وبعد ذلك ببضعة أسابيع، جاءت البشائر إلى بيت الدين بقرب وصول غريب، فخرج عدد من الرجال لملاقاته وفي مقدمتهم سعيد، وحين التقوا به أطلقوا البارود ترحيبا به. أما سعيد فعانقه وقبله وجاء به إلى والدته، وكانت تنتظره عند باب الدار فأسرعت إليه وقبلته، وشكرت الله على سلامته، ودخلت به حجرتها، وبعد أن استراح هنيهة واغتسل وأبدل ملابسه جلست بجانبه، وجاء جميع أهل «السراي» للسلام عليه، فكان يسلم عليهم ويحادثهم ويلاطفهم، وهم معجبون به وبلطفه.
أما والدته فرأت في جبينه أثر جرح، فتقدمت إليه وسألته عن سبب ذلك الجرح، فقال لها: «لهذا الجرح قصة سأقصها عليك في هذا المساء.»
فلما كان المساء، تناول الطعام ثم دخلت به حجرتها، ولم يكن هناك أحد غيرهما، فجعلت تتأمله بتلهف لا مزيد عليه، وهي لا تصدق أنها تراه، ثم تذكرت أمر قصته فسألته أن يقصها عليها كما وعد بذلك.
أخذ غريب يشرح حكاية الميدان، وكيف تاه في الصحراء، ومقابلة أولئك اللصوص له إلى أن وصل إلى موقف ذلك المتلثم، وكيف ألقى بنفسه في الخطر لإنقاذه. كل ذلك وهي صامتة تتأمل إشارات غريب وحديثه، وقلبها يخفق لما كان يحدق بالغلام من الخطر، ولم تستطع أن تكف عن البكاء من أجل ذلك. وقد مالت كل الميل إلى معرفة ذلك الرجل، فسألته عما إذا كان قد عرفه فقال: «لا يا والدتي، فإنه لم يشأ أن يخبرنا بحكايته، ولكن حينما عرف والدي ما فعله معنا، زاره في محل إقامته وقد أخبره بقصته وجاء معه إلى منزلنا وسار معنا إلى القاهرة، وقد فهمت أنه كان في مصيبة عظيمة فنجاه أبي منها بتوسطه له لدى محمد علي باشا، وقد كان في نيتنا أن يبقى معنا لكي نأتي به إلى هنا، ولكنه جاء ذات يوم مودعا وانصرف ولم نعد نعلم مقره.»
فشعرت جميلة كأن هاتفا حدثها، فانشرح صدرها لذلك الرجل، وأسفت لعدم مجيئه إليها لتكافئه على معروفه، ولم تعلم سبب ذلك السرور، وإنما نسبته لنجاة ولدها من مخالب الموت.
وفيما كان غريب يحادث والدته ويشرح لها ما شاهده في مصر من الغرائب، حانت من والدته التفاتة إلى منديل من الحرير الجميل كان في يده، فارتجف قلبها ونظرت إليه وتأملته، فلم تستطع أن تخفي الدهشة، ولكنها أمسكت نفسها وتناولت المنديل وتأملته فإذا هو منديل زوجها، وعليه زركشة من صنع يدها، فقالت لغريب: «من أين لك هذا المنديل يا ولدي؟» فقال لها: «هو المنديل الذي عصب به ذلك الرجل رأسي، وقد بقي معي سهوا.» فخافت أن تكثر من السؤال، فتشغل بال الغلام، فصبرت حتى تقابل سعيدا في الصباح التالي وتفاوضه في هذا الشأن، ولكنها لم تستطع النوم تلك الليلة لشدة التأثر، واشتغال بالها بأمر هذا المنديل.
وفي صباح اليوم التالي، بكر سعيد لمشاهدة ابن سيده، فما أن قابلته جميلة حتى دعته إلى مكان منفرد، وكان غريب لا يزال نائما من عناء السفر. وقالت له: «هل تعرف هذا المنديل؟» فهتف سعيد: «هذا منديل سيدي، من أين أتيت به؟» فأخبرته بالقصة التي قصها عليها غريب.
فقال: «يا سيدتي، لا يظهر من الحكاية شيء يؤكد ظنوننا.»
فقالت له: «أضف هذه الحكاية إلى ما كتبه لنا غريب في كتابه الأخير من مصر وتأمل.»
فقال سعيد: «هل سألته عن اسم ذلك الرجل؟»
Página desconocida