قالت: من المعلوم عندي أنك لا تستحسن تربيتي لاختلاف المبادئ عندي وعندك وعدم موافقتها لعاداتك، فسواء كنت مصيبة في رأيي أو مخطئة فإني والدة فؤاد، ولا يلومني أحد إن حملته على اتباع الطريق الأفضل، وأظنه الصراط المستقيم.
قال: لن أعارضك في تربيته، وأعلم حق العلم أن من المفروض على الوالدة تربية الأولاد والعناية بهم وتعليمهم وتهذيبهم، فقد قيل: الابن سر أبيه وصورة والدته، فإن كانت مهذبة عاقلة اكتسب تهذيبا وعقلا، ونشأ على الفضائل وعاش سعيدا، وإن كانت ذميمة الأخلاق سيئة السيرة انتقلت رذائلها وعيوبها فيه، وعاش تعيسا مخفقا. فالأم عندي أساس السعادة والشقاوة، ولكني أرى الواجب الاعتدال في التربية، فإن التطرف في كل شيء مضر.
قالت: أتحسب المبالغة في حسن التربية تطرفا؟
قال: الإفراط والتفريط رذيلتان؛ لأنهما خروج عن الاعتدال، ولكن لكل شيء حدود معلومة لا يجوز تجاوزها، فؤاد ابنك قد بلغ السابعة والعشرين من عمره، وأنت لا تزالين تعاملينه كابن اثنتي عشرة، فتنهينه عن معاشرات الناس، وتعلمينه كثرة الصلاة والصوم والعبادة والحياء، وهي صفات جديرة بالنساء لا بالرجال، ولتفهمي قولي، أضرب لك مثلا البارود، فهو في حد ذاته نافع مفيد، وكذلك الأسلحة النارية فلو جعلناه في البندقية بمقدار يزيد على اللازم تفجرت وتفرقعت ولم تتحمله، وهكذا نتيجة المبالغة والتطرف في سائر الأمور.
قالت: أي نسبة بين السلاح الناري وتربية فؤاد؟
قال: النسبة واضحة، ووجه الشبه ظاهر، فكما أن العيار الناري لا يتحمل البارود إلا بقدر معلوم وبقانون، فكذلك الإنسان لا يمكنه أن يحمل من الفضائل فوق طاقته وزيادة عن استعداده، وأنت قد أفعمت قلب فؤاد بالمواعظ الدينية والإرشادات التي ربما كانت تناسبه في حداثة السن فأما الآن فتضر به، والواجب أن توسعي عليه في الحرية مخافة أن يشتد الضغط عليه، وتقوده طبيعة سنه إلى خلع العذار والاسترسال في الغوايات، فينبذ إرشاداتك ونصائحك ظهريا، وتخيب آمالك، وتضيع أتعابك.
قالت: الظاهر أنك لرغبتك في منفعته ومنع حدوث الثورة فيه أبقيته في الأمس معك إلى الساعة الواحدة بعد نصف الليل وقاسمته اللهو والانشراح وأضفته إلى مائدتك الشهية، وقدمت بين يديه أصناف المأكول والمشروب حتى أضعت رشده وحجاه.
قال: أغاب فؤاد حتى الساعة الواحدة بعد نصف الليل، إذن أخطأ والله فيه ظني، فهي علامة حسنة فيه.
قالت: دع مزاحك، فأنت تعلم تربيتي لفؤاد، وأني عودته على الترتيب والنظام في الأكل والشرب والذهاب والإياب وسائر الأعمال، فكان من الواجب عليك أن تراعي ضميري، ولا تخرج فتاي عن هذه العادات الجميلة.
قال: ولعلك زعمتني مسئولا عن تأخره في الحضور إلى البيت كعادته؟
Página desconocida