ثانيا:
أن أعضاء مجلس العموم - عن طريق اختيارهم لتحقيق هذا الغرض - إما أنهم أكثر حكمة أو أكثر استحقاقا للثقة من التاج.
ولكن لما كان الدستور نفسه الذي يعطي أعضاء مجلس العموم السلطة لمراجعة الملك عن طريق حجب الاعتمادات المالية يعود مرة أخرى ليعطي الملك سلطة مراجعة مجلس العموم، عن طريق تمكينه من رفض مشاريع القوانين الأخرى التي يتقدمون بها؛ فإنه بذلك يفترض من جديد أن الملك أكثر حكمة من أولئك الذين افترض من قبل بالفعل أنهم أكثر حكمة منه. ويا لها من سخافة بحتة!
وهناك أمر سخيف إلى أبعد حد في هيكل النظام الملكي؛ فهو أولا يعزل الملك عن وسائل المعلومات، غير أنه يفوضه في التصرف في حالات يكون أقصى قدر من حسن التقدير مطلوبا فيها. إذن فوضع الملك يعزله عن العالم، غير أن وظيفته تطالبه بمعرفته على نحو شامل ودقيق؛ لذا فإن الأجزاء المختلفة، عن طريق معارضة وتدمير بعضها البعض على نحو غير طبيعي، تثبت أن هذا الأسلوب كله سخيف وغير ذي جدوى.
وقد شرح بعض الكتاب الدستور الإنجليزي على النحو التالي: يقولون إن الملك جزء والشعب جزء آخر؛ ومجلس النبلاء هو مجلس ينوب عن الملك، في حين ينوب مجلس العموم عن الشعب؛ ولكن هذا يشتمل على جميع الاختلافات التي تصف مجلسا منقسما على نفسه؛ ومع أن التعبيرات المستخدمة مرتبة على نحو لطيف، فإنها عند فحصها تبدو فارغة وغامضة؛ وعندما تشيد الكلمات أفضل بناء تستطيع بناءه لوصف شيء إما لا يمكن وجوده وإما أنه من الصعوبة والغموض بحيث لا يحيط به الوصف؛ فدائما لن تكون الكلمات سوى أصوات لا معنى لها، ومع أنها قد تطرب الآذان فإنها لا تستطيع إشباع العقول، لأن هذا التفسير ينطوي على سؤال سابق هو: «كيف فاز الملك بسلطة يخشى الشعب ائتمانه عليها ويضطر دائما إلى مراجعته فيها؟ إن سلطة كهذه لا يمكن أن تكون منحة من شعب حكيم، ولا تستطيع أي سلطة - تحتاج المراجعة - أن تكون مستمدة من الله؛ ومع هذا فإن النصوص، الواردة في الدستور، تفترض وجود مثل هذه السلطة.
غير أن النصوص غير مؤهلة للمهمة؛ فالوسيلة إما لا تستطيع وإما لن تقوم بتحقيق الغاية، والقضية كلها عبارة عن انتحار؛ لأنه لما كان الوزن الأكبر دائما يحمل الوزن الأقل، ولما كانت جميع عجلات الآلة تحركها عجلة واحدة؛ فلا يتبقى لنا سوى أن نعرف أي قوة في الدستور صاحبة أكبر وزن، لأن تلك القوة هي التي ستحكم؛ ومع أن القوى الأخرى، أو جزءا منها، قد تعوق، أو تراجع - حسب صياغة العبارة - سرعة حركتها، فإن جهود تلك القوى ستكون غير ذات جدوى طالما كانت لا تستطيع إيقافها؛ وسوف تفرض القوة المحركة الأولى أسلوبها في نهاية الأمر، وما تريده بسرعة سوف يتحقق مع مرور الوقت.
ولا حاجة بالطبع للقول إن الملك هو تلك القوة الغالبة المهيمنة في الدستور الإنجليزي، كما أنه من الواضح أنه يستمد منزلته كلها فقط من كونه مانح الطبقات والمعاشات، لذا، فمع أننا كنا من الحكمة بما يكفي لإغلاق الباب أمام الحكم الملكي المطلق، فقد كنا في الوقت نفسه من الحماقة بما يكفي لإعطاء المفتاح للملك.
إن تحيز الإنجليز لحكومتهم برئاسة الملك، واللوردات، وأعضاء مجلس العموم نابع من الفخر الوطني أكثر مما هو نابع من العقل والمنطق. فالأفراد في إنجلترا أكثر أمنا بلا شك من غيرهم في بعض البلدان الأخرى، ولكن إرادة الملك تعادل قوة القانون في بريطانيا كما هي الحال في فرنسا تماما، مع الفارق المتمثل في أنها بدلا من أن تصدر من فمه مباشرة فإنها تصل إلى الشعب في صورة أكثر توقيرا هي قانون سنه البرلمان. وهذا لأن مصير تشارلز الأول جعل الملوك من بعده أكثر مكرا ودهاء؛ وليس أكثر عدلا وإنصافا.
لذا إذا نحينا جانبا كل عوامل الفخر والانحياز الوطني وقدمنا عليها النظم والأشكال، فستكون الحقيقة البسيطة هي أن كون السلطة الملكية في إنجلترا ليست جائرة كمثيلتها في تركيا أمر مرجعه إلى «دستور الشعب، وليس دستور الحكومة».
إن بحث «الأخطاء الدستورية» في الشكل البريطاني للحكومة هو في الوقت الراهن أمر ضروري للغاية؛ لأنه طالما أننا لسنا أبدا في وضع ملائم لإنصاف الآخرين ونحن مستمرون في التأثر ببعض التحيزات الموجهة، فإننا لسنا قادرين كذلك على إنصاف أنفسنا ونحن مكبلون بأي تعصب راسخ. وكما أن أي رجل على علاقة بامرأة بغي غير مؤهل لاختيار زوجة أو الحكم عليها، فإن أي تحيز لصالح دستور فاسد للحكومة سوف يعوقنا عن رؤية وتمييز أي دستور صالح.
Página desconocida