على قوم من العرب كانوا يخرجون من جاهليتهم ويدخلون في الإسلام؛ فهم حديثو عهد بالكفر وحديثو عهد بالعصبية القديمة وحديثو عهد بتفرق القبائل واختصامها واحترابها لأيسر الأمور وأهونها شأنا. هذه الآية الكريمة ما زالت قائمة بعد قريب من أربعة عشر قرنا وستظل قائمة. وهذا الأمر للمسلمين بأن يعتصموا بحبل الله جميعا ولا يتفرقوا لم ينقض بانقضاء عهد الخروج من الجاهلية والدخول في الإسلام، وإنما هو قائم دائما ما دام في الأرض مسلمون. فمثل هذا الأمر في القرآن لا يخص قوما بأعينهم ولا عهدا بعينه ولا مكانا بعينه، وإنما هو أمر شامل عام واجب الاحترام في كل زمان وفي كل مكان. والعرب أجدر الناس أن يفهموه وينفذوه؛ فهو أنزل فيهم وأنزل في لغتهم واتجه إليهم أول ما أنزل.
ولو مضينا نعدد آثار القرآن الباقية في المسلمين عامة وفي العرب خاصة لما قضينا الحديث ولا فرغنا، فحسبنا ما أشرنا إليه منها على قلته.
ولنعد إلى نص القرآن فنقف عند بعض سوره ونحاول - إن أتيحت لنا المحاولة - أن نبين بعض المظاهر المختلفة لما امتاز به القرآن من روعة البيان، وما اختص به من هذه الملاءمة بين المعاني والألفاظ والأساليب. وقد أشرنا في هذا الفصل إلى ما يكون من اختلاف بين بعض السور في أداء المعاني الواحدة أو المتقاربة أشد التقارب بالآيات الطوال المبسوطة حينا وبالآيات الخاطفة حينا آخر.
فلنقرأ معا قصة نوح وقومه وما جرى عليهم من الآيات الكريمة من سورة هود؛ فسنرى هذه القصة قد فصلت تفصيلا كاملا في غير تزيد ولا إسراف، وأديت معانيها في آيات ليست بالطوال ولا بالقصار، ولكنها تؤدي المعاني في دعة وهدوء؛ يكون فيها الإطناب حين يحتاج المقام إلى الإطناب، ويكون فيها الإيجاز حين يكون الإيجاز آخذا للقلب وأدل على ما أريدت الدلالة عليه من الهول الذي يصوره الإيجاز أكثر مما يصوره الإطناب ومن الأمر الذي يصدر فينفذ إثر صدوره في غير تردد أو إبطاء. وانظر إلى أول القصة كيف أدي فيه الحوار أداء يسيرا يصور ما يكون بين رجل ينذر قومه وقومه ينكرون عليه ويجادلونه، ثم يشتدون في الإنكار وينتهون إلى إنذاره كما كان ينذرهم. واقرأ هذه الآيات في أول القصة:
ولقد أرسلنا نوحا إلى قومه إني لكم نذير مبين * أن لا تعبدوا إلا الله إني أخاف عليكم عذاب يوم أليم .
فانظر إلى نوح كيف أدى رسالته في إيجاز فأنبأ قومه بأنه نذير لهم في الآية الأولى وأظهر الرفق بهم والإشفاق عليهم فدعاهم إلى أن يعبدوا الله؛ لأنه يخاف عليهم عذاب يوم أليم في الآية الثانية:
فقال الملأ الذين كفروا من قومه ما نراك إلا بشرا مثلنا وما نراك اتبعك إلا الذين هم أراذلنا بادي الرأي وما نرى لكم علينا من فضل بل نظنكم كاذبين .
ورد عليه الملأ من قومه فأنكروا دعوته لهم وأنبئوه بأنهم لا يرونه إلا بشرا مثلهم، لا يمتاز منهم بشيء فكثير عليه أن يزعم لنفسه التحدث عن الله والدعوة إليه والإنذار لهم باسمه. ثم أضافوا إلى ذلك بأنهم لا يستطيعون أن يتبعوه؛ لأن الذين اتبعوه هم أراذلهم وأهونهم شأنا، وهم أكبر في أنفسهم من أن يؤمنوا بما آمن به الأرذلون. أعلنوا إليه أنهم يكذبونه ويكذبون من اتبعه.
وانظر كيف رد عليهم نوح في الآيات الثلاث التالية، فسألهم في الأولى: ماذا يصنع إذا كان الله قد آتاه بينة من عنده وآتاه رحمة منه فلم يعقلوها؟ وبين لهم أنه لا يستطيع أن يلزمهم رحمة الله وهم كارهون لها. فالإيمان لا يكون بالإكراه وإنما يكون باستجابة القلب ورضى الضمير وأنبأهم في الآية التي تليها بأنه لا يسألهم مالا جزاء على دعوته لهم إلى الحق وإنما أجره على الله، فليس لهم أن يعتلوا عليه ولا أن يشفقوا من دعوته على أموالهم.
وجادلهم في الذين اتبعوه فقال إنه لا يستطيع أن يطردهم؛ لأن ذلك ليس إليه وإنما هو إلى الله الذي يعلم دخائل نفوسهم وسرائر ضمائرهم. وأفهمهم بأنهم إنما يستجيبون لحميتهم وكبريائهم حين يعتلون عليه بازدراء الذين آمنوا معه، ثم أنبأهم في الآية التالية بأنهم لا يستطيعون نصره ولا يستطيع غيرهم نصره من الله إن طرد الذين آمنوا معه؛ لأنهم ليسوا من الطبقة الممتازة.
Página desconocida