وتعليمه نوعان؛ أحدهما: كلام أوحاه الله إليه وأمره أن يبلغ نصه للناس وأن يتلوه عليهم ليسمعوه أولا ويفقهوه بعد ذلك، وعليه أن يفسر لهم بالقول أو بالعمل - أو بهما جميعا - ما قد يقصرون عن فهمه من هذا النص.
والثاني: علم ألهمه الله إياه ألقاه في قلبه لينتفع به هو أولا وليعلم الناس منه ما ينفعهم في أمور دينهم ودنياهم جميعا.
وقد أنفق النبي ثلاثة وعشرين عاما منذ بعثه الله إلى أن اختاره لجواره، أنفق هاته السنين مبشرا ومنذرا ومعلما لم يقصر في ذلك ولم يكف عنه يوما؛ فكان معلما لا كالمعلمين، كان تعليمه متصلا نهاره كله وجزءا غير قليل من ليله. كان يعلم الناس حين يلقاهم ويعلمهم بالأمر والنهي والتبشير والإنذار وبكل ما كان يقوله لهم، وكان يعلمهم بسيرته فيهم وسيرته في غيرهم، وبكل ما يأتي من الأمر أو يدع. فهو لهم قدوة وهو لهم أسوة وعليهم أن ينظروا إليه وأن يعملوا مثل ما يعمل ويجتنبوا مثل ما يجتنب وأن يسمعوا منه ويطيعوا. وقد أمرهم الله في سورة الحشر أن يأخذوا كل ما يؤتيهم وأن يدعوا كل ما ينهاهم عنه:
وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا .
كذلك هو حين يبرز للناس وهو حين يروح إلى أهله معلم أيضا؛ يقول فيحفظ عنه أزواجه، ويعمل فيحفظن عنه أيضا، ويصنعن من صنيعه كل ما ينبغي لهن.
ولأمر ما أخذ المسلمون كثيرا من العلم عن أزواجه بعد وفاته، ولا سيما عائشة وحفصة وأم سلمة. ثم هو معلم في السفر والحضر جميعا لا يأتي شيئا إلا وفي نفسه أن الناس سيصنعون صنيعه ما استطاعوا إلى ذلك سبيلا.
ومن أجل ذلك كان يرعى فيهم الرفق بهم والنصح لهم، كان يطيق من العبادة في الصلاة والصوم أكثر مما يطيقون؛ فكان يستخفي ببعض عبادته حتى لا يراها الناس فيكلفوا أنفسهم فوق ما يطيقون.
ولم يكن له من حياة المعلم هذه بد فالله يقول له:
فاصدع بما تؤمر ، فلا يسعه إلا أن يذعن لأمر الله. والله ينزل عليه من القرآن ما هو مجمل ويترك له تفصيله بما يلهمه من العلم؛ فهو يأمر بالصلاة والزكاة مثلا، ولكنه لا يبين كيف تكون الصلاة ولا كيف تكون الزكاة، لا يفعل ذلك في القرآن، وإنما يلهم نبيه من العلم ما يبين به للناس كيف يصلون وكيف يؤدون الزكاة في أموالهم.
والقرآن يذكر الركوع والسجود ولكنه لا يحدد الركوع والسجود في القرآن تحديدا دقيقا؛ فليس بد للنبي من بيان ذلك كله بالعمل والقول جميعا. فهو يقيم الصلاة للمسلمين ويأمرهم أن يصنعوا صنيعه وأن يقوموا حين يقوم ويركعوا ويسجدوا ويجلسوا حين يركع ويسجد ويجلس. وهو علمهم ما يقرءون في صلاتهم وما يقولون في السجود والركوع والجلوس، وقل مثل ذلك في مجملات القرآن كلها، وهي كثيرة، فكان النبي إذن مفسرا للقرآن بقوله وعمله، وكان منبئا للناس بما يلقي الله في قلبه من العلم بما ينبغي لهم وما يجب عليهم وما يجب أن ينتهوا عنه.
Página desconocida