فبهت أمين بك، ولكنه عاد فظن أن الرئيس يقول ذلك على سبيل المجاملة لتخفيف حزنه، فقال: «لا أظنه إلا ميتا لأن الضربة كانت قاضية.»
فقال الرئيس: «بل هو حي يا ولدي، وإذا لم تصدق أريتك إياه رأي العين؟»
فظنه أمين بك يمازحه تخفيفا لكربه فقال: «بالله دعنا من إثارة الأشجان فإني لا أرجو رؤية سعيد ولا في المنام، ولكن شخصه نصب عيني سحابة النهار وبعض الليل.»
فقال الرئيس: «بل أقول لك الواقع، إن سعيدا الآن في الدير عندي، وقد جئت لأبشرك بقدومه.» •••
فلما سمع أمين بك كلامه خفق قلبه، وانتصب على قدميه مذعورا، وقال: «أين هو؟ أرني إياه، هلم بنا إليه؟» قال: «لا حاجة إلى ذهابك فإني ذاهب.» قال ذلك وخرج، فهرول أمين بك إلى سلمى وغريب وسائر أهل بيته وأنبأهم بالخبر، فكادت قلوبهم تطير من الفرح، ولم يصدقوا الخبر لبعده عن المنتظر، أما أمين بك فأوعز إلى منظمي الاحتفال أن يسيروا بالموسيقى ولاعبي السيف والخيالة جميعا بموكب واحد لملاقاة سعيد وهو قادم من الدير، وسارت أسرة أمين بك بأكملها وراء الجميع عدا النساء، وقد أحالوا احتفال الزفاف إلى الاحتفال بملاقاة سعيد، وكان «العريس» في جملة المحتفلين، وسار الموكب من بيت الدين وأصوات العازفين والضاربين والخيالة تكاد تبلغ عنان السماء. •••
فلما كانوا في منتصف الطريق، قيل لأمين بك : «إن الرئيس وسعيدا قد قدما.» فتقدم هو وولداه حتى التقوا بسعيد، فإذا هو قد ترجل واندفع إلى ركاب أمين بك فقبله، والتفت يمنة ويسرة لعله يرى غريبا فرآه ولم يعرفه؛ لأنه فارقه صبيا وقد صار شابا، فأقبل غريب بنفسه وسلم عليه، فعانقه سعيد، وعيناه تذرفان دموع الفرح، وقال لأمين بك: «أشكر الله على هذه المنة، فإني طالما كنت أتمنى هذا اللقاء، وها قد رأيته بعيني، فأحمد الله. ولكني أراكم قد بالغتم في إكرامي، وما أنا إلا عبدكم ولست أهلا لهذا الاهتمام!» فتقدم إليه أمين بك وقبله قائلا: «ما أنت والله ألا أخ وأعز من الأخ؛ لأنك سعيت سعيا لا نستطيع مكافأتك عليه، فقد كنت سببا لبقائنا كلنا، ولولاك ما بقي أحد منا حيا.»
فسكت سعيد احتراما لكلام سيده، وبعد أن وقفوا هنيهة في مثل هذه الأحاديث، عادوا على الأقدام، والموكب يسير بهم نحو بيت الدين، ولكن سعيدا كان في مشيه عرج وقد ظهرت على وجهه ملامح الشيخوخة والكبر. فقال له أمين بك: «كم أحب أن أعرف ماذا أنقذك من الموت، وما سبب تأخرك عنا إلى هذا اليوم حتى يئسنا من حياتك.»
فتنهد سعيد وقال: «سأقص عليك الخبر قريبا، أما الآن فدعوني أرتوي من مشاهدة سيدي غريب، وقد علمت أنكم تحتفلون بعرسه، فما أسعد هذا الاحتفال!» ثم نظر إلى سليم وقد استغربه وقال: «ولكني لم أعرف هذا الشاب؟» فقال أمين بك: «ألا تعرفه؟» قال: «نعم، لا أظنني رأيته قبل الآن أو لعلي رأيته ولا أذكر.»
فقال أمين بك: «هذا هو ولدنا سليم الذي أضعتموه في عكا.» فاتجه سعيد إليه، وقبله وقال: «حبيبي، هل أنت سليم؟ سبحان الخالق العظيم، ها أنا ذا قد نلت من دنياي فوق ما كنت أرجو؛ لأني لم أرج قط أن أرى سليما حيا، فهذا فوق ما كنت أنتظر، الحمد لله.» ثم سأل عن سيدته، فقيل له: «هي بخير تنتظر وصوله مع سائر أهل السراي في بيت الدين.» وما أتموا حديثهم حتى وصل الموكب إلى السراي، وخرج من فيها لملاقاتهم، ودخل أمين بك وسعيد إلى دار الحريم، فإذا السيدة سلمى في انتظارهم، فأخذ بيدها وقبلها، فسلمت عليه ورحبت به، وقالت: «إن فرحي بعودتك أكثر كثيرا من فرحي بزواج ولدي غريب لأنك الصديق الغيور.» فشكر فضلها وقال: «العفو يا سيدتي، بل أنا عبدك وخادمك.» ثم جلسوا جميعا وقد عاد الموكب إلى الاحتفال بحفل الزفاف وتضاعف الفرح والسرور. •••
أما أمين بك، فظل منشغل الخاطر بطريقة نجاة سعيد وسبب تأخره إلى ذلك الوقت، فلما استقر بهم الجلوس، قال أمين بك لسعيد: «بالله ألا أنبأتنا بكيفية نجاتك، وكيف كانت نتيجة تلك الضربة!»
Página desconocida