العقل عند أرسطو على ثلاثة أضرب: أحدها العقل الهيولانى، وقولى: «هيولانى» أعنى به عقلا موضوعا ممكنا أن يصير كاملا مثل الهيولى. وقولى: »هيولانى» ليس أعنى به شيئا ما موضوعا ممكنا أن يصير شيئا مشارا إليه بوجود صورة ما فيه، ولكن إذ كان وجود الهيولى إنما هو فى أنه يمكن أن يصير كلا من طريق الإمكان نفسه، وكذلك أيضا ما بالقوة نفسه فهو من جهة ما هو كذلك [و]هو هيولانى، فإن العقل أيضا الذى لم يفعل بعد إلا أنه ممكن أن يفعل فهو هيولانى. وقوة النفس التى هى هكذا هى عقل هيولانى. وليس هو واحدا من الموجودات التى هى هكذا هى عقل هيولانى؛ وليس هو واحدا من الموجودات بالفعل؛ إلا أنه قد يمكن فيه أن يصير كلا، أى يصير متصورا للأشياء الموجودة كلها، لأنه لا ينبغى لمدرك الكل أن يكون بالفعل بطبيعته التى تخصه واحدا من المدركات، لأنه لو كان كذلك لكان عند ادراكه الأشياء التى من خارج ستعوقه صورته التى تخصه عند تصور تلك؛ فإن الحواس أيضا لا تدرك الأشياء التى وجودها إنما هو فيها؛ وكذلك البصر إذ هو يدرك الألوان، فإن الآلة التى فيها، لا بها هذا الإدراك، لا لون لها، لأنه لا لون للماء خاصا والشم فى الهواء؛ وهذا ليست له رائحة؛ والشم هو مدرك الروائح. واللمس لا يحس ما هو مثله فى الحرارة أو البرودة أو اللين أو الخشونة، وإنما يحس ما خالفه إلى الكثرة أو القلة، وذلك لأنه ما كان يمكن، إذ كان جسما، ألا تكون له هذه الأضداد، لأن كل جسم طبيعى مكون فهو ملموس. وكما لا يمكن فى الحواس أن يدرك الحس شيئا ليس هو له ولا أن يميزه، كذلك إن كان العقل إدراكا ما وتمييزا للمعقولات فليس يمكن أن يكون واحدا فى الموجودات التى هو يميزها، لكنه مدرك الكل، إذ كان يمكن [أن يكون] أن يعقل الكل. فليس هو إذن واحدا من الموجودات، ولكنه بالقوة كلها. فإن هذا معنى أنه عقل. فإن الحواس، وان كانت إنما تكون بأجسام، فليس هى الأشياء التى ندركها، ولكنها أشياء أخر غيرها بالفعل، فإن ادراك الحواس إنما هو قوة ما لجسم ما ينفعل، ولذلك ليس كل حس مدركا لكل محسوس، لأن الحس هو أيضا شىء ما بالفعل. فأما العقل فإذ ليس يدرك الأشياء بجسم، ولا هو قوة لجسم ما، ولا ينفعل، فليس هو ألبتة شيئا من الموجودات بالفعل، ولا هو شيئا مشارا إليه، بل إنما هو قوة ما قابلة صور الموجودات ومعقولات هذا الانسان. وهذه النفس، وهذا العقل الهيولانى هو فى جميع من له النفس الناطقة، اعنى الناس.
وللعقل ضرب آخر، هو الذى قد صار يعقل وله ملكة أن يعقل، وقادر أن يأخذ صور المعقولات بقوته فى نفسه، وقياسه قياس الذين يكون فيهم ملكة الصناعات القادرين بأنفسهم على أن يعملوا أعمالها. فإن الأول ما كان شبيها بهؤلاء، بل بالذين فيهم قوة يعملون بها الصناعة، حتى يصيروا صناعا. وهذا العقل هو العقل الهيولانى بعد أن صارت له ملكة واستعداد أن يعقل وأن يتقبل.
Página 33