلم أن آل مصطفى قد غادروا البيت والحي إلى مكان مجهول. وعانيت لأول مرة في حياتي عذاب الحرمان والهجر، ولكن حدته لم تقتلني بل ولم تبطش بي، أطبقت علي حينا، ثم مضت تخف وتبهت حتى استحالت ذكرى مجردة من أي انفعال.
Página desconocida