[21] فقد تبين من جميع ما ذكرناه مما يوجد بالاستقراء والاعتبار، ويوجد مطردا لا يختلف ولا ينتقض، أن البصر ليس يدرك شيئا من المبصرات التي تكون معه في هواء واحد ويكون إدراكه له لا بالانعكاس إلا إذا اجتمعت للمبصر المعاني التي ذكرناها، وهي أن يكون بينه وبين البصر بعد ما بحسب ذلك المبصر، ويكون مقابلا للبصر، أعني أن يكون بين كل نقطة من سطحه الذي يدركه البصر وبين نقطة ما من سطح البصر خط مستقيم متوهم، ويكون فيه ضوء ما إما من ذاته أو من غيره، ويكون حجمه مقتدرا بالإضاقة إلى قوة إحساس البصر، ويكون الهواء الذي بيينه وبين سطح البصر أو الجسم الذي بينه وبين سطح البصر مشفا متصل الشفيف لا يتخلله شي ء من الأجسام الكثيفة، ويكون كثيفا أو فيه بعض الكثافة أعني أن لا يكون فيه شفيف أو يكون مشفا وشفيفه أغلظ من شفيف الهواء المبسوط بينه وبين سطح البصر أو الجسم المشف المتوسط بينه وبين سطح البصر، وليس يكون الكثيف إلا ذا لون أو ما يجري مجرى اللون، وكذلك المشف الذي فيه بعض الغلظ. فهذه المعاني هي التي لا يتم الإبصار إلا بعد اجتماعها للمبصر. وإذا اجتمعت هذه المعاني للمبصر، وكان البصر سليما من الآفات، فإنه يدرك ذلك المبصر، وإذا عدم البصر واحدا من هذه المعاني فليس يدرك المبصر الذي يعدم فيه ذلك المعنى. وإذا كان ذلك كذلك فهذه المعاني إذن هى خواص البصر التي بها وباجتماعها يتم الإبصار.
[22] وقد يظهر أيضا بالاستقراء أن كل مبصر يدركه البصر، ثم يبعد عنه حتى ينتهي إلى الحد الذي يخفى عن البصر، فإن بين البعد الذي يخفى منه ذلك المبصر وبين سطح البصر أبعادا كيثرة مختلفة لا تنحصر ولا تتعين يدرك البصر من كل واحد منها ذلك المبصر إدراكا صحيحا، ويدرك جميع أجزائه ويدرك جميع ما فيه من المعاني التي يصح أن يدركها البصر. وإذا أدرك البصر المبصر على بعد من هذه الأبعاد إدراكا صحيحا، ثم تباعد عنه على تدريج وترتيب، خفيت أجزاؤه الصغار والمعاني اللطيفة إن كانت فيه كالنقوش والوشوم والغضون والنقط قبل أن تخفى جملته، ويخفى ما صغر من هذه المعاني ودق قبل أن يخفى ما هو أعظم وأغلظ. وتوجد الأبعاد التي تخفى منها الأجزاء الصغار وتلتبس المعاني اللطيفة وتشتبه كثيرة غير معينة ولا محصورة.
[23] ويوجد أيضا المبصر إذا تمادى في التباعد على التدريج والترتيب تصاغرت جملته عند البصر قبل أن يخفى جميعه، ثم إذا استمر على التباعد انتهى لى الحد الذي يخفى جميعه على البصر ولا يحس به ولا بشيء منه، وإن ازداد بعد ذلك تباعدا لم يدركه البصر.
Página 70