قال أمين: هذه هي (خلية لانجستروث) الدولية يا بثينة، وقد دعا إليها العلامة لانجستروث “Langstroth”
وما أحسبني مخالفا أي قانون لحماية الألقاب في زمن سيطرت عليه الفوضى إذا لقبته «بالعلامة».
كان لانجستروث قسيسا فهوي النحالة - شأن كثيرين من رجال الدين، وابتدع في منتصف القرن الماضي (سنة 1851م) الخلية الموسومة باسمه، وقد أصبحت الخلية القياسية المنتشرة في المناحل العصرية بمصر كما انتشرت في جميع الممالك الراقية التي تعرف استغلال النحالة الاستغلال الاقتصادي الواجب، وأكبر ميزة لهذه الخلية كما ترين نظام الإطارات المتحركة - وإن سبق إليه في صورة ما العالم السويسري هيوبر “Huber”
في أوائل القرن الماضي - وتنسيقها مجاورا بعضها بعضا على مسافة معينة هي ما نسميه «مسافة النحلية» وهي ربع بوصة ما بين كل إطار وآخر مما يسمح للنحل بالتحول بينها، وقد كشف الأب لانجستروث هذه الحقيقة واستغلها في تنظيم أثاث الخلية العصرية، فهو أولا: زودنا بالإطارات المتحركة التي يمكن بناء أقراص النحل داخلها، وهكذا يمكن رفعها من الخلية وفحصها وإعادتها أو نقلها من خلية إلى أخرى أو إلى جهة نائية، إلى غير ذلك من التصرفات العملية. وهو ثانيا: عرف مقياس الفراغ الواجب بين الأقراص لتتحرك فيه النحل دون أن تلجأ إلى لصق هذه الأقراص بعضها ببعض أو إلى سد هذا الفراغ، فاتخذه قاعدة للمسافات ما بين الإطارات والأقراص في هذه الخلية العصرية، وخلية لانجستروث بسيطة التركيب، يسيرة الأجزاء: فهي مصنوعة في جملتها من الخشب الجيد الذي يحتمل تقلبات الجو، ومدهونة بدهان زيتي ذي لون واق من حرارة الشمس كالأزرق السماوي أو الأبيض، ومغطى سقفها بلوح من الزنك المتين أو من الألومنيوم؛ ليحول دون تسرب المطر إلى داخلها، وهي مؤلفة من حامل لرفعها عن مستوى الأرض تجنبا للضفادع والسحالي والنمل وما إليها من أعداء النحل، وقد توضع أرجل هذا الحامل (في المناطق التي يكثر فيها النمل وتشتد هجماته) في أطباق ذات ماء لوقايتها من النمل المتسلق، ولكن لا حاجة بنا إلى مثل هذه الحيطة في المناطق الزراعية، ويوضع فوق الحامل ما يسمى باللوح الأرضي، ثم غرفة تسمى غرفة التربية وأخرى تسمى العاسلة، ثم لوح حابس يسمى بالغطاء الداخلي، وأخيرا الغطاء الخارجي المكسو باللوح المعدني للوقاية من المطر، ولا تفوتنا قطعة الخشب المثقوبة التي توضع فوق اللوح الأرضي أمام غرفة التربية؛ ليتألف منها باب الخلية، ولتكمل لنا حائطها الأمامي ... هذه هي خلية لانجستروث على بساطتها كما تستعمل في مصر، وهي خفيفة الوزن نسبيا، سهلة التركيب، عملية إلى أقصى حد.
فقالت بثينة: ولماذا تصنع من الخشب؟ - لأنه واق من التقلبات الجوية. بيد أنه من الجائز أن تصنع الخلية مستقبلا من المواد العجينية المقاربة للخشب بل المتفوقة عليه في وقاية النحل من الحرارة والبرودة والرطوبة معا، ويمكن بيع أجزائها ألواحا أو قطعا؛ ليسهل شحنها ثم تركيبها في المنحل، والمقدر أن مثل هذه الخلية قد تكون أصلح للنحال وللنحل وأطول عمرا من الخلية الخشبية. - ولكن العجيب ألا ترتفع إلى أكثر من طابقين أو غرفتين كما تسميهما؟ - ومن قال لك ذلك يا عزيزتي؟ ... إن خلية لانجستروث قابلة للارتفاع أدوارا إبان موسم العسل حسب قوة الطائفة التي تشغلها، وحسب قوة الفيض الذي تجلبه النحل من رحيق الأزهار، وفي المناطق الغنية بالرحيق قد يضطر النحال إلى إضافة الأدوار على خليته حتى لترتفع وترتفع حتى لتستحق أن تنعت حينئذ بالقياس إلى غيرها من الخلايا «بناطحة السماء» “Skysraper”
فلا يبلغ أعلاها إلا بسلم. - وما هي قوة الطائفة التي يمكن أن تنتهي إلى هذه الغاية؟ - سأشرح لك هذا يا عزيزتي في أوانه، فصبرا قليلا، ولنبدأ الآن بفتح إحدى الخلايا العامرة. - لا يا أمين! هذا الدرس يكفيني ولو إلى حين. - حسبتك متشوقة يا عزيزتي ومتسائلة. - ولكنك تريد أن تطرق موضوعا جديدا وستطيل حتما، فلنسترح قليلا. - لن أطيل في شرحي يا صغيرتي المدللة التي تتحدى جلد الرجال، فلماذا إذن كان استعدادنا للعمل، ولبسنا القناع وإشعالنا المدخن؟ - الحق يا أمين أني أغار من معشوقاتك، وهذا ما يثبط همتي وربما أدى إلى هجراني لك.
فاستثارت بثينة ضحكه وذهبا يدا بيد إلى مقعديهما للاستراحة بعد أن خلعا قناعيهما، وهناك تابعت بثينة حديثها: لك أن تضحك يا عزيزي ضحكة الواثق من نفسه ... فأنت تعلم أنك ولدت معلما كما ولدت شاعرا ... - والشعراء يتبعهم الغاوون. - لا أرمي إلى هذا، ولكنك يا شاعري العزيز الذي تترنم بالحب لا تتورع عن المحاضرة الجامعية فتصدمني بها صدما ولا تنثر خلالها شيئا من أزهاره وألحانه. - حسبتك تتململين يا معبودتي. - لو كان عندي مسجل لحوارنا لألزمتك الحجة. - وأخشى أيضا أن أعتاد ذلك في أثناء الدرس فيزل لساني أمام تلميذاتي وتلاميذي في مواقف أخرى. - لا يا أمين، هذه مغالطة شاعر غاو ... إن الحب غذاء روحي، ولكنه الحب الذي عده جورج ساند “George Sand”
تشوق الجانب الأثيري من الروح إلى «المجهول». - وأي نصيب لي في هذا «المجهول»؟ ... لا شيء يا ناقدتي العزيزة، ... إن الحب الذي أومن به هو الذي قال فيه ليبنتز “Leibnitz”
الفيلسوف الألماني الكبير «إنه الشعور بالسرور لسعادة الغير، وإلا فجعل سعادة الغير سعادتك الذاتية» ... وأنا لا آلو جهدا يا بثينة في محاولة إسعادك، فما هو ذنبي بعد ذلك؟ - أراك يا أمين تحمل دعابتي على محل الجد ... ومهما يكن من شيء فسأسامحك هذه المرة، وإياك أن تدع حديثك العلمي مجردا عن روح الفن وإلا أنكرت صدوره عنك ... - سمعا وطاعة يا مولاتي.
وجلسا يتأملان الخضرة الناضرة المنبثة فيها الأزاهير، وينصتان إلى أناشيد النحل أحدهما بأذن صديقة عارفة والأخرى بأذن متوددة مستطلعة.
Página desconocida