وكان حلماء قريش والمنصفون منهم يسمعون القرآن حين يتلى عليهم فيبهرهم بألفاظه ومعانيه ونظمه ورقته حين يرق وشدته حين يشتد، ولكنهم على ذلك لا يؤمنون له، بعضهم يمنعه الحسد، وبعضهم تمنعه الكبرياء، وكلهم يشتد عليهم ما كانوا يدعون إليه من البر والمعروف والعدل والمساواة وإنصاف الفقراء من الأغنياء والضعفاء من الأقوياء، ومن ترك آلهتهم وعاداتهم وكثير من الأخلاق التي وجدوا عليها آباءهم وتوارثتها أجيالهم جيلا بعد جيل. وقد استيأسوا منه فلجأوا إلى عمه ذاك الذي كفله صبيا ويافعا والذي قام دونه يحميه منذ جعل يدعو دعوته هذه الجديدة وطلبوا إليه أن يراجع ابن أخيه لعله يكف عن ذم آلهتهم وتسفيه أحلامهم وإنكار ما تعارفوا عليه من عاداتهم وأخلاقهم، ومن إفساد عبيدهم وإمائهم وحلفائهم عليهم.
وقد قبل منهم أبو طالب فراجع ابن أخيه وعرض عليه ما يقول قومه وما يعرضون عليه من الملك وكرائم الأموال، وما ينذرونه به من البطش والعذاب؛ فلم يكن جوابه لعمه إلا أن قال مقالته تلك المشهورة: «والله يا عم لو وضعوا الشمس في يميني والقمر في يساري على أن أرجع عن هذا الأمر ما رجعت.»
وعاد أبو طالب إلى مشيخة قريش بقول ابن أخيه، فلم يزدهم ذلك إلا عنادا وإصرارا واستكبارا، فعمدوا إلى إيذائه في أصحابه وفي الرقيق والضعفاء منهم خاصة؛ لعلهم أن يصدوهم عن الإقبال عليه ويردوهم بعد إيمانهم كفارا، ولعله حين يرى ذلك أن يحس ما يشقى به أصحابه فيؤثر لهم ولنفسه العافية؛ فجعلوا يعذبونهم بالضرب حينا وبالماء حينا وبالنار حينا وبالموت حينا آخر. ولكنهم لم يبلغوا بذلك منه ولا من أصحابه شيئا؛ قتلوا ياسرا وزوجه سمية ذات يوم وابنهما عمار يرى فلم يصرفوا الأبوين ولم يصرفوا ابنهما عما أراد الله لهما من الكرامة بالإيمان، وإنما كان ياسر وزوجه نموذجا رائعا للصبر والجلد واحتمال الأذى في غير شكاة ولا تضعضع. ويقال: إن النبي
صلى الله عليه وسلم
مر بآل ياسر وهم يعذبون فلم يزد ياسر على أن يقول: الدهر هكذا يا رسول الله.
ويحدث رواة السيرة أن النبي
صلى الله عليه وسلم
قال لهم: «صبرا آل ياسر فإن موعدكم الجنة.» وكان ياسر وامرأته سمية أول شهيدين في الإسلام، فلم يجزع عمار ولم يجد الوهن إلى نفسه سبيلا، بل ازداد إيمانا مع إيمانه وصبرا إلى صبره حتى استيأس منه معذبوه واضطروا إلى أن يرفعوا عنه العذاب.
ويتحدث الرواة أن عمار بن ياسر كان أول من اتخذ مسجدا في بيته وفيه نزلت هذه الآية من سورة الزمر:
أمن هو قانت آناء الليل ساجدا وقائما يحذر الآخرة ويرجو رحمة ربه قل هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون إنما يتذكر أولو الألباب .
Página desconocida