مقالات في كلمات
مقالات في كلمات
Editorial
دار المنارة للنشر والتوزيع
Número de edición
الأولى
Año de publicación
١٤٢١ هـ - ٢٠٠٠ م
Ubicación del editor
جدة - المملكة العربية السعودية
Géneros
علي الطنطاوي
مقالات في كلمات
المجموعة الثانية
جمعها ورتبها حفيده
مجاهد ديرانية
دار المنارة
للنشر والتوزيع
1 / 1
الحمد لله نحمده ونستعينه ونتوب إليه ونستغفره ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا من يهد الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له اللهم اهدنا الصراط المستقيم وارزقنا الإخلاص في العمل والثبات عليه وصل اللهم على محمد وعلى آله وصحبه
1 / 3
جميع الحقوق محفوظة
يمنع النقل والترجمة والاقتباس للإذاعة والمسرح إلا بإذن خطي من دار المنارة للنشر والتوزيع - جدة
الطبعة الأولى
١٤٢١ هـ - ٢٠٠٠ م
1 / 4
مقدمة
هذا كتاب يخرج على الناس بعدما بقي حبيس الأدراج نصف قرن، وبعدما كدت أظن أنه لن يُنشر أبدًا. وهذه هي القصة:
لما وفدت على المملكة من نحو ربع قرن للدراسة كنت أزور جدي ﵀ في بيته في مكة يومين أو ثلاثة أيام من آخر كل أسبوع، وكنت أمضي معه كثيرًا من الوقت بين الكتب والأوراق؛ أشتغل فيما يشغّلني به من فرز وتصنيف وأنفّذ ما يكلفني به من تجميع وفهرسة وترتيب. فكان أن عرفت يومئذ -فيما عرفت- أن تحت يدي جدي عددًا من الكتب لا تحتاج لإخراجها إلى غير جهد يسير؛ من ترتيب أو تجميع أو تحرير أو تكميل. ولطالما حملتني الحماسة أو شاقني الأمل فألححت عليه أن نشتغل فيها لإتمامها وإخراجها، ولكن جدي ﵀ الذي كان فيه من الفضائل والمزايا الكثير كان كثير التسويف كثير التأجيل، فكان يؤجل العمل في كل أسبوع إلى الأسبوع الذي يليه، وفي كل شهر إلى الشهر الذي بعده.
ومرت على ذلك أربع وعشرون سنة، ولم أعد أظن أن الكتب ستُنشر
1 / 5
قط. وأنّى؟ وبقية الهمّة التي حملها جدي معه ثمانين عامًا قد خبتْ -في السنين العشر الأواخر من حياته- نارُها وخفتَ أُوارُها؛ فما عادت له في العمل رغبة ولا عليه طاقة. عندئذ نسيت الموضوع كله فما عدت أذكر هذه الكتب.
...
ثم غادر ﵀ رحمة واسعة- هذه الدنيا إلى دارٍ هي له خيرٌ منها إن شاء الله. وما تركه من علم أحرى أن يُنشر بين الناس فينتفع به الناس ويكون له أجرًا مدّخرًا في آخرته وأنيسًا له حيث ليس غير العمل الصالح من أنيس، فلم يجد الذين أحبوه حيًا وأحبوه ميتًا ما يهدونه له خيرًا من نشر ما لم يُنشر مما كتب؛ لعله يكون العلمَ الذي يُنتفَع به فلا ينقطع أجره أبدًا بإذن الله.
وهكذا بدأ العمل لإخراج هذه الكتب. وإني لأسأل الله أن يوفق إلى إتمامه، وأن تصدق فيه نية من يعمل به ولا يُحرم المشاركة في الأجر فيه، وأن يكون في ميزان جدي يوم توزن الأعمال بين يدي الرحمن الرحيم.
...
فما الذي صنعته في هذا الكتاب، وما الذي سأصنعه في الكتب الباقية التي أرجو أن يوفق الله إلى إخراجها عما قريب؟
جمعت -أولًا- سائر ما استطعت جمعه من أصول مما لا يزال مخطوطًا ومما نُشر من قبل في الصحف، فاستبعدت ما نُشر منها في الكتب التي أصدرها جدي في حياته، ثم ذهبت أتتبع الخطة التي كانت في ذهنه لإخراج كتب بأعيانها، مستعينًا -في ذلك- بما وجدته بين أوراقه من
1 / 6
قصاصات أو إشارات. بعد ذلك اشتغلت بفرز المقالات والفصول التي تجمعت عندي وتبويبها بحيث تستغرق كل مجموعة منها كتابًا. وبدأت بهذه المقالات القصيرة التي شكلت الجزء الثاني من كتاب «مقالات في كلمات».
أما الجزء الأول فموجود متداول بين أيدي الناس منذ أربعين سنة حين صدرت طبعته الأولى. ومبدأ هذه المقالات -كما جاء في مقدمة جدي للكتاب- أن صاحب جريدة «النصر»، وديع الصيداوي، طلب إليه عام ١٩٤٩ أن يكتب عنده زاوية يومية بعنوان «كل يوم كلمة صغيرة»، فمشى بها زمانًا. ثم انتقل إلى جريدة «الأيام» عند نصوح بابيل، واستمر بها سنين. قال في المقدمة التي كتبها للطبعة الجديدة من الكتاب عام ١٩٩٠: "وجاءت (أي هذه المقالات) بأسلوب جديد، أقرؤه الآن فأرتضيه -ولست أرتضي كل ما كنت كتبت- ولكن موضوعاتها يومية يموت الاهتمام بها بموت يومها. وقد استمرت سنين فتجمّع لديّ منها مئات ومئات. فلما ألّف الدكتور مصطفى البارودي وإخوان له من الشباب (أعنى الذين كانوا شبابًا في تلك الأيام) لجنةً للتأليف والنشر دفعتُها إليهم ليختاروا منها ما يجمعوه في الكتاب الذي طلبوه مني، واختاروا طائفة منها في كتاب صغير دعوه «كلمات». ثم نشرتُ مجموعة منها أكبر في كتاب «مقالات في كلمات» وبقي عندي منها الكثير الكثير". وفي مقدمة الطبعة الأولى التي كُتبت عام ١٩٥٩: " كنت في سنة ١٩٤٩ أكتب في جريدة «النصر» أولًا ثم في «الأيام» آخِرًا كلمات بعنوان «كل يوم كلمة صغيرة». ولبثت على ذلك سنوات اجتمع لديّ فيها ركام منها، منه ما لا يُقرأ إلا في يومه، وقد أهملته واطّرحته، ومنه ما يُقرأ في كل الأوقات، وقد اخترت منه هذه الكلمات".
فمن هذه الكلمات القصيرة، مما لم ينشر في الكتاب السابق، اخترت معظم مقالات هذا الكتاب؛ وهي تقع في القسم الأول منه الذي يشكل
1 / 7
الجزء الأكبر فيه. ولكني لم أقتصر على كلمات تلك الزاوية اليومية، بل ضممت إليها بعض المقالات القديمة التي كتبها جدي في مطلع حياته وهو في أول العشرينيات من عمره؛ وهي تشكل القسم الثاني من الكتاب (ولم أجد من هذه المقالات الكثير، بل هي سبع لا غير). وكذلك وضعت -في القسم الثالث منه- مجموعة من المقالات التي نقلتها عن أصول مخطوطة، أُذيعت من إذاعة المملكة ورائيها من نحو ثلث قرن ولكنها لم تُنشر من قبل قط، لا في صحيفة ولا في كتاب ولا في أي مكان.
...
ولكن ما الذي صنعته سوى اختيار المقالات وتجميعها وتبويبها؟
علمتُ -بادئ ذي بدء- أن جدي ما كان ليقبل أن يعبث بكتابته أحد؛ فلم أتجرأ على شيء من ذلك، وحرصت على أن أنقل ما كتب بالشكل الذي كتب. ولكني اضطررت إلى الاجتهاد في بعض المواقع وأنا أقف أمام خطأ مطبعي واضح مما نُشر في صحيفة ولم يمر عليه قلم جدي بالتصحيح (وقليلة هي المقالات التي عاد إليها بالتصحيح، على كثرة أخطاء الطباعة) أو وأنا أحاول فك رموز جملة مخطوطة (وخط جدي كان -إذا استعجل فيه- من الرموز التي لا يفهمها غير الخاصة)، على أنه لم يكن اجتهادًا مطلقًا بل هو مقيد بما أعرفه من مفردات جدي التي تدور على قلمه أو تعبيراته التي تتكرر في كتاباته. وأرجو ألا أكون قد أغربت.
ثم كان عليّ أن أضع للمقالات عناوين؛ إذ أن أقل القليل منها قد حمل عنوانًا بخطه، لأنها كانت- في الأصل- مقالات قصيرة بلا عنوان تحت عمود يومي ذي عنوان، وآمل أن أكون موفقًا فيما اجتهدت فيه من ذلك.
1 / 8
وأخيرًا تجرأت فوضعت بعض الهوامش في مواطن معدودة حيث أحسست بحاجة لهامش، ولكني لم أخلط ما أدرجته من ذلك بالهوامش الأصلية التي كتبها جدي لمقالاته وميزتها عنها باسمي بين قوسين.
...
ذلك كل ما صنعته لا أكاد أزيد عليه. وما هو بالعمل الجليل ولا بالجهد الكبير، ولكن طمعي في المشاركة بالأجر يحملني على أن أسأل من قرأ هذا الكتاب فوجد فيه نفعًا (وهو لا بد فاعل) أن يدعو لكاتبه ولا ينسى جامعه من الدعاء.
ولن أنسى -ختامًا- أن أشكر بنات الشيخ ﵀؛ أمي وخالاتي، اللائي آثرنني بهذا العمل فأتحن لي أن أكون شريكًا في الأجر فيه، وكذلك زوج خالتي، نادر حتاحت، الذي كان لجدي -ما علمتُه- خير ما يكون ابنٌ بار لأبٍ محب، والذي ينشر -اليومَ- هذا الكتاب.
مجاهد مأمون ديرانية
جدة: منصرم عام ١٤٢٠
1 / 9
القسم الأول
مقالات منتقاة من الكلمات
المنشورة في جريدتَي «النصر» و«الأيام»
ومعظمها نشر بين عامي ١٩٤٩ و١١٩٥
1 / 11
ابحثوا وخبروني
(١) روى ابن كثير في تفسيره أن النبي ﷺ سئل: هل يسرق المؤمن؟ فأجاب بأنه ربما وقع منه ذلك ولكنه يتوب ويندم، فسألوه: هل يزني المؤمن؟ فأجاب بمثل ذلك، فقالوا: هل يكذب المؤمن، قال: لا.
فانظروا إلى المؤمنين هذه الأيام، هل يكذبون؟
(٢) وفى الحديث الصحيح أن علامات النفاق ثلاث: منها إخلاف الوعد، والذي يخلف الوعد هو في رأي الإسلام ثلث منافق!
فهل في المسلمين من يخلف وعدًا؟ هل فيهم أحد يعدك الساعة الثانية ويجيء الثالثة؟ هل تدعى إلى وليمة ثم يؤخرون تقديم المائدة انتظارًا لغليظ (ثلث منافق) فيعاقبون من حضر على الموعد بذنب من تأخر؟ هل تكون لك دعوى في المحكمة الساعة التاسعة ثم لا يراها الحاكم إلا في الحادية عشرة؟ هل يعدك الخياط بإرسال البدلة الجديدة إلى دارك نصف رمضان لتلبسها بالعيد، ولا تصل إلا ثالث أيام العيد؟
ابحثوا أنتم وخبروني.
(٣) قال رسول الله ﷺ (في الحديث الصحيح): «من غشنا (وفى رواية: من غش) فليس منّا».
1 / 13
وهذا الحديث -بلسان أهل العصر- مرسوم اشتراعي بطرد من يغش المسلمين (أو يغش إطلاقًا) من الجنسية الإسلامية، وحرمانه من حقوقها.
فهل في المسلمين أحد يغش؟ هل يخلط البائعُ الحليبَ بالماء ويدّعي أنه حليب صاف؟ هل ينقص المتعهد الإسمنت من البناء ويغش الدولة؟ هل يشتغل العامل عندك ست ساعات ويتكاسل ساعتين ويأخذ أجرة اليوم كاملًا؟ هل ... وهل ... وهل في المسلمين (اليوم!) أثر للغش؟ إن وجدتم هذا الأثر عند أحد من المسلمين فأبلغوه أنه مطرود من الجنسية الإسلامية بلسان الرسول ﷺ.
(٤) وفي الحديث الصحيح أن أعرابيًا كان له دين على النبي ﷺ فجاء يطالبه بشدة وغلظة، فانتهره الصحابة وقالوا: ويحك تدري من تكلم؟ قال: إني أطلب حقي. فقال النبي ﷺ: هلا مع صاحب الحق كنتم؟ هلا مع صاحب الحق كنتم؟ ثم أرسل فاستدان مالًا فوفى الأعرابي دينه، وزاده شيئًا كثيرًا. فقال الأعرابي: أوفيت أوفى الله لك. فقال الرسول ﷺ: لا قدست أمة لا يأخذ الضعيف فيها حقه غير متعتع.
سمعتم؟ لا قدست أمة لا يأخذ الضعيف حقه فيها، فهل يأخذ الضعيف حقه فينا كاملًا؟ وإذا دخل دائرة من الدوائر، هل يعامل معاملة القوي الغني صاحب النفوذ؟ وإذا طالبك الضعيف المسكين بحق له، هل تسرع إلى أدائه حقه كما تسرع إلى أداء القوى الغنى؟
فكروا في الجواب الصحيح، فإذا كان الجواب «نعم»؛ فأنتم أمة مقدسة، وإن كان الجواب «لا» فـ ... فأنتم أدرى؟
(٥) وفي الحديث الصحيح: «لم تظهر الفاحشة (أي الزنا واللواط ومقدماتهما) في قوم إلا فشا فيهم الطاعون والأوجاع، ولم ينقصوا الكيل
1 / 14
والميزان إلا أخذوا بالسنين والشدة وجور السلطان».
من صفات المجتمع الإسلامي أن الفاحشة لا تظهر فيه ولا يجد الداخل عليه عورات بادية ولا فجورًا معلنًا، وأن الأمانة منتشرة فيه فلا يغشك أحد ولا يزن لك وزنًا ناقصًا، ولا يضع لك بائع الحلويات صحن الكرتون في الميزان فيبيعك إياه بسعر الحلو (أي الكيلو بخمس ليرات) وتستحي أنت أن تنهاه أو تصرخ في وجهه: إن هذه سرقة!
فهل مجتمعنا الحاضر مجتمع إسلامي خالٍ من هاتين الرذيلتين؟
(٦) وفى الحديث الصحيح: «من احتكر طعامًا فهو خاطئ» (أي مذنب؛ من الخِطْء بكسر الخاء لا من الخَطَأ بالفتح).
فهل فينا أحد يحتكر طعامًا؟ هل هنالك جماعة تآمروا على خبز المسلمين فأغلقوا المطاحن لحسابهم ودفعوا لأصحابها المال ليغلوا الخبز؟ هل في المسلمين من يحتكر هذا الاحتكار الشيطاني؟
(٧) وفي الحديث الصحيح: «من باع بضاعة فيها عيب ولم ينبه إليه، لم يزل في مقت الله ولم تزل الملائكة تلعنه».
فهل في المسلمين من يرتضي لنفسه أن يكون في مقت الله ولعنة الملائكة من أجل قروش يربحها من حرام؟
ابحثوا -يا أيها القراء- في أحوال المسلمين وانظروا أين نحن اليوم من دين الإسلام؟
***
1 / 15
لن يخدعونا
من أمثال «كليلة ودمنة»:
أن ناسكًا اشترى كبشًا ضخمًا ليجعله قربانًا، فانطلق به يقوده، فبصر به قوم من المكرة فائتمروا بينهم أن يأخذوه من الناسك، فعرض له أحدهم فقال: "أيها الناسك ما هذا الكلب الذي معك؟ ". ثم عرض له الآخر، فقال لصاحبه: "ما هذا ناسكًا لأن الناسك لا يقود كلبًا". فلم يزالوا مع الناسك على هذا ومثله حتى لم يشك أن الذي يقوده كلب، وأن الذي باعه إياه سحر عينيه، فأطلقه من يده.
فأخذه الجماعة المحتالون ومضوا به.
...
هذا مثالنا مع أمم الغرب؛ رأوا أن هذا الدين الذي جاءنا به محمد ﷺ فأعز به العرب جميعًا مسلمهم ونصرانيهم، والمسلمين كلهم عربيهم وأعجميهم، مبعثُ القوة لنا لا نُغلب إن حافظنا عليه، ولا يبلغون منا ما يريدون إن تمسكنا به، فحشدوا حشودهم، وساقوا جنودهم من العاملين في إرساليات التبشير (وما قصدهم التبشير بالنصرانية؛ لأن النصرانية إنما انبثقت من هذه البلاد وخرجت منها، ولكن قصدهم التمهيد للاستعمار) ومن إرساليات
1 / 16
التعليم (وما غرضهم تعليم العلم، ولكن نشر الدعاية) ومن إرساليات الطب (وما مرادهم شفاء الأجسام بطبهم ولكن إمراض القلوب بدسهم) فكانوا في اتفاقهم علينا، وائتمارهم بنا، مثل هؤلاء المكرة مع الناسك.
وكما خُدع الناسك عن كبشه حتى ظنه كلبًا .. من الإعادة والتكرار والإيحاء المستمر (وتكرارُ الحبل يؤثر في صخرة البئر) خُدعنا نحن عن الحقائق الظاهرة فحسبناها باطلًا، وحسبنا باطلهم الذي ما زالوا يكررونه حقًا، وصرنا نردد مقالتهم، وندعو إلى التفريق بين الدين والسياسة، وبين الدين والعلم، ونضرب الأمثلة بتاريخ أوربا ...
وأنا لا أحب أن أفرض ما أراه على المخالفين فرضًا، وألزمهم إلزامًا، بل أحب أن أناقشهم ويناقشوني حتى نتفق على الحق في هذا المسألة، ونفرغ منها لنشتغل بما هو أجدى علينا، وأنفع لنا ...
وهذه المناظرة المكشوفة خير من إفساد عقائد الناشئة في رواية خبر أو تلخيص كتاب سخيفة لمؤلف جاهل مجهول.
والكلام في ذلك غدًا إذا أراد الله (١).
...
_________
(١) لم أجد الكلمة المتممة لهذه الكلمة. وقد ترددت أأضم هذه إلى الكتاب أم أسقطها منه، وغلب على رأيي أن تُدرج لأن المقصود منها واضح والمعنى مفهوم ولو لم تكمل (مجاهد).
1 / 17
حتى لا نكون مغفّلين
قرأت من أسبوع أن ستين ألفًا في بومباي خرجوا بمظاهرة هائلة يحيون «آغا خان» ويهتفون له، فلم ينظر إليهم وإنما قابلتهم امرأته الفرنسية.
فقلت في نفسي: ما أعجب أمر العقيدة! هذه الآلاف المؤلفة من البشر تتجه إلى آغا خان، وتقبل عليه، وتؤثره على الأهل والولد، وتقدم له الخمس من المال، وتدفع إليه وزنه فضة وذهبًا، وتكاد تعبده من دون الله، وهو معرض عنها، لا يقيم بين ظهرانيها، ولا يلتفت إليها؛ همه لذاته ولعبه وجياده. فما لها وله، وما تعلقها به وإقبالها عليه؟
ثم قلت: لماذا ألوم الإسماعيليين وحدهم، وكلنا في هذا إسماعيليون؟
أما خاننا رجالٌ ووالوا عدونا وكانوا مع المستعمر علينا، فلما ذهب المستعمر رجعوا يكذبون، يلبسون مسوح العابد بعد مئزر الجلاد، فصدقنا توبتهم ونسينا حوبتهم؟
أما سرق أموالنا رجالٌ فصيروها ضيعًا لهم وقصورًا، وجعلوها كنزًا لهم ولأولادهم واطمأنوا عليها، ثم جاؤونا متظاهرين بالورع مدعين الأمانة فأكبرنا أمانتهم، وضربنا بهم في الورع الأمثال؟
أما جربنا رجالًا فوجدناهم شرّ حاكمين وأفسدهم حكمًا وأرقهم دينًا
1 / 18
وأوسعهم ذمة فنبذناهم، وطال عليهم الأمد فنسينا فسادهم، ورجعنا نصفق لهم وننحني لهم لنرفعهم على رؤوسنا مرة أخرى؟
أما يضحك علينا رجالٌ كلما أذن مؤذن الانتخاب ويعدوننا نعيم الجنة في الحياة، ويحلفون لنا -ليخدعونا- أنهم يُجرون بردى لبنًا وعسلًا، ويفرشون الطرق بسطًا ويلبسون الفقراء حريرًا، فإذا انتخبناهم كانت مواعيدهم كمواعيد (السيد) عرقوب ... ثم تتجدد الانتخابات فيعودون إلى الضحك على ذقوننا ونعود إلى انتخابهم؟
فمتى نصير أمة متيقظة عاقلة لا نائمة ولا مغفلة، نتخذ لكل رجل من رجال السياسة دفترًا كدفتر التاجر فيه «من» و«إلى» نقيد له فيه ما له ونسجل له ما عليه، لنرى كم أعطى الأمة، وكم أخذ منها؟ ماذا كان يملك من قبل وما يملك الآن؟ كيف كان يعيش هو وأهله وكيف يعيش اليوم؟ هل صدق الوطنية أم اتخذها تجارة رابحة؟
متى نفرق بين الصالح والطالح، والخيّر والشرير، ولا نكون مغفلين ننسى مواضي الرجال، ونُخدع مثل الأطفال؟
***
1 / 19
الطرق
فكرت اليوم في مسألة «فلسفية» صعبة؛ هي مسألة الطرق: لماذا اخترعها البشر؟ ووصلت -بعد التفكير الطويل- إلى نتيجة عجيبة لا يعرفها أكثر الناس، نتيجة فرحت بها فرح كولومب بكشف أميركا وهو لا يدري؛ هي "أن الطرق أنشئت ليمشي الناس فيها"!
لا، لا تضحكوا أرجوكم، ولا تقولوا: هذا مسألة بديهية معروفة لا تحتاج إلى كلام. إنها تحتاج إلى كلام طويل ليفهمها الناس، فإن كنتم في شك من ذلك فاسمعوا هذه القصة (بشرط ألا تُتخذ قصتي سببًا لقطع أرزاق الناس، فما أريد ذلك والله. لا أريد إلا الإصلاح والتنظيم، فليذكر هذا كل من يقرأ هذه الكلمة):
والقصة أني كنت أمس مستعجلًا أريد أن أذهب إلى آخر سوق الحميدية، ولا أستطيع أن أركب سيارة ولا عجلة لأن السيارات والعجلات ممنوع عليها هي والدراجات أن تدخل السوق، فشددت نفسي وجمعت همتي ومشيت. فلم أكد أضع رجلي في أول السوق حتى وجدت الطريق مسدودًا بالناس: هنا عربة يد عليها أشكال من البضائع، وبجنبها عربة أخرى، وهناك بياع جرائد وراءه ثلاثة من باعة الجوارب الأميركية قد بسطوها على الأرض، وفي وسط السوق عدد من بياعي المعاطف، وخلال ذلك كله
1 / 20
عشرة صبيان يبيعون الشفرات والأمشاط والمطاط، وحول كل واحد من هؤلاء جميعًا حلقة تساومه أو تخاصمه وتشتري منه أو تدفع له، وأمام بياع الجرائد نفر يحفون به يدورون معه كلما دار ليقرؤوا أخبار الجريدة من عنواناتها ويوفروا ثمنها، وعند بائع المعاطف رجل يقيس المعطف ويجربه واثنان يتفقدان طوله وعرضه وقماشه وخمسة ينظرون إليه، وعلى الرصيفين جماعات من «أكابر» القوم يتحدثون بجد ووقار، أو يتنادرون ويضحكون كأنهم في دورهم، وكل بائع ينادي ويصرخ بأعلى صوت يخرج من حنجرته؛ فيكون من ذلك مجموعة عجيبة قد اختلط فيها صوت الصبي الحاد بصوت الشيخ المبحوح فصارت كأنها برامج إذاعة دمشق في هذه الأيام، فأنت تسمع باستمرار: "النصر .. الجوز بورقة .. الجوز بورقة .. البيان الوزاري .. بردى .. بفرنك .. المشط بفرنك .. القبس .. هيئة الأمم .. بورقة الجوز .. الجوز بورقة .. دراع المطاط بفرنك .. الأيام .. الشفرات ..)، ولبياع الجوارب صوت نحاسي رنان ونفس ممتد وهو يصرخ (الجوز بورقة .. الجوز بورقة) بمعدل مرة ونصف في الثانية، ويخرج من حلقه الحروف متلاحقة متلاصقة كأنها رصاص الرشاش.
وتكون في وسط هذه المعمعة وإذا بفلاح طويل عريض يلبس «بلدكية» قد أقبل مسرعًا كالعاصفة التي تهب فتكتسح كل شيء أمامها، فأخذ واحدًا بطرف بلدكيته وواحدًا بذيلها وجرف الاثنين معه فضاعا وسط البلدكية ... فإذا وصل إليك صدمك صدمة دبابة من الوزن الثقيل ومضى، فتلتفت فتلقى سيارة آتية من خلفك مسرعة كأنها البلاء النازل، فتعجب كيف دخلت السوق وقد منع دخول السيارات إليه، وتنظر إليها فتلقاها سيارة شرطة تسير بسرعة سبعين ميلًا، تصوت صوتًا يثقب الآذان!
وهذا هو أكبر أسواق المدينة، والطريق إلى الجامع الأموي، أفلا
1 / 21
ترون -أيها القراء- أننا نحتاج إلى كلام طويل لنفهم الناس هذه الحقيقة الصعبة التي وصلت إليها بذكائي ... وعقلي ... وهي أن الطرق إنما وجد ليمشي الناس فيها؟
...
ملاحظه: أكرر القول إني لا أريد قطع أرزاق البياعين وطردهم فقط، بل أريد أن يخصص لهم مكان آخر يستطيعون أن يبيعوا فيه من غير أن يؤذوا المارين.
***
1 / 22
لا تخافوا اليهود
لقد كتبنا نقول إن اليهود يستعدون ونحن نائمون، وإنهم يجدّون ونحن هازلون؛ نستثير بذلك الهمم ونستفز العزائم، ولكنا جاوزنا الحد وأربينا على المدى فانقلبت الدعوة شرًا وضرًا، إذ صار الناس يتوهمون في اليهود قوة وبأسًا ويحسبون لهم حسابًا. فوجب علينا أن نعود فنكشف لهم عن الحقيقة وندلهم على الواقع.
والحقيقة هي التي ترونها وتسمعونها كل يوم. ألا تسمعون أن جماعات من جند يهود يهجمون بأسلحتهم الحديثة وعتادهم الجديد ومدافعهم الثقيلة على القرى العربية في المنطقة الحرام، فيردهم أهلها أقبح الرد ويقتلون منهم ويأسرون؟ هذا وهم بدو أو فلاحون جاهلون ما درسوا فن القتال ولا عرفوا أساليب الحروب، فكيف إن لاقوا الجيش العربي المنظم؟
هذه هي حقيقة اليهود: إنهم لا يزالون أهل الجبن والمذلة ولا يلقون عربًا في ميدان إلا ظفر بهم العرب، ولو لم تخدع الدول العربية يومئذ بخدع أميركا وإنكلترا وتهادن تلك الهدنة لألقى اليهود في البحر.
فلا تخشوا اليهود ولا تظنوا أن السلاح غيّر طبائعهم؛ إن السيف في يد الجبان عثرة له عند الهرب. وما هذا الذي أقول حماسة ولا خيالًا ولكنه الحق الذي وقع أمس وما قبله.
1 / 23