فاستاء رضا حمادة وقال: الوفد اعتمد دائما على ثورية الشعب، ولكن الشعب تخلى عن ثوريته!
فقال قدري رزق الذي لم أره من قبل على تلك الدرجة من السخط: الوفد هو المسئول عن تخلي الشعب عن ثوريته!
وتوثقت علاقته بنا في تلك الأيام، وتعددت لقاءاتنا بشقة عدلي بركات، وشهدنا معا تدهوره حتى انتحاره، ولكنه لم ينقطع عنا فكان يجتمع بنا في بيت رضا حمادة أو في مقهى الفيشاوي، ورجع إلى طبيعته الأصلية، فقل اهتمامه بالسياسة والشئون العامة، وعاوده المرح والمجون والتفرغ لغزو الحسان. ولما قامت ثورة يوليو 1952 اكتشفنا أنه كان ضمن مجموعة الضباط الأحرار؛ فعجبنا لقدرته الخارقة على الكتمان، وقد سهر معنا عشية الثورة في مقهى الفيشاوي، وجلس كعادته يضاحكنا ويسامرنا، وعدت معه قبيل منتصف الليل إلى العباسية مشيا على الأقدام من طريق الجبل، ثم ملت أنا إلى العباسية الغربية، وواصل هو سيره شمالا إلى مسكنه بشارع أحمد ماهر كما ظننت، أما الحقيقة فإنه لم يذهب ليلتها إلى بيته، ولكنه مضى صوب منشية البكري ليقود قوة صغيرة إلى احتلال مفترق طرق! وغيبته الأحداث عنا فترة غير قصيرة طرد في أثنائها الملك، ثم رجع إلينا وقد رقي إلى رتبة جديدة. وتتابعت التطورات الهامة مثل الإصلاح الزراعي والجلاء وغيرها، ونحن نتلاقى بانتظام أسبوعي في بيت رضا حمادة قبل اعتقاله، واستمر التلاقي بعد ذلك في بيتي أو بيته أو في مقهى الفيشاوي، وطيلة تلك المدة لم يخرج حديثنا عن السياسة التي لم يعد له من حديث غيرها، ولم يكن بيننا خلاف جدي، استطاعت الثورة أن تستأثر بقلوبنا وآمالنا في لحظة تاريخية أسطورية باهرة. وقال قدري رزق: اندثرت القوى الجهنمية التي كانت تعوق تقدم الشعب مثل الملك والإنجليز والحكام الفاسدون، ورجع الأمر إلى أبناء الشعب الحقيقيين، فهو حكم الشعب للشعب لخير الشعب، انتهى الفساد والانحلال، وسينطلق تيار الإصلاح والتقدم إلى الأبد.
وقلنا إنه آن للحلم أن يتحقق، وأن ينعم بالحرية والرقي والعدل ذلك الشعب الذي عانى الظلم والاستعباد والفقر والغربة آلاف السنين. أجل ساءنا بعض الشيء التوثب للقضاء على الوفد، وسأله رضا حمادة - قبل اعتقاله - أكثر من مرة: أليس الأفضل أن تتخذوا من الوفد قاعدة شعبية لكم؟
كما ساورتنا مخاوف من ناحية أمريكا، وخشينا أن تحل محل إنجلترا بطريقة أو بأخرى، بعد ما شعرنا بمدى تأييدها للنظام الجديد، ولكن قدري رزق قال: الأمريكان ذوو نفع كبير ولا خوف علينا منهم بفضل وطنية زعمائنا الجدد.
وحلت الأحزاب وضرب على أيدي الإخوان والشيوعيين، وكان قدري يتحمس لكل إجراء بلا قيد ولا شرط، حتى سألته مرة: ولكن من أنتم؟
فضحك، وتفكر مليا، ثم قال: نحن أصدقاء الوطنية والعروبة والثورة، وأعداء الفساد والتعصب والإلحاد!
وقال أيضا بحماسه الطيب: هدفنا تحرير الشعب مما يستعبده سواء أكان شخصا أم طبقة، فقرا أم مرضا، ثم دفعه إلى المكان اللائق به تحت الشمس.
ونغص صفونا ما أصاب صديقنا رضا حمادة في شخصه وابنه وزوجته، وشد ما تأثر لذلك قدري رزق وحزن، ولكن هون من وقع المأساة القوة التي لاقاها بها صديقنا الجلد الصبور القوي، وكان قدري يعجب به، ويقول عنه إنه رجل ولا كل الرجال، ويتعجب كيف أن رجلا مثله ورجلا مثل الدكتور زهير كامل ينبتان من أرض واحدة. وتتابعت أحداث مجيدة مثل الاتجاه نحو الكتلة الشرقية للتسليح، ومثل تأميم قنال السويس الذي بلغ بحماسنا درجة لم نعرفها من قبل، فثمل بذلك قدري رزق وثملنا. وقال لنا: أرأيتم؟ نحن مصريون أولا وأخيرا، لا أمريكيون ولا روسيون!
وتزوج قدري في تلك الفترة من كريمة أسرة كبيرة إقطاعية ممن طبق عليهم قانون الإصلاح الزراعي، وكانت مفارقة تستدعي الملاحظة وتحتاج إلى تفسير، غير أنه يمكن اعتبارها ظاهرة عادية إذا نظر إليها من الناحية العاطفية البريئة، ولم يغب عني أن صديقي كان فخورا بمصاهرة تلك الأسرة رغم ثوريته وإخلاصه وطيبته، وأما رضا حمادة فقال لي: إنها طبقة تتطلع إلى أن تحل مكان طبقة!
Página desconocida