الْفَصْل الأول فِي بَيَان معنى الِاسْم والمسمى وَالتَّسْمِيَة قد كثر الخائضون فِي الِاسْم والمسمى وتشعبت بهم الطّرق وزاغ عَن الْحق أَكثر الْفرق فَمن قَائِل إِن الِاسْم هُوَ الْمُسَمّى وَلكنه غير التَّسْمِيَة وَمن قَائِل إِن الِاسْم غير الْمُسَمّى وَلكنه هُوَ التَّسْمِيَة وَمن ثَالِث مَعْرُوف بالحذق فِي صناعَة الجدل وَالْكَلَام يزْعم أَن الِاسْم قد يكون هُوَ الْمُسَمّى كَقَوْلِنَا لله تَعَالَى إِنَّه ذَات وموجود وَقد يكون غير الْمُسَمّى كَقَوْلِنَا إِنَّه خَالق ورازق فَإِنَّهُمَا يدلان على الْخلق والرزق وهما غَيره وَقد يكون بِحَيْثُ لَا يُقَال إِنَّه الْمُسَمّى وَلَا هُوَ غَيره كَقَوْلِنَا إِنَّه عَالم وقادر فَإِنَّهُمَا يدلان على الْعلم وَالْقُدْرَة وصفات الله لَا يُقَال إِنَّهَا هِيَ الله تَعَالَى وَلَا إِنَّهَا غَيره وَالْخلاف يرجع إِلَى أَمريْن أَحدهمَا أَن الِاسْم هَل هُوَ التَّسْمِيَة أم لَا وَالثَّانِي أَن الِاسْم هَل هُوَ الْمُسَمّى أم لَا وَالْحق أَن الِاسْم غير التَّسْمِيَة وَغير الْمُسَمّى وَأَن هَذِه ثَلَاثَة أَسمَاء متباينة غير مترادفة وَلَا سَبِيل إِلَى كشف الْحق فِيهِ إِلَّا بِبَيَان معنى كل وَاحِد من هَذِه الْأَلْفَاظ الثَّلَاثَة مُفردا ثمَّ بَيَان معنى قَوْلنَا هُوَ هُوَ وَمعنى قَوْلنَا هُوَ غَيره فَهَذَا منهاج الْكَشْف للحقائق وَمن عدل عَن هَذَا الْمنْهَج لم ينجح أصلا

1 / 24

فَإِن كل علم تصديقي أَعنِي علم مَا يتَطَرَّق إِلَيْهِ التَّصْدِيق أَو التَّكْذِيب فَإِنَّهُ لَا محَالة لَفظه قَضِيَّة تشْتَمل على مَوْصُوف وَصفَة وَنسبَة لتِلْك الصّفة إِلَى الْمَوْصُوف فَلَا بُد أَن تتقدم عَلَيْهِ الْمعرفَة بالموصوف وَحده على سَبِيل التَّصَوُّر لحده وَحَقِيقَته ثمَّ الْمعرفَة بِالصّفةِ وَحدهَا على سَبِيل التَّصَوُّر لحدها وحقيقتها ثمَّ النّظر فِي نِسْبَة تِلْكَ الصّفة إِلَى الْمَوْصُوف أَنَّهَا مَوْجُودَة لَهُ أَو منفية عَنهُ فَمن أَرَادَ مثلا أَن يعلم أَن الْملك قديم أَو حَادث فَلَا بُد أَن يعرف أَولا معنى لفظ الْملك ثمَّ معنى الْقَدِيم والحادث ثمَّ ينظر فِي إِثْبَات أحد الوصفين للْملك أَو نَفْيه عَنهُ فَلذَلِك لَا بُد من معرفَة معنى الِاسْم وَمعنى الْمُسَمّى وَمعنى التَّسْمِيَة وَمَعْرِفَة معنى الهوية والغيرية حَتَّى يتَصَوَّر أَن يعرف بعد ذَلِك أَنه هُوَ أَو غَيره فَنَقُول فِي بَيَان حد الِاسْم وَحَقِيقَته إِن للأشياء وجودا فِي الْأَعْيَان ووجودا فِي الأذهان ووجودا فِي اللِّسَان أما الْوُجُود فِي الْأَعْيَان فَهُوَ الْوُجُود الْأَصْلِيّ الْحَقِيقِيّ والوجود فِي الأذهان هُوَ الْوُجُود العلمي الصُّورِي والوجود فِي اللِّسَان هُوَ الْوُجُود اللَّفْظِيّ الدليلي فَإِن السَّمَاء مثلا لَهَا وجود فِي عينهَا ونفسها ثمَّ لَهَا وجود فِي أذهاننا ونفوسنا لِأَن صُورَة السَّمَاء تنطبع فِي أبصارنا ثمَّ فِي خيالنا حَتَّى لَو عدمت السَّمَاء مثلا وَبَقينَا لكَانَتْ صُورَة السَّمَاء حَاضِرَة فِي خيالنا وَهَذِه الصُّورَة هِيَ الَّتِي يعبر عَنْهَا بِالْعلمِ وَهُوَ مِثَال الْمَعْلُوم فَإِنَّهُ محاك للمعلوم ومواز لَهُ وَهِي كالصورة المنطبعة فِي الْمرْآة فَإِنَّهَا محاكية للصورة الْخَارِجَة الْمُقَابلَة لَهَا وَأما الْوُجُود فِي اللِّسَان فَهُوَ اللَّفْظ الْمركب من أصوات قطعت أَربع تقطيعات يعبر عَن الْقطعَة الأولى بِالسِّين وَعَن الثَّانِيَة بِالْمِيم وَعَن الثَّالِثَة بِالْألف وَعَن الرَّابِعَة بِالْهَمْزَةِ وَهُوَ قَوْلنَا سَمَاء فَالْقَوْل دَلِيل على مَا هُوَ فِي الذِّهْن وَمَا فِي الذِّهْن صُورَة لما فِي الْوُجُود مُطَابقَة لَهُ وَلَو لم يكن وجود فِي

1 / 25

الْأَعْيَان لم ينطبع صُورَة فِي الأذهان وَلَو لم ينطبع فِي صُورَة الأذهان لم يشْعر بهَا إِنْسَان وَلَو لم يشْعر بهَا الْإِنْسَان لم يعبر عَنْهَا بِاللِّسَانِ فَإِذا اللَّفْظ وَالْعلم والمعلوم ثَلَاثَة أُمُور متباينة لَكِنَّهَا مُتَطَابِقَة متوازية وَرُبمَا تَلْتَبِس على البليد فَلَا يُمَيّز الْبَعْض مِنْهَا عَن الْبَعْض وَكَيف لَا تكون هَذِه الوجودات متمايزة وَيلْحق كل وَاحِد مِنْهَا خَواص لَا يلْحق الْأُخْرَى فَإِن ذالإنسان مثلا من حَيْثُ أَنه مَوْجُود فِي الْأَعْيَان يلْحقهُ أَنه نَائِم ويقظان وَحي وميت وقائم وماش وقاعد وَغير ذَلِك وَمن حَيْثُ أَنه مَوْجُود فِي الأذهان يلْحقهُ أَنه مُبْتَدأ وَخبر وعام وخاص وجزئي وكلي وَقَضِيَّة وَغير ذَلِك وَمن حَيْثُ أَنه مَوْجُود فِي اللِّسَان يلْحقهُ أَنه عَرَبِيّ وعجمي وتركي وزنجي وَكثير الْحُرُوف وقليلها وَأَنه اسْم وَفعل وحرف وَغير ذَلِك وَهَذَا الْوُجُود يجوز أَن يخْتَلف بالأعصار ويتفاوت فِي عَادَة أهل الْأَمْصَار فَأَما الْوُجُود الَّذِي فِي الْأَعْيَان والأذهان فَلَا يخْتَلف بالأعصار والأمم الْبَتَّةَ فَإِذا عرفت هَذَا فدع عَنْك الْآن الْوُجُود الَّذِي فِي الْأَعْيَان والأذهان وَانْظُر فِي الْوُجُود اللَّفْظِيّ فَإِن غرضنا يتَعَلَّق بِهِ فَنَقُول الْأَلْفَاظ عبارَة عَن الْحُرُوف الْمُقطعَة الْمَوْضُوعَة بِالِاخْتِيَارِ الإنساني للدلالة على أَعْيَان الْأَشْيَاء وَهِي منقسمة إِلَى مَا هُوَ مَوْضُوع أَولا وَإِلَى مَا هُوَ مَوْضُوع ثَانِيًا أما الْمَوْضُوع أَولا فكقولك سَمَاء وَشَجر وإنسان وَغير ذَلِك وَأما الْمَوْضُوع ثَانِيًا فكقولك اسْم وَفعل وحرف وَأمر وَنهي ومضارع وَإِنَّمَا قُلْنَا إِنَّه مَوْضُوع وضعا ثَانِيًا لِأَن الْأَلْفَاظ الْمَوْضُوعَة للدلالة على الْأَشْيَاء منقسمة إِلَى مَا يدل على معنى فِي غَيره فيسمى حرفا وَإِلَى مَا يدل على معنى فِي نَفسه وَمَا يدل على معنى فِي نَفسه يَنْقَسِم إِلَى مَا يدل على زمَان وجود ذَلِك

1 / 26

الْمَعْنى وَيُسمى فعلا كَقَوْلِك ضرب يضْرب وَإِلَى مَا لَا يدل على الزَّمَان وَيُسمى اسْما كَقَوْلِك سَمَاء وَأَرْض فأولا وضعت الْأَلْفَاظ دلالات على الْأَعْيَان ثمَّ بعد ذَلِك وضع الِاسْم وَالْفِعْل والحرف دلالات على أَقسَام الْأَلْفَاظ لِأَن الْأَلْفَاظ بعد وَضعهَا أَيْضا صَارَت موجودات فِي الْأَعْيَان وارتسمت صورها فِي الأذهان فاستحقت أَيْضا أَن يدل عَلَيْهَا بحركات اللِّسَان وَيتَصَوَّر الْأَلْفَاظ أَن تكون مَوْضُوعَة وضعا ثَالِثا ورابعا حَتَّى إِذا قسم الِاسْم إِلَى أَقسَام وَعرف كل قسم باسم كَانَ ذَلِك الِاسْم فِي الدرجَة الثَّالِثَة كَمَا يُقَال مثلا الِاسْم يَنْقَسِم إِلَى نكرَة وَإِلَى معرفَة وَغير ذَلِك وَالْغَرَض من هَذَا كُله أَن تعرف أَن الِاسْم يرجع إِلَى لفظ مَوْضُوع وضعا ثَانِيًا فَإِذا قيل لنا مَا حد الِاسْم قُلْنَا إِنَّه اللَّفْظ الْمَوْضُوع للدلالة وَرُبمَا نضيف إِلَى ذَلِك مَا يميزه عَن الْحَرْف وَالْفِعْل وَلَيْسَ تَحْرِير الْحَد من غرضنا الْآن إِنَّمَا الْغَرَض أَن المُرَاد بِالِاسْمِ الْمَعْنى الَّذِي هُوَ فِي الرُّتْبَة الثَّالِثَة وَهُوَ الَّذِي فِي اللِّسَان دون الَّذِي فِي الْأَعْيَان والأذهان فَإِذا عرفت أَن الِاسْم إِنَّمَا يعْنى بِهِ اللَّفْظ الْمَوْضُوع للدلالة فَاعْلَم أَن كل مَوْضُوع للدلالة فَلهُ وَاضع وَوضع وموضوع لَهُ يُقَال للموضوع لَهُ مُسَمّى وَهُوَ الْمَدْلُول عَلَيْهِ من حَيْثُ أَنه يدل عَلَيْهِ وَيُقَال للواضع المسمي وَيُقَال للوضع التَّسْمِيَة يُقَال سمى فلَان وَلَده إِذا وضع لفظا يدل عَلَيْهِ ويسمي وَضعه تَسْمِيَة وَقد يُطلق لفظ التَّسْمِيَة على ذكر الِاسْم الْمَوْضُوع كَالَّذي يُنَادي شخصا وَيَقُول يَا زيد فَيُقَال سَمَّاهُ فَإِن قَالَ يَا أَبَا بكر يُقَال كناه وَكَانَ

1 / 27

لفظ التَّسْمِيَة مُشْتَركا بَين وضع الِاسْم وَبَين ذكر الِاسْم وَإِن كَانَ الْأَشْبَه أَنه أَحَق بِالْوَضْعِ مِنْهُ بِالذكر وَيجْرِي الِاسْم وَالتَّسْمِيَة والمسمى مجْرى الْحَرَكَة والتحريك والمحرك والمحرك وَهَذِه أَرْبَعَة أسام متباينة تدل على معَان مُخْتَلفَة فالحركة تدل على النقلَة من مَكَان إِلَى مَكَان والتحريك يدل على إِيجَاد هَذِه الْحَرَكَة والمحرك يدل على فَاعل الْحَرَكَة والمحرك يدل على الشَّيْء الَّذِي فِيهِ الْحَرَكَة مَعَ كَونه صادرا من فَاعل لَا كالمتحرك الَّذِي لَا يدل إِلَّا على الْمحل الَّذِي فِيهِ الْحَرَكَة وَلَا يدل على الْفَاعِل فَإِذا ظهر الْآن مفهومات هَذِه الْأَلْفَاظ فَلْينْظر هَل يجوز أَن يُقَال فِيهَا إِن بَعْضهَا هُوَ الْبَعْض أَو يُقَال إِنَّه غَيره وَلَا يفهم هَذَا إِلَّا بِمَعْرِفَة معنى الغيرية والهوية وَقَوْلنَا هُوَ هُوَ يُطلق على ثَلَاثَة أوجه الْوَجْه الأول يضاهي قَول الْقَائِل الْخمر هِيَ الْعقار وَاللَّيْث هُوَ الْأسد وَهَذَا يجْرِي فِي كل شَيْء هُوَ وَاحِد فِي نَفسه وَله اسمان مُتَرَادِفَانِ لَا يخْتَلف مفهومهما الْبَتَّةَ وَلَا يتَفَاوَت بِزِيَادَة وَلَا نُقْصَان وَإِنَّمَا تخْتَلف حروفهما فَقَط وأمثال هَذِه الْأَسْمَاء تسمى مترادفة الْوَجْه الثَّانِي يضاهي قَول الْقَائِل الصارم هُوَ السَّيْف والمهند هُوَ السَّيْف وَهَذَا يُفَارق الأول فَإِن هَذِه الْأَسَامِي مُخْتَلفَة المفهومات وَلَيْسَت مترادفة لِأَن الصارم يدل على السَّيْف من حَيْثُ هُوَ قَاطع والمهند يدل على السَّيْف من حَيْثُ نسبته إِلَى الْهِنْد وَالسيف يدل دلَالَة مُطلقَة من غير إِشَارَة إِلَى غير ذَلِك وَإِنَّمَا المترادفة هِيَ الَّتِي تخْتَلف حروفها فَقَط وَلَا تَتَفَاوَت بِزِيَادَة وَلَا نُقْصَان فلنسم هَذَا الْجِنْس متداخلا إِذْ السَّيْف دَاخل فِي مَفْهُوم الْأَلْفَاظ الثَّلَاثَة وَإِن كَانَ بَعْضهَا يُشِير مَعَه إِلَى زِيَادَة

1 / 28