لم يتورع المرء عن سلب ونهب مدينة غيره، ولم يشكر أو يمدح من يفي بوعده وعهده، أو من يصنع البر ويفعل الخير، وصار الناس يميلون إلى الثناء على الآثمين المجرمين وما يأتونه من الشرور والظلم.
وانعدم العدل والإنصاف إلا عن طريق القوة، وتلاشت دلائل الاحترام، كما أن الشرير لم يكن يتوانى في قذف ذوي المكانة الرفيعة بنابي الألفاظ وخسيس العبارات، ويحنث في يمينه، ومات حب الأسرة، وتضرجت الأرض بدماء القتلى، وهجرها الآلهة واحدا بعد واحد.
فلما أبصر زوس ما آلت إليه الأمور على الأرض، استشاط غضبا، واشتد غيظه، ونادى الآلهة فلبوا نداءه، وشق كل منهم طريقه إلى قصر السماء، فخاطب زوس المجتمعين وشرح لهم الموقف المحزن على الأرض.
وختم حديثه بقوله إنه ينوى القضاء على سكان الأرض، وإسكانها بعنصر آخر جديد، يخالف جميع العناصر السابقة، عنصر أكثر استحقاقا للحياة، يعيد الآلهة ويفعل الخير ولا يأتي الشرور.
قال زوس هذا، ثم تناول صاعقة وهم بإلقائها نحو الأرض ليهلكها حرقا، ولكنه فطن إلى أن حرق الأرض قد يتسبب في حرق السماء أيضا، فعدل خطته وعول على إغراقها، فحول مجرى الريح الشمالية التي تبدد السحب، وأطلق الريح الغربية من معاقلها، وسرعان ما غطى السماء برمتها ظلام دامس، وكانت السحب في تدفقها تدوي في الفضاء دويا، وأخذت سيول المطر تنهمر مدرارا، فجرفت المحاصيل أمامها، وتلاشى في ساعة واحدة مجهود الفلاح في عام بأكمله.
ولم يكتف زوس بسيوله وأمطاره، بل طلب مساعدة أخيه رب البحر، فأطلق هذا سراح مجاري الأنهار، ففاضت مياهها فوق الأرض، وأخذ زوس في الوقت نفسه يزلزل الأرض بشدة، ويجلب جزر المحيط فوق الشاطئ، أما الأغنام والبشر والمنازل فقد اكتسحت جميعها، كما انتهكت حرمات المعابد، وما من بناء شامخ إلا وغرق، وأخذت الأمواج تلعب فوق قمته، وانقلب كل شيء وقتئذ إلى بحر متلاطم الأمواج لا شاطئ له، ولم يبق هنا أو هناك إلا نفر قليل فوق قمة أحد التلال، وكذا نفر آخر يجدف في بعض الزوارق، وكانوا حتى آخر لحظة يحرثون الأرض.
أخذت الأسماك تسبح بين قمم الأشجار، وكانت الأمواج العاتية ترتفع حيث كانت الحملان الوديعة تلعب منذ وقت قصير، وكانت الذئاب تسبح في الماء بين الأغنام، وتتشاجر السباع الصفراء مع النمور في المياه، ولم تعد قوة الخنزير البري تفيده في شيء، ولا سرعة الغزال الرشيق تجديه نفعا.
وكانت الطيور المتعبة تسقط بأجنحتها المكدودة إلى المياه بعد فقدها كل أمل في العثور على أرض يابسة تستريح فوقها، أما المخلوقات التي نجت من وابل الأمطار فقد خرت فريسة الجوع المهلك.
غطت الأمواج قمم الجبال جميعها ما خلا قمة جبل «بارناسوس»، حيث اتخذ «ديوكاليون» وزوجته «بورا» - وهما من نسل بروميثيوس - مسكنهما ومأواهما.
وكان ديوكاليون هذا رجلا عادلا محبا للخير وأهله، يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، وكانت زوجته سيدة تقية ورعة.
Página desconocida