1 - كنز الإله سيوا
2 - حي بميت
3 - مس ألن
4 - افتضاح السر
5 - دهاء النورية
6 - دهاء النساء
7 - الفشل بعد الفوز
8 - غرام الأخوين
9 - الاعتراف
10 - الفرار
11 - عثمان والبرنس دي غال
12 - الرحيل
الخاتمة
1 - كنز الإله سيوا
2 - حي بميت
3 - مس ألن
4 - افتضاح السر
5 - دهاء النورية
6 - دهاء النساء
7 - الفشل بعد الفوز
8 - غرام الأخوين
9 - الاعتراف
10 - الفرار
11 - عثمان والبرنس دي غال
12 - الرحيل
الخاتمة
ملك النور
ملك النور
تأليف
ميشيل زيفاكو
ترجمة
طانيوس عبده
الفصل الأول
كنز الإله سيوا
تبدأ حوادث هذه الرواية في كلكوتا عاصمة الهند سنة 1757، فقد كان السير روبرت ويلدن سائرا على جواده عند بزوغ الفجر من شاندر ناجور إلى كلكوتا، وهو من أشراف نورمانديا، ولا يزال في مقتبل الشباب، وكان يسير بين الأشجار والحقول وهو يناجي نفسه فيقول: إن الشريف لا يحنث بما وعد، وقد وعدت تلك المنكودة الحسناء اللادي سيسلي - زوجة اللورد سبيرتهون حاكم الهند - أن أخلصها من أخيه السير جاك الأحدب.
وقد أتى هذا الأحدب الشقي أمس إلى كلكوتا يحمل نبأ موت ليونيل الصغير ابن اللورد الحاكم.
غير أن اللادي كتبت إلي أيضا في اليوم نفسه وها أنا الآن على أتم التأهب.
وفيما هو سائر رأى أمامه رجلين كان أحدهما يحمل طفلة على كتفيه، وكانا يلتفتان من حين إلى حين إلى الوراء فقال السير روبرت في نفسه: ترى ألعلهما يحتاجان إلي؟
وقد دفع جواده حتى وصل إليهما وسمع أحدهما يقول لرفيقه: لقد تعبت من حمل توبسي، وحبذا لو كان هذا الفارس يضعها أمامه على جواده إلى أن نبلغ كلكوتا.
فأجابه رفيقه وهو فتى لا يتجاوز السابعة عشرة من عمره: اسكت يا ناثائيل؛ فإنك ستبقى مدى حياتك جبانا مستكديا دون قلب. هات طفلتك فأنا أحملها ولا نحتاج إلى هذا الرجل.
فقال له السير روبرت: أراك شديد الكبرياء أيها الفتى.
قال: نعم، ويحق لي أن أتكبر.
وقد حاول أن يستمر في سيره فأوقفه السير روبرت وقال له: أرى أنك من طائفة النور الرحل، وأنك لم تقل لي هذا القول إلا لحقدكم علينا، ولكني لست ضابطا في الجيش ولا عضوا في مجلس اللوردية، أي إني لست من الذين طردوكم من لندرا، وما دام رفيقك قد تعب من حمل بنته فلماذا لا أحملها على جوادي وهو لا يتعب من حملها؟
ثم التفت إلى الرجل الكهل وقال له: هات بنتك وقل لي أين أضعها حين أصل إلى كلكوتا.
قال: تفضل يا سيدي، وضعها في الحانة الكائنة عند باب العاصمة؛ فإن صاحبها يعرفني ويعرف بنتي.
فأخذها فوضعها أمامه على الجواد وابتعد عنهما فقال الفتى لرفيقه: لقد أخطأت يا ناثائيل بما فعلت.
قال: الحق أنه إذا رضي أن يكفل بنتي ويتولى تربيتها يكون قد أحسن إلي غاية الإحسان.
قال: كيف ذلك؟ أتتخلى عن بنتك؟ - بملء الارتياح؛ فإنها سيئة الطباع تزهقني ببكائها من الصبح إلى المساء، وإني أصبحت مضطرا بعد موت أمها إلى أن أصحبها معي أين ذهبت، وفوق ذلك فقد حاولت أمس أن تخنق ذلك الكلب الصغير، وهو كل مورد رزقي كما تعلم. - لا تنس أني سأغدو يوما ملك النور. - ماذا تعني؟ - أعني أني في هذا اليوم أطردك أقبح طرد فإنك شر الآباء، ولا يليق بالطائفة أن تكون منها.
فضحك ناثائيل وقال: إني إذا لم أصلح أن أكون رئيس عائلة فلي صفات طالما شكرتني عليها الطائفة. - نعم أعلم أنك من كبار اللصوص، وأنك كنت تستعين بكلبك فتنهب مخازن المجوهرات في لندرا، ولكننا الآن في الهند، وأحب أن أعلم ماذا تريد أن تصنع في كلكوتا. - إني آت إليها لأعلم إذا كانت المجوهرات موفورة في مخازنها كما كانت في مخازن لندرا.
فنظر إليه الفتى نظر المحتقر وقال: أما أنا فلي غرض آخر من القدوم إلى كلكوتا. - ما هو غرضك؟ - هذا سر لا أبوح به، ولكني أخبرك كي لا ترهقني بالأسئلة أني قادم إليها للبحث عن كنز.
فظهر الاندهاش العظيم على وجه الكهل، ووضع الفتى سبابته على فمه، فقال له: إني إذا اكتشفت هذا الكنز يصبح أفقر فقير في طائفتنا أغنى من لورد في إنكلترا، ولا تعود بعد ذلك محتاجا إلى كلبك. - إذا كان ذلك فسأحاول أن أحب بنتي.
ولبثا يسيران ويتحادثان إلى أن وصلا إلى كلكوتا، وعند ذلك ودعه الفتى فقال له الكهل: إلى أين أنت ذاهب يا جان؟
قال: إلى حيث أبحث عن كنزي. - هل أراك في كلكوتا؟ - ربما التقينا هذه الليلة في محلتنا. ثم افترقا، فذهب الكهل إلى الحانة ليرى بنته، وذهب جان في طريق المرفأ.
كانت طائفة النور تدعو هذا الفتى جان دي فرانس، فما زال سائرا حتى وصل إلى المرفأ، وهناك وجد كثيرا من الجنود وعمال الميناء مجتمعين حول راقصة هندية ورجل هندي كان يعزف بقيثارة، فدنا جان منهما وتفرس بوجه الهندي فقال في نفسه: نعم هذا هو.
وعند ذلك أطلق مدفع من الثكنة إشارة إلى افتتاح المرفأ؛ فتفرق الجميع، وذهب جان مسرعا فسار في زقاق ضيق حتى انتهى إلى كوخ مبني بالقصب، فاضطجع على الأرض بجانب ذلك الكوخ وأطبق عينيه يوهم أنه نائم.
وبعد هنيهة أقبل الهندي والراقصة، ورأى الهندي جان بجانب الباب فرفسه برجله وقال له باللغة الهندية: قم من هنا أيها الكلب الدنس؛ فإن مكان هذا الكوخ كان مقدسا.
ولكن جان فتح إحدى عينيه ثم أغمضها فقالت الراقصة: إنه سكران فدعه وشأنه، ثم دخلت مع الرجل إلى الكوخ وجعلا يتحدثان.
أما جان فإنه ابتسم ابتسام الظافر؛ فقد كان حديثهما يصل إليه، وكان عارفا بدقائق اللغة الهندية كأبنائها. •••
قبل ذلك بساعة كان فريق من الضباط الإنكليز مجتمعين في خمارة عند باب كلكوتا وهم يتحدثون عن اللورد حاكم الهند ويعجبون لما يرون منه من دلائل الهم والتفكير الدائم، فقال لهم أحد الضباط: لا تعجبوا أيها الرفاق؛ فقد قيل إنه اختصم مع امرأته ونفاها إلى قصر له في إيكوسيا، وإنه يكره مولودها الأخير منذ ولادته.
وكان بين الحاضرين طبيب إنكليزي يدعى بولتون، فاعترضهم قائلا: لكم أيها السادة أن تقولوا ما تشاءون عن اللورد إسبرتهون وعن ظلمه وتغاضيه عن واجباته في هذه البلاد، وأما إذا ذكرتم زوجته اللادي فلا تذكروها إلا بالاحترام؛ فهي الملاك الذي يمثل الطهارة والفضيلة وكرم الأخلاق في الأرض .
فقال الضابط: أهي حسناء مع هذه الفضائل؟ - إن لها جمالا يفتك النساك. - إذا كان ذلك فحدثنا بما تعلمه عن هذين الزوجين. - ماذا تريدون أن تعلموا؟ - لماذا أرسل اللورد امرأته إلى إيكوسيا؟ - لأن أخاه الأصغر السير جاك الذي جاء أمس إلى كلكوتا قد وشى بها إلى أخيه، وحمله على الشك بولادة ولديه، وقد مات ولده الصغير، وهو لو مات ولده الآخر أيضا لما حزن. - كيف ذلك؟ أمات ولده الصغير؟ - إن أخاه جاء بهذا النبأ.
وعند ذلك دخل رجل يحمل بين يديه طفلة، فصاح الجميع قائلين: هو ذا السير روبرت ويلدن.
ودخل السير روبرت فحياهم وقال لهم: انظروا ما كان صيدي في هذا الصباح. أرأيتم أجمل من هذه الطفلة؟
وقال الطبيب: أظن أنها ابنة أحد أولئك النور الذين يطوفون في شوارع كلكوتا.
قال: هو ذاك، فاسقوني كأسا من الشمبانيا.
فصب له الطبيب كأسا وقال له: من أين أنت قادم؟
قال: من غابات بردوان حيث كنت أصيد الفيل. - وقد عدت إلى كلكوتا لتصيد النمر. أليس كذلك؟! - هو ذاك.
وقد جلسوا يشربون ويتحدثون إلى أن جاءهم رسول من الحاكم يدعوهم للذهاب إلى التمرينات، فانصرفوا مسرعين، وخلا السير روبرت بالطبيب فقال له: إني ما أتيت إلى كلكوتا للصيد كما توهمت.
قال: نعم فإني لا أجهل علاقتك باللادي سسلي - امرأة الحاكم - وفرط احترامك إياها، وأنك حاقد أشد الحقد على السير جاك، فهل علمت أن ليونيل الصغير - ابن اللورد - قد مات؟
قال: نعم، ولكني هنا فلا يستطيع السير جاك قتل الولد الآخر.
وعند ذلك دخل ناثائيل - والد الطفلة - فلما رأته بنته تعلقت بالسير روبرت فقال لها: كيف هذا يا ابنتي؟ ألعلك خفت من أبيك؟
فأجابته قائلة وهي تبكي: نعم، فلا أريد أن أعود إليه. - لماذا؟ - لأنه يضربني.
فنظر إليه السير روبرت نظرة منكرة وقال له: ويحك أيها الرجل! أتضرب بنتك؟ أمثل هذا الملاك يضربونه؟
قال: نعم، أضربها لأنها تضرب كلبي، وهو سبب رزقي، وفوق ذلك فقد باتت حملا ثقيلا علي بعد موت أمها.
فتمعن هنيهة وقال له : أتريد أن تتخلى عنها لي؟ ثم قال للطفلة: أتريدين أن تبقي معي يا ابنتي؛ فإني أعلمك القراءة في كتاب فيه صور، وأشتري لك دمية تلعبين بها؟
فطوقت عنقه بيديها الصغيرتين وقالت: نعم نعم أبقى معك.
فأخرج السير روبرت من جيبه كيسا مملوءا بالذهب فدفعه إلى النوري وقال له بملء الاحتقار: خذ هذا الكيس وانصرف؛ فإنك لا تستحق أن تكون أبا، وسأتولى تربيتها.
فأخذ النوري الكيس وخرج وهو يلاعب كلبه مسرورا من هذا الاتفاق. •••
في اليوم التالي أعد اللورد الحاكم حفلة صيد دعا إليها فريقا من الضباط وأعيان الإنكليز، فكان بعضهم يركبون الفيلة وبعضهم يركبون الجياد.
وكان اللورد الحاكم راكبا على فيل أبيض وبجانبه الطبيب بولتون والسير روبرت على جوادين وهما يسيران جنبا إلى جنب ويتحدثان، فقال له الطبيب: إذن لقد عزمت على مبارزة السير جاك؟
قال: دون شك. - متى؟ - حين نعود من الصيد. - ولكن، أتظنه يرضى بالمبارزة؟ - سأرغمه على القبول متى صفعته أمام ضباط أخيه. - احذر فإن السير جاك سافل شرير؛ فقد يشيع أنك عاشق امرأة أخيه. - إن أخاه لا يصدق قوله. - بل إنه يثق بكل ما يقوله، وعندي أنه خير لك أن تترك الصيد وتعود إلى السير جاك فتقتله وتهرب؛ فإن لأخيه هنا مطلق السلطان. - سأرى في اقتراحك.
وفيما كان الموكب يسير إذ علا صياح الهنود الذين يتقدمونه، فوقفت الأفيال تضرب الأرض بأرجلها، وأخذت الجياد تصهل وقد بدت عليها علائم الرعب، ثم رأوا نمرا هائلا اخترق دائرة الأفيال، ووثب إلى الفرس الذي كان يركبه السير روبرت؛ فأطلقوا عليه نحو عشرين رصاصة دون أن يصيبوه، ونشبت براثن النمر في صدر الجواد فانقلب صريعا إلى الأرض.
ولكن السير روبرت كان قد وثب عنه، فبينما كان النمر مشتغلا بنهش الجواد صوب السير روبرت غدارته إلى أذن ذلك النمر وأطلقها فاخترق الرصاص دماغه وانقلب ميتا.
وعند ذلك ظهرت نمرة أشد هولا من النمر فقتلت اثنين من الهنود تعرضا لها ووثبت إلى الفيل الأبيض الذي كان يركبه الحاكم فأطلق عليها طلقين من غدارته فلم تسقط وجعلت تمزق جلد الفيل ببراثنها وهو يحاول أن يقبض عليها بخرطومه فلا يستطيع.
وقد أطلق الحاكم النار عليها أيضا فلم تسقط وجعلت تصعد على الفيل حتى شعر اللورد بأنفاسها النارية تحرق وجهه؛ فصاح السير روبرت بالهنود قائلا: ويحكم لماذا لا تطلقون النار؟
فقال له الطبيب: إنهم لا يفعلون حذرا من أن يصيبوا الفيل الأبيض فإنهم من الشيعة التي تعبد الأفيال البيض.
واستمرت النمرة في صعودها حتى وصلت إلى اللورد، ولم يعد يستطيع استخدام سلاحه وما شكك الحضور أنها افترسته.
وعند ذلك رأوا فتى قد انقض على النمرة، ولم تكن غير هنيهة حتى سقط وإياها على الأرض، ثم نهض وقد صاح صيحة انتصار؛ فإنه أغمد خنجره في عنقها وألقاها تتخبط بدمها، فلم يكد السير روبرت يتبين وجه الفتى حتى صاح مندهشا وقال: هذا هو الفتى النوري الذي لقيته مع والد الطفلة.
وعند ذلك أحدق الضباط الهنود بذلك الفتى، وتدانى اللورد إلى النزول عن الفيل فأدنى الفتى منه وقال له: من أنت؟ وهل أنت من الهنود؟
قال: إني نوري وأدعى جان دي فرانس.
قال: إن من كان له بسالتك فلا يخلق به أن يعيش عيش المتشردين، فهل تريد أن تكون في خدمتي فأضمن لك مستقبلك؟
فنظر إليه جان نظرة إنكار وقال: أرى أنك لم تحسن تقدير خدمتي أيها اللورد؛ فإني من النبلاء، وإن نسبي يتصل بالكونت دي غرانفيل، فلا أخدم أحدا.
فاصفر وجه اللورد وأخرج كيسه من جيبه وناوله إياه، فأبى جان أن يمد يده إليه وقال: ليبق كيسك في جيبك، فما أنا من طلاب الصدقة.
ثم أدار له ظهره، فخرج من الدائرة وتوارى بين الأدغال.
فقال اللورد مغضبا: لقد تجاسر هذا الوقح على رفض مكافأتي.
فقال له السير روبرت بلهجة المتهكم: ولكنه أنقذ حياتك يا مولاي، فواحدة بواحدة.
فعض اللورد شفته وقال لرفاقه: هلموا بنا أيها الأسياد؛ فإننا لا نزال بعيدين عن مركز الصيد.
فهمس السير روبرت بأذن الطبيب قائلا: أما أنا فسأرجع إلى كلكوتا حين نصل إلى أول عطفة ، فإني أريد أن أصطاد الرجل قبل أن أصطاد النمر.
قال: إذن اركب جوادي، فسأركب أنا أحد هذه الأفيال. •••
كانت أخت جان دي فرانس تلقب بملكة النور وكان جان - على حداثة سنه - مطلق النفوذ على الطائفة، ليس لأنه أخو الملكة، بل لأنه كان أشد رجال الطائفة ذكاء وأبعدهم همة وأحذقهم فكرا وأرقاهم نفسا، فكانوا يحبونه ويحترمونه، ولا يخالفون له أمرا كأنما أعطي حقيقة سلطان الملوك.
فلما ترك اللورد كما تقدم مشى بين الأدغال إلى أن وصل إلى مكان اكتظت فيه الأشجار، فوجد هناك رجلا هائل الخلقة كأنه من الجبابرة، وهو نوري من طائفة جان كانوا يلقبونه بشمشون لشدة قوته.
وكان هذا الرجل مضطجعا على العشب، فلما رأى جان نهض مسرعا ووقف بين يديه بملء الاحترام، فقال له جان: متى أتيت يا شمشون؟
قال: منذ ساعة أيها الرئيس. - ألم يرك أحد حين خرجت من محلة الطائفة؟ - كلا. - هل أتيت بمركبة النقل؟ - إنها هنا وراء الشجرة. - حسنا فاعلم الآن أننا سننقل على هذه المركبة من الذهب والحجارة الكريمة ما لا يوجد بعضه في خزائن الملوك؛ فإني كنت أبحث عن هذا الكنز في الليل والنهار. - هل وجدت مكانه يا سيدي؟ - نعم؛ فإن هؤلاء الحكام يحسبون أنهم تمكنوا من الشعب، فإنهم سادوا عليهم ولكنهم لا يطيعونهم إلا مكرهين، وهم لا يحلمون إلا بالاستقلال، ولكن لا بد لهم من المال الكثير، ولذلك فقد اجتمعت كلمة هذا الشعب بجملته على حشد الأموال، فجعل الغني والفقير والتاجر والعامل يضع كل منهم ما يتيسر له اقتصاده في صناديق خاصة بالمعابد كتب عليها صناديق الإحسان، فيطوف كل يوم أحد كهنتهم فيجمع هذه الأموال ويأخذها في كل أسبوع، فيذهب في ظلام الليل إلى غابة. وهناك يجد كاهنا آخر في انتظاره فيأخذ منه الأموال ويقول له: اذهب واحذر أن تلتفت إلى الوراء.
فقال له شمشون: وهذا الكاهن إلى أين يذهب بالمال؟
قال: يذهب به إلى كاهن ثالث فيأخذه منه إلى مكان سري لا يعرفه سواه. وهذا السر لا يعرفه في جميع الهند غير ثلاثة من البراهمة وامرأة تحرس الكنز في الليل والنهار، وسأعرف هذا السر بعد ساعة. - كيف ذلك؟ - لقد عرفت أن أحد الكهنة سيأتي في هذه الليلة بما جمعه من المال. - كيف عرفت؟ - إن هذا الرجل الذي سيأتي الآن يتنكر في النهار بشكل عازف بالقيثارة، ويطوف مع إحدى الراقصات في شوارع كلكوتا، حتى إذا أقبل الليل خلع تنكره وعاد إلى حقيقته، فهو من أعظم الزعماء وأحد العارفين بسر الكنز، وقد سمعته في صباح اليوم يحدث الراقصة بهذا الشأن، فعلمت من الحديث أنه سيأتي في هذه الليلة إلى نبع الآلهة أموردافالي، وهو على قيد بضع خطوات من هنا. - ولكن أي شأن لي أنا في هذه المهمة؟ - إنك سترى هذا الرجل حين يأتي فتتبعه وتسير ورائي على بعد مائة خطوة.
وعند ذلك سمع جان وقع خطوات فقال لشمشون همسا: إنك تعلم بأني أقلد صوت عصفور الليل فابق الآن هنا إلى أن تسمعني أقلد ذلك الصوت فتأتي إلى جهة مصدره.
وقد مشى جان فوق الأعشاب إلى أن وصل إلى بقعة لا شجر فيها فنظر إلى تلك الجهات التي كان ينيرها ضوء القمر، فرأى شبحا أبيض واقفا بعيدا تحت شجرة كبيرة، فقال في نفسه: لا شك أنه شبح الكاهن الذي ينتظر.
وقد سار من ورائه حتى وصل إلى تلك الشجرة واختبأ وراءها، فلم تكن غير هنيهة حتى رأى العازف بالقيثارة قد وصل وسمع الكاهن صاحب الثوب الأبيض يسأله قائلا: بماذا أتيت أيها الأخ؟
فأجابه قائلا: بكيسين من الذهب.
قال: هاتهما واذهب وإني أسأل آلهة الهند أن يرافقوك في طريقك، فأعطاه الكيسين ثم انحنى إلى الأرض فقبل طرف ثوبه الأبيض، فقال له الكاهن: اذهب والويل لك من غضب الآلهة إذا التفت إلى الوراء فانصرف الرجل ممتثلا دون أن يلتفت.
أما الكاهن فقد لبث في موقفه إلى أن توارى الرجل فانصرف عائدا ومشى جان في أثره مستهديا إليه بثوبه الأبيض؛ فإن القمر كان على وشك المغيب.
وكان الكاهن يسير مسرعا إلى جهة الخرابات، فما شكك جان أن الكنز مدفون تحت خرائب هيكل سيوا، وما زال في أثره حتى وصل إليها ورآه جان قد ولجها، ثم رأى لهبا ظهر لحظة وانطفأ، فسار جان ودخل إلى تلك الخرابات؛ فأدرك الكاهن وهو جالس بين أدغال متكدسة من الأعشاب اليابسة وقد أخذ قطعتين من الخشب الجاف وحك الواحدة بالأخرى حكا متصلا حتى خرج منهما اللهب فألقاهما بين الأعشاب اليابسة، وحسب جان أنها ستلتهب من فورها، ولكن اللهب الذي ظهر من الخشبتين توارى في الحال وساد الظلام.
وعند ذلك اضطجع الكاهن فوق الأعشاب على وجهه وصاح قائلا: أيتها العذراء حارسة الكنز هل أنت ساهرة؟
فسمع جان صوتا من جوف الأرض لم يتبينه. أما الكاهن فإنه ألقى الكيسين فوق الأعشاب الواحد تلو الآخر، وخرج من تلك الخرابات.
وقد حبس جان أنفاسه كي لا يسمع الكاهن صوت خفوق قلبه حين مر به دون أن يراه وجعل جان يقول في نفسه: ما زالت الأعشاب لم تحترق فلا شك أنها تستر مدخل الدهليز وأن الخشبتين اللتين ألقاهما الكاهن إنما هما إشارة متفق عليها.
وقد صبر نحو ربع ساعة، وخطر له أن ينبه شمشون بالصفير، ولكنه خشي أن ينبه إليه الأفكار، ثم ذهب إلى تلك الأعشاب بعد أن وثق من انصراف الكاهن، وجعل يزيحها عن مواضعها؛ فانكشف له ثقب ضيق، ولكنه يتسع لمرور إنسان فيه.
وكان هذا الثقب مدخل دهليز في جوف الأرض، وهذا الدهليز كثير الانحناء يشبه السلم، فقبض جان على خنجره ودخل من ذلك الثقب، وجعل ينزل في الدهليز حتى انتهى إلى أرض رطبة مستوية.
وقد رأى عند ذلك نورا عظيما يشبه أنوار المشاعل، وسمع صوت امرأة تغني باللغة الهندية فتقول: أنا ابنة ساشديفا حارسة الكنز.
قضى علي الكهنة أن أعيش كل حياتي في جوف الأرض، وأن أعيش بجانب ذهب وجواهر لا فائدة لي منها.
قضوا علي أن لا أرى وجه السماء وأشعة الشمس، وأن لا أشم عطر الأزهار.
إني صبية جميلة، وحين كنت فوق الأرض كان الفتيان يلتفون حولي ويلقبونني بإلهة الجمال.
قضى علي الكهنة أن أعيش بتولا، وأن لا أسمع كلمات الحب. •••
وقد رأى جان أرضا متسعة فوقها قبة من أرض الهيكل، وفي وسط تلك الأرض نار لم تكن تنطفئ في الليل والنهار.
ثم رأى على نور تلك النيران فتاة لم تقع العيون على أبدع منها، كانت تغني وترقص حول النار، فلم تنتبه لسقوط جان، فوقف هنيهة شبه مأخوذ أمام هذه الفتاة، ثم دنا منها فوضع يده على كتفها وقال لها: أنا هو الرجل الذي تنتظرينه؛ فإن الإله سيوا الذي تحرسين كنزه قد أشفق عليك وأجاب ملتمسك.
ولم يكن جان أقل جمالا منها، فلما رأته وسمعت كلامه صاحت صيحة فرح، ثم طوقت عنقه بذراعيها وقالت له: لنهرب لنهرب.
قال: نعم، لنهرب يا ابنة الفردوس إلى سيوا الذي أرسلني، ولكن لنأخذ معنا هذا الكنز الذي تحرسينه.
فتراجعت الفتاة منذعرة وقالت: إذن ما أنت رسول الإله سيوا، ما زلت تريد سرقة الكنز ... اهرب أيها المنكود ... كيف أتيت إلى هنا ومن أرشدك إلى طريق الكنز؟ اهرب أيها التاعس قبل أن يفاجئك الكهنة ويقتلوك.
وكان جان قد رأى تلك الدنانير الوهاجة والجواهر البراقة فقال لها: أحبك.
فعادت إلى معانقته وقالت له: إذن لنهرب معا؛ فإني أصحبك إلى حيث تشاء ولكن دع هذا الكنز في مكانه فإن الإله سيوا يصعقنا إذا سرقناه.
فهز جان كتفيه وقال لها: إني أذهب بك إلى أوربا وهي بلادي، وليس للإله سيوا شيء من السلطان هناك؛ فنعيش أهنأ عيش بفضل هذا المال.
قالت: كلا فإن غضب سيوا ينزل بالناس أين كانوا؛ فاكتف بي فإنك ستجد من كنوز حبي ما لا تعادله كنوز الأرض.
ثم تعلقت به وجعلت ترقص وترقصه وهي تغني وتقول: كلا لم يقض سيوا على ابنة الهيكل أن تعيش تحت الأرض، إنها سترى النجوم وتستنشق أريج الزهر وتدوس رجلاها الصغيرتان على الأعشاب وتغمس شفتيها بمياه الينابيع.
إن ابنة الهيكل لا تحتاج إلى الذهب واللآلئ؛ فقد ظفرت بكنز الكنوز وهو الحب. لقد جاء الفتى الجميل الذي يحبني ويملأ فراغ قلبي من الحب كما تملأ الإناء أشعة الشمس.
وكانت تغني وهي ترقص رقصا سريعا وهو يجاريها ويقول في نفسه: إنها لا تلبث أن يستولي عليها التعب فأستولي على الكنز.
غير أن التعب أدركه قبل أن يدركها؛ فقد كانت متعودة على هذا الرقص، وقد أسكره صوتها الجميل ونظراتها الساحرة؛ فاسترسل إلى مراقصتها كما تشاء حتى انتهكت قواه وجلس على الأرض وهو يلهث من التعب، فدخلت إلى غرفة في المغارة وجاءت بكأس ذهبية كان فيها سائل أصفر يشبه الخمر الإسبانية المعتقة، فقالت له: اشرب ما في هذه الكأس تعد إليك قواك.
فشرب كل ما في الكأس جرعة واحدة، ولكن هذا الشرب لم يكد يستقر في جوفه حتى شعر أن جسمه ينتفض من البرد كأنه ملتف برداء من الثلج، ثم شعر أن أعضاءه قد تشنجت، وأن لسانه قد انعقد، ثم أطبقت عيناه وانقلب إلى الأرض دون حراك.
وعند ذلك برقت عينا الفتاة من الفرح وقالت: لقد أنقذته؛ إذ لم يبق سبيل إلى فراره؛ فقد آن وقت مجيء الكهنة، وسأخفيه، وبعد انصرافهم أرد إليه الحياة ونهرب معا.
وقد أخذت يديه، وحاولت جره، ولكنها لم تكد تفعل حتى أفلتته وصاحت صيحة ذعر؛ فقد فتح باب خفي في المغارة ودخل منه كاهنان يحملان مشعلين، فلما رأيا جان على الأرض صاح واحد منهما قائلا: ما هذا؟ أيوجد في الأرض من يجرؤ على اكتشاف هذا السر الذي لا يعرفه سوانا؟ إني - باسم إلهنا المعبود وباسم إخواننا المضطهدين وبلادنا المغتصبة ودموعنا السائلة - أحكم على هذا الجريء بالموت.
فصاحت الفتاة صيحة رعب؛ إذ رأت الخنجر يلمع في يد كاهن سيوا. •••
ولنعد الآن إلى سراي اللورد الحاكم، فقد كان ولده الصغير وهو لا يتجاوز الثالثة من عمره نائما في سرير إحدى ردهات القصر، وبجانبه عبدان يحمل كل منهما مروحة فيطرد بها الذباب عن ذلك الطفل.
وكان السير جاك أخو اللورد الحاكم وولده وهو في الرابعة عشرة من عمره جالسين على مقعد في تلك الردهة غير بعيد عن السرير، فكان السير جاك ينظر إلى ابن أخيه الصغير نظرات ملؤها الحقد، ثم ينظر إلى ولده ويقول له: أي إحسان أحسن به هذا الطفل الشقي، فأعدت له الأقدار هذا المستقبل الزاهر؟! أما أنت مثله جميل الوجه زكي الفؤاد؟ ألا يجول في عروقك وعروقه دم واحد يا جيمس؟
فأجابه ولده: نعم يا أبي، ولكنه ابن أخيك البكر. - هو ذاك، غير أن أخي شديد الهوس بصيد الحيوانات الضارية، فما يمنع أن يقتله نمر أو أسد؟ - وهبه قتل فإن ولده روجر يبقى حيا، وهو في أتم عافية كما ترى. - ألم يكن أخوه ليونيل في أتم عافية أيضا، ومع ذلك فقد مات بين يدي حاضنته؟ - وإذا مات أخوه روجر؟ - تصبح أنت وريث لقب اللوردية إذا مات أخي قبلي. - إن الأطفال الذين لم يخلقوا في الهند لا يعيشون إذ لا يطيقون احتمال مناخها الحار. - نعم، ولكن الخطر على الأطفال هنا لا يقتصر على الحميات، فقد يموتون أيضا من عضاض الأفاعي وغيرها من الحشرات السامة.
وفيما هما يتحدثان سمعا صوت ناي يعزف في الطريق تحت الردهة، فقاما وأطلا؛ فرأيا رجلا يلاعب الأفاعي في الطريق والناس من حوله يتفرجون.
وقد وقفا يتفرجان إلى أن شعر السير جاك بيد لمست كتفه، فالتفت فرأى السير روبرت فيلدن فقال: أهلا بك أيها الصديق، فما شرفني بقدومك؟
فتأبط السير روبرت ذراعه وقال له: إذا كانت راقت لك هذه الفرجة، فانزل إلى الطريق ترها عن كثب.
وقد تبادل الأب وابنه نظرة سريعة خفيت على السير روبرت، ثم نزل الابن إلى الطريق ودخل السير جاك بزائره إلى إحدى القاعات وقال له: عهدي بك أنك كنت في حفلة الصيد مع أخي، فهل قتلت نمرا أم جئتني بنبأ من هذا الأخ العزيز؟
قال: الحق أني قتلت نمرا، ولكني سئمت من صيد النمور، وجئت أبحث عن حيوان أشد فظاعة منها. - ما هذا الحيوان؟ - هو حيوان هائل من طبعه مهاجمة أعراض النساء.
فقطب السير جاك حاجبيه ومضى السير روبرت في حديثه فقال: وهو حيوان يمشي على قدميه كالإنسان، ولكن ليس له شيء من صفات الإنسان، ومع ذلك فإنه يلقب بلقب الأشراف، ويدعى السير جاك إسبرتهون.
فوقف السير جاك وقد وضع يده على قبضة حسامه وأخرج السير روبرت غدارة فصوبها إليه وقال: إنك إذا لم تصغ إلي بملء السكينة ألهبت دماغك، فاعلم أني لا أريد قتلك بالغدارة كما تستحق، بل أريد قتلك بمبارزة كأنك من الأشراف؛ فقد وعدت ضحيتك اللادي سسلي أن أقتلك أو أموت من يدك.
فاستولى الخوف على السير جاك وقال له: وإذا أبيت أن أبارزك؟ - إذن فاعلم أنه لا يوجد ضابط إنكليزي في هذه البلاد لا يعرفك حق العرفان، وكلهم يحتقرونك ويودون لك الموت لتنجو الإنسانية من شرورك، فلا يوجد هنا من يحميك غير أخيك.
ولكن أخاك الآن في الصيد، وهو لا يعود قبل الليل، فإذا امتنعت عن مبارزتي صفعتك أمام جميع الناس، ثم قتلتك بالرصاص كما يقتلون الضواري.
فاصفر وجه السير جاك وهاج تأثره من الغضب، فقال له: ليكن ما تريد ولنتبارز الآن.
فمد السير روبرت يده إلى جهة البحر وقال له: انظر إلى هذه السفينة البيضاء، فقد اتفقت معها على السفر وهي مسافرة بعد ساعة.
وإنه يوجد بجانبها قارب وضعت فيه غدارتين، وسنذهب إليه ونبعد به عن السفينة، فإذا قتلتني فافعل بجثتي ما تشاء، وإذا قتلتك جعلت جثتك طعما لسمك البحار؛ فإنك لا تستحق أن تدفن في الأرض كما يدفن الناس. - ولكني أحب أن أرى ولدي على الأقل.
فأدرك السير روبرت أنه يحاول الفرار فقبض على ذراعه بعنف وخرج به بالرغم عنه من القصر. •••
بينما كان السير جاك يسير مع خصمه إلى البحر كان ولد السير جيمس قد ذهب للفرجة على الأفاعي.
وقد ابتعد جميع المتفرجين احتراما له حين قدومه، حتى إن ملاعب الأفاعي نفسه تهيب وامتنع عن ملاعبتها.
فأمره أن يعود إلى عمله، ثم دنا منه وهو يلاعب حية صغيرة، فهمس في أذنه قائلا: أتبيعني هذه الحية بخمسة جنيهات؟
فسقط الناي من يده لفرط اندهاشه من هذا الثمن، فقال له: أرضيت؟ أسرع بالجواب فإني مستعجل.
قال: رضيت يا مولاي .
ثم أسرع فأخرج من جرابه علبة صغيرة وضع فيها الأفعى وأقفلها وناوله إياها.
فأخذها جيمس ونقده الثمن وعاد إلى ردهة القصر حيث كان ابن عمه الطفل الصغير نائما في سريره.
وكان العبدان اللذان يطردان الذباب بالمراوح عن سريره قد تركا السرير وذهبا إلى آخر الردهة ليتفرجا على الحاوي؛ فوقف جيمس وقفة المتردد وقد بحث عن أبيه فلم يجده، فلم يطل تردده ومشى إلى السرير فأزاح الغطاء عن الطفل وفتح العلبة، فوثبت الأفعى إلى السرير فغطاهما بالغطاء وانصرف دون أن يراه العبدان.
فلما عاد العبدان إلى السرير كان ذلك المركيز الصغير ابن اللورد الحاكم قد فارق الحياة، وكان جيمس خرج من القصر باحثا عن أبيه. •••
وبعد ذلك بنصف ساعة دوى طلقان ناريان في البحر ظهر دخانهما من قارب.
أما ذلك القارب فإنه دنا من سفينة بيضاء حتى التصق بها وكان شراعها منصوبا، فخرجت من فورها من الميناء.
الفصل الثاني
حي بميت
كان فارسان يسيران بين الحقول وقد أقفرت لهبوط الظلام، فكان الاثنان ينظران إلى كل الجهات عساهما يريان قبسا يسترشدان به؛ فقد ضلا عن الطريق، وكان هذان الفارسان اللورد إسبرتهون - حاكم الهند - والطبيب بولتون، فقال اللورد: أقدر لنا أن نهيم كل الليل في هذه البراري؟!
فأجابه الطبيب قائلا: هذا الذي أخشاه.
قال: إني سأموت من الجوع والعطش، وإن جوادي سيقتله التعب، فأين نحن الآن؟ - لا أعلم. ولكنني أظن أننا نبعد عشر مراحل عن كلكوتا، ولكن انظر ألا ترى شبحا أسود يتحرك؟ - نعم. ولكنه شجرة يحركها الهواء؛ إذ لا يوجد إنسان بهذه الضخامة.
وعند ذلك سمعا صوت هذا الشبح يقول: جان. جان. أين أنت أيها الرئيس؟
فقال الطبيب: لقد نجونا؛ فإني أعرف صاحب هذا الصوت، فهو شمشون الجبار.
وكان شمشون قد تبع سيده كما تقدم في الجزء السابق حين ذهب إلى الكنز وأمره أن ينتظره، فانتظر كل الليل، ثم أشرق الصباح، ثم أذنت الشمس بالمغيب، فكاد يجن من خوفه عليه؛ إذ خشي أن يكون الكهنة قد فتكوا به.
وقد جعل يهيم في تلك البراري باحثا عن سيده وهو يقف من حين إلى حين فيناديه بصوته الجهوري فلا يجيبه غير الصدى إلى أن اتفق مرور اللورد والطبيب، فدنا منه الطبيب وقال له: ماذا أصابك يا شمشون؟ ومن الذي تناديه؟
قال: إني أنادي جان دي فرانس شقيق ملكتنا.
وكان شمشون قد عرف الطبيب؛ إذ كان مدينا له بجميل لا ينساه، فقد لقيه مرة في أحد شوارع كلكوتا مصابا بطعنة خنجر في بطنه كادت تودي بحياته، فعالجه وشفاه فقال له: ألا يوجد هنا مدينة قريبة؟
قال: لا يوجد غير كلكوتا، وهي تبعد خمس مراحل. - ألا يوجد مكان للمبيت؟ - لا يوجد غير مضاربنا وهي تحت هذه القمة التي تراها، وستجدان فيها خير مبيت.
فقال له اللورد: إذن سر بنا إليها وسنكافئك.
ولم يكن شمشون يعلم أنه يخاطب حاكم الهند، فقال له: لكن لا بد لي من البحث عن جان دي فرانس.
فقال له بولتون: إنه لا بد أن يكون رجع إلى المضارب.
قال: لقد أصبت يا سيدي الطبيب؛ فإن هذا الخاطر لم يخطر لي.
ثم مشى أمامهما، فسارا في أثره يتحدثان بصوت منخفض.
فقال له اللورد: إني أعجب بهؤلاء النور؛ فإن لهم نفوس الملوك وحالات المساكين. ألا تذكر ما كان من هذا الفتى الذي أنقذني من النمر؟ - هذا هو الذي يبحث عنه شمشون. - نعم نعم. لقد ذكرت الآن، فهو يدعى جان دي فرانس، فما هذا الاسم الذي لقب نفسه به؟ - إنه يدعي بأنه من النبلاء.
فهز اللورد رأسه ضاحكا وقال: أيكون نبيلا ومتسولا في حين واحد؟ ولكنك أذكرتني بمناسبة الحديث عن هذه الطائفة حكاية جرت لي في لندرا منذ ثلاثة - أو أربعة - أعوام وسأقصها عليك كي لا تشعر بطول المسافة. - إني مصغ إليك يا مولاي. - تصور أيها العزيز أني أحببت مدة أسبوع نورية كانت تحسبني من النور؛ فقد خطر لي مرة أن أذهب إلى المكان الذي يسمونه ساحة الملك. - إني أعرف هذا المكان؛ فقد اختبأت فيه مدة ستة أشهر لهربي من الدائنين. - وقد تنكرت بالملابس العامة وذهبت لأرى ما تفعل هذه الطبقة من الناس في هذا المكان الشهير.
واتفق أن الزحام كان قليلا في تلك الليلة، وكان هناك اثنان من طائفة النور يتحدثان بشأن حفلة قريبة سيعقد فيها زواج ولية عهد النور بولي عهد الدوق دي بولون.
وقد تبين لي من حديث الرجلين أن الخطيبين لم يتعارفا بعد، وأن هذا الزواج سياسي يراد به التوفيق بين طائفتي النور في لندرا وباريس، وأن الخطيب سيأتي من فرنسا إلى لندرا ليعقد زواجه فيها، وأن الحفلة ستكون في ساحة الملك ليلة قدوم الخطيب.
فسألت أحد الرجلين قائلا: هل العروس حسناء؟
قال: لقد بلغ من جمالها أن أجمل سيدات لندرا لا تعد من وصائفها.
فهاج قوله رغبتي في رؤياها، وقلت له: أين يمكن مشاهدة هذه الفتاة؟
قال: إنها تذهب في كل ليلة إلى مضارب النور المخيمين تحت جسر لندرا فتلقي عليهم أوامرها.
فاكتفيت بهذا الجواب وبرحت الساحة على رجاء أن أرى تلك النورية.
وفي اليوم التالي اختبأت في مركبتي، وتمكنت من رؤياها؛ فإذا بها فوق ذلك الوصف.
وكان يصحبني خادم ذكي الفؤاد، فكان من ذكائه أنه جعلني ابن الدوق دي بولون، أي خطيب تلك النورية، وخلوت بها في أحد الفنادق.
وقد بالغت في ملاطفتها حتى غفرت لي أني أدعي اللورد إسبرتهون.
وأقمت معها أسبوعا، وأحببتها حتى إني أردت أن أتوسط لطائفتها لدى اللورد المحافظ فلا ينفيها من لندرا.
ولكن رجال هذه الطائفة كانوا قد أمعنوا بشرورهم حتى رجعت عن الوساطة حذرا من الفشل، ونفيت الطائفة؛ فسافرت ملكتها معها. - ماذا كانت تدعى هذه الحسناء؟ - سينتيا. - أما رأيتها بعد ذلك العهد؟ - كلا. - من يعلم فقد تكون في هذه المضارب التي نذهب إليها الآن.
فارتعش اللورد ولم يجب بشيء، ورأيا عند ذلك أنوارا تضيء، فقال شمشون: لقد وصلنا، وهذه هي مضاربنا.
وكانت هذه المضارب مؤلفة من خمس خيام كبيرة ومركبتين ضخمتين كان يوجد فيهما كثير من الآلات المختلفة وأربع بقرات وقطيع من الماعز والخراف كانت موجودة في دائرة تبلغ مساحتها مائة متر، وهي مسورة بالقصب الهندي.
وكانت النار مشبوبة في ساحة في وسط الخيام، وعليها دست كبير كانت عجوزتان جالستين من حوله تطبخان فيه جديا للعشاء، وأمامهما خمسة من النور مضطجعون على الأرض، وكلبان كبيران ينظران إلى قوائم الجدي البارزة من الدست ويهران، وقد نفد صبرهما من الجوع، وشغلا برائحة الطعام الشهية عن شم رائحة القادمين فلم يستقبلاهم بالنباح.
وكان يجري في الجهة اليسرى من المضرب حادثة أخرى، وهي أن جميع رجال الطائفة وغلمانها كانوا واقفين بانتظام وقد ركز أمامهم لوح كبير من الخشب، ووقف رجل مسندا ظهره إلى هذا اللوح باسطا ذراعيه عليه؛ فكان يشبه بجملته شكل صليب.
وقد برز رجل من صف الواقفين فوقف على مسافة عشر خطوات من اللوح، وعند قدميه كثير من الخناجر الحادة الطرف، فكان يأخذ الخنجر ويرمي به اللوح فيشك به على قيد أصبع من وجه الرجل المصلوب، ثم يأخذ غيره ويرمي به، وهكذا على التوالي إلى أن يشك الخناجر حول المصلوب وذراعيه دون أن يصيبه بأذى فيصفق له الحاضرون إعجابا بفوزه، ويأتي سواه فيفعل هذا الفعل، فإنهم كانوا يتمرنون على استعمال السلاح بهذا الشكل، ففي كل يوم يصلب واحد منهم فيرميه الباقون بالخناجر على ما تقدم.
وقد وقف اللورد والطبيب يتفرجان على هذا التمرين الخطر دون أن ينتبه لهم رجال القبيلة؛ لانهماكهم بما كانوا فيه.
أما شمشون؛ فإنه اختلط بهم، وجعل يبحث عن جان دي فرانس، فلم يره إلى أن انتبه له واحد منهم فقال له: أهذا أنت يا شمشون؟ فمتى أتيت؟
قال: الآن. فهل رأيت جان دي فرانس؟
قال: كلا؛ فإنه في كلكوتا منذ يومين.
فتنهد شمشون، وظهرت عليه علائم اليأس، وعند ذلك رمى أحد اللاعبين آخر خنجر فأسرع سواه وقال: لقد جاء دوري.
فصاح شمشون صيحة فرح؛ فقد كان هذا القادم جان نفسه، وأسرع إليه فقال له: من أين أتيت أيها الرئيس؟
قال: لا أعلم. وأظن أني أتيت من عالم القبور، ولكن اسكت الآن سنتحدث فيما بعد.
ثم أخذ الخنجر ورمى به اللوح فاخترق الخشب على قيد شعرة من أذن المصلوب.
وكان جان أكثرهم تمرينا وأحذقهم رماية؛ فشك ثمانية خناجر حول رأس الرجل، فأصبحت شبه تلك الدائرة التي يرسمها المصورون من نور حول رءوس القديسين.
ولما فرغ من ذلك ذهب إلى المصلوب فانتزع الخناجر من حول رأسه، وقال لرفاقه: لقد جاء دوري الآن؛ فإني غبت يومين عن المضرب.
ثم وقف في موقف ذلك المصلوب، وأمرهم أن يبدءوا التمرين به، فانبرى واحد من الحضور ورماه بأربعة خناجر أصاب بها المرمى، ووقعت بجانب رأس جان في اللوح.
ثم رمى الخنجر الخامس، فأصاب قبضة أحد الخناجر المغروسة وهي من العاج، فزلف عنها وأصاب كتف جان.
وقد صاح الجميع صيحة رعب، ولكن جان لم يتحرك من موضعه، وتمتم بضع كلمات بصوت منخفض.
ورأى الطبيب بولتون ما كان، وأيقن أنه مصاب بجرح بالغ، فشق الزحام بعنف ووصل إليه.
أما النور فلم ينذهلوا حين رأوا الطبيب، فقد رأوه مرارا في سراي الحاكم حين كانوا يلعبون فيها هذه الألعاب.
أما الطبيب فإنه أسرع إلى إبعادهم عن جان ومزق قميصه، وحاول أن يفحص الجرح.
ولكن جان اصفر وجهه ووهت رجلاه؛ فطوقه الطبيب بذراعيه كي لا يسقط، ونظر إلى الجرح فرأى أن رأس الخنجر قد كسر ودخلت قطعته في كتفه، فقال لهم: أسرعوا بحمله إلى خيمته؛ فإني لا أستطيع معالجته هنا.
فركضوا إليه يحاولون حمله، ولكنه أبعدهم عنه وقال لهم: دعوني؛ فإني أستطيع الوصول إلى الخيمة وحدي.
وقد دخل إلى أقرب الخيم منه، وتبعه النور، فجلس على حصير وخلع قميصه، بينما كان بالتون يخرج عدة الجراحة ويعد المعدات اللازمة لضمد الجرح.
ثم أمر جميع النور أن يخرجوا من الخيمة، وركع بجانب جان، وجعل يخرج قطعة الخنجر من كتفه.
وكانت العملية مؤلمة جدا، غير أن جان لم يصح صيحة ألم، وبلغ من تجلده أنه لم يظهر على وجهه شيء يدل على التألم، كأنما الطبيب كان يعمل بتمثال من الخشب.
فلما نزع القطعة وأتم ضمد الجرح قال له وهو يمسح الآلة: الحق يا بني أني لم أجد أشد صبرا منك، وإني أحمد الله الذي قدر لي المرور بكم في هذه الساعة فأخدمك خدمة فوق ما تتصورها، فلو عالجك أحد هؤلاء الدجالين لشوهك وجعلك أشل اليد.
وإني أرجو أن تطيب بعد يومين، ولكن لا بد لك أن تلزم الفراش في خلالهما.
قال: أألزم الفراش كل هذا العهد الطويل؟
قال: هذا لا بد منه يا بني.
فتمتم قائلا: ولكن لا بد لي من الكنز أيضا.
ولم يسمع الطبيب قوله فقال له: سأعودك في الغد.
فكان الحاكم واقفا إلى تلك الساعة وقفة المتفرج، فدنا من جان وسأله قائلا: كم يبلغ عمرك أيها الفتى؟
قال: ستة عشر عاما.
فقال الطبيب في نفسه: أيكون عمره ستة عشر عاما وتكون له جرأة الأسود وإرادة القدر ومطامع سياسي نمساوي. إنه لا يمر به عشرة أعوام حتى يصبح زعيم كل طائفته.
ثم وضع يده على رأسه وقال له بلهجة المشفق: إنك تتألم. أليس كذلك؟
فأطبق جان عينيه وقال: كثيرا. - ولكنك مع ذلك لا تشكو. - إن الشكوى جديرة بالنساء والأطفال، ولكني شديد الظمأ؛ فأغيثوني بشربة ماء.
فأعد له الطبيب كأسا من شراب الليمون فسقاه إياه ثم قال له: نم الآن يا بني؛ فإن النوم يفيدك أعظم فائدة.
فأطبق عينيه وهو يقول: أشكرك يا سيدي الطبيب.
وبعد هنيهة نام نوما هادئا فالتفت الطبيب إلى الحاكم وقال له: إن التعب أنهك جوادينا والمسافة من هنا إلى كلكوتا تبلغ ثلاث ساعات. ألا ترى أن نقبل ضيافتهم وننام هنا بقية هذا الليل؟
قال: كما تشاء.
وعند ذلك فتح سجن الخيمة ودخل شمشون، وحاول أن يدنو من جان؛ فمنعه الطبيب قائلا: إنه نائم فلا تزعجه.
قال: إن ملكتنا تريد أن تراكما.
فابتسم الطبيب ونظر إلى الحاكم فقال له اللورد: حسنا فهلم بنا إلى جلالتها.
ثم ذهب الاثنان إلى خيمة مزخرفة خارجة عن دائرة المضرب، ورأيا رجلين عند بابها كأنهما يحرسانها في الليل والنهار، فضحك الحاكم وقال: أي فرق بينها وبين الملوك؛ فإن لها ما لهم من الحاشية والحراس.
وكان القمر يتلألأ في كبد السماء، فلما وصلا إلى الخيمة خرج منها غلام لا يتجاوز عمره ثلاثة أعوام، وهو جميل الوجه يشبه ابن اللورد أتم الشبه، فارتعش الحاكم حين رآه، وفتح شمشون باب الخيمة وقال لهما: تفضلا بالدخول.
وقد دخل الحاكم قبل رفيقه، فوقف حائرا مبهوتا؛ إذ رأى امرأة في الخامسة والعشرين من العمر، لها جمال يفتن الألباب، وهي مضجعة فوق حصير على الطريقة الشرقية، فنظرت إلى الحاكم وقالت له: هل عرفتني أيها اللورد؟
فقال بلهجة المنذهل: أميرة النور.
قالت: بل ملكتهم سينتيا.
ثم أشارت إلى شمشون أن يخرج، فقال لها اللورد: أأنت هنا؟
قالت: نعم. وستكون ضيفنا هذه الليلة.
وعند ذلك دخل الغلام إلى الخيمة فقال اللورد للطبيب: أرجوك أيها الصديق أن تدعنا وحدنا.
فخرج الطبيب وهو يقول في نفسه: لقد كنت أتوقع هذا اللقاء.
وبعد خروجه دنا الحاكم منها وقال لها: لقد كنت مخطئا إليك يا سينتيا، ولكني مستعد لإصلاح خطئي.
قالت: إني لا أسألك شيئا أيها اللورد لا لي ولا لولدك هذا. - ماذا تقولين؟ أهذا الغلام ولدي؟ - انظر إليه؛ فهو مثالك مجسما.
فأخذه اللورد بين يديه، فجعل يقبله بلهف ثم قال لها: حسنا يا سينتيا. إن ولدك سيكون غنيا قادرا؛ فإن لي مالا كثيرا بحيث أستطيع أن أهب منه مقدارا عظيما دون أن أجحف بحق ولدي الشرعي، فاعهدي إلي بولدي؛ فإني أربيه خير تربية وأجعله من الأشراف.
قالت: كلا. فإنه سيكون نوريا مثل أمه، ولا تستطيع أن تسلبني إياه؛ إذ تضطر إلى الاعتراف بزواجك من نورية، وهي فضيحة يجتنبها الأشراف.
قال: ولكن لماذا تؤثرين عيش التشرد؟ فهل تريدين أن تعودي إلى لندرا؟ فإني أقيمك في قصر وتعيشين أرفه عيش.
قالت: كلا. فإني أؤثر أن أكون ملكة في خيمتي الحقيرة على أن أكون عبدة في قصرك الفخم. - ولكن دعيني أنفع هذا الغلام بشيء. - كلا أيها اللورد. ولكن لي ما ألتمسه منك. - ماذا تريدين؟ - أريد أن تحمي طائفتنا التي يحميها الجميع. - أهذا كل ما تريدينه؟ - نعم. والآن أستودعك الله أيها اللورد؛ فقد أمرت أن يحسنوا ضيافتك وضيافة رفيقك جهد الإمكان.
ثم أشارت إليه أن ينصرف بجلال الملكات، فنظر إليها نظرة إعجاب، وقبل ذلك الطفل الذي لا يستطيع أن يعترف به وخرج، فلقي الطبيب فقال له: تعال فإني لا أريد أن أبقى دقيقة في هذا المضرب، وإذا مات جوادانا في الطريق سرنا إلى كلكوتا مشيا على الأقدام. •••
كان شمشون الجبار جالسا عند فراش جان كالكلب الأمين فلم يغمض له جفن في تلك الليلة، ولبث ساهرا يصغي إلى صوت تنفسات جان التي كانت تدل على أنه شديد التعب.
ثم سمعه يتنهد، واشتد صوت تنفسه؛ فوقف شمشون قلقا مضطربا.
وفتح جان عينيه فقال: إني ظمآن.
فأفرغ له في كأس شرابا كان قد أعده له الطبيب؛ فشربه بجملته وقال: رباه! كم أتوجع! ومع ذلك فلا بد لي من الحصول على الكنز قبل أن ينقله البراهمة من مكانه.
فقال له شمشون: ألعلك وجدت الكنز؟
قال: نعم، وهو أعظم مرارا من كنوز جميع ملوك الأرض.
قال: ولكن لماذا لم تدعني إليك يا سيدي؟
قال: أصغ إلي تعلم السبب.
ثم قص عليه كل ما جرى له في جوف الأرض تحت خرابات الهيكل مع الفتاة حارسة الكنز، وكيف أنها راقصته حتى أعياه التعب فسقته شرابا يشبه الخمر الإسبانية.
وهو لم يعد يعلم شيئا بعد أن أضاع رشده من هذا الشراب، ولكنه حين استفاق لم يجد نفسه في تلك المغارة، بل وجد نفسه ملقى في الهواء الطلق تحت شجرة من تلك الأشجار الهندية المشهورة بسموم أوراقها وظلها؛ فإن من يستظل تحتها يموت لا محالة.
وهذا النوع من الأشجار معروف في جميع الهند، فلما رأى جان أنه كان نائما تحت تلك الشجرة الهائلة عجب كيف أنه لم يمت، وقال في نفسه: لا شك أن الذين ألقوني هنا باتوا يعتقدون الآن أني أصبحت من عالم الأرواح.
وقد ذكر جان عند ذلك أن شرائع البراهمة تحرم سفك دم الإنسان، ولكنها لا تحرم قتله بالاختناق، وأنهم يكرهون النور كرها عظيما، ويخشون أن يتدنسوا بهم، وهذا هو السبب الذي حملهم على أن يلقوه تحت الشجرة السامة.
هذا الذي خيل لجان أنه حدث، فبينما كان يروي لشمشون ظنونه سمع وقع حوافر جواد، فقال له: اذهب وانظر ما هذا؛ فإن جميع رجالنا قد سكروا وناموا حسب عادتهم، وأخاف أن يكون الهنود قد أغاروا علينا.
فخرج شمشون وقال جان في نفسه: إني سأذهب هذه الليلة لاختطاف الكنز، وسأصحب معي شمشون، ولا أبالي بجرحي ولو قتلني.
وبعد هنيهة، عاد شمشون إلى الخيمة يصحبه ذلك الفارس الذي سمع وقع حوافر جواده، فدهش جان حين رأى أن هذا الفارس إنما هو الطبيب بالتون.
وكان العرق يسيل من وجه الطبيب وهو يحمل تحت وشاحه شيئا لم يتبينه جان، فقال له الطبيب: إني لم أبت هنا وذهبت إلى كلكوتا، ثم عدت مسرعا منها إليك لأحدثك بشأن خطير.
فأشار جان إلى شمشون أن يخرج وقال له الطبيب والاضطراب باد في عينيه: هل نحن وحدنا الآن؟
قال: كما ترى. - أواثق أنه لا يسمع حديثنا أحد؟ - كل الثقة. فقل يا سيدي ما تشاء.
فنظر إليه الطبيب نظرة الفاحص وقال له: قل لي يا بني، هل أنت من أهل المطامع؟ - إن لي مطامع أبناء الملوك. - وهذه الأطماع أهي لخدمتك وخدمة قبيلتك؟ - ثق أنه متى أصبحت ملكا على طائفة النور لا يعودون يرسفون بقيود الذل ولا يطردون عن الأبواب طرد الكلاب. - إذن أصغ إلي يا بني، وافترض أنهم أخذوا من طائفتكم غلاما يتراوح عمره بين الثالثة والرابعة، وأنهم جعلوه ابن لورد عظيم، وأن هذا الغلام الذي ولدته أمه النورية في البراري سيجلس يوما في مجلس أعيان المملكة ويجادل في شئونها زملاءه اللوردية العظام.
فقال له جان: ألعلك تهزأ بي يا سيدي وأنت تعلم أن هذا الافتراض محال؟ - ولكن هب أن هذا الافتراض أصبح حقيقة.
فبرقت عيناه كنجمين يضيئان في سماء مظلمة وقال: إنه إذا حدث ذلك فإني أسفك دمي في سبيل خدمة هذا الغلام، وأتمنى له أن يكون أعظم عظيم في بلاد الإنكليز. - إذن، فاعلم أني قادم إليك لأخبرك أن هذا الافتراض الذي افترضناه ممكن الحدوث. - كفى بربك يا سيدي؛ فإنك تضل صوابي.
فأخرج الطبيب من تحت وشاحه ذلك الشيء الذي كان يخفيه ووضعه على الفراش، وكان ملتفا بقطعة من القماش؛ فأزاح القماش، وظهرت من تحته جثة طفل، فصاح جان قائلا: ويلاه ما هذا ... ابن أختي سينتيا؟
فهز الطبيب رأسه وقال: كلا. ليست هذه جثة ابن أختك فإنه في أتم عافية، ولكن الشبه عظيم، حتى إنك خدعت به لأول وهلة كما ستخدع إنكلترا بجملتها. أتعلم من هو والد ابن أختك؟
قال: نعم. فإن أختي لا تكتم عني شيئا من أمورها؛ فإن الذي خدعها يدعى اللورد إسبرتهون، وهو الآن حاكم الهند. - إذن. فاعلم أن هذا الغلام الميت الذي تراه الآن كان يدعى في صباح هذا اليوم المركيز روجر دي إسبرتهون. أتعلم ماذا يدعى الآن؟ إنه يجب أن يدعى أميري ابن سينتيا المتوفى بلسع أفعى. - لله مما أسمعه! أتريد أن تستبدل ابن اللورد بابن أختي؟ - هو ذاك واللورد أبو الولدين. - ولكن أختي قد تموت من حزنها. - كلا. فإن عزاءها على فراقه أنها ستغدو أم لورد. - إنك تغويني. - بل إني أريد أن أحقق أمانيك، وأجعل ابن أختك من عظماء الأرض. فوثب جان من سريره وقال: ليكن ما تريد، وليعاقبني الله إذا كنت أسيء بما أفعل، فأعطني هذه الجثة، وانتظرني خارج المضارب، فلا يستطيع أحد سواي الدخول إلى خيمة أختي حيث ينام طفلها.
فدفع إليه الجثة، وخرج وهو يقول: لقد كنت أعلم يقينا أن جان دي فرانس سيكون معنا، وعلى ذلك فإن موت ابن اللورد سيكون مكتوما لا يعلم به إلا أنا واللورد وجان. •••
بزغت الشمس، وصحت سينتيا من رقادها وهي تبتسم؛ فقد كانت حلمت أن ابنها بات له مستقبل زاهر وطال حلمها كل ليلها، فلما فتحت عينيها وجدت أخاها جالسا عند فراشها وهو يبتسم فقالت له: لقد حلمت حلما سعيدا يا أخي.
قال: ماذا حلمت يا أختي العزيزة؟
قالت: حلمت أن ولدي أميري قد اشتد وقوي وصار رجلا يشبه بجماله الآلهة. - سيصح حلمك يا سينتيا. - ولكن العجيب أنه لم يكن يلبس كما يلبس رجال قبيلتنا، بل كان يلبس ملابس مذهبة وهو يتقلد حساما مثل النبلاء، ويلقبونه بصاحب السعادة.
ثم نهضت من فراشها، وذهبت إلى مهد ولدها، فلم تكد تراه حتى تراجعت منذعرة وصاحت صيحة هائلة فقالت: رباه! إن ولدي مات.
وكان جان يتوقع ما حدث، فأسرع إلى جثة ابن اللورد فحملها وقال لأخته: انظري إليه جيدا، فما هو ولدك.
ثم كشف عن ذراع الطفل وقال لها: إنك تعلمين أن ولدك كان موشوما بعلامة طائفتنا، فهل تجدين أثرا لهذا الوشم؟
ولكن الأم لا تحتاج إلى مثل هذه العلامات لمعرفة ولدها فقد عرفته حين تمعنت في وجهه وقالت: نعم. إنه ليس ولدي، ولكن أين ولدي؟
قال: إن ابنك نائم الآن في مهد من الحرير والعبيد يروحون حوله بالمراوح كي لا يزعجه الحر. - ماذا تعني؟ - أعني أن ابن اللورد الحاكم مات فحل ابنك محله، وهو الآن يدعى المركيز روجر دي إسبرتهون.
فسقطت على ركبتيها واهية القوى وأخذت بالبكاء، فقال لها جان: ما هذا البكاء؟ فإن ولدك سيغدو سيدا عظيما من كبار النبلاء، وسيكون لوردا عظيما يحضر جلسات مجلس الأعيان ويجالس الملك. - ولكنه عندي شبه ميت؛ إذ لا أراه. - كلا. فإننا سنلزمه لزوم ظله ونحميه من كل طارئ ونعتز به، فنخلع عن رقابنا نير الذل والهوان ونشاركه في مجده.
ولكنها لم تنتبه لشيء من أقواله، واسترسلت إلى البكاء وهي تقول: أريد ولدي ... ردوا إلي ولدي.
فنظر إليها جان تلك النظرات النافذة التي كان يستهوي بها قلوب رجال قبيلته وقال لها: إني إذا أرجعت إليك ولدك يأتي يوم تندمين فيه الندم الشديد وتبكين بدموع من دم.
فأطرقت برأسها وجعلت تبكي وهي صامتة، فقال لها: لقد قلت لك إننا سنتبعه في كل مكان، فإذا احتاج إلى دمائنا سفكناها في سبيله، وإذا أعوزه المال أعطيناه كنوزنا ينفق منها ما يشاء.
فحسبت أن أخاها قد جن وقالت له: كنوزنا؟
قال: نعم. فسيكون لنا في هذا المساء كنز لا تعادله كنوز الأرض، وسيكون المستقبل لنا ولولدك. •••
والآن لنبسط للقراء كيف كانت نجاة جان من قبضة البراهمة بعد أن تركناه مخدرا على الأرض وخنجر الكاهن مشهر فوق صدره، وقد قضي عليه بالموت لتجاسره على الدخول إلى المغارة واكتشاف أسرار الكنز.
إن الفتاة الهندية حين رأت هذا الخطر المحدق به صاحت بالكاهن قائلة: ماذا تفعل أيها المنكود؟ ألا تعلم أن الإله الذي نعبده يحرم علينا سفك الدماء؟
قال: يجب أن يموت.
قالت: إنه يموت، ولكن دون أن نسفك دمه. - إذن كيف يموت؟ - احمله مع رفيقك، وألقياه تحت شجرة سامة فلا يشرق عليه الصباح حتى يموت. - لقد أصبت يا ناتا؛ فإنك على حداثة سنك لك حكمة الشيوخ، وسنفعل ما أشرت به.
قالت: إن موته سيكون محتما، وقد تدركه النمور فتفترسه قبل الصباح. وقد وافق الكاهنان على ذلك، ودخلا إلى مكان في المغارة فأتيا بخشبة فحملاه عليها وانصرفا.
ولكن الفتاة كانت قد اغتنمت فرصة بحثهما عن الخشبة، فأسرعت إلى زجاجة صغيرة وأفرغتها في فم جان، فلما ذهب الكاهنان به برقت عيناها من الفرح وجعلت تحدث نفسها فتقول: نعم إن الشجرة السامة تقتل من ينام تحتها، ولكن ابنة الكهنة التي قضي عليها أن تعيش في جوف الأرض لا تريد أن يموت هذا الفتى الجميل الذي حرك عوامل قلبها، ولذلك سقيته ترياقا يقيه الموت من كل السموم، وسيعود إلي.
نعم إنه سيعود، فقد شعرت أن صدره يخفق خفوق صدري، وسيذكرني حين يفيق ويعود إلي فنهرب معا إلى حيث يشاء.
وقد نامت، فلما صحت علمت من مقدار الخشب الذي التهمته النار أن زمن عودة الكهنة قد حان.
وقد أقبلوا بعد هنيهة، فتجلدت إخفاء لاضطرابها، وسألتهم أين وضعوه؟
قالوا: إننا وضعناه تحت شجرة سامة، ولكننا لم نجده حين عودتنا فلا شك أن النمور اختطفته.
ثم تركوها وانصرفوا، فكادت تجن من خوفها عليه، وجعلت تضرع إلى الإله سيوا أن يحميه ويقيه.
وفيما هي تصلي وتبتهل رأت جان داخل المغارة، فصاحت صيحة فرح لا توصف، وهجمت عليه فعانقته وهي تقول: لم يكن عندي شك أيها الحبيب أنك ستعود إلي، فدفعها عنه وهو يقول: ارجعي أيتها الشقية؛ فقد أردت قتلي بالسم، وألقيتني تحت الشجرة السامة.
فضمت يديها وقالت: كلا أيها الحبيب، بل إني أنقذتك من خناجر الكهنة لأني أحبك.
فضحك جان وقال: لا أعلم إذا كنت تحبينني، ولكن الذي أعلمه أني محتاج إلى هذا الكنز.
قالت: إن ذلك لا يكون؛ فإني لا أسرق أموال إلهي.
قال: إني أريد الكنز.
قالت: بل إنك لا تأخذ منه شيئا، فخذني إلى حيث تشاء وسأكون عبدة لك، ولكن لندع كنز الإله.
وقد عادت إلى عناقه فصدها عنه بعنف وقال لها: إن الوقت لا يتسع الآن للغرام، فهل تريدين أن تتبعيني؟ - نعم. - ونأخذ معنا الكنز؟ - كلا كلا. - إذن اصبري.
ثم وضع أصبعيه في فمه وصفر صفيرا خاصا، فلم تكن غير هنيهة حتى سقط من فم المغارة شمشون الجبار وناثائيل والد الطفلة التي تبناها السير روبرت.
وكان الاثنان مسلحين وهما يحملان كيسين كبيرين من الجلد، فقال لهما: قيدا هذه الحسناء وكمماها كي لا تصيح.
وبعد أن امتثلا وضعا ما كان في المغارة من الجواهر والذهب في الكيسين وخرجا يتقدمهما جان، فوضعوا الكيسين على مركبة، وعادوا جميعهم إلى المضارب وقد فاز جان بالكنز.
الفصل الثالث
مس ألن
مضى سبعة عشر عاما على الحوادث التي بسطناها ربي في خلالها ابن النورية - أي ابن أخت جان دي فرانس - في قصر اللورد أبيه، وكان يدعى المركيز روجر دي إسبرتهون، وهو فتى في العشرين من العمر، وله جمال تام وأدب أتم. وقد بقي سر مولده مكتوما عن جميع الناس ما خلا أباه وأمه وخاله والطبيب بولتون.
وكان ابن عمه السير جيمس قد اعتزل الخدمة في الجيش وأقام في قصرهم القديم في إسبرتهون وهو في الثلاثين من العمر وله نظرات تدل على الحقد وشفتان رقيقتان تدلان على أنه مفطور على الخبث.
ففي يوم من أيام الربيع، كان المركيز روجر سائرا على جواده يصحبه خادمه لزيارة ابن عمه السير جيمس.
وما زال سائرا حتى وصل إلى الغابة المؤدية إلى منزل ابن عمه فانتبه لصهيل جواد كان يسير في تلك الغابة بفارسه فقال: من عسى أن يكون هذا الفارس؟ ألعله ابن عمي قادم لزيارتي؟
ولكنه لم يلبث أن تبين خطؤه بعد بضع خطوات فقال: ترى من هو هذا الفارس؟
فقال له خادمه: أظنه يا سيدي ذلك الهندي الذي اشترى أرض اللورد جاك جريجور منذ أسبوعين.
قال: لقد سمعت شيئا من أخبار هذا الرجل، فقد قيل إنه أتى بثروة عظيمة.
ثم واصل الاثنان سيرهما، ولما توغلا في الغابة اعترضت المركيز امرأة نورية تبلغ نحو الأربعين من العمر، فقال لها: ماذا تريدين؟
قالت: أود لو أذنت لي أن أرى طالعك؛ فإني أعرف بأسرار المستقبل.
فضحك المركيز وقال: أحق أنك تعرفين؟
قالت: نعم.
قال: لا أرى في سماء مستقبلي شيئا من الغيوم؛ فإني في العشرين من عمري، ولي ثروة يبلغ ريعها الملايين، وأنا من لوردية إنكلترا وقائد فرقة الملك.
قالت: إن الأخطار قد تهدد الملوك أنفسهم، فدعني أرى باطن كفك.
فبسط لها يده وهو يبتسم، فنظرت فيه وقالت: أرى أن خطرا عظيما يحدق بك، وخير لك أن لا تذهب للصيد غدا. - كيف عرفت أني سأصيد غدا؟ - ألم أقل لك إني أعرف المستقبل؟ - وأي خطر علي من صيد الثعالب؟ - إن من يصيد الثعلب قد يلقى في طريقه دبا كاسرا. - ولكن الوحوش الكاسرة لا أثر لها هنا. - أنصحك أن تثق بما أقوله لك وأن لا تذهب غدا للصيد. - حسنا فسوف أرى. والآن فهل بقي لك ما تتنبئين لي عنه؟
فعادت إلى فحص يده وقالت له: إنك من العشاق يا سيدي.
فارتعش وقال: ذلك ممكن، فهل أنا مخطئ أيضا في هذا الحب؟
فهزت رأسها وقالت: إنك قد تندم لحبك هذا. - وأنت ما زلت تعلمين كل شيء، فقولي لي هل تحبني التي أحبها؟ - سأجيبك في فرصة أخرى؛ إذ يوجد في يدك خط لم يكتمل بعد، والآن أستودعك الله، وأسأله أن يحرسك.
فرمى لها المركيز دينارين وواصل سيره وهو يقول: ترى لماذا أندم لحبي مس ألن؟
ثم قال لخادمه: أتعرف هذه المرأة؟
قال: نعم، فهي نورية ترتزق من هذا التدجيل، فاطمئن يا سيدي فإن تكهناتها لا تصدق. •••
كان السير جيمس في إحدى قاعات قصره، فدخل إليه خادمه وقال له: إن ابن عمك يا مولاي قادم لزيارتك.
قال: كيف عرفت ذلك؟
قال: رأيته من الشرفة قادما بجواده عند مخرج الغابة. - أتعلم يا ويلسن، إن ابن عمي كتب لي رسالة؟ - نعم وقد دعاك فيها إلى صيد الثعالب. - وقد رفضت الدعوة لثقتي أنه سيزورني ويلح علي فأقبل. - إذا كان ذلك فلماذا رفضت في البدء؟ - لأنه إذا حدثت نكبة غدا في الصيد، فلا يظنون أني أنا أعددتها لاغتيال ابن عمي كي أرثه. - أتتوقع يا مولاي حدوث نكبة غدا؟ - نعم. - كيف ذلك؟ - إن من يصيد الثعلب قد يلقى دبا. - ولكن لا يوجد هنا وحوش ضارية. - سيوجد وحش في الغد بلون الجواد الذي يركبه ابن عمي العزيز. - إنه لا يركب غير جواده نيشون الأسود كما تعلم. - حسنا، وإن لهذا الوحش ولعا بالهجوم على الجياد السود.
فنظر إليه الخادم نظرة المنذهل دون أن يفهم فقال له: سأكشف لك هذا المعمى، والآن فلنتهيأ لاستقبال رئيس أسرتنا.
فخرج الخادم وجعل السير جيمس يقول: إني لا أزال أعجب كيف أنه سلم من الأفعى، فقد وضعتها في سريره حين كان له من العمر ثلاثة أعوام.
وبعد هنيهة دخل المركيز، فبالغ السير جيمس بالاحتفاء به؛ فأقام عنده ساعة وقد ألح عليه كثيرا حتى رضي بحضور حفلة الصيد، ثم افترقا فشيعه إلى الباب الخارجي.
وبعد انصرافه نادى خادمه وقال له: تعال الآن أخبرك بما عزمت عليه. أتذكر أني كنت في الشتاء الماضي أذهب إلى هايد بارك؟ - إنك كنت تذهب كل يوم يا مولاي. - ذلك أنه كان يوجد عند باب هذه الحديقة الكبرى رجل يروض الوحوش الضارية، فلبثت بضعة أيام أحضر هذه الألعاب إلى أن دعوت يوما مروض الوحوش وقلت له: كم تكسب في يومك؟
قال: عشرة شلنات تقريبا.
قلت: أتريد أن تكسب ثلاثين؟
قال: دون شك، فماذا تريد أن أصنع؟
قلت: أريد أن تلاعب الوحوش أمامي وحدي في كل يوم.
فاتفقنا على ذلك، وجعل يلاعب وحوشه مدة ثلاثة أشهر كل ليلة من انتصاف الليل إلى الساعة الثانية بعده.
وكانت الطريقة التي اخترتها هي أن يلبس براثن دب كاسر عنده أحذية من الجلد كي لا يستطيع الإيذاء بها، ثم يخرجه إلى ساحة اللعب فيجد هناك رجلا يلبس ملابس الفرسان وهو يمتطي جوادا أسود، فيسير بجواده حول هذا الدب ويجلده بسوطه جلدا أليما.
وقد لبث الدب يصبر على الأذى مدة ثلاثة أيام وفي اليوم الرابع جعلت عيناه تتوهجان من الغضب حين يرى الفارس وجواده الأسود.
ولبثنا على هذا التمرين ستة أشهر، وفي كل يوم يرى الدب الجواد الأسود ويشعر بالسياط تمزق جلده إلى أن خطر لي أن أجربه آخر تجربة، فأتيت بتمثال من الخشب ألبسته ملابس الفرسان وأركبته على جواد أسود، ووضعته في ساحة اللعب، ثم أمرت مروض الوحوش فنزع أحذية الجلد من براثن الدب وفتح له باب القفص، فلما رأى الجواد وفارسه هجم عليهما هجوما هائلا، ولم تكن غير هنيهة حتى بقر بطن الجواد وحطم التمثال الخشبي، وبات الدب ممرنا أتم التمرين.
فقال له الخادم: أين هو الدب الآن؟
قال: لقد جاء به مروضه أمس إلى الغابة التي سنصيد فيها غدا.
قال: ولكن هذه الحفلة سيحضرها كثيرون وملابس الأشراف متشابهة، ويوجد بين جيادهم بعض جياد سوداء.
قال: لقد احتطت لهذا الأمر، ولكن المركيز سيصل إلى موقف الدب قبل سواه. - كيف ذلك يا سيدي؟ - ذلك منوط بك، فماذا يكون من الجواد إذا وضع تحت سرجه صنارة صيد وغرست في لحمه؟
إنه يهيج في الحال ويجمح بفارسه. - كلا إنه لا يهيج في الحال، بل بعد ساعة. - كيف ذلك؟ - ذلك أن تلف الصنارة بشمع ويخاط أسفلها بالسرج، فمتى سار الجواد ساعة أذابت الحرارة الشمع ودخلت الصنارة إلى لحم الجواد.
والآن فإنك ستذهب في هذا المساء إلى قصر ابن عمي، فتنام هناك مع الجياد وكلاب الصيد، وإذا كنت حاذقا تمكنت من وضع الصنارة تحت السرج.
قال: اطمئن، فسيكون ما أردت.
قال: وأنا متى ورثت ملايين ابن عمي ولقبه أعرف كيف أكافئك. •••
وهنا لا بد لنا أن نذكر شيئا بالإيجاز عن أبطال هذه الرواية الذين تركناهم في الهند منذ سبعة عشر عاما، وقد عادوا كلهم إليها الآن؛ فإن اللورد إسبرتهون اعتزل منصبه في الهند وعاد إلى لندرا فمات فيها منذ عام، وهو يعتقد أنه ليس له غير ولد واحد من امرأته غير الشرعية، أي ابن النورية.
وجان دي فرانس عاد مع طائفته إلى لندرا تصحبه أخته أم المركيز، وقد جاء بتلك الأموال العظيمة التي أخذها من هيكل سيوا وأقام في لندرا متنكرا باسم الناباب عثمان.
وناتا الهندية التي كانت حارسة الكنز أطلق الكهنة سراحها، فحقدت حقدا عظيما على جان، وجعلت تطوف أوربا باحثة عنه للانتقام.
والسير روبرت قتل أخا اللورد بمبارزة وعاد إلى لندرا مع الطفلة التي اشتراها من أبيها ناثائيل النوري، فرباها وأوهم الناس أنها ابنة أخ له متوفى في الهند، وهي الآن في مقتبل الشباب تدعى مس ألن، ولها جمال نادر، واللادي سسيل امرأة اللورد إسبرتهون الشرعية عادت من إيكوسيا إلى لندرا يصحبها ولدها ليونيل ابن اللورد الأصغر، ولكنها أوهمت جميع الناس أن ولدها قد مات حذرا عليه من بطش أخي زوجها بعد أن وثقت أنه يريد قتله، وكتمت عن ولدها نفسه سر والده، فهو يعتقد أنه ابن أحد الضباط، وأن اللادي سسيل كفلته صغيرا وربته عندها.
والطبيب بولتون عاد أيضا إلى لندرا وهو مع السير روبرت من أصدقاء المركيز روجر.
وكان المركيز روجر وليونيل ابن اللورد الشرعي يحبان مس ألن، وكلاهما لا يعلمان أنهما أخوان، ويجهلان أنهما يحبان امرأة واحدة.
ففي الليلة التي تقدمت حفلة الصيد كان نحو أربعين مدعوا جالسين على مائدة المركيز روجر بينهم مس ألن تضيء إضاءة البدر بين النجوم.
وكان الجميع يتسابقون إلى إكرامها، ويطمعون بنيل ابتسامة منها، ولكنها لم تكن تبتسم في تلك الليلة، بل كانت منقبضة الصدر، حتى لقد خيل للمركيز أنه رأى دمعة سقطت من عينها.
ولما فرغوا من الطعام جيء بالخمرة الفرنساوية وحان دور شرب الأنخاب، فوقف المركيز وكأسه في يده وقال: أيها اللوردية والسادة، إني أشرب نخب مس ألن الحسناء.
فشكرته الفتاة بابتسامة وقالت: وأنا أشرب نخب الكولونيل روجر.
فأجابها روجر: إن الكولونيل روجر يضع فرقته تحت أمرك.
فابتسمت وقالت: ما عدا قائدها فيما أظن.
قال: بل الفرقة وقائدها.
قالت: احذر مما تقول، فلو أعطيت هذه السيادة هنيهة لالتمست من الكولونيل التماسا.
قال: مري بما تشائين. - أتفعل ما أطلبه إليك؟ - دون شك. - إذن إني أسألك مركز ضابط في فرقتك، فضحك وقال: أأنت التي تتولين هذا المنصب؟
قالت: بل لفتى يتولى عمي حمايته، وأنا أحبه حب أخ، وهو ليونيل فارز.
قال: إن أخي كان يدعى بهذا الاسم حين مات وهو في سن الرضاع.
وقد عينت هذا الفتى كما تريدين، وسأجعله من أصدقائي.
فعادت إلى شرب نخبه وشاركها الجميع في شرب هذا النخب، وبعد ذلك نهضوا عن المائدة، وقال لهم المركيز: لا تنسوا - أيها الأسياد - أننا سنركب الجياد في الساعة التاسعة من صباح غد، وأما السيدات فإنهن يتبعننا في المركبات.
فقالت مس ألن: أما أنا فأمتطي جوادا.
فقال لها المركيز: إذا كان ذلك فإني أعد لك جوادا لا يوجد جواد يماثله في إيكوسيا.
فمدت له يدها شاكرة، فقبل يدها وقال في نفسه: لم يعد لي طاقة على الصبر، وسأبوح لها غدا بغرامي.
في صباح اليوم التالي ركب الجميع جيادهم وانطلقوا بها إلى الغابة، فكانت مس ألن تسير بجانب المركيز ووراءهما ابن عمه السر جيمس وخادمه ويلسن.
فلما وصلوا إلى مكان الصيد ذاب الشمع وشعر جواد المركيز بوخز الصنارة، فجعل يهيج ويحاول الركض والمركيز يمنعه كي لا يفارق مس ألن، إلى أن قال لها: هذه أول مرة رأيت فيها جوادي على هذه الشدة.
قالت: أطلق له العنان فإني أتبعك.
فأرخى له عنانه فانطلق كالسهم، وتمكنت الفتاة من إدراكه فقد كان جواده شديدا وكذلك السير جيمس وخادمه، فقد كانا لا يبعدان عنه أكثر من مائة خطوة خلافا لبقية الفرسان، فقد كانت جيادهم ضعيفة فلم تتمكن من اللحاق.
أما المركيز فقد شعر أن جموح جواده غير طبيعي، وحاول مرارا أن يكبح جماحه فلم يستطع.
إلى أن وصل إلى قمة عالية، وهناك صاحت الفتاة صيحة منكرة وغطت وجهها من الذعر؛ فإنها رأت وحشا هائلا قد انقض من أعلى القمة انقضاض الصاعقة، وهجم على جواد المركيز فبقر بطنه وألقاه على الأرض مع فارسه.
وقد حاول الوحش أن يبطش بالمركيز، وعند ذلك سمع صفير تلاه صوت رجل يقول: تون. تون.
فالتفت الدب إلى مصدر الصوت، وظهر رجل هائل الخلقة من بين الأشجار، فجعل الدب ينظر إليه بعينيه الصغيرتين نظر المنذهل، فقال له الرجل: تعال.
فمشى الدب خطوتين إليه كأنما صوت الرجل سحره، فقال له: نم هنا. فامتثل طائعا، وجعل يلحس قدمي الرجل.
وقد جرت هذه الحادثة بدقيقة تمكن المركيز في خلالها من النهوض؛ إذ لم يكن أصيب إلا برضوض بسيطة.
أما الرجل فإنه ابتسم للمركيز وقال له: أرجو يا سيدي أن لا تكون أصبت بأذى.
قال: كلا، ولكن وحشك كاد يفترسني.
قال: إنك واهم يا سيدي، فهذا الوحش ليس لي. - ماذا تقول؟ - أقول الحق؛ فقد كان لي، ولكني بعته منذ ثلاثة أعوام، فلما سمع صوتي الآن عرفني.
وكان السير جيمس وخادمه رأيا هذا المشهد من بعيد، فقال الخادم: إن مروض الوحوش قد خاننا، ولا أجد خيرا من الهرب.
قال: لقد أصبت فلنذهب.
وكانت مس ألن قد اطمأنت خلافا لجوادها؛ فقد كان يرتعد، فأمر الرجل الدب أن يصعد إلى القمة فامتثل، وعاد المركيز إلى محادثته، فقال له: تقول إن هذا الوحش ليس لك؟
قال: نعم. فقد بعته حين اعتزلت مهنتي. - لمن بعته؟ - لرجل يدعى سيمون، وهو يروض الوحوش.
فقالت مس ألن: وكيف اتفق وجود هذا الوحش هنا؟
قال: لا أعلم. - وأنت كيف اتفق وجودك هنا؟ - إني هنا بأمر الرئيس. - من هو هذا الرئيس؟ - هو الذي أسفك في سبيل خدمته كل دمي. - ماذا يدعى؟
فمد يده مشيرا إلى جهة الغابة وقال: هذا هو، فالتفت المركيز وصاح صيحة دهش. أما الفتاة فإنها كادت أن تسقط عن جوادها حين رأته.
وقد أقبل هذا الذي يدعونه بالرئيس، فقال للذي أنقذ المركيز: لقد أحسنت يا شمشون؛ فإنك أصدق المخلصين.
كان هذا الرجل جان دي فرانس الذي كان يعرفه أهل لندرا باسم الناباب عثمان.
وقد انحنى المركيز أمامه مسلما وقال: إني نجوت من الموت بأعجوبة، ويظهر أنك كنت سبب نجاتي.
قال: هو ذاك.
فحاول المركيز أن يشكره ولكنه قاطعه بإشارة وقال له: انظر إلى هذه القمة، فإن صاحب الدب كان مختبئا فيها لينتظر قدومك، فلما رآك أطلق عليك الوحش، ولكنه كان يوجد رجل مختبئا وراءه فأغمد خنجره بين كتفيه، وأسرع في أثر الدب وغدارته في يده، فلو لم يعرف صوت صاحبه القديم لأطلق عليه النار وقتله. أفهمت الآن؟
قال: كلا. فلم أفهم السبب الذي حمل هذا الرجل على أن يطلق وحشه علي. - إنه لم يكن غير آلة في يد سواه. - ألي أعداء يريدون قتلي؟ - إن من كان له صباك ونبلك وثروتك لا يخلو من أعداء، ورجائي أن تأذن لي بأن لا أصرح بأكثر من هذا. - ولكن أرجو أن تقول لي على الأقل من الذي كان مختبئا وراء مروض الوحوش وقتله. - هو أنا. - أنت؟ - نعم. والآن أرجوك يا سيدي أن تأذن لي بالانصراف، فإني أرى رفاقك قادمين وقد تأخروا عن إنقاذك، ولكنهم سيعطونك جوادا تعود عليه، فأستودعك الله.
ثم نظر إلى جواد مس ألن وقال لها: إن حزام جوادك قد ارتخى يا سيدتي فائذني لي أن أشده.
وقد دنا منها فشد الحزام وقال لها همسا: يا توبسي النورية، إن الرئيس يأمرك أن تذهبي بعد ثمانية أيام في الساعة العاشرة من المساء إلى ديتفورد وأن تنتظريه هناك وحدك.
ثم ودع المركيز وانصرف، فتبعه شمشون يصحبه الدب.
وعند ذلك التفت المركيز إلى مس ألن فرآها مصفرة الوجه تضطرب؛ فحسب أن اضطرابها من حادثته وقال لها: ما هذا الاضطراب؟
قالت: إني أضطرب من خوفي عليك.
قال: أعرفت هذا الرجل الذي أنقذني؟
قالت: كلا.
وقد أطرقت برأسها إلى الأرض كأنها تريد إخفاء مخاوفها، وعند ذلك انقطع الحديث بينهما لقدوم رفاق الصيد. •••
أما عثمان أو جان دي فرانس، فإنه عاد من فوره إلى لندرا، وذهب إلى بائع المجوهرات وقال له: أسعدت صباحا يا ناثائيل، فوقف الرجل إجلالا له وحياه باسم الرئيس، فقال له عثمان: كيف مصير الأعمال؟
قال: إنها في خير حال.
فابتسم وقال له: إذن أنت غير آسف على الزمن القديم حين كنت ترتزق من سرقة كلبك.
قال: كلا أيها الرئيس، ولكن. - ولكن ماذا؟ - ولكني يخطر لي أحيانا بعد هذه السعادة أني وحدي. - تزوج. - كلا. ليس هذا الذي أعنيه، فقد مت مرة بالزواج، ولا يشتهي الموت من ذاقه، ولكنني نادم لأني بعت بنتي؛ فإنها من دمي، وإني أحن إليها. - إذن أنت تريد أن تراها. - وا أسفاه! كيف السبيل إلى ذلك وأنا لا أعلم ما جرى لها ولا أعرف اسم الرجل الذي أخذها مني. - إن لندرا كبيرة، غير أن من يبحث يجد. - أحق ما تقول يا سيدي؟ - إنك علمت بالتجربة أني حين أتولى أمرا لا أخيب. - إنها تبلغ الآن الحادية والعشرين من عمرها إذا كانت لا تزال باقية في قيد الحياة، وقد كانت تشبه أمها، فهي لا بد أن تكون من أجمل الفتيات، فإذا اشتغلت معي راجت تجارتي أعظم رواج. - لقد عرفت الآن معنى حنوك الأبوي، ولكني سأجد بنتك، فهل هي موسومة بعلامة طائفتنا؟ - دون شك، فقد وسمتها حين ولادتها. - أليس لها علامة أخرى؟ - نعم. فقد عضها الكلب في حداثتها، ولا بد أن يكون أثر هذا العض باقيا بين الإبهام والسبابة. - حسنا فسأبحث عن بنتك، ولكني أشترط شرطا. - ما هو؟ - هو أني حين أرشدك إليها وأقول لك هذه هي بنتك تطالب بها. - هذا لا ريب فيه.
فودعه وانصرف.
وفي اليوم التالي دخل ليونيل في فرقة المركيز، وقد أحسن استقباله وعينه ضابطا، وجاءت أمه من الريف فأقامت متنكرة في لندرا، فلم يكن يعرف أمرها غير السير روبرت.
وأما السير جيمس ابن عم المركيز فقد كان أسفه عظيما لخيبة مساعيه، فصبر حتى اطمأن وأيقن أن ابن عمه لم يعلم شيئا من حقيقة أمره، فعاد إلى الكيد له، وأغرى رجلا مشهورا بالمبارزة ورشاه بالمال كي يبارز المركيز. ولم يقتصر على ذلك، بل إنه اشترى حساما مقلدا من نوري - وهو سيف ينكسر لأول صدمة - وأهداه إلى ابن عمه المركيز.
وكان عثمان قد عرف بأمر المبارزة وعلم من النوري سر السيف، فذهب إلى المركيز وسأله أن يجعله من شهوده ففعل.
وفي اليوم المعين للمبارزة أبدل سيف الرجل بسيف المركيز المقلد، وجرت المبارزة، فدارت الدائرة على الرجل، فأخبره عثمان بحكاية السيف المقلد، ولكنه كتم عنه مكيدة ابن عمه، فشكره المركيز شكرا حميما إذ أنقذه مرة ثانية من الموت، ولكنه كان شديد الاضطراب؛ إذ أيقن الآن أن له عدوا هائلا، ولكنه لم يعرف هذا العدو؛ فإن عثمان أبى أن يخبره عنه مدعيا أنه لم يعرفه بعد.
غير أنه قال له: اطمئن؛ فإذا كان لك عدو، فلك كثير من الأصدقاء، وإن عيونهم لا تنام.
فلم يكن هذا الكلام إلا ليزيد هواجس المركيز؛ فإنه لم يفهم سبب هذه الصداقة ولا ذاك العداء.
بعد حادثة الوحش بثمانية أيام كان عثمان يسير مسرعا على ضفة نهر التيمس إلى أن دخل إلى مكان معين، فالتفت إلى ما حواليه ليرى إذا كان يتبعه أحد، فلما لم يجد ما يريبه صفر صفيرا خاصا بفمه، ثم اتشح بردائه ووقف ينتظر.
وبعد هنيهة سمع صوت المجاذيف، فالتفت فرأى قاربا يدنو مسرعا إلى الشاطئ.
وكانت الساعة قد بلغت التاسعة من المساء وظلام الليل مشتد الحلك، فنظر إلى القارب محدقا وقال: أهذا أنت يا شمشون؟
قال: نعم أيها الرئيس.
فوثب عثمان إلى القارب، ونظر في ساعته فقال: لقد دنا الوقت فأسرع يا شمشون، وسر بي إلى دربيتورد.
وبينما كان القارب يسير كان عثمان يحدث نفسه فيقول: سوف نرى يا مس ألن ما يكون.
وقد كان الهواء شديدا والتيار سريع الجريان، فاندفع القارب بملء السرعة.
وكان الضباب شديدا متلبدا ، حتى إن المصابيح التي كانت مضاءة على ضفتي النهر لم تكن ترى لشدة تلبد الضباب.
ومع ذلك فإن شمشون كان يسير بقاربه بملء المهارة، ويدفعه بين السفن الكبرى دون أن يخشى الاصطدام.
وبعد ساعة وصل إلى المكان الذي كان ذاهبا إليه، فنظر عثمان إلى منزل معتزل تحيط به الأشجار على الضفة اليمنى، فلم يجد فيه أثرا للنور، فقطب حاجبيه وقال في نفسه: ترى أجسرت مس ألن على مخالفة أمري فلم تحضر؟
ثم أمر شمشون أن يرسو عند ذلك الشاطئ، وخرج من القارب فقال لشمشون: ابعد قليلا، ولا تعد إلا حين أناديك بالصفير.
وقد مشى إلى ذلك المنزل، وسار بضع خطوات تحت جدرانه المظلمة وهو يقول: لا بد لنا أن تكون مس ألن منا.
وفيما هو على ذلك رأى فجأة نورا قد لمع من وراء إحدى النوافذ، ثم فتحت النافذة، فدنا منها وسمع صوتا يقول له: من أنت؟
قال: أنا هو الذي تنتظرينه.
قالت: إن النافذة مفتوحة فادخل.
فتسلق الجدار إلى النافذة، ووثب منها إلى الغرفة التي كانت فيها، وهي غرفة مفروشة بالحرير ومزينة بالأزهار وغير ذلك من التزيين الدقيق الذي لا يفهم أسراره غير النساء.
وعلى الجدران رسوم مصورة باليد كتب تحتها اسم ألن دلالة على أنها هي التي صورتها.
وبين هذه الرسوم رسم السير روبرت مما يدل على أن الفتاة كانت في منزلها الصيفي.
وإن تربية الفتاة في بلاد الإنكليز تختلف كثيرا عن تربيتها في سائر البلدان؛ فإن ذويها يمنحونها الحرية المطلقة، فتركب الجياد، وتسير وحدها في الشوارع، وتتنزه في القوارب دون أن يصحبها أحد إذا شاءت.
ولذلك كانت مس ألن متمتعة بكل ما تتوق إليه نفوس العذارى من الحرية.
وكان السير روبرت قد ذهب منذ يومين إلى إيكوسيا في بعض الشئون وترك مس ألن في لندرا مع مربيتها القديمة.
ولكنها كانت تأتي في كل مساء إلى منزلهم الصيفي فتبيت فيه، وعند الصباح تركب قاربا وتعود إلى لندرا.
وقد وقف عثمان أمامها، وبدأت هي الحديث فقالت: لقد أحببت أن أراك يا سيدي؛ لأني لا أزال أفكر إلى الآن دون أن أدرك معنى ما قلته لي في حفلة الصيد منذ ثمانية أيام.
قال: إذن أنت تريدين أن أوضح لك معناه؟
فأجابته بجفاء قائلة: نعم. ولا أريد أن تطيل انتظاري.
فجلس على كرسي أمامها وقال لها: إذن اعلمي أيتها العزيزة توبسي أني قادم إليك لأعقد معك محالفة.
فوقفت عندما سمعت كلمة توبسي، وقد توهجت عيناها واصفرت شفتاها كأنها رأت أفعى فاجأتها، وقالت له: إني أدعى مس ألن فالدن يا سيدي، وأمنعك عن أن تدعوني بغير اسمي.
فابتسم عثمان ابتسام المتهكم وقال لها: ليكن ما تريدين، فقد قلت لك إني أتيت لعقد محالفة.
فنظرت إليه نظرة المحتقر وقالت: مع من تريد أن أتحالف؟
قال: مع قوم فقراء لا يحسدونك لثروتك وألقابك، أي مع طائفة أميري النورية يا مس ألن.
فضحكت ضحكا مغتصبا وقالت: أأنا أتحالف مع النور؟ إنك تقص علي حكاية شرقية.
قال: نعم. وهي حكاية هندية؛ فإن ملك النور يحبك كثيرا يا مس ألن، ويريد أن تكوني سعيدة في عائلتك الجديدة.
فقالت له بلهجة المتهكم: أحق ما تقول؟
قال: نعم. وقد خشي أن تتمادي في أطماعك؛ فأرسلني إليك كي أسديك نصيحة، وهي نصيحة أخ صادق، فائذني لي أن أفترض هنيهة أنك تدعين توبسي، وأنك ابنة ناثائيل النوري.
قالت: أتم حديثك، فإنك ترى أني مصممة على أن أسمعه بجملته.
قال: وإذا صح هذا الافتراض، فإن أصحابك يسرهم أن يعقد هذا الزواج الذي يعده لك السير روبرت فالدن. - مع السير ليونيول؟ - نعم. وهو يحبك بملء جوارحه. - ولكن إذا خطر لي أن أطمع بأحسن من هذا الزواج، وأردت أن أكون يوما مركيزة؟ - أتريدين الزواج بالمركيز دي إسبرتهون؟
فقطبت حاجبيها لهذه المفاجأة وقالت: لنفترض أن هذا الاسم يوافقني. - ولكن لا يوافق رجال الطائفة على الإطلاق، وليس من فائدتك أن يكونوا من أعدائك.
فاتقدت عيناها ببارق من الغضب وقالت: أيطمع أولئك الذين تدعوهم أصحابي أن يحكموا على قلبي ومستقبلي ويزوجوني بما يشاءون؟ - كلا. فإنهم يتركون لك الخيار فلك أن تتزوجي بمن تريدينه ما خلا المركيز. - وإذا أردت أن أكون مركيزة، وأن أتشح بوشاح اللوردية، فماذا يكون؟
فوقف عثمان وقال: يكون أن ملك النور ورعاياه يشهرون عليك حربا عوانا لا رحمة فيها ولا إشفاق.
فنظرت إليه بعينين تتوهجان من الغضب وثارت في قلبها الأحقاد، فقالت: حسنا فإن توبسي النورية تقبل هذه الحرب، وإني أقاتل جموعكم وحدي غير هيابة من ملككم ورعاياه، فقد ذكرت الآن أيام حداثتي، وذكرت نبرات صوتك التي وصلت إلى مسمعي كالصدى البعيد، وعرفتك حق العرفان؛ فأنت هو جان دي فرانس.
فكتف عثمان يديه، وجعل ينظر إليها بملء السكينة، ومضت في حديثها فقالت: نعم. أنت هو جان دي فرانس، أي إنك نوري مثلي وابن الطائفة الممقوتة التي قدر لي نكد الطالع أن أكون منها، وأنا خلقت لأكون من بنات الملوك.
نعم. إني أكره هذه الطائفة كرها لا تصفه الأقلام، فقد ضربت فيها وأهنت وتعذبت، وإن ذلك الوحش الضاري الذي كان يقول إنه أبي كان يضربني دون ذنب، وقد أغرى كلبه بي فدعاه يعضني عضا شوه يدي.
نعم. إني أكره هذه الطائفة والالتجاء إليها، وأكرهك أنت يا جان دي فرانس؛ لأني أعلم أنك رئيس هذه الطائفة. ارجع أيها اللص. إلى الوراء أيها السفاك المتشرد؛ فإن هذه الثروة التي تتمتع بها إنما هي من السرقة والآثام وسفك الدماء.
فكان جان يسمع حديثها وهو يبتسم، حتى إذا أتمته قال لها: احذري؛ فإني قادر أن أجعلك تندمين.
قالت: اخرج من هنا أيها المتشرد؛ فإني لا أخافك.
ولكنه لبث واقفا مكانه، فهاج غضبها وأخذت سوطا كان على مقعد بجانبها فضربته به على كتفه.
أما جان، فإنه لم يهجم عليها ويعصرها بين ذراعيه، بل إنه رجع خطوة إلى الوراء وقال لها بصوت أجش: إنك ستبكين دما لهذه الضربة. إلى اللقاء يا توبسي.
ثم مشى إلى النافذة فوثب منها وتوارى عن الأنظار.
الفصل الرابع
افتضاح السر
بعد ذلك بيومين، بينما كانت مس ألن جالسة في غرفتها دخلت إليها خادمة بعلبة متقنة الصنع ومفتاحها فيها، فسألتها قائلة من أتى بهذه العلبة؟
قالت: رجل لا أعرفه يا سيدتي، فقد أعطاني إياها وانصرف.
وكان يرد إليها أكثر الأحيان هدايا لا تعرف أصحابها، ولكنها كانت هدايا بسيطة خلافا لهذه العلبة، فقد كانت من الذهب، وهي مرصعة بالحجارة الكريمة، فخطر لها في البدء أن ترسلها إلى البوليس، ثم أرادت أن تعرف ما يوجد فيها، فأمرت الخادمة بالانصراف وفتحتها، فوجدت فيها إكليلا من الماس موضوعا على وسادة من الحرير الأزرق وبجانبه ورقة مطوية، ففتحتها بيد تضطرب وقرأت فيها جملة واحدة وهي:
من أراد قدر.
فمزقت الورقة مغضبة وقالت: وأنا أيضا أريد أن أعرف من هذا الفتى الوقح الذي أرسل إلي هذه الهدية.
وقد أخذت تفحص تلك العلبة الجميلة فصاحت صيحة فرح؛ إذ قرأت عليها اسم الجوهري الذي باعها وعنوانه، فأمرت بإعداد مركبتها، ثم أخذت العلبة وذهبت بها إلى الجوهري، فقالت له: ألم تخرج هذه العلبة من مخزنك؟
قال: نعم.
قالت: من الذي اشتراها منك؟
فنظر في دفتره وقال: لقد اشتراها مني الجوهري ناثائيل ومخزنه في استراند نمرة 10.
فارتعشت حين ذكرت هذا الاسم؛ إذ ذكرت به اسم أبيها، ولكنها قالت في نفسها: أية علاقة لأبي - وهو من اللصوص - بهذا الجوهري الغني الذي يقيم في أعظم شوارع لندرا، ثم ذهبت إليه ودخلت إلى مخزنه، فاستقبلها فتى فقالت له: هل أنت الموسيو ناثائيل؟
قال: كلا يا سيدتي، وسأدعوه لك.
وبعد هنيهة أقبل ناثائيل فارتعشت إذ عرفت به أباها، ولكنها أسرعت إلى ضبط نفسها؛ فإن النساء أشد من الرجال في هذه المواقف.
أما أبوها، فإنه انحنى أمامها وقال لها: ماذا تأمرين يا سيدتي؟ قالت: لا شيء، ولكني أريد أن أسألك عن هذه العلبة.
فبرقت عيناه؛ إذ عرف أنها بنته، وقد أدهشه جمالها حتى خيل له أنه يحلم، فقال: رباه ماذا أرى؟ أأنت هي توبسي؟ إنك غدوت أجمل من الملكات.
فقالت له بلهجة ملؤها العظمة: إنك واهم، فما أنا هي التي تدعوها بهذا الاسم.
وقالت له خادمتها التي كانت تصحبها: أتجسر أيها الوقح أن تخاطب ابنة السير روبرت فالدن بهذه اللهجة؟
قال: إنها بنتي. ومتى كان الأب يجامل بنته؟
ثم دنا منها، وحاول أن يعانقها؛ فتراجعت عنه بأنفة وقالت له: احذر أن تدنو مني.
قال: لقد قلت لك إنك بنتي، وسأثبت قولي بالبرهان.
وقد حاولت أن تخرج من ذلك المخزن، غير أن أباها تصدى لها عند العتبة، وجعل يتكلم بصوت مرتفع، حتى احتشد الناس عند باب مخزنه؛ فخاطبهم قائلا: نعم نعم إنها بنتي. انظروا أيها الناس، ألا ترون هذه السيدة الحسناء؟! إنها بنتي وقد سرقوها مني.
فتقدمت خادمتها، وحاولت أن تشق الزحام كي تدع سيدتها تمر، فاعترضها أحد الحضور، فدفعها إلى داخل المخزن وقال لها: دعي هذا الرجل يتكلم.
وقال آخر: إنها بنته كما يقول، وقد سرقت منه.
فقال ناثائيل: نعم. إنها بنتي، وسأبرهن على ذلك.
فصاح الجميع قائلين: هلموا إلى البوليس.
فأشارت مس ألن إلى الحضور، وقالت: نعم سأذهب إلى البوليس وأثبت أن هذا الرجل منافق محتال.
قال: بل أنت تكذبين.
قالت: أيها الناس، إني أدعى مس ألن فالدن، وأنا ابنة أخي السير روبرت فالدن، وقد ولدت في لندرا.
وكانت تقول هذا القول بلهجة تدل على صدقها فانقسم الحضور إلى قسمين؛ قسم تشيع لها، وقسم تشيع لأبيها.
وعند ذلك رأت أحد ضباط البحرية، فأشارت إليه أن يدنو منها وقالت له: أتريد يا سيدي أن أتأبط ذراعك وتصحبني إلى إدارة البوليس؛ فإني ضحية مكيدة لا محالة.
قال: بملء الارتياح. ثم أخذ بذراعها وسار وإياها فتبعهما أبوها وجمهور من المتفرجين.
وقد وصلوا إلى الإدارة، ودخلوا إلى مدير البوليس، فسمع قول الاثنين، ثم قال لناثائيل: كيف تستطيع أن تثبت أنها تدعى توبسي وأنها بنتك؟ قال: بالبرهان.
قال: إني أتمنى لك أن تجد هذا البرهان؛ فإنك إذا أقنعتنا ردت بنتك إليك. وأما إذا لم تقنعنا تكون أهنت سيدة من أشراف الإنكليز، فتعاقب حسب النظام بغرامة قدرها مائة جنيه، وتجلد خمسين جلدة في مكان عام.
فارتعد وجعل العرق يسيل من وجهه، فقال له المدير: ألا تزال مصرا على دعواك؟
فظهرت عليه علائم التردد، وقالت مس ألن: إذا أراد هذا الرجل أن يرجع عن دعواه فإني أغفر له وألتمس من المدير أن يعفو عنه.
فهاج ناثائيل لما سمعه وقال: كلا. لا أرجع عن دعواي.
فقال له المدير: إذن هات برهانك.
قال: إني نوري الأصل، ومن عادة طائفتنا أنهم يسمون أبناءهم حين يولدون بعلامة خاصة بهم.
قال: ما هي هذه العلامة؟
قال: إنها رسم زاوية نرسمه على الكتف الأيسر ثم نسمه فلا يزول أثره مدى الحياة.
فقالت مس ألن تخاطب المدير: إنك إذا وعدتني يا سيدي بأن هذا الرجل يعاقب بأشد ما يقضي به القانون رضيت أن أكشف عن كتفي.
قال: إن العقاب ينفذ فيه لا محالة إذا كان من الكاذبين.
فنادت إحدى النساء وأعطتها رداءها فجعلته شبه ستار بينها وبين الحاضرين، ثم كشفت عن صدرها وخلعت أعلى ثوبها، فظهر كتفها أمام المدير وناثائيل وشاهدين. أما أبوها فقد جمد الدم في عروقه؛ إذ لم ير على كتفها أثرا من هذه العلامة، وعاد المدير إلى مجلسه وهو يقول: إن هذا الرجل منافق.
ثم أمر اثنين من رجاله فقبضا عليه وهو لا يكاد أن يعي من شدة خوفه.
وخرجت مس ألن، فلم تكد تتجاوز الباب حتى رأت رجلا بملابس البحارة، فعرفت من عينيه أنه جان وقالت في نفسها: لقد عرفت الآن السبب في ما كان؛ فإنه أراد أن ينتقم لضربة السوط.
ثم مرت به وقد نظرت إليه نظرة المنتصر وعادت إلى منزلها. •••
إن من عادة المحاكم الإنكيزية البطء في القضايا الكبرى والجنايات العظيمة، ولكنها لا تتمهل في القضايا الصغرى، ولا سيما قضايا البوليس، وقد جرت على هذه القاعدة في محاكمة والد مس ألن.
ثم إن السير روبرت راعه ذلك الخطر الذي كان محدقا بربيبته، وكان قد أعد عدته لاتقائه من زمن بعيد فإنه حين اشترى توبسي من أبيها كان له بنت أخ يتيمة في الريف ماتت ولها عمر توبسي فأخذ أوراق ولادتها وكتم أمر موتها في لندرا، وأوهم الناس أن توبسي هي بنت أخيه، فكانت تلك الأوراق تثبت مدعاه.
ثم إنه كان يعرف رجلا من النور صناعته الوشم، وكان له عليه فضل، فأخذ منه دواء محا به أثر الوشم عن كتف توبسي.
فلما علم بما جرى لها مع أبيها ذهب إلى مجلس العموم - أي مجلس النواب - وهو عضو فيه، فبسط شكواه وقال: إن الأشراف بجملتهم قد أهينوا لإهانته، فكان ذلك باعثا إلى التعجيل بمقاضاة ناثائيل فحاكموه، وحكم عليه القاضي بأقصى درجات العقوبة، وهي الغرامة والجلد في محل عام.
فلما كان يوم التنفيذ ازدحم الناس في ساحة العقاب، وذهبت مس ألن على جوادها إلى تلك الساحة قبل موعد التنفيذ بنصف ساعة.
وكانوا قد بسطوا النطع فوق دكة عالية، ووقف الجلاد عليها، فلما رأت هذا المنظر الرهيب اصفر وجهها، ونسيت كل ما أساء إليها به أبوها في حداثتها.
ثم إن السير روبرت كان قد وعدها بأن يلتمس له العفو ولم يف بوعده، فجاءت إلى ساحة العقاب على رجاء أن تلتمس له العفو بنفسها حين يأتي به الجنود.
وكان الناس يتقاطرون من كل جهة، وقد غصت بهم الساحة على رحبها، واشتد جزع مس ألن، فأرادت أن تشغل نفسها، ورأت رجلا هنديا يعزف بالناي وامرأة هندية ترقص على عزفه، فدنت منهما كي تتلهى بهذا المشهد، وسمعت المرأة تنشد أناشيد هندية وهي ترقص.
فكانت هذه المرأة بارعة في الجمال وهي ترقص رقصا عجيبا شغل مس ألن عما هي فيه.
أما الهندية فإنها ما زالت ترقص حتى أنهكها التعب، فجلست متربعة على الأرض على الطريقة الشرقية، وأخذ الناس يلقون لها البنسات وغيرها من النقود الصغيرة.
ولكنها لم تكن تعبأ بشيء من ذلك، بل جعلت تنظر إلى السماء وقد شخصت إليها بحيث باتت شبه المأخوذة، وجعلت تتحدث باللغة الإنكليزية كأنها تناجي نفسها فتقول: أنا دابي ناتا ابنة الكهنة وحارسة كنز الإله سيوا، وأنا التي حكموا علي أن أعيش كل عمري في جوف الأرض لحراسة الكنز وإنارته بالنيران المقدسة، وأي كنز هو؟ فإن الذهب كان متكدسا كحب الرمال واللآلئ ، كأعشاب الحقول، فكنت أحرس هذا الكنز وأقول: أقدر لعيني أن لا ترى نور الشمس ولقلبي أن لا يعرف الحب. وفيما أنا على ذلك تجاسر رجل من الجنس الأبيض على الدخول إلي ومحادثتي بكلمات الحب.
فوضع رفيقها الهندي يده على كتفها يحاول منعها عن الكلام، ولكن مس ألن أعطته جنيهين، وأمرته أن يدعها تتكلم، فمضت في حديثها فقالت: إنه كان جميلا، وكنت أحبه، ولكن هذا الرجل كان خائنا؛ فإنه لم يكن يريد حبي، بل كان يريد اختلاس كنز الإله سيوا.
فقالت لها مس ألن: وماذا فعل هذا الرجل؟ أسرق الكنز؟
قالت: نعم. - كيف كان هذا الرجل؟ - إني حين عرفته كان لا يزال غلاما؛ فإن هذه الحادثة جرت منذ سبعة عشر عاما. - أحق ما تقولين؟ - نعم. فقد كانت عيناه تبرقان كالنجوم، وشفتاه كالقرمز، وأسنانه بيضاء كاللآلئ، وشعره أشد سوادا من الفحم. - أكنت تحبينه؟ - نعم بقدر ما أبغضه الآن؛ فإني ما اجتزت البحار وما برحت بلاد الشمس إلى بلاد الظلام إلا لعلمي أنه في أوربا، ولكن أوربا كبيرة؛ ولذلك فإني أبحث عنه منذ عشرة أعوام دون أن أراه.
وكانت مس ألن تسمع حديثها وقد خامرها ريب بسارق الكنز، وخطر لها خاطر بشأنه، فقالت لها: ماذا تصنعين إذا وجدته؟
فجردت الهندية خنجرا وقالت: إني طليت رأس هذا الخنجر بالسم، فمن أصيب به لا يشفى. - أين تقيمين في لندرا؟
فذهلت الهندية وقالت لها: لماذا تسألينني هذا السؤال؟ - لأني أظن بأني عرفت السارق.
فنهضت الهندية مسرعة، وأمسكت بلجام جواد مس ألن وقالت لها: بربك دليني عليه، ودعيني أراه لحظة واحدة أكن عبدة لك ما حييت، وإذا أردت قتلي بعد ذلك فقد وهبتك دمي. - قولي أين تقيمين؟ - في فندق القرن الذهبي في وينغ. - حسنا فسأراك.
وقد حاولت مس ألن أن تنصرف، ولكن الهندية حانت منها التفاتة إلى الناس المزدحمين فصاحت صيحة منكرة وقالت لمس ألن: انظري إلى هذا الرجل فإن له نظراته.
وقد دلتها على رجل كان يشق الزحام ويسير إلى مكان النطع، فرأت مس ألن رجلا بملابس البحارة، وهو الرجل نفسه الذي رأته يوم خروجها من إدارة البوليس، فقالت في نفسها: إني لم أكن مخطئة بظنوني؛ فإنه جان دي فرانس.
ثم همست في أذن الهندية قائلة: هذا هو بعينه، وقد عرفته حق العرفان.
فتركتها وهجمت تريد الوصول إليه فمنعتها شدة الزحام عن أن تخطو خطوة واحدة إلى الأمام، فجعلت تصيح قائلة: دعوني أمر؛ فهذا هو سارق الكنز.
ولم يكترث الناس لصياحها؛ إذ حسبوها مجنونة، ولبثوا شاخصين إلى النطع، فصاحت مس ألن صيحة رعب، وغطت وجهها بيديها، ولم تستطع أن تتقدم خطوة؛ فقد تلاصق الناس حتى باتوا كالبنيان المرصوص.
أما ناثائيل فقد جردوه من ملابسه العليا بحيث أصبح عاري الظهر، وربطوه إلى عمود، وأخذ الجلاد السوط، وانهال عليه بالجلد، فصاح في الجلدة الأولى، وأن في الثانية، واهتز في الثالثة حتى أوشك أن يكسر العمود، وفي العاشر تمزق جلده وسالت منه الدماء، فكان يصيح صياحا يقطع القلوب من الإشفاق.
وكانت كل ضربة تنفذ إلى قلب مس ألن نفاذ السهم؛ فقد نسيت كل شيء في تلك الساعة الرهيبة، ولم تعد تذكر إلا أن هذا الرجل الذي يتعذب إنما هو أبوها.
وفي الجلدة العشرين انقطع صياحه، وعاد إلى الأنين، وفي الثلاثين أغمي عليه، وانقلب رأسه إلى كتفه؛ فأمر المدير بالكف عن الجلد، ولم تعد مس ألن تستطيع الوقوف، فأقفلت بجوادها راجعة إلى جهة التيمس.
وقد نشقوا ناثائيل من المنبهات وعالجوا صدغيه بالخل حتى استفاق؛ فعاد الجلاد إلى ضربه فأغمي عليه مرة ثانية؛ فأمر المدير بمواصلة الضرب إذ لم يكن باقيا غير عشر جلدات.
فلما جلد آخر جلدة استفاق من إغمائه، وحلوا وثاقه فضم قبضتيه، وهدد بها الناس كأنهم هم الذين جلدوه؛ فهاج ثائرهم ونقموا عليه؛ لأنه لم يكن من عامة الشعب، بل كان معدودا من الأغنياء.
فلما أمره المدير أن يذهب إلى منزله ورأى ما كان من هياج الناس خاف منهم أكثر مما خاف من السياط، وخشي أن يجهزوا عليه على الطريقة الأميركية، فركع أمام المدير وقال له: أرجوك أن تأمر بإرجاعي إلى السجن.
قال: كلا. فإن ذلك غير ممكن.
وقد تركه الجلاد ونزل عن الدكة، وتجمهر الناس حوله كالذئاب ينتظرون الفريسة، وعند ذلك سمع صوت يقول: أفسحوا أفسحوا.
فصاح ناثائيل صيحة فرح؛ إذ رأى رجال قبيلته أقبلوا لنجدته وبينهم شمشون وجان.
فكان جان يحمل فأسا طويلا فكان يلوح به والناس يبتعدون عنه إلى أن حمل شمشون ناثائيل إلى مركبة كانت تنتظر، فوضعه فيها وصعد إليها مع جان، فسارت بهم، وقال جان لناثائيل: لا تجزع فسأنتقم لك.
وفي ذلك اليوم تنكرت مس ألن بزي صبيان البحارة، وذهبت إلى فندق القرن الذهبي، فجاءت بالهندية فأرشدتها إلى منزل جان، وقالت لها: هذا هو منزل سارق الكنز، وهو قوي شديد فلا تهاجميه مهاجمة؛ فإنك لا تقوين عليه، بل اكمني له كي تغتاليه اغتيالا.
قالت: ذلك من شأني، وإني لا أرجع عما قيدت به نفسي، فسأكون لك عبدة متى ظفرت بهذا الأثيم.
فانصرفت مس ألن وهي واثقة من فوز الهندية؛ فقد علمت أنها مجنونة وأن جنونها مقصور على الانتقام من ذلك الذي عبث بقلبها وسرق كنز إلهها. •••
كان الإنكليز في ذلك العهد أصحاب السيادة على قسم عظيم من البلاد الأمريكية قبل تحريرها واستقلالها.
وكان الأمريكيون قد كثر تمردهم واستفحل أمرهم، وثاروا على الإنكليز ثورتهم الكبرى، فلم يجدوا بدا من إرسال قوة إلى تلك البلاد لقمع ثورتهم.
وكان الملك قد انتدب المركيز روجر لهذه المهمة، فتأهب للرحيل، وأعدت الدولة السفن لنقل الجند، فسافر المركيز في طليعة جيش كثيف وصحبه ليونيل أخوه والسير جيمس ابن عمه.
وقد علم جان أن السير جيمس لم يتطوع في فرقة ابن عمه المركيز إلا على نية اغتياله؛ فإنه كان قد اعتزل الجندية لجبنه، فخاف جان على المركيز خوفا شديدا، وجمع أربعين من رجاله الأشداء، وأخبرهم بعزمه على اللحاق بالمركيز إلى أميركا، فوافقوه على رأيه، وأمرهم أن يذهبوا إلى باخرة كان قد استأجرها، فذهبوا إليها وبقي هو في المنزل مع شمشون لإعداد بعض المعدات.
حتى إذا فرغ من معداته خرج وفي أثره شمشون كي يذهبا إلى السفينة، ولكنه لم يتجاوز عتبة الباب حتى شعر بطعنة في بطنه، وسمع صوتا يقول: هذه يد الإله سيوا التي طعنتك أيها الأثيم.
وقد سقط جان بين يدي شمشون وهو يقول: إني أخاف أن يكون الجرح قاتلا فأسرع بي إلى السفينة؛ فإني أريد إصدار بعض الأوامر.
وكانت التي طعنته هذه الطعنة الهندية نفسها، ولم يتمكن شمشون من إدراكها لانشغاله بجان، فحمل سيده إلى السفينة، وأركنت الهندية إلى الفرار تصحبها مس ألن، وهي متنكرة بشكل غلام بحار.
وقد عادت مس ألن وهي تتنهد تنهد الارتياح لوثوقها من موت جان، ولكن الخنجر لم يكن مسموما كما توهمت، وقد عالج جرحه في السفينة فشفي قبل أن يصل إلى أميركا. •••
ولا نصف هنا ما كان من تلك الحرب الهائلة التي نشبت بين الإنكليز والأميركان، ولكنا نقول على سبيل الإيجاز إنها دامت ستة أشهر، وإن السير جيمس كاد لابن عمه المركيز عشر مرات، وكان - في كل مرة يتوهم أنه فاز بقصده - يرد كيده إلى نحره؛ فإن عين جان لم تكن تغفل عن المركيز إلى أن افتضح أمر السير جيمس، وعرف المركيز ذلك العدو الذي يكيد له في الظلام، فاكتفى بتحقيره أمام الضباط أو بطرده من الجيش وبإرسال تقرير ضاف عنه إلى الوزارة.
غير أن كل ذلك لم يرجع السير جيمس عن قصده الهائل، بل زاده حقدا على ابن عمه؛ فانضم إلى جيش العدو.
وكان يعرف منافذ القلعة التي كان المركيز يحاصر فيها، فاتفق مع أحد ضباط العدو على أن يدخلا إلى القلعة من ذلك المنفذ السري لينسفا بابها الأكبر من الداخل.
وقد اكتشف جان هذه المكيدة في آخر لحظة، ودخل السير جيمس إلى القلعة، وكاد يبلغ مراده من نسفها؛ فباغته مع المركيز وهو في ردهة مشرفة على البحر؛ فألقى بنفسه من فوق تلك الردهة من علو شاهق إلى البحر، وأطلق الاثنان عليه نارهما فلم يعلما إذا كانا قد أصاباه لشدة الظلام.
ولكنهما أتيا بمشعل وأطلا من الردهة فرأيا قاربا يسير مسرعا إلى جهة الأعداء، فلم يتبينا من فيه، فنزلا إلى البحر وبحثا فلم يجدا أثر الجثة.
وقد انقضت هذه الحرب بانتصار الإنكليز، وعاد المركيز بجيشه إلى لندرا، فجرى له استقبال حافل، وازدحم الناس يوم الاحتفال، وكان بين الجموع مركبة فيها سيدتان، وهما اللادي سيسل امرأة اللورد إسبرتهون وأم ليونيل - وهي تعتقد أيضا أنها أم المركيز - والثانية مس ألن.
وكان اللادي قد أتت لترى ولديها، غير أن الزحام كان شديدا بحيث لم تستطع المركبة أن تتقدم، فقالت اللادي لمس ألن: أرى أنه خير لنا أن نسير ماشيتين.
قالت: كلا يا سيدتي؛ فإني أخاف عليك من الزحام، وفوق ذلك فإن الموكب سيمر من هنا؛ فإذا وقفنا في المركبة رأينا من نريد أن نراهم.
وعند ذلك سمع صوت قرع الطبول مؤذنة بوصول الموكب، ودنت امرأة من المركبة فقالت لللادي: إنك إذا كنت أما يا سيدتي فأشفقي علي فإني أم، واسمحي لي أن أصعد إلى مركبتك عساي أن أرى ولدي بين القادمين.
فمدت اللادي يدها إليها فأعانتها على الصعود، وقالت لها: إنك لا بد أن تكوني بكيت كثيرا، ولكنك سترين ولدك فإنه سيعود. أليس كذلك؟
فارتعدت المرأة وقالت: نعم أيتها اللادي.
فهمست اللادي في أذن مس ألن قائلة: إنها لا شك أم جندي بسيط.
ولكن مس ألن لم تجبها، بل جعلت تنظر إلى تلك المرأة محدقة ثم تاهت في مهامه التفكير كأنها تريد إزالة النقاب عن تذكار بعيد.
وعادت اللادي فقالت للمرأة: إنك ستجدين من الهناء حين تضمينه إلى صدرك ما ينسيك ما لقيته من الشقاء أيام فراقه.
فلم تجبها المرأة، بل سالت دموعها، ثم جعلت تشهق بالبكاء.
وعند ذلك ضج الناس وعلت أصواتهم قائلين: هو ذا الموكب.
فوقف النسوة الثلاث في المركبة ومر بهن الموكب؛ فمر في طليعته على قيد عشرين خطوة منه فارس يحمل راية جعلها الرصاص شبه منخل واسودت من الدخان.
ثم ظهر الكولونيل روجر؛ فسار أمام الجيش وهو يبتسم وقد جرد حسامه وجعل يحيي الناس فيهتفون له هتافا يخرج من أفواههم كهزيم الرعود؛ فإن هذا القائد الجميل الذي قاد جيشا برمته لم يتجاوز عشرين عاما.
فلما رأته تلك المرأة المجهولة صاحت قائلة: يا لله ما أجملك.
ثم سقطت مغمى عليها في المركبة.
وعند ذلك أسرع رجل فاختطف المرأة من المركبة وسار بها وهو يقول: لقد فضحت أمرك، فما هذا الذي فعلته؟
أما مس ألن فإنها رأت ذلك الرجل فاتسعت حدقتاها من الانذهال وقالت: إنه هو بعينه، وكنت أحسبه من الأموات.
ثم أمسكت بذراع اللادي وقالت لها: أتعلمين من هي هذه المرأة؟
قالت: كلا.
قالت: إنها أم المركيز روجر دي إسبرتهون؛ فقد وثقت الآن أتم الوثوق.
أما المركيز فقد كان يسير وإلى جانبه ليونيل؛ فلما وصلا إلى المركبة صاح ليونيل قائلا: إنهما ...
فقال المركيز: من هما؟
وقد التفت فرأى مس ألن، فقال له: ليونيل إنها أمي وخطيبتي.
فاضطرب المركيز اضطرابا عنيفا وقال: ماذا تقول؟ إن الفتاة التي تحبها هي ...
قال: هي مس ألن.
فتوهجت عينا المركيز وغلى الدم النوري في عروقه، ونسي أنه كان يحب ليونيل شبه أخيه، فقال له بلهجة ملؤها الحقد: أأنت تحب مس ألن ... حسنا وأنا أحبها أيضا. •••
ولنعد الآن إلى جان؛ فإنه اختطف أخته سينتيا وسار مسرعا في مركبته إلى منزله.
وهناك عالجها حتى استفاقت فقال لها بصوت يتهدج من الحنو: ما هذا الذي فعلته يا أختي؟ أتريدين إهلاك ولدك ونحن قد سفكنا دمنا في سبيله؟! إننا ذهبنا أربعين رجلا في خدمته فعدنا ونحن لا نتجاوز أربعة عشر.
قالت: أواه يا أخي! إن عذابي شديد لا يدركه غير الأمهات؛ فإني ألقى أشد العذاب منذ ثمانية عشر عاما. أيكون لي ولد ولا يحق لي أن أراه وأقيم وإياه، بل لا يحق لي أن أقول له إنك ولدي. إنك لو أصبت بمثل نكبتي لأشفقت علي. - ولكن تمعني يا أختي، فماذا كان مصير ولدك لو بقي بجانبك أما كان نوريا فقيرا معدما مثلنا؛ فإني لولا طمعي بمرقاته لما تجاسرت على سرقة الكنز.
وهو بدلا من أن يكون شقيا شريدا أصبح غنيا شريفا وقائدا كبيرا ولوردا في مجلس الأعيان، وهو سيتزوج أشرف فتاة من الإنكليز، ويوقع الملك بخط يده على صك زواجه، وفي هذا المساء سيدعوه الملك إلى تقبيل يده ويتعشى وإياه على مائدة واحدة، فإلى أي مكان تريدين أن يرتقي بعد هذا الارتقاء؟!
فلم تجبه، واستمرت في بكائها، فقال لها: أتريدين الآن أن يقذفوا به من قمة المجد التي رفعناه إليها، فيسقط إلى حضيض الذل والهوان ويطردونه كما يطردون الخدم، فيقولون له: إنك لست المركيز روجر دي إسبرتهون، ولست ابن حاكم الهند الشرعي، بل أنت أميري النوري اللقيط الذي قضي على أهله أن يضربوا في الأرض أذلاء متشردين؟ ألا تعلمين أيتها المنكودة من هي هذه الفتاة التي كنت وإياها في المركبة؟
قالت: كلا.
قال: إنها ألد أعدائنا فهي مس ألن ربيبة السير روبرت، أي توبسي ابنة ناثائيل. أفهمت الآن؟
فأطرقت برأسها ولم تجب، فقال لها: لا أنكر أنك تتألمين لفراق ولدك، لكنك تتنعمين بفوزه الباهر واسمه الشريف، وإني أريد أن أزيد نعيمه فأزوجه بأشرف فتيات المملكة، ويكون له من السعادة ما لا ينال بالأماني والأحلام.
قالت: إني سأفعل ما تريده يا أخي. أتريد أن أبرح إنكلترا وأنفي نفسي في سبيل مجد ولدي؟
قال: كلا. إني لا أسألك هذه التضحية. وكل ما أريده منك هو أن لا تعرضي نفسك للافتضاح كما فعلت اليوم.
قالت: سيكون ما تريد.
قال: وإني أريد أيضا أن تقسمي لي أنهم إذا أكرهوك على الاعتراف بأن روجر دي إسبرتهون هو ولدك أن تتشجعي وتقولي كلا.
قالت: سأنكره إذا سألوني.
قال: إني أشعر بقلبي كأنه يكاد أن يخرج من صدري لسروره حين أفتكر بأن طائفتنا التي يحتقرها أولئك المتعجرفون منذ ستمائة عام أصبح لنا واحد منها يجلس في مجالسهم ويشاركهم في أحكامهم، ويأتي بأعقاب يفعلون فعله من بعده وأن كل هذا من صنعي.
وفيما هو يقول هذا القول خطرت له مس ألن، فبرقت عيناه بشعاع من الحقد وقال: إني سأسحق هذه الفتاة كما يسحقون إناء الزجاج.
ثم التفت إلى شمشون وقال له: هل وجدت الطبيب بولتون؟
قال: نعم يا سيدي، ولكن بعد العناء الشديد، وسيزورك عند الظهر. - هل عرفك؟ - كلا. - هل عرف أني متنكر باسم الناباب عثمان؟ - كلا، ولكنه ذكر أنه رآك مرة خارجا من قصر المركيز روجر. - إذن؛ فهو لا يعرف لماذا دعوته إلي. - إنه يتوهم بأنك مريض.
وعند ذلك سمع قرع الباب الخارجي فقال لأخته: إن الطارق هو الطبيب لا محالة، فدعيني أخلو به لأني أريد محادثته في شئون خطيرة.
فخرجت، وبعد هنيهة دخل الطبيب بولتون فقال له: إنك دعوتني إليك يا سيدي فمم تشكو؟
قال: لا أشكو شيئا، ولكن أريد محادثتك فإنك أقمت مدة طويلة في الهند. - اثني عشر عاما. - وكنت فيها طبيب اللورد إسبرتهون الخاص. وقد اتفق في ليلة أنك ذهبت إلى مضارب النور وأخذت منهم غلاما. - كلا. إن ذلك لم يكن. وأي شأن لي بالغلمان؟
فابتسم جان وقال: يسرني أن تكون كتوما، ولكنك لا تستطيع كتمان هذا السر عني، فانظر إلي. ألم تعرفني؟! فنظر إليه محدقا وقال: كلا.
قال: إذا كنت لا تذكر أنك أخذت ذلك الغلام، فإنك تذكر دون شك فتى جرحه أحد النور في كتفه وعالجته.
وكان الطبيب لا يزال شاخصا إلى جان، فلما سمع هذا القول الأخير قال له: ألعلك جان دي فرانس؟
قال: نعم. أنا هو.
قال: أنت ... أنت.
فخلع جان ملابسه العليا وكشف عن كتفه فإن أثر الجرح كان لا يزال باقيا.
فقال الطبيب: كفى كفى. فقد عرفتك حق العرفان.
قال: إني سأقص عليك في غير هذا المقام قصتي التي تشبه القصص الخرافية لغرابتها. وأما الآن فإني أريد أن أحدثك بشأنه. - ألا تعلم أنه عاد إلى لندرا؟ - كيف لا أعلم وأنا لم أفارقه لحظة، فأنا الذي أنقذته من الدب، وأنا الذي أنقذته عشر مرات من كيد ابن عمه هنا وفي أمريكا. - إذن فهو عارف بكل شيء. - بل إنه لا يعرف شيئا، وهو يعتقد أنه ابن اللورد إسبرتهون الشرعي، ولكن أعداءنا لم يموتوا كلهم، ولا يزال يوجد أثر هائل يفضح سرنا، وهو أن روجر موشوم بكتفه كسائر أبناء طائفتنا. - ولكن هذا الوشم لا يزول. - بل إنه يزول بدليل أن مس ألن قد أزالته، فاعلم أنه يوجد عندي سائل يعالجون به أثر الوشم أسبوعا فيزول، وهو عندي من عهد قديم فأخاف أن يكون قد فسد. - إني أمتحنه عندي فأعلم فساده من صلاحه، بقي أن تجد طريقة لمعالجة المركيز به، وكيف نعلل له وجود هذا الوشم على كتفه. - إني سأقص عليك حكاية ترويها له، والآن فخذ هذا السائل وافحصه فمتى تبين لك أمره عد إلي أخبرك بما يجب أن تفعل.
فأخذ الطبيب الزجاجة وانصرف، ونادى جان شمشون فقال له: هل استأجرت المنزل الذي كنت أوصيتك أن تستأجره لأختي؟
قال: نعم.
فدخل جان إلى أخته وقال لها: لا يجب أن تقيمي الآن هنا، فإني أخشى أن يكونوا عرفوك فيتخذونك سلاحا ضد ولدك، وقد استأجرت لك منزلا تقيمين فيه مع ابنة عمي اليبسي، فأزورك كل يوم متنكرا ولا يعلم أحد أين تقيمين.
ثم نادى شمشون فأمره أن يذهب بأخته إلى ذلك المنزل، وبعد ساعة لبس خير ما عنده من الملابس وذهب إلى نادي الحسان.
الفصل الخامس
دهاء النورية
كان من نظام نادي الحسان الذي ذهب إليه جان أن لا يكون أعضاؤه إلا من صباح الوجوه ومن أشراف الفتيان.
وكان المركيز روجر من أعضائه؛ فأعد له أعضاء النادي حفلة تكريم بمناسبة عودته وانتصاره.
غير أن المركيز كان منقبض الصدر لما علمه من مزاحمة ليونيل له في حبه، فذهب إلى النادي، وبعد انقضاء الحفلة قاموا إلى موائد اللعب، وعرض أحد أعضاء النادي على المركيز أن يلاعبه؛ فرضي بشرط أن يلعبا على مقادير كثيرة؛ فإنه أراد أن يشغل نفسه بالمقامرة عما هو فيه.
ولم يكن لديه في محفظته غير ألف جنيه أوراقا مالية فخسرها بمدة وجيزة، ثم لاعبه مالدن فخسر كل ثروته، ثم لاعبه على قصر من قصوره فخسره أيضا.
وهنا امتنعا عن اللعب وقد اسودت الدنيا في عيني المركيز؛ إذ خسر كل ثروته، وحاول أن يخرج من النادي، ولكن عثمان تصدى له فأدخله إلى قاعة معتزلة وقال له: انتظرني هنا إلى أن أعود إليك.
ثم ذهب إلى خصمه في المقامرة وقال له: إن المركيز يريد أن يتنازل لك عن القصر الذي كسبته منه، فتعال معي كي نكتب لك صك التنازل.
فدخل الرجل وهو لا يعلم ما يضمر له جان، فأقفل جان الباب من الداخل، وأشار إلى الرجل أن يجلس أمامه، ثم أخذ من جيبه دفتر حوالات فكتب حوالة بخمسين ألف جنيه على أحد المصارف الكبرى، وقال له: إني أريد أن آخذ بثأر صديقي المركيز، فهل لك أن تلاعبني على المبلغ الذي كسبته منه؟
قال: حبا وكرامة.
ثم أخرج من جيبه علبة سعوط، وأخذ منها شيئا ووضعها أمامه، فمد جان يده فأخذها وأراها للمركيز فقال: انظر إلى هذه العلبة الجميلة فإن فيها سرا دقيقا لا يعرفها إلا أنا وخصمك، وهو أنه كان يضعها بين يديه حين يعطيك الورق ويضغط على هذه اللؤلؤة الكائنة في وسط العلبة فتمثل محلها مرآة مسطحة ينظر إليها وهو يعطيك الورق فيرى ورقك إذ ينطبع رسمه عليها.
فاصفر وجه الرجل وقال: إني لا أستخدمها ولا هي تستخدم لمثل هذا الغرض.
قال: ربما كنت مخطئا، فهلم نلعب.
وقد أخذ جان الورق فخلطه ثم أعطاه ورقا، وأخذ لنفسه والعلبة بين يديه؛ فربح كل ما خسره المركيز.
وهنا غضب الرجل وقال: إنك تسرقني.
قال: نعم. إني سرقتك كما أنت سرقت المركيز، وكما كنت تسرق الناس منذ ثلاثة أعوام بهذه الحيلة الشائنة.
والآن. فإني آمرك بالخروج من النادي وأن لا تعود إليه إلا إذا كنت تؤثر أن تبيت في السجن.
وقد أخذ من أمامه الأوراق المالية التي كسبها من المركيز فاصفر وجه الرجل حتى صار كالأموات، وقال له: ولكن رد لي علبتي على الأقل.
قال: كلا. بل أبقيها عندي تذكارا منك، وخذ هذا الخاتم بدلا منها فهو يساوي ضعف ثمنها.
فأخذه الرجل وانصرف مسرعا خوف الفضيحة.
وكان الماركيز ينظر إليهما وهو شبه المأخوذ، فلما انصرف الرجل قال لجان: من أنت؟ فهل أرسلك الله إلي لتقيني مما يحدق بي من الأخطار؟
قال: إني أصدق الناس في خدمتك. - بل إنك مثال الصداقة وآية الإخلاص.
قال له بصوت يتهدج: هل تحبني؟
فعانقه عناقا طويلا وقال له: إني أحبك كما يحب الأخ أخاه. أما وقد وثقت الآن من حبي فقل لي من أنت.
قال: لا تسألني كشف سر لا أريد الإباحة به، فثق بي واعلم أني ساهر عليك. •••
في ذلك اليوم كان السير روبرت فالدن في منزله مع ربيبته مس ألن واللادي سيسل والدة ليونيل؛ فقد كانوا ينتظرونه.
وكان السير روبرت مطرقا يفكر، ثم وقف فقال في نفسه: لا بد من النهاية. وقال لربيبته: تعالي معي يا ابنتي إلى غرفتي؛ فإني أريد مباحثتك في بعض الشئون.
وقد تبعته فأقفل باب الغرفة وبدأ معها الحديث فقال: إنك بلغت الحادية والعشرين من عمرك يا ابنتي، وشهد الله أني أحببتك ولا أزال أحبك كأنك ابنتي، ولذلك لا أجد الآن بدا من أن أطلعك على أسرار لا يجمل إخفاؤها عنك بعد أن بلغت سن الرشاد.
قالت: ثق إني سأحتفظ بهذه الأسرار.
قال: إنه منذ سبعة عشر عاما جاءت المركيزة دي إسبرتهون، أي اللادي سيسل تسألني أن أسديها نصيحة، فإنها افترقت عن زوجها وهي في عنفوان شبابها فتعين زوجها حاكما للهند وذهبت هي إلى إيكوسيا، فاختبأت فيها هربا من غيرة زوجها وعنفه.
وكان لها ولدان بقي الكبير عند أبيه والثاني عندها، فأوهمت زوجها وهي بعيدة عنه أن هذا الولد قد مات؛ إذ كانت تخشى أن يأخذه منها يوما على سبيل الانتقام؛ لأنه مات منذ ثلاثة أعوام وهو يعتقد أن ذلك الولد لم يكن من دمه، والله يشهد أن امرأته كانت من أعف النساء وأشرف الزوجات.
فتكلفت مس ألن الدهشة وقالت: كيف ذلك أللمركيز روجر أخ؟ - نعم يا ابنتي. - وهو يجهل ذلك؟ - نعم. - أين هذا الأخ؟ ومن هو؟ - هو الذي سيزورنا بعد ساعة؛ فإن اللادي سيسل كتمت نسبه حتى عنه. - رباه ماذا أسمع أهو ليونيل؟ - نعم. إنه ليونيل. هو أخو المركيز روجر. - ولكن اللورد إسبرتهون مات منذ ثلاثة أعوام، ولم تعد اللادي سيسل تخاف عنفه، فلماذا لم تظهر أمرها، ولماذا لم تذهب إلى ولدها البكر؟ - أنا الذي أخبرتها بموت زوجها، وكنت أعتقد ساعتئذ أنها ستذهب من فورها إلى قصر إسبرتهون، ولكنني كنت واهما؛ فإنها قالت لي: إن شرائع أشراف الإنكليز شديدة العنف، فهي تمنح كل أموال العائلة وامتيازاتها للابن البكر وتحرم سائر إخوته من كل حق، وهذا هو السبب من تمكن الحقد من أبناء الأسرات الشريفة. ألا تذكر ما كان بين السير جاك وبين أخيه زوجي؟
أما ولدي ليونيل، فهو يعتقد أنه ابن ضابط لا ثروة له، ومع ذلك فهو سعيد. أتحسب أنه يكون سعيدا حين يعلم حقيقة نسبه ويرى نفسه محروما من كل حق؟
فقلت لها: وابنك البكر الذي لم يعرف أمه؟
قالت: يكفيني أنه سعيد. وإني لا أضيف شيئا إلى هنائه إذا عرفته بنفسي وبأخيه، وفوق ذلك فلا شك أن أباه علمه أن يحتقرني.
وقد رأيت أنها مصيبة فيما ارتأته؛ فإنها قد تبذر بذور العداء بين الأخوين، وهما سعيدان، فوافقتها على رأيها.
وتوالت الأعوام إلى أن شببت وشب ليونيل؛ فرعبت يوما إذ رأيت أنه يحبك.
ورجائي يا ابنتي أن لا تؤاخذيني لقول ينكره قلبي وتفضي بقوله واجباتي، وهو أن الأشراف عندنا متضامنون متساوون لا فرق بين الشفاليه والدوق في هذا التضامن، وإني قد وهبتك قلبي وثروتي، ودعوتك ابنة أخي، ولكن ضميري كان يؤنبني ويقول: أيمكن أن تأذن لتوبسي النورية بالزواج من نبيل وأنت من النبلاء دون أن تكون من المذنبين؟
ولذلك ذهبت إلى اللادي سيسل فاعترفت لها بالحقيقة؛ فابتسمت إلي وقالت: إنك قد تكون مصيبا لو كان ليونيل سيعرف يوما أنه ابن اللورد إسبرتهون، ولكنه سيجهل سر مولده مدى حياته ويعتقد أنه ابن ضابط فقير؛ فإذا كان ذلك فلماذا نحول دون سعادته وهو يحبها؟
فأقنعتني حجتها، وبدأت أعود نفسي على أن أراك يوما زوجة ليونيل.
إلى أن جاء يوم خيل لي فيه أني اكتشفت سر قلبك، وعلمت أنك لا تحبين ليونيل بل المركيز روجر.
فتنهدت مس ألن تنهدا طويلا، وأخذ يدها برفق فقال لها: أصغي إلي يا ابنتي؛ فإنك ما زلت لا تحبين ليونيل؛ فإن التضحية التي سألتك إياها ليست عظيمة، وهي أنه يجب عليك أن تبعدي عنك ليونيل وتعينيه على شقائه.
قالت: ولكنك دعوتني إلى أن أفتكر بأني سأكون امرأته. - هو ذاك يا ابنتي، غير أن ذلك حدث حين كنت أتوهم أن ليونيل سيجهل سر مولده مدى حياته. - ألعله علمه؟
فأجابها بلهجة تدل على أنه يكتم سرا، فقال: إنه قد يعلمه، وقد يجيء يوم يرد فيه المركيز ثروته وأتعابه إلى ليونيل، وذلك يسهل عقد زواجك بروجر الذي تحبينه.
قالت: إذا كان ذلك، فثق أنه لا يمضي شهر حتى يصبح ليونيل لا يفتكر بي.
وبعد هنيهة خلت مس ألن في غرفتها، وكتبت إلى ليونيل ما يأتي:
إنك إذا كنت تحبني حقيقة أيها الحبيب وكان هذا الفراق لم ينسك من تحب فافعل ما أطلبه إليك.
إننا سنجتمع بحضور أمك وعمي، وستجد مني فتورا في مقابلتك لم تتعوده، فلا تحزن فإني أحبك، ولكن هناك أسبابا تقضي علي أن أتكلف هذا الفتور حرصا على هنائنا.
ورجائي أن تكون هذه الكلمة كافية لاطمئنانك؛ فإني أحبك بملء جوارحي، وستقف قريبا على الحقيقة.
ألن 2م
وقد أرسلت هذه الرسالة مع خادم إلى الثكنة التي يقيم فيها ليونيل، وعادت إلى غرفتها وهي تقول: لا بد لواحد منهما أن يكون زوجي، ولكني لا أتزوج إلا من كان منهما مركيزا. مسكين عمي فقد توهم أني أحب ...
ثم وضعت رأسها بين يديها، وخاضت في عباب التأملات، كأنها قائد يضع خطة معركة. •••
بينما كانت هذه الحوادث تجري كان الملك قد فرغ من استعراض فرقة المركيز، فدنا ليونيل من المركيز وقال له: أتأذن لي أيها الكولونيل أن أذهب الآن فأرى أمي؟
فارتعش، ونظر إليه نظرة منكرة؛ فإن الغيرة كانت قد عضت قلبه ومحت بلحظة كل آثار الصداقة، حتى إنه ندم وحاول أن يمد يده إليه ليصافحه ويعتذر ، ولكن مثال ألن مر بخاطره في تلك اللحظة، فشعر أن قلبه قد التهب وأدار وجهه كي يخفي غضبه، وأجابه قائلا: اذهب.
فحياه ليونيل التحية العسكرية وانصرف، ولكنه لم يسر خطوتين حتى رجع فنظر إليه المركيز نظرة استكبار وقال له: ماذا تريد؟
قال: ألتمس أن تأذن لي بمقابلة وجيزة.
قال: لا فائدة من ذلك.
ثم أعرض عنه وبقي ليونيل وحده وهو يحدث نفسه فيقول: ترى هل أسأت إلى المركيز وأنا لا أعلم؟
وعند ذلك دنا منه أحد الجنود وقال له: لقد وردتك هذه الرسالة يا سيدي حين كنت مشتغلا بالاستعراض.
فأخذ الرسالة وتلاها فزادت هواجسه وقال: رباه ماذا حدث؟ إن المركيز يكرهني الآن بقدر ما كان يحبني، وقال لي اليوم إنه يحب ألن، فلو تخير عمها بيني وبين المركيز لما فضلني عليه لا محالة.
وقد ذهب واليأس ملء قلبه إلى منزل السير روبرت، حيث لقي أمه وألن، فاستقبلته ألن استقبالا فاترا كاد يذهب بعقله لو لم تنظر إليه نظرة مفادها تذكر ما كتبته لك فاطمأن.
وقد قام بينهم إلى الساعة العاشرة، فقام يريد العودة إلى الثكنة، وأوصلته إلى الباب فوضعت في جيبه مفتاحا وقالت له: عد حالا من باب الحديقة فلي ما أقوله لك.
فذهب وقلبه موعب بالفرح والرجاء.
وبعد انصرافه قال السير روبرت لربيبته: لقد أحسنت يا ابنتي، وإني راض عنك.
قالت: مسكين ليونيل؛ إنه يتعذب كثيرا.
فتنهد وقال: هو ذاك، ولكنه سيتعزى يوما حين يغدو في مصاف اللوردية.
وكانت اللادي قد دخلت إلى مخدعها وخلا المكان لروبرت وربيبته، فقالت له: أتأذن لي يا عماه أن أسألك سؤالا؟ - سلي. - كيف تفترض أن المركيز روجر يتنازل بالرضى؟ أم يكون ذلك بالاغتصاب؟ - بل بإرجاع الشيء لصاحبه.
فتكلفت البساطة كأنها غير عالمة بشيء وقالت: إني لا أرى سببا يحمل ابن اللورد إسبرتهون البكر على إرجاع أمواله لأخيه الأصغر. - سأوضح لك هذا الإبهام بعد ثلاثة أيام.
ثم قبل جبينها، ودخل إلى مخدعه بعد أن أوصاها أن تدخل إلى مخدعها، فأوهمته أنها امتثلت فدخلت إلى غرفتها وخرجت من باب آخر إلى الحديقة، فوجدت ليونيل ينتظرها هناك.
وقد ركع حين رآها؛ فأنهضته بيدها وقالت له: تعال نجلس تحت هذه الخيمة.
قال: يا لله كم أنت مضطربة أيتها الحبيبة.
ولكن اضطرابه كان أشد، حتى إنها كانت تسمع خفوق قلبه، فأجلسته بجانبها وأخذت يده بين يديها فقالت: أيها الحبيب يجب أن تثق بي.
قال: ماذا تعنين؟ - أريد قبل كل شيء أن تقسم لي يمينا. - على ماذا؟ - على أن تكتم ما سأقوله لك عن أمك. - إني أعاهدك على الكتمان وأقسم لك. - إذن؛ فاعلم أن عمي يريد تزويجي. - رباه ماذا أسمع؟ - اطمئن يا ليونيل؛ فإنه طامع أن يزوجني رجلا من كبار النبلاء، ولا بد لي اتقاء لغضبه أن أتظاهر بالموافقة على مشروعه. - وإذا وافقت إلى النهاية، فما يكون مصيري؟ - أيها الناكر الجميل! ألم أقل لك إني أحبك. إني أقسم لك بأن لا أتزوج سواك.
فصاح صيحة فزع. فقالت له: اسكت؛ فإن عمي لم ينم بعد؛ فإذا انتبه لنا قضى على آمالنا وذهبت أدراج الرياح. - ولكن ما هو هذا الخطر الذي يتهددنا؟ - لا أستطيع أن أقول لك شيئا الآن. - وأنا أعرف أن هذا الرجل الذي يريدون أن يزوجوك به هو المركيز روجر. أليس كذلك؟ - نعم هذا هو. ولكن كيف عرفت ذلك؟
فحكى لها ما كان بينه وبين المركيز، فابتسمت ابتسام واثقة من فوزها القريب وقالت: أصغ إلي فإني أقسم لك أني سأكون امرأتك قبل ثلاثة أشهر، ولكن بشرط. - ما هو هذا الشرط؟ - أن تطيعني. - مري أطع. - إن أمك قد استأجرت منزلا بجوار منزلنا فستقيم وإياها فيه ولا تزورنا إلا في النادر، وأبق هذا المفتاح عندك، فتعال كل يوم عند انتصاف الليل فنجتمع في هذه الحديقة، واحذر أن تخاصم المركيز. - وا أسفاه! إني كنت أحبه كأخي.
وقد أقاما نحو ساعتين يجددان العهود ثم افترقا بعد أن تواعدا على اللقاء في الغد.
وعادت إلى غرفتها وهي تقول في نفسها: إن السير روبرت عمي العزيز سيكون له مني خير مساعد على كشف سر المركيز ، ولكنه يريد أن يستقل بالعمل.
وعند ذلك خطر لها الناباب عثمان، فاضطربت وقالت: إن هذا الرجل وحده يستطيع إحباط آمالي فلا أخشى السير روبرت ولا المركيز روجر لأكون يوما مركيزة، ولكني أخاف جان دي فرانس. •••
وفي اليوم التالي كان المركيز روجر جالسا في غرفته وهو في أشد حالات الاضطراب؛ فقد كان مفتونا بحب ألن مع أنه لم يبح لها بغرامه إلى الآن.
وكانت تتمثل له في كل سبيل، حتى إنه كان يذكرها وهو يقاتل الأعداء، فلما علم أنها خطيبة ليونيل شعر أن قلبه قد انسحق، فكان يجول في غرفته كما يجول الأسد السجين في قفصه.
وكان يهيج في عروقه الدم النوري حتى يتغلب أحيانا على تربيته الإنكليزية، فيتهم نفسه بالجبن لأنه لم يخاصم ليونيل فيبارزه ويقتله.
ثم يعود إليه هداه وتهيج في صدره عوامل الكرم التي فطر عليها، فيفتكر أن ليونيل كان صديقه، وأنه كان يحبه كأخ، فيلعن ذلك الحب الذي ابتلي به، ويعاهد نفسه على إخماد لهيبه بالصبر وتضحية هنائه في سبيل صديقه.
ثم يعود إلى الهياج فينسى كل هذه العواطف الكريمة، ويعجب كيف أن ليونيل لم يأت إليه ويسأله الإيضاح عن مقابلته الجافية، وأين له أن يعلم أن ألن منعته عن مخاصمته؟
وما زال يتغلب على هذا العذاب إلى أن خطر له أن يزور السير روبرت، فكتب إليه ما يأتي:
إن المركيز دي إسبرتهون يتشرف بأن يطلب إلى السير روبرت فالدن مقابلته، ويرجوه أن ينوب عنه بتقديم احترامه لابنة أخيه.
وقد أرسل هذه الرسالة مع رسول، فعاد إليه برسالة من السير روبرت تتضمن ما يأتي:
إن السير روبرت فالدن يقدم للورد إسبرتهون تحياته واحترامه، ويأسف أنه لا يستطيع استقباله لاعتلال طرأ على صحته.
فمزق المركيز الرسالة وهو يتميز من الغيظ، وأطلق سراح الخادم.
وعند ذلك سمع صوت مطرقة على الباب الخارجي، فأطل من النافذة كي يرى الطارق وهو يرجو أن يكون السير روبرت أرسل إليه رسالة أخرى.
ولكنه رأى امرأة مقنعة دخلت من الباب إلى الردهة، وبعد هنيهة دخل إليه خادمه برقعة زيارة هذه المرأة التي لم يكن مكتوبا عليها غير الحرف الأول من اسمها وهو أ.
فأمر بإدخال الزائرة إليه، وكان قناعها كثيفا فلم يتبين وجهها، ولكنه علم من خفوق قلبه أنها مس ألن.
وقد أصاب حديث قلبه؛ فقد أيقن أنها هي نفسها حين سألته بصوتها الرخيم قائلة: أتأذن لي يا سيدي المركيز بمقابلة وجيزة؟
فأخذ بيدها وهو يرتجف من الفرح وأجلسها على كرسي جانب المستوقد، فكشفت القناع عن وجهها وقال لها كأنه كان خائفا أن يكون حالما: أهذا أنت؟
وكان وجهها مصفرا وأثر الدموع لا يزال ظاهرا في عينيها، فأجابته قائلة: نعم أنا هي. فقد أتيت دون أن يراني أحد لألجأ إليك. - أأنت تلجئين إلي؟ - لا تتسرع يا سيدي المركيز قبل أن تسمع حديثي بالحكم علي. - أأنا أحكم عليك؟ إنك شديدة القسوة يا مس ألن.
فأطرقت برأسها ووضعت يدها على عينيها وقالت بصوت ضعيف كأنها تصلي: إني أتيت إليك يا سيدي المركيز متوسلة؛ فعاملني بالرحمة وأشفق على أتعس امرأة في الوجود. - أأنت تاعسة؟ أأنت تتوسلين؟ إني أخاف أن يكون الحزن دخل صوابي فلا أفهم ما تقولين.
فنظرت إليه بعينين تبرقان كالماس الأسود وقالت له بصوت يتهدج: إن السير روبرت يريد تزويجي. - بليونيل؟ - نعم. وقد وعده عمي بالزواج فجاء أمس يطالبه بتحقيق الوعد. - أواه. لقد علمت الآن السبب بقدومك إلي فإنك أتيت تتوسلين أن لا أبارزه وأنت خائفة على حياة من تحبين.
فرفعت عينيها إلى السماء وقالت: حياة من أحبه؟ - نعم حياة الذي سيكون زوجك. - ولكن إن هذا الزواج لا يطول؛ فإن الله سيشفق علي ويدعوني إليه. - رباه ماذا أسمع ألا تحبين ليونيل؟ - إني أحبه حب أخ، وهذا كل حبي.
فركع المركيز أمامها، وقد شعر أن السماء فتحت له أبواب النعيم وقال لها: أقسمي لي أنك لا تحاولين خديعتي. - أقسم. - إذن أنت لا تحبين ليونيل؟ - أكنت هنا لو كنت أحبه؟ - إذن. لقد أتيت تسأليني أن أسعى لنقض هذا الزواج. أليس كذلك؟ - لا فائدة من مسعاك، فقل لي أتثق بي؟ - كما أثق بأمي لو كان لي أم. - إذا كان ذلك، فإني أسألك أن تقسم لي يمينا كما سألتني. - ماذا تريدين أن أقسم؟ - أقسم لي أن تثق بإخلاصي ثقة لا حد لها، وأنك تفعل كل ما أطلبه إليك. - إن قلبي لك.
فمدت له يدها، وابتسمت ابتسامة فتنت عقله، ثم قالت: أما وقد وثقت الآن أنك تحبني فسأعرف كيف أدافع عن هنائنا ومستقبلنا.
وقد نهضت تحاول الانصراف، فسمعت من خارج الغرفة صوتا يقول: لا حاجة إلى الاستئذان فإني أدخل دونه.
فأسرع المركيز فأقفل الباب من الداخل وهو يقول: هو ذا الطبيب بولتون.
فذعرت ألن وقالت: بولتون ... إنه سيفضح أمري إذا وجدني هنا، فأزاح المركيز ستارة عن باب آخر في الغرفة وقال لها: إن هذا الباب يؤدي إلى الحديقة فاذهبي أيتها الحبيبة؛ فقد رددت الحياة إلي.
وكان الطبيب لا يزال يناضل الخدم عند الباب ففتح المركيز الباب ودخل الطبيب وهو يقول: لقد كنت أحسب أني أحاصر حصنا؛ فقد أصبحت غرفتك شبه قلعة.
فقال له المركيز: إني كنت نائما على الكرسي فلم أسمع صوتك؛ فاعذرني أيها الصديق.
ثم مد له يده وصافحه، فجلس الطبيب بجانبه، وجعل يتفرس بوجهه بإعجاب ويقول: لقد صدق من قال إن الأسفار تحيي نضارة الشباب؛ فإني أرى إله الجمال ممثلا في المركيز روجر.
قال: ولكني عاتب عليك؛ فقد كنت أرجو أن أراك ساعة عودتي.
قال: لم يشغلني عن زيارتك شاغل، ولكني صبرت إلى أن تنتهي الحفلات الرسمية.
وقد طالما خطر لي أن أتبعك إلى أميركا، ولكن الشياطين ملأت كل جيوبي فلم تتسع لسواها.
إذا كان قد أعوزك المال فلماذا لم تطلبه من وكيلي؟ فحك أذنه وقال وهو يبتسم: لقد فعلت فأعطاني، ولكن النقود التي أعطاني إياها كانت أسرع مني في السير، فلما جاء موعد السفر وجدت أنها سبقتني. - إلى أين؟ - إلى الخمارة.
فضحك المركيز وقال: إنكم معشر الأطباء تنهون عن الخمر وتشربونها.
قال: إن الطبيب يصف الدواء، ولكنه لا يشربه.
ثم أخرج من جيبه زجاجة صغيرة فوضعها على المستوقد وقال: لنبدأ بالترتيب.
قال: ما هذا؟ - دواء عجيب. - لا أظن أنه لي فإني في أتم عافية. - هو ذاك. فإنك في عافية أتمنى لك دوامها ومع ذلك فإني أحضرت هذا العلاج خصيصا لك. - كيف ذلك؟
فتكلف الطبيب هيئة الجد وقال له: إني أتيت إليك أيها المركيز لمباحثتك في شئون خطيرة؛ فابتسم المركيز وقال له ممازحا: إنه إذا كانت حكاياتك خفية كدوائك فإني سأرتعد من الرعب. - إن الحكاية تبدأ منذ سبعة عشر عاما. - إذن إنها من حكايات العهد القديم. - كلا أيها المركيز، فإنك أخص رجال حوادثها. - إذن قصها علي فقد بدأت أهتم لها. - إن حوادثها جرت في كلكوتا عاصمة الهند في عهد اللورد أبيك، فقد دخل رجلان في ليلة حالكة الأديم إلى سراي أبيك وسرقا منها غلاما. - من هما؟ - من طائفة النور. - من كان الغلام؟ - أنت. - يظهر أنهما لم ينجحا فإني أمامك. - بل إنهما نجحا؛ فإنه حين أشرقت الشمس كنت في مضارب النور على قيد ست مراحل من قصر أبيك. - إنها حكاية غريبة. - ولكنها أكيدة. - غير أنه لم يذكرها لي أحد قبلك. - لأنه لم يكن يعرف هذا السر غير ثلاثة، وهم العبد الذي كان ساهرا عليك حين رقادك وأبوك وأنا، وقد مات أبوك والعبد فلم يبق غير أنا من الواقفين على هذا السر. - لكن أي غرض للنور من اختطافي؟ - إنهم كانوا يريدون إبقاءك عندهم رهينة كي يساوموا بك على افتدائك بمبلغ عظيم. - أفعلوه لمجرد الكسب؟ - بل للانتقام أيضا؛ فإن أباك كان قد طردهم من كلكوتا، وفي الليلة التالية دخل اثنان إلى الخيمة التي كنت مسجونا فيها وهما مسلحان فتمكنا من إنقاذك، وكان هذان الرجلان أباك وأنا، ولكن النور كانوا قد وشموا كتفك الأيسر بعلامة طائفتهم. - أهي هذه العلامة الزرقاء التي أراها على كتفي ولا أعلم كيف أتت؟ - نعم هي هذه العلامة التي طالما اضطرب لها أبوك؛ إذ كان يخشى أن يجيء يوم يحسبون فيه أن المركيز روجر دي إسبرتهون نوري.
فوقف المركيز منذعرا وقد نظر إلى الباب الذي خرجت منه مس ألن فلم تخف هذه النظرة على الطبيب، ولكنه كان قد اندفع في الحديث ولم يجد بدا من إتمامه، فقال: نعم إن هذا الخاطر كان يعذب أباك، حتى إنه جرب جميع أدوية الهند لإزالة هذا الوشم فلم يتمكن من إزالته. - ما هذا الخاطر الغريب؟ ومن الذي يجسر على الشك بنسبي؟ - ألا تعلم أن من كان له نبلك وثروتك يكثر حاسدوه؟ - ربما، ولكن ما العمل وهذا الوشم لا يزول؟
فقال له بصوت منخفض: إني أبحث منذ عشرين عاما عن دواء يزيله فلم أهتد إليه إلا منذ يومين. - إذا كان ذلك أيها الصديق فهلم وجربه بي فإن الهزء والفضيحة لا يجب أن ينالا أمثالي. - إذن سأزورك في كل ليلة ساعة رقادك وأستعمل هذا الدواء، ورجائي أن يزول الوشم في مدة أسبوع فلا يبقى له أثر. - على الرحب، فتعال للعشاء معي في كل مساء، وسنبدأ من هذه الليلة.
والآن أرجوك أن تدعني وحدي هنيهة في هذه القاعة؛ فإن لدي أوامر مستعجلة أريد إصدارها.
فوضع الطبيب الزجاجة في جبيه وقال له: وأنا أيضا مضطر إلى الانصراف لعيادة مريض في هذا الشارع. - اذهب أيها الصديق وعد بعد ساعة؛ فإني أنتظرك. فخرج بولتون حتى إذا وصل إلى ردهة القصر أخرج من جيبه قفازا كان قد لقيه على الكرسي الذي كان جالسا عليه ونظر فيه فوجده قفاز امرأة فضرب الأرض برجليه مغضبا وقال: لقد عرفت الآن ما هي هذه الأوامر التي يريد إصدارها.
وقد خرج من القصر فلم يسر بضع خطوات حتى وقف إذ وجد مركبة تنتظر على بعد عشرين خطوة من باب القصر.
وكأنما قد رابه أمرها فالتف بوشاحه ووقف وراء أحد الأبواب دون أن يراه أحد.
وبعد هنيهة رأى امرأة مقنعة خرجت من باب الحديقة؛ فصعدت إلى المركبة وأمرت السائق بالمسير.
فأسرع في أثرها وهو يقول في نفسه: ليتعشى روجر هذه الليلة وحده فإني أريد أن أعرف من هي هذه المرأة التي سمعت الحديث الذي قصصته على المركيز.
أما المركيز فإنه لم يكد يخرج الطبيب من عنده حتى أسرع إلى الباب الذي خرجت منه ألن فرآها تجتاز الحديقة.
وأما ألن فإنها حين باتت في مركبتها جعلت تبتسم ابتسام الظافر وتقول في نفسها: لقد أصاب من قال إن للنور إلها يرعاهم؛ فإن هذا الطبيب قد خدمني خدمة جليلة سأكافئه عليها متى جاء وقت المكافآت.
أما الآن فسأخير جان دي فرانس بين الحرب والسلم فإذا خدمني سالمته، وإذا اعترضني فيما أريده أشهرت عليه حربا عوانا أكون الظافرة فيها؛ فقد تسلحت الآن بأمضى سلاح.
وبعد نصف ساعة وقفت مركبة مس ألن عند باب منزل السير روبرت، وكان الطبيب في أثرها فعرف من هي هذه المرأة التي كانت محنة المركيز.
ولم يكن السير روبرت في المنزل؛ فدخلت إلى غرفتها وكتبت هذه الرسالة:
إن توبسي تريد أن ترى جان دي فرانس، وقد عينت له موعد المقابلة الساعة العاشرة من هذه الليلة في دليتفورد.
وقد غيرت نسق خطها كي تستطيع إنكاره عند الافتضاح، ووضعت الرسالة في غلاف كتب عليه هذا العنوان:
إلى الشريف الناباب عثمان
في بيكاديلي
ثم أسندت كوعها إلى المنضدة وجعلت تبتسم وتقول: أليس من المضحكات أن يكون اثنان من النور في مقدمة أشراف الإنكليز؟
الفصل السادس
دهاء النساء
عندما وصلت رسالة ألن إلى جان كان يتداول مع الطبيب بولتون، فكان جان يقول له: هل أنت واثق من أن هذه المرأة كانت مس ألن؟
قال: كل الثقة. ألم أقل لك أني قفوت أثر مركبتها؟
فقطب جان حاجبيه وقال: أتعلم أن روجر متوله بحبها؟
قال: لا أعجب من ذلك، فهي جميلة طماعة تريد أن تدعى مركيزة.
قال: ولكني أنا لا أريد. وهذا لا يكون، وأنا أعلم أن توبسي خصم لا يهزأ به؛ فإن لها ميلا فطريا إلى الشر، ولها جرأة وصبر شديد وإرادة لا تغلب، فإذا ظفرت بي فهي لا ترحمني، وفوق ذلك فإنها تسلطت على السير روبرت فلا يعمل إلا بإرادتها.
قال: ولكني أخاف أن تكون نصبت لك فخا في هذه الرسالة.
فابتسم ابتسامة احتقار وقال: إن خنجرها لا يصل إلي هذه المرة. - إذن ستذهب إلى حيث دعتك؟ - دون شك إني ذاهب من فوري.
ثم نادى شمشون وقال: أخبر اليبسي أن تتأهب؛ فإنها تكون في مأمن على ظهر السفينة، ثم اذهب بها في قاربي وانتظرني في النهر إلى أن آتي إليك.
فذهب شمشون مسرعا وسأل الطبيب جان قائلا: من هي اليبسي هذه؟
قال: إنها المرأة التي تستحق أن تحب، فإنها مثال الخير كما أن توبسي مثال الشر. - أرى أنك تحبها من تهدج صوتك. - هو ذاك؛ فإني أحبها أصدق حب.
وقد نظر عند ذلك في ساعته وقال: لقد بلغت الساعة الثامنة وإن روجر ينتظرك للعشاء أيها الصديق.
قال: إني ذاهب إليه، وسأعود إليك مساء غد فأخبرك بنتيجة الدواء.
وبعد انصراف الطبيب تنكر جان بملابس نوتي وذهب إلى النهر فوجد أخته وشمشون ينتظرانه في القارب.
وقد صعد إليه فسأله شمشون إلى أين تريد أن تذهب؟
قال: إلى الباخرة فولر ثم إلى ريشفورد.
فقالت له أخته: دعني أصحبك يا جان إلى حيث أنت ذاهب فأنتظرك مع شمشون في القارب.
لماذا تريدين أن تصحبيني؟
لأني خائفة؛ فقد حلمت أمس حلما مخيفا.
إذا كنت تعتقدين بالأحلام فهلمي معي، ولكن لا تخشي علي، ثم أمر شمشون فدفع القارب إلى جهة ريشفورد.
وكانت ألن قد سبقته إلى الموعد، ووقفت في ردهة المنزل تنظر إلى النهر في تلك الليلة المقمرة فرأت جان قد خرج منه إلى الشاطئ، ورأت أن القارب لا يزال واقفا وفيه رجل وامرأة.
وقد دخل جان إليها فاستقبلته بملء البشاشة وقالت له: أشكرك لإسراعك بتلبية دعوتي.
فانحنى أمامها، وأشارت له أن يجلس على كرسي بجانبها.
فقالت له: إنك تعلم يا عدوي العزيز أني ما دعوتك إلى مقابلتي إلا وقد عقدنا هدنة، فلا خوف عليك من خيانة ما زلت عندي.
قال: وأنا رضيت عقد الهدنة فلا خوف عليك من انتقامي.
والآن، فهل لك أن تخبريني عن سبب تشريفك إياي بهذه المقابلة؟
قالت: دون شك؛ فإني ما دعوتك إلا لأقترح عليك عقد الصلح؛ فقد رأيت أننا كفآن متوازنان ؛ فأية فائدة من العداء؟
قال: هو ذاك، وإني راض بالصلح. - إن هدية العلبة التي أرسلها إلي ناثائيل دلتني على أنك عدو مخيف، ولكن نتيجة هذه الحادثة دلتك أيضا على أني لم أكن مغلوبة، وفوق ذلك فقد رجحت عليك بتلك الطعنة التي أصابتك بها الهندية. - تريدين أن تقولي إنك التي طعنتني؛ إذ أنت التي أرشدتها إلي؟ - هو ذاك، وإني بهذه المناسبة أريد أن أسألك عن أمر أشكل علي. - أتريدين أن تعلمي كيف نجوت؟ - نعم. - الأمر بسيط؛ فقد كنت واهمة باعتقادك أن الخنجر مسموم، وذلك أن الهندي الذي يصحب الهندية كان يعلم أنها مجنونة فأبدل خنجرها المسموم بخنجر عادي فلم يقتلني الجرح.
فابتسمت ألطف ابتسام وقالت: إني أريد أن أعرض عليك الصلح. - ما هي شروطك؟ - ليس لي غير شرط واحد. - ما هو؟ - هو اعتزالك. - إن اعتزالي قد يكون كثيرا وقد يقل. - إني منذ عام أسائل نفسي هذا السؤال، وهو: أية فائدة لجان دي فرانس وهو نوري مثلي في توليه حماية المركيز روجر ابن ذلك اللورد الذي طالما اضطهد طائفتنا. - أأنت سألت نفسك هذا السؤال؟ - نعم. ولولا حدوث حادثة لم أكن أتوقعها لما عرفت الحقيقة. - أعرفتها؟ - نعم. ووثقت الآن أن المركيز روجر هو ابن اللورد إسبرتهون وسينتيا النورية أي أختك، وعرفت أيضا أن الطبيب بولتون لفق له حكاية عن الوشم الذي وشم به كتفه، وأنه آخذ بمعالجته فلا يمر أسبوع حتى يزول هذا الوشم كما زال وشمي.
أما هذه الحكاية الملفقة فقد يثق بها رجل بسيط القلب كالسير روبرت الذي رباني، ولكنها لا تجوز علي؛ وعلى ذلك فإن المركيز روجر إنما هو نوري مثلنا. - وبعد ذلك؟ - إني أحب هذا المركيز. - تريدين أنك تحبين ثروته ولقبه. - إنه يحبني ويريد الزواج بي، فلماذا تعترض هذا الزواج؟ - لأني لم أجعله مركيزا ولوردا كي يتزوج نورية. - أصغ إلي يا جان، فإني أتوسل إليك جاثية أن تغفر لي إساءتي. - وأن أدعك تتزوجين المركيز؟ - نعم يا جان. إني طامعة متكبرة، وإن روجر نوري مثلي، ولذلك أريد أن أشاركه في مجده.
وإنك متكبر مثلي، ولم يدفعك إلى ترقية ابن أختك غير الكبرياء؛ فثق يا جان أني إذا تزوجت به أكون من أشد الناس إخلاصا لطائفتكم. - إن هذا محال فكوني سيدة عظيمة إذا استطعت، وأما أن أجعل ابن أختي وملكنا سلما لمرقاتك فهذا محال.
فارتجفت شفتاها من الغضب وقالت له: إني توسلت إليك، فكنت من غير إشفاق، وأبيت إلا الحرب فليكن ما تريد واحذر لنفسك. - كما تريدين، ولكني أمهلك يوما لتتمعني. - لا أريد مهلة.
فأخذ قبعته وحاول الانصراف فقالت له بصوت يرتجف: اصبر. - إني مصغ إليك. - احرص على ابن أختك وملكك؛ فإن عدوه سيكون له أتبع من ظله. - لقد أعذر من أنذر. - كلمة أيضا. - ماذا؟ - من هي هذه المرأة التي تنتظرك في القارب؟ - اليبسي؟ - تلك المصرية الحسناء. - نعم. فهل غرت منها؟ - إنك تحبها. - أصدق حب. - إذن سأكون أقوى منك، فإنك تطعنني بأطماعي أما أنا فأطعنك بقلبك. - جربي.
فاتقدت عيناها ببارق مخيف وقالت له: اذهب واذكر أني أهنت نفسي ونزلت عن عرش كبريائي بتوسلي إليك. •••
بعد هنيهة كان جان واقفا عند الشاطئ وقد صفر فجاء شمشون بالقارب وصعد جان إليه فجلس بجانب أخته فقالت له: إن هذه المرأة ستكون شؤما علينا يا جان، فإنك بينما كنت عندها سقط نيزك من السماء، وهذه علامة الموت.
فأجابها مازحا: إن هذا النجم انحل برغيه فسقط.
قالت: لا تضحك يا جان، فهذه علامة الموت كما قلت لك.
وعند ذلك سمع دوي طلق ناري فصاحت اليبسي صيحة عظيمة وسقطت بين يدي جان؛ فإن الرصاصة أصابتها. •••
في تلك الليلة نفسها ذهبت ألن إلى حيث تقيم الهندية، فدخلت إليها وكشفت قناعها وقالت لها: إنه لم يمت.
فوقفت الهندية كأنما لسعتها أفعى وقالت: من هو؟
قالت: سارق كنز الإله سيوا.
فهزت كتفيها وقالت: إن هذا محال. - لقد قلت لك إنه لم يمت. - ألعلك رأيته؟ - وكلمته. - متى؟ - منذ ساعة. - إذن إن هذا الرجل تحميه قوة إلهية أو هو من السحرة. - كلا، ولكن رفيقك الهندي بدل خنجرك المسموم بخنجر عادي. - ذلك لا يصدق؛ فإن له قوة تحميه.
فرأت ألن أن لا فائدة من الجدال معها فقالت لها: إن هذه القوة قد تحميه من الخناجر، ولكنها لا تحميه من السموم التي تبيعينها.
فتوهجت عينا الهندية من الحقد وقالت: أين أجده؟ - في منزله في بيكاديلي. - حسنا. فستعلمين ما يكون من أمره قبل ثلاثة أيام. - إذن فاعلمي أنه يدعى الناباب عثمان الهندي، والآن أستودعك الله. وقد أسدلت قناعها على وجهها وحاولت الانصراف، ولكنها سمعت أن باب دكان الهندية يقرع، فأسرعت واختبأت وراء ستارة كانت تفصل بين الدكان والسرير الذي تنام عليه الهندية، وأشارت إليها أن تفتح ففتحت ودخل رجل كان متشحا برداء كبير وهو يحاول إخفاء وجهه، فقالت ألن في نفسها: لا فائدة من تنكرك فقد عرفتك.
أما الرجل فإنه قال للهندية: هل نحن وحدنا هنا؟
قالت: نعم، فماذا تريد يا سيدي أتريد شراء مسابح وروائح عطرية؟
قال: كلا. - إذن. أتريد أن أكشف لك طالعك؟ - ربما. - هات يدك.
فبسط لها يده ونظرت في باطن كفه فقالت له: يوجد رجل تكرهه أشد الكره. - هو ذاك. - وقد حاولت قتله مرارا فلم تفز. - لقد أصبت. - ولكن يوجد طريقة للتخلص منه. - ما هي؟ - السم. - لقد خطر لي هذا الخاطر، ولذلك جئتك لأشتري منك هذا السم. - إني لا أبيع السموم يا سيدي. وقد أخطأ من أخبرك.
فظهرت علائم الامتعاض على الرجل وقالت الهندية: إني أعلم بأنهم يتهمونني ببيع السموم، ولكنها تهمة باطلة؛ فإني أبيع المسابح، وأكشف الطوالع، وأرقص في الشوارع، وهذا كل ما أعمله.
وعند ذلك سمعت الهندية حركة من وراء الستارة لم ينتبه لها الرجل؛ فالتفتت فرأت ألن تشير إليها إشارة لم تفهمها فقالت للرجل: اصبر يا سيدي فسأريك سبحة تشتريها لا محالة.
ثم دخلت إلى ما وراء الستارة لترى ما تريده ألن، فهمست في أذنها قائلة: إن هذا الرجل سينتقم لك؛ فأعطيه السم الذي يطلبه، وضعي في العلبة التي تضعين فيها السم هذه الورقة.
وقد أخذت ورقة من دفترها وكتبت عليها هذه الجملة:
ابدأ بقتل الناباب عثمان إذا أردت أن تفوز.
ثم قالت لها: لا تعطيه من السم إلا بقدر ما يكفي لقتل رجل واحد فقط.
فأخذت الهندية علبة وخرجت إلى الرجل فقالت له: هذه سبحة مصنوعة من خشب الستيكنوس وهي تفيدك فيما تريد.
فارتعش الرجل وقال: ماذا تعنين؟
قالت: من محلول هذه الحبوب سم يقتل للحال، وهذه السبحة يستطيع صاحبها أن يعبث بها قدر ما يشاء دون أن يصاب بأذى وأما إذا أذاب حبة منها في كأس من الخمر تستحيل إلى سم صاعق، ولكن هذا السم غالي الثمن فإن الحبة الواحدة تساوي خمسة وعشرين جنيها.
قال: إذن أعطيني حبتين.
قالت: لا أستطيع أن أبيعك غير حبة واحدة؛ فإذا احتجت إلى سواها فعد إلي.
فنقدها ما طلبت وأخذ الحبة وانصرف.
فقالت ألن: هو ذا الرجل كان يحسبه الناس من الأموات وقد خرج من بين القبور.
ثم خرجت إلى الهندية فقالت لها: أصغي إلي واعلمي يقينا أنك إذا كنت لا تريدين أن يحكم عليك بالموت في النار فاحذري أن تبيعي أحدا حبة أيضا من هذه السبحة. - حتى هذا الرجل؟ - هو على الأخص. - ولكن ما أصنع إذا توعدني بالشكوى؟ - أنقذك كما أنقذتك من كنز الإله سيوا، واعلمي أن هذا الرجل سيقتل جان دي فرانس قبل أسبوع. - هل أنت واثقة مما تقولين؟ - كل الثقة؛ فإن هذا الرجل جبان، وهو يعلم أن جان يحمي عدوه، فسيقتله قبل ذلك العدو. - إذن سأكون عبدة له. - أنسيت أنك عبدتي؟ - نعم نعم. فمري أطع. - إن هذا الرجل بعد أن يقتل عثمان يعود إليك كي يلتمس سما يقتل به عدوه فتوهمينه أنك ستبيعينه ما أراد وتدخلينه إلى ما وراء هذه الستارة. - لماذا؟ - لأن الصدفة قد تجعله يجلس على هذا المقعد، وفيه إبرة مسمومة تشك جلده، فإذا اتفق ذلك أعطيتك من الذهب قدر ما تكسبين في مدة عشرة أعوام. - ليكن ما تريدين، فسأساعد هذه الصدفة.
أما هذا الرجل، فقد كان السير جيمس ابن أخي اللورد إسبرتهون، ذلك الذي ألقى نفسه من فوق الحصن في أميركا، ثم انقطعت أخباره فتوهم الجميع أنه مات.
وقد عاد إلى لندرا متنكرا، فلم يعلم حقيقة أمره غير خادمه ويلس، وهو الآن يريد شراء السم كي يقتل به ابن عمه المركيز روجر.
فلما عاد إلى منزله فتح العلبة، وقرأ الجملة التي كتبتها ألن فأيقن أن له شريكا يعاونه بالسر، وأنه مصيب بما أوصاه به؛ فإنه لا يستطيع أن يتمكن من ابن عمه إلا بعد أن يتخلص من عثمان.
غير أن كيد ألن لم يقتصر على هذا الحد؛ فإنها بعد أن مهدت للسير جيمس سبيل قتل عثمان، وبعد أن أصابت حبيبته بجرح كاد أن يودي بحياتها؛ كمنت لأخته سينتيا أم المركيز مع فريق من أعوانها فاختطفتها وهي خارجة من منزلها لغرض سوف يظهر. •••
والآن؛ لنعد إلى السير روبرت فالدن، فقد كان شديد التمسك بالشرف، كثير الحرص على مقام الأشراف. وقد رأينا منه كيف أبى أن يزوج ربيبته بليونيل وهو يحبها كبنته كي لا يؤنبه ضميره على تزويج نورية بشريف، وإنما أراد تزويجها بالمركيز لاعتقاده أن المركيز ليس ابن اللورد الشرعي؛ فإنه كان أصيب مرة بجرح في كتفه إثر مبارزة كان السير روبرت أحد مشاهديه فيها، فلما كشف الطبيب عن كتفه رأى روبرت هذا الوشم على كتفه، وهو يعلم أنه خاص بالنور؛ فتولدت في نفسه الشكوك من ذلك العهد.
وقد كثرت هواجسه واشتد قلقه، وأراد أن يعرف حقيقة هذا السر الذي كاد يقتله، فقال في نفسه: لم يبق بد من أن أذهب إلى روجر وأستوضح منه جلية الأمر، فإذا برهن لي أنه ابن اللورد إسبرتهون الشرعي أعتذر إليه، وإذا لم يستطع البرهان لجأت إلى مروءته فإنه كريم الأخلاق عزيز النفس لا يرضى أن يلقب بلقب سواه.
وكان قد وعد ربيبته أن يأتيها بالخبر اليقين بعد ثلاثة أيام، فبرح منزله في اليوم الثالث وذهب إلى المركيز فلقي عنده الطبيب بولتون يعالج كتفه، فابتسم المركيز له وعاتبه لانقطاع زياراته، فتمتم بعض كلمات اعتذار وقال الطبيب: أنا أعرف السبب الذي دعا السير روبرت إلى الانقطاع عنك منذ عهد مبارزتك مع القائد مكسويل.
فقال له المركيز: إذا كنت تعرف السبب كما تقول فأسرع بإخباري عنه؛ فإني لا أزال مندهشا من مناهج السير روبرت.
قال: تصور أيها المركيز أن السير روبرت فالدن - وهو صديقي منذ ثلاثين عاما - أراد يوما أن يقتلني عند سريرك.
فصاح المركيز قائلا: ولكن هذا محال.
قال: سله يخبرك أني قلت الحقيقة.
فهز السير روبرت رأسه إشارة إلى الموافقة. وقال الطبيب: هل تعلم لماذا كان يريد قتلي؟ ذلك لأني أبيت أن أبوح بسر أبيك المرحوم.
فقال المركيز: هذا الذي أسمعه؛ فإني أحسب نفسي حالما. أحق ما يقوله يا سير روبرت؟ - نعم إنه يقول الحق. - أأنت أردت قتله؟
فقال الطبيب: نعم؛ وذلك لأني أبيت أن أكشف له سبب وجود الوشم على كتفك.
فقهقه المركيز ضاحكا وقال: أراهن على أن السير روبرت توهم أني من النور.
فقال الطبيب: هو ذاك.
وكان السير روبرت توقع أن يرى المركيز يضطرب، فإذا به يضحك ويقول له: اطمئن أيها الصديق؛ فإني حقيقة ابن اللورد إسبرتهون.
وقال له الطبيب: اعلم أيها الصديق أني أقسمت يمينا للورد إسبرتهون أن لا أبوح بهذا السر لأحد إلا متى تمكنت من إزالة هذا الوشم عن كتفه، وقد وجدت اليوم الدواء الذي يزيله ولم أعد مقيدا باليمين فاسمع ما حدث.
وعند ذلك قص عليه الحكاية نفسها التي قصها على المركيز منذ يومين، فلما فرغ من حديثه احمر وجه السير روبرت من الخجل والتفت إلى المركيز، فقال له: إني لا أعذر نفسي لظنوني السيئة، فهل تتفضل بمعذرتي أيها المركيز؛ فأجابه المركيز بأن مد له يده وصافحه وزالت الظنون. •••
وعاد السير روبرت إلى منزله، فوجد مس ألن تنتظره فقالت له: أين كنت يا عمي؟
قال: إني قادم من عند المركيز، وقد ثبت لي الآن أن ليونيل لا يمكن أن يكون ... - كيف ذلك؟ - ذلك أننا خدعنا؛ فإن المركيز هو حقيقة ابن اللورد إسبرتهون. - أأنت واثق؟ - كل الثقة. - والوشم؟ - إن له حكاية قصوها علي ووثقت بها. - إنك تلبث واثقا إلى أن تجد البرهان الوافي على أنهم كانوا يمثلون أمامك رواية. - ماذا تقولين يا ابنتي، ألعلك جننت؟ - وأنت ماذا قالوا لك عن أصل هذه العلامة. ولكن لا تقل شيئا؛ فإني أعرف الحكاية كما عرفتها، فهي من مخترعات جان دي فرانس. - جان دي فرانس؟ - نعم، أي ملك النور، وهو أخو سينتيا التي كانت خليلة اللورد إسبرتهون وأم المركيز روجر. ألم يخبروك أن النور اختطفوا المركيز في عهد حداثته من سراي كلكوتا؟ - نعم. ولكن كيف عرفت ذلك؟
فابتسمت ابتسامة السائد وقالت: أصغ إلي يا عماه؛ فإننا نسير وراء غاية واحدة، ولكن الأسباب مختلفة؛ فإنك تريد أن ترى ليونيل - وهو ابن اللورد الشرعي - في مكان أبيه. - ولكن كيف يكون ذلك إذا كانت الحكاية التي سمعتها أكيدة؟ - بل إنها مختلقة. وأنا أتعهد بأن أبرهن لك عن اختلاقها. - أنت؟ - نعم ولكن بشرط. - ما هو؟ - هو أن تدع لي حريتي التامة. - كيف ذلك؟ - إني أستمهلك ثلاثة أيام على الأكثر ويوما على الأقل فأثبت لك أن المركيز روبرت هو أميري ابن سينتيا النورية، وأكره هذه الأم على الاعتراف. - أنت تفعلين ذلك؟ - نعم إذا أردت أن أكون أنا الفكر المدبر وأنت اليد العاملة. - لقد رضيت. - إذن إني أحتاج هذه الليلة إلى اثنين من رجالك لأستعين بهما على اختطاف.
فنظر إليها منذهلا فقالت: ألعلك نسيت يا عمي أني نورية. إنك شريف حر الضمير فلا تستطيع أن تتغلب على جان دي فرانس. - ولكن أين سمعت اسم هذا الرجل؛ فإني أذكر أني سمعته من قبل؟ - تذكر يا عماه. ألم تخبرني مرة أن اللورد إسبرتهون كاد أن يفترسه النمر فأنقذه رجل نوري. - نعم. - إن هذا النوري كان جان دي فرانس. ثم ألا تذكر أن المركيز روجر كاد يبطش به الوحش في الغابة وأن رجلا أنقذه؟ - نعم. - إن هذا الرجل كان جان دي فرانس. ثم ألا تذكر حين احتالوا على المركيز يوم مبارزته مع الضابط مكسويل، فأعطوه حساما سريع الانكسار، وأن رجلا أبدل السيف بسواه؟ إن هذا الرجل كان جان دي فرانس. - إذن، إنه شيطان في زي إنسان . - هو ذاك. ولكنه ملاك يحمي روجر من كل الأحقاد، فقد أنقذه عشر مرات من الموت في أميركا، وهو يلزمه لزوم ظله أين ذهب. - وإن روجر شريكه لا محالة؛ لأنه يعرف أصله. - كلا؛ فإن روجر يعتقد اعتقادا واضحا أنه ابن اللورد الشرعي. - إذا كان ذلك يمكن إرجاعه إلى الصواب. - نعم. ولكن ليس أنت الذي تستطيع إرجاعه. - كيف ذلك؟ أيشك بكلامي؟ - إن الذين يخضعون لسلطة جان دي فرانس لا يثقون إلا به أو بي. - أنت؟ - نعم. فإن روجر يحبني أعظم حب بحيث أستطيع به مقاومة جان دي فرانس، فإذا أطلقت لي حريتي جعلت ليونيل يخلف المركيز دون أن أدع الألسنة تلهج بهذا الانقلاب. - ولكن ماذا يكون مصيره؟ - ليتوارى معي عن العيون ويكفيه ثروة أن أحبه كما يحبني. - ولكن أية فائدة لجان دي فرانس من حماية المركيز؟ - إنه ابن أخته، ومن طائفته المضطهدة؛ فهو يريد أن يتخذه سلاحا ضد مضطهدي تلك الطائفة. - وأنت تعتقدين أنك تستطيعين مقاومة جان دي فرانس؟ - بل إني واثقة من الفوز عليه إذا كنت تأذن لي أن أخرج من المنزل حين أشاء. - إني أمنحك هذه الحرية فلا يهنأ لي عيش قبل أن تنحل هذه الرموز. - لقد قلت لك إني محتاجة إلى رجلين يساعدانني على اختطاف. - من الذي تريدين اختطافه؟
سينتيا أم المركيز، وإن عندك خادمين شديدين، وهما نوح وبلاك، فمرهما أن يطيعاني وعلي البقية.
ثم قرعت جرسا، وأمرت أن يعدوا لها مركبة. •••
وقد تقدم لنا القول إنها اختطفتها، وكان اختطافها بواسطة الرجلين والهندية؛ فإنهم كمنوا لها عند مدخل منزلها، حتى إذا خرجت منه دنت منها الهندية وبسطت يدها تسألها الإحسان، فبينما كانت تحاول إعطاءها قطعة من النقود شعرت أن كيسا غطى رأسها وأنها حملت فوضعت في مركبة، ثم سمعت تلك المتسولة تقول لها: احذري أن تصيحي إذا أردت السلامة لك ولولدك.
وبعد أن سارت المركبة قليلا قالت لها الهندية: إن هذا الكيس يزعجك كثيرا فإذا أردت أن نعصب عينيك نزعناه عن رأسك فتستطيعين التنفس بحرية.
فأومأت برأسها إشارة إلى القبول، فنزعت الكيس عن رأسها، وعصبت عينيها، ثم قالت لها: إننا نستطيع الآن أن نتحدث.
قالت: ماذا تريدين مني؟
قالت: أريد أن أحدثك بشأن ولدك. - ليس لي بنون. - بل إنك تكذبين؟ - ثقي أنك مخطئة فليس لي ولد ولا زوج. - بل إننا واثقون أن لك ولدا وأنهم فرقوا بينك وبينه. - لقد قلت لك إنه ليس لي ولد؛ فإلى أين تذهبون بي؟ - إلى هذا الولد الذي تنكرينه. - إذن سوف ترون أنكم مخطئون؛ فإن الولد يعرف أمه.
فامتنعت الهندية عن مباحثتها، وبعد ساعة وصلت المركبة إلى منزل ألن الصيفي، وهو ذلك المنزل الذي استقبلت فيه جان حين أرادت محالفته، فأخرجتها الهندية من المركبة، وأدخلتها إلى المنزل، فسمعت سينتيا الرجلين يتحدثان، وسمعت من خلال حديثهما اسم مس ألن فسرى الرجاء إلى قلبها؛ إذ علمت أنها في منزل مس ألن، وأن أخاها جان يعرف هذا المنزل.
وعند ذلك نزعت الهندية العصابة عن عينيها، فوثقت أنها عند مس ألن، فإن جان كان قد وصف لها تلك الغرفة فوجدتها كما وصف.
ثم مشت بها الهندية إلى قاعة المكتبة، فأدارت لولبا في الجدار فانفتح باب خفي، فدخلت وإياها منه، فأقفلته وقالت لها وهي مجردة خنجرها: إنك سترين ولدك، ولكن احذري أن تصيحي صيحة.
وقد أزاحت كتابين عن موضعهما فنفذ النور إلى تلك الغرفة من ثقبين وراء الكتابين، فقالت: إنك تستطيعين أن تري من هذين الثقبين حين يأتي ولدك.
قالت: إني لا أفهم شيئا مما تقولينه، فلقد قلت لك إنه ليس لي ولد.
قالت: سوف نرى.
بعد هنيهة دخلت مس ألن إلى القاعة، فرأتها سينتيا وعرفتها، فإنها وقفت معها في المركبة يوم عاد ابنها من أميركا.
أما ألن فإنها جلست على مقعد أمام الثقبين، وجعلت تحدث نفسها بصوت مرتفع فتقول: ترى أيأتي. نعم إنه سيأتي. آه كم أطلبه. ولكني أخاف أن يكون تأخر وصول رسالتي إليه.
ثم قامت ففتحت نافذة تشرف على النهر، فأطلت منها وقالت: روجر! أين أنت؟ إني لا أرى قاربا في النهر ولا أسمع صوت مركبة في الطريق. أواه ما أشد وقع الريب في قلوب المحبين.
فكانت سينتيا تسمع أقوالها وهي تنذهل وتقول في نفسها: عجبا كيف يقول أخي إنها عدوة روجر وهي تحبه هذا الحب؟
وعند ذلك صاحت ألن صيحة فرح وقالت: هذا هو قد حضر ... إني أسمع وقع المجاذيف في المياه ... نعم نعم. هذا هو. وا فرحاه!
وكانت الهندية ممسكة بيد سينتيا فقالت لها: أرأيت كيف أن يدك تضطرب في يدي حين علمت بقدومه؟
فحكمت نفسها وقالت: كلا ليس لي ولد، وأنتم واهمون.
وبعد هنيهة دخل روجر فقبل يد ألن فقالت له: أول ما أبدأ به أيها الحبيب رجائي أن تغض الطرف عن دعوتي إياك، ولكني فقدت صوابي للخطر المحدق.
قال: أي خطر هذا؟ - إنه خطر يحدق بي وبك؛ فقد كدت أفترق عنك إلى الأبد. - رباه ماذا أسمع؟ - إن عمي أراد أن يحول بيننا؛ فقد علم بحبنا. - إنه كان عندي اليوم. - لا أعلم. ولكن الذي أعلمه أنه تآمر علي مع والدة ليونيل.
فاصفر وجه المركيز وقال: لقد بت أكره ليونيل بعد أن كنت أحبه كأخي.
قالت: اغفر له أيها الحبيب، فهو يحبني ويتوهم أني أحبه. - وهذه المؤامرة. - إنهما يريدان أن يرسلاني إلى قصر لعمي في إيكوسيا، وهناك يأتي ليونيل فيزوجاني به، ولكن اطمئن فقد اكتشفت سر هذه المؤامرة، ولذلك دعوتك. - إذن أنت لا تسافرين؟ - كلا. - ولا تتزوجين ليونيل؟ - ألم أقسم لك؟
فقالت سينتيا في نفسها: لا شك أن أخي منخدع، فكيف تكون عدوته وهي تحبه هذا الحب؟
وعادت ألن إلى الحديث فقالت: أما وقد رأيتك الآن وأخبرتك بما كان يحدق بك من الخطر، فلا يجب أن أرتكب هفوة جديدة. - ماذا تعنين؟ - أعني أن عمي علم أني زرتك في منزلك، والآن يجب أن أسرع إلى العودة إلى لندرا؛ فإني أخاف أن يعود عمي من النادي فلا يجدني في المنزل. - كيف ذلك؟! أأفارقك وأنا لم أكد أراك؟ - لا بد من ذلك، ولكني سأعود معك فيخفينا الظلام.
فصاح صيحة فرح. فقالت له: اسكت إذ يوجد هنا خادمة جديدة تحرس المنزل، وأنا آتي إلى هنا من حين إلى حين لافتقدها.
وإن قاربي يرسو عند الشاطئ، وقد أطلقت سراح النوتي الذي أوصلني لترجعني أنت فلا تجزع لأمر وثق بي. - أواه من ليونيل. - لماذا تخافه وأنا لا أحبه؟ - إني أخاف أن يكرهك عمك إلى الامتثال. - لا توجد قوة تكرهني، فثق بي كما تثق بأمك. - أمي؟! وا أسفاه! إني لم أعرف أمي. - أكنت تحبها إذا عرفتها؟ - بل كنت أعبدها. ومن هذا الذي لا يحب أمه؟
وعند ذلك سمعت الهندية تنهدا عميقا تلاه سقوط جسم على الأرض؛ ذلك أن سينتيا كانت قد أغمي عليها. أما ألن فإنها خرجت مسرعة مع المركيز.
الفصل السابع
الفشل بعد الفوز
عندما استفاقت سينتيا من إغمائها لم تكن في تلك الغرفة التي سمعت الحديث منها؛ فإن الهندية كانت قد أخرجتها إلى القاعة وعالجتها حتى استفاقت، فقالت لها: هل تستطيعين الإنكار أنه ولدك؟
ولكنها عادت إليها قواها فقالت بصوت أجش: لقد قلت لك إنه ليس لي ولد. - إذا كان ذلك، فلماذا أغمي عليك حين سمعته يتكلم عن أمه؟ - لأني تذكرت ولدا لي مات. والآن ألا تطلقين سراحي؟ - كلا. - لماذا؟ - لأنه يجب أن تري مس ألن. - من هي هذه الفتاة؟ - هي تلك الحسناء التي تحب ولدك. - وأنت تقولين إنها تريد أن تراني؟ - نعم. فإنها تريد أن تجمعك بولدك. - لقد قلت لك إنه ليس لي ولد، فكيف أكون أنا الفقيرة أم هذا السيد العظيم، ثم إذا كانت تريد أن تراني فلماذا ذهبت؟ - إنها ستعود غدا. والآن أنصحك أن تنامي على هذا المقعد؛ فإن الليل قد انتصف، وأنت في حاجة إلى الراحة.
فامتثلت، وغطتها الهندية بغطاء، ثم اضطجعت على مقعد آخر كأنها تريد أن تنام أيضا، فقالت سينتيا في نفسها: إني سأصبر عليها حتى تنام فأخنقها قبل أن تتمكن من الصياح وأهرب.
ولكن حدث عند ذلك ما لم تكن تتوقعه؛ فإن الباب فتح فجأة ودخل منه الخادمان فقالا للهندية: أسرعي فإنهم في أثرنا وقد رأيناهم في النهر.
فقالت سينتيا: هذا أخي قادم لإنقاذنا، ثم صاحت قائلة: إلي إلي.
فأسرع الخادمان إليها فكمماها. وقالت لهما الهندية: اقبضا على يديها، فسأعمل لها عملية تمنعها عن الصراخ.
فقبضا عليها، وأخرجت الهندية زجاجة فيها رشاش أصفر فأدنته من أنفها وأكرهتها على تنشقه حتى تلاشت قواها وسقطت يداها، فحملوها إلى الغرفة السرية، واختبئوا جميعهم فيها، فجعلت الهندية تنظر إليها وتقول: ليأتوا الآن، وليبحثوا عنك قدر ما يشاءون، إني أدعى داني ناتها، وما زلت أخت جان دي فرانس، ذلك اللص الذي سرق كنز إلهي، فاعلمي أني شممتك رائحة تفقدين بعدها كل حس ما عدا النظر والسمع بحيث تصبحين حية شبه ميتة.
وبعد هنيهة دخل جان وشمشون فقد كانا علما باختطاف سينتيا؛ فإن شمشون كان قد رأى عن بعد رجلين يحملان امرأة إلى مركبة، وكانت المركبة بعيدة عنه فلم يستطع إدراكها، فأيقن جان أن ألن قد اختطفتها، وأسرع مع شمشون إلى منزلها الصيفي، فبحثا فيه بحثا دقيقا فلم يجدا لها أثرا، فاقترح شمشون أن يحرق المنزل فمنعه جان قائلا: لا أريد مداخلة البوليس، ولا بد لي الآن أن أبحث عنها في منزل السير روبرت، فهلم بنا نعد إلى لندرا.
ولما ابتعدا قال أحد الخادمين لرفيقه: إنهما لن يظفرا بالأسيرة هذه الليلة، وما راعني إلا خوفي أن يحرقا المنزل.
أما جان فإنه عاد مع شمشون بطريق النهر وهو ينذر ويتوعد ويقول إني سأقتل هذه الماكرة جلدا بالسياط.
فقال له شمشون: إني عينت رجلا كما أمرتني لمراقبة منزل السير روبرت، ولا بد أن يكون رأى ألن ليلة أمس. - من هذا الذي عينته؟ - جولد. - إنه من الأذكياء، فلماذا لم تره اليوم؟ - لقد كنت عازما على الذهاب إليه في الساعة الثامنة، ولكن عرفت ما جرى. - سنراه الآن.
وقد ذهبا إلى منزل السير روبرت، ولقيا جولد، فسأله جان قائلا: ماذا رأيت؟
قال: إن مس ألن خرجت أمس في مركبتها، ولكنكم لم تأمروني أن أتبعها، فلم أعلم إلى أين ذهبت. - متى عادت؟ - عند انتصاف الليل. - ألم تخرج بعد ذلك؟ - كلا. فقد زارها في تلك الساعة فتى لم أتبين وجهه إذ كان ملتفا بوشاحه، وقد دخل من باب الحديقة بمفتاح كان معه.
فقال جان في نفسه: إنه ليونيل، ثم سأله قائلا: كم أقام معها؟ - نحو ساعة. فقد كنت ملتصقا بالباب وسمعتها تقول له حين خروجه: إلى اللقاء غدا. - واليوم، أخرجت من المنزل؟ - نعم عند الظهر. - ومتى عادت؟ - منذ ساعة. - أعادت وحدها؟ - نعم. - حسنا. فعد إلى منزلك.
وقد نظر جان في ساعته وقال: إن السير روبرت لا يعود من النادي قبل انتصاف الليل، ولا يزال الوقت فسيحا لدي.
ثم ذهب إلى شمشون وقال: اذهب واكمن عند باب المنزل؛ فإذا رأيت السير روبرت عاد فأسرع وأخبرني، وإذا لم تجدني في هذا الزقاق فنادني بصفيرنا الخاص.
قال: ألعلك تريد الدخول إلى الحديقة يا سيدي؟ - ربما. - أتريد أن أكسر بابها؟ - كلا، فسأدخل إليها بطريقة أخرى.
فذهب شمشون فكمن بجانب الباب، ولبث جان واقفا حيث كان الرقيب، وهو يقول في نفسه: إن ألن تريد أن تتزوج بروجر، ومع ذلك فإنها تنتظر ليونيل، فلماذا تحتفظ بحب هذا الفتى أيضا؟
وكان جان قد عرف كثيرا من الأسرار، ولكنه لم يتوصل إلى معرفة سر ولادة ليونيل.
وفيما هو واقف ينتظر سمع خطوات ليونيل، ثم رآه وصل إلى باب الحديقة فالتفت يمنة ويسرة، ثم أخرج مفتاحا من جيبه وحاول فتح الباب، فأسرع جان فحال بينه وبين الباب وقال له وقد وضع قناعا على وجهه: لي كلمة أقولها لك أيها النبيل.
وكان ليونيل باسلا جريئا، فدهش لهذه المفاجأة، وحسب جان من اللصوص فانتهره قائلا: سر في سبيلك أيها الرجل.
فلبث جان في موقفه وقال له: ألم أقل لك لي كلمة أقولها؟ - لي أنا؟ - نعم. لك أنت الضابط ليونيل. - إذا كنت في حاجة إلى كيسي فليس فيه الليلة ما يذكر، وليس لي وقت للدفاع عنه فخذه.
ثم أخذ كيسه من جيبه وألقاه إلى الأرض، فقال له جان بلهجة الساخر: لا بأس من أن تنتظرك مس ألن ربع ساعة.
فاضطرب وقال له معصبا: من أنت فتكلمني بهذه اللهجة؟ - إني رجل يريد أن يسدي إليك نصيحة. - ما تعودت أن أسمع نصائح من يبرقعون وجوههم. - إنك مخطئ، فالعاقل لا يحتقر النصيحة كيف كان مصدرها.
فسئم ليونيل من الجدال وقال له: ما هي نصيحتك؟
قال: هي أن تعطيني مفتاح هذه الحديقة وتعود إلى منزلك فتنام، وإني أعدك أن أرده إليك مع خادمي في الصباح.
قال: يعز علي أن أخترق صدرك بحسامي؛ لأنك غير مسلح، ولكن ...
وكان مع جان عصا حشوها حربة طويلة كالحسام فجردها وقال له: إذا كان لديك حسام فإني أشرفك بالمبارزة تحت هذا المصباح المعلق في الطريق. أليس هذا الذي تريده؟ - هو ذاك. فتفضل بكشف برقعك كي أراك.
يسوءني أني لا أستطيع إجابة سؤالك.
وقد اشتبك القتال بينهما، فقال له جان: إني غير حاقد عليك. وشهد الله أني لو لم أكن في أشد الاحتياج إلى هذا المفتاح الموجود في جيبك لما قاتلتك. ولذلك لا أقتلك بل أصيبك إصابة بسيطة لا يعرف سرها سواي، فستسقط مغميا عليك نصف ساعة، وهذا كل ما أحتاج إليه من الوقت.
فهاج ثائر ليونيل لهذا الكلام وانقض على خصمه انقضاض الصاعقة، ولكنه لم يكد يتم هجمته حتى شعر أن سيفه سقط من يده وسقط هو على الأرض لا يعي.
فقاده جان إشفاقا عليه، ثم أخذ مفتاح الحديقة من جيبه وسار إلى بابها وهو يقول: لقد جاء الآن دور مس ألن فلنر ما يكون. •••
كانت مس ألن قد عادت مع المركيز روجر في طريق النهر، فلما وصلا إلى لندرا أركبها مركبة وفارقها بعد أن واعدها على اللقاء، فعادت إلى منزلها قبل انتصاف الليل بنصف ساعة.
وهناك غيرت ملابسها وتقلدت خنجرا صغيرا كانت الهندية أهدته إليها، فكانت تتقلده دائما بعد أن شهرت حربها على جان.
ثم نزلت إلى الحديقة لتجتمع بليونيل فيها حسب عادتها في كل ليلة، فسارت بين الأشجار حتى انتهت إلى مغارة في وسط الحديقة يوجد تحتها دهليز خفي.
وحكاية هذه المغارة أن القصر الذي كان يقيم فيه السير روبرت كان قديما يتصل بعهد كرمويل والثورة الإنجليزية، وهو في ذلك العهد للورد شافستبوري من المتشيعين للملك، فبنى هذه المغارة وبنى تحتها الدهليز، فكان يخفي فيه الأسلحة والأوراق ويختبئ هو فيه أحيانا حين تشتد به المخاوف.
وكان يفصل بين المغارة والدهليز حجر كبير كان له شبه باب، فلما مرت ألن بهذه المغارة قالت في نفسها: إني سأسجن سينتيا في هذا الدهليز؛ فأكون آمنة عليها فيه.
ثم تجاوزت المغارة وسارت إلى حيث كانت تلتقي بليونيل، فلم تكد تجلس على كرسي هناك حتى رأت رجلا يدنو منها، فقالت له بصوت منخفض: أهذا أنت يا ليونيل؟
فدنا منها وقال لها: بل هذا أنا.
فصاحت صيحة ذعر؛ إذ عرفت جان من صوته، وحاولت أن تهرب وتستغيث، ولكن خطر لها خاطر سريع فلبثت في مكانها وقالت له: تعال فإني أنتظرك.
وكان جان بعيدا عنها ثلاث خطوات، فدنا حتى وصل إليها؛ فقالت له بلهجة الهازئ: إنك إذا كنت قادما لتقتلني فقد عرفت أن تنتهز الفرص؛ فإن السير روبرت لم يعد بعد وكل من في القصر نيام.
وكان جان يتوقع أن تنذعر فإذا بها تهزأ به؛ فأجابها قائلا: لا أعلم. فإن حياتك وموتك منوطان بك.
قالت: إذا كنت مترددا فهلم نتباحث، فهل جئتني بأنباء عن اليبسي تلك المصرية الحسناء؟
فاتقدت عيناه ببارق من الغضب لهذه الذكرى وقال لها: إني عاهدت نفسي على أن لا أقتلك لأنك امرأة، ولكن موتك منوط بك، فإذا شئت حللت نفسي من هذا العهد.
فقالت ألن في نفسها: إن ليونيل لا يلبث أن يحضر فينقذني منه فلأماطل في الحديث، ثم أجابته قائلة: إني عرضت عليك الصلح فأبيت إلا الحرب.
وقد قالت هذا القول ونظرت إلى باب الحديقة، فأدرك جان معنى هذه النظرة وقال لها: إنك إذا كنت تنتظرين ليونيل فسيطول انتظارك لأني دخلت إلى هنا بمفتاحه.
فسال العرق البارد من جبينها وقالت: ألعلك قتلته؟ - كلا. ولكني أقسم لك إنه لا يحضر، فلا تعتمدي عليه. - والآن ماذا تريد مني؟ - أن تردي سينتيا. - من هي سينتيا؟ - لا يفيدك الإنكار ؛ فإني مستعجل. - إذن وضح ما تقول. - إنك اختطفت أختي في هذه الليلة. - أنا؟ - نعم أنت، وإن المركبة التي حملتها وقفت عند باب منزلك الصيفي. وقد فتشت هذا المنزل. - أوجدت فيه أختك؟ - كلا فهي هنا. - لا أفهم ما تقول؟
فقبض جان على عنقها بيديه وقال لها: سيان عندي أكنت مخطئا أم مصيبا؛ فإن موتك لا يستحق الندم.
ثم ضغط على عنقها؛ فحاولت أن تجرد خنجرها فلم تستطع، فقالت بصوت مختنق: كفى كفى ارحمني. - أتعترفين؟ - نعم.
فأفلت عنقها وقال: تكلمي.
فقالت له بلهجة المتوسل: إن العفو جميل عند المقدرة، وأنا الآن في قبضة يدك يا جان، وسأخبرك أين هي أختك. - إذن أنت تعترفين أنك اختطفتها. - لست أنا، بل السير روبرت. - وأنت شريكته؟ - نعم. - أتعلمين أين هي؟ - نعم. - قولي. - بشرط أن تنقذني من غضب السير روبرت.
فدهش جان وقال لها: كيف ذلك؟
قالت: أصغ إلي. فقد كنت مصممة أن أحاربكم جميعكم، ولكني أجد الآن أن ذلك فوق مقدرتي، وأعترف أني مغلوبة، غير أني أسأت إلى نفسي بقصد الإساءة إليك، فأخبرت السير روبرت بكل الأمر وقلت له: إنك نوري مثلي وإن روجر من النور أيضا، فجعلني آلة لكشف هذه الأسرار؛ فإذا أخبرتك أين هي غضب علي وطردني لا محالة.
وكانت تتكلم والدموع تسيل من عينيها بحيث خدع جان بدموعها بالرغم عن حذقه واختباره، فهاجت في صدره عوامل المروءة وقال لها: إنه إذا طردك أقمت بيننا وكنت على خير حال.
فهزت رأسها وقالت: إنك لا تعلم ما ألقاه من اليأس لهذا التبديل؛ فقد تعودت أن أعيش عيش الترف والنعيم، وأن أكون من شريفات الإنكليز، ولذلك قاومتك وأردت أن أكون زوجة المركيز، غير أني ندمت لما بدا مني، فلا تقذف بي إلى الحضيض. دعني أعيش مع الذي جعلني وريثته فلا أقاومك بعد الآن.
قال: سوف نرى، فقولي لي الآن أين هي أختي؟ - إنها هنا، وأنت لديك كثير من الجواسيس، فاجمعهم وتسلقوا الجدران، بل هاجموا القصر؛ فإنك تجدها ولا يتهمني السير روبرت أني بحت بسره. - أين هي أختي ...؟ قولي ... والويل لك إذا ماطلت.
فتكلفت هيئة الرعب الشديد وقالت: خير لي أن أعيش شقية مترددة من أن أموت في العشرين من عمري، وسأرشدك إلى المكان المسجونة فيه. - إذن سيري أمامي، وثقي أنك إذا صحت أقل صيحة أغمدت خنجري بين كتفيك قبل أن تصيحي صيحة ثانية.
فقالت بصوت يتهدج بالدموع: إن الله عاقبني بآثامي فلا أعود إلى المقاومة. وقد مشت إلى المغارة ومشى جان في أثرها على قيد خطوة، حتى إذ وصلت إلى باب المغارة وقفت وقالت له: إني لا ألتمس منك غير أمر واحد. - ما هو؟ - هو أن تقيد يدي ورجلي حين تنقذ أختك وتضع كمامة في فمي كي يثق السير روبرت أني ما خنته. - إني أعدك بذلك، والآن إلى أين أنت ذاهبة بي؟ - اعلم أنه يوجد تحت هذه المغارة قاعة سرية لا يعلم سرها إلا أنا والسير روبرت، فخذ بيدي ولندخل إليها وهناك نضيئها. ألديك كبريت شمعي؟ - قال: نعم. ثم أخذ بيدها ولبث خنجره بيده الأخرى، حتى إذا دخلا المغارة أنار جان الكبريت فرأى مغارة متسعة لم يجد فيها بابا فقال لها: أين الغرفة السرية؟ ألعلك هزأت بي؟
قالت: كلا. فانظر إلى هذا الحجر الكبير فإنه يحجب بابها، فإذا أزحته عن موضعه ظهر لك من تحته لولب صغير تضغط عليه فينكشف الباب، ولكني لا أستطيع إزاحة الحجر فهو ضخم كما تراه.
قال: أنا أزيحه. ثم انحنى وجعل يعالج ذلك الحجر الكبير حتى أزاحه وظهر له اللولب كما قالت.
فقالت له: اضغط عليه بقوة فوضع يده عليه وضغط بعنف شديد فوثبت ألن مسرعة إلى الوراء، وانشقت الأرض حيث كان جان، فهوى إلى جوف تلك الهوة وصاح صيحة هائلة سمعتها ألن فضحكت ضحك الهازئ وهي تقول: إذا لم يمت من السقطة فسيموت من الجوع. •••
أما شمشون فإنه انتظر إلى أن عاد المسيو روبرت فجاء إلى باب الحديقة كي يخبر جان فلم يجده، فصفر الصفير الخاص وصبر فلم يأت؛ فمشى إلى الزقاق باحثا عنه فلقي ليونيل صريعا والدم يسيل منه ، فحمله إلى أقرب مخفر وعاد إلى موقفه، فصبر إلى أن أشرق الصباح دون أن يحضر جان، فقال في نفسه: لا شك أنه عاد إلى المنزل بينما كنت أوصل ليونيل إلى المخفر.
وقد ذهب إلى المنزل فوجد الطبيب بولتون يعالج اليبسي، فسأل عن جان فقالوا له: إنه لم يعد، فأخبرهم بأمره واشتد قلق الطبيب عليه.
وفيما هم يتداولون دخل أحد الخدم برسالة وقال: إن أحد الخدم جاء بها وانصرف ففضها شمشون وعرف خط جان. قرأها على مسمع من الطبيب واليبسي، وهي تتضمن جملة واحدة وهي:
لا تقلقوا لغيابي فسأغيب عنكم خمسة أيام فقط.
وحكاية هذه الرسالة أن ألن حين ألقت جان في الهاوية عادت إلى الموقف الذي كانت فيه على رجاء أن تجد ليونيل؛ فعثرت رجلها بدفتر فالتقطته وهي موقنة أنه سقط من جيب جان حين كان يحاول خنقها.
وعند ذلك ذكرت ما قاله لها جان أن ليونيل لا يحضر وأنه دخل إلى الحديقة بمفتاحه، فذهبت إلى غرفتها وهي تطمع أن تقف على أسرار جان من هذا الدفتر، فلم تجد فيه غير مذكرات لا علاقة لها بالمركيز.
ولكنها استفادت من ذلك أنها مرنت يدها على خط جان، ثم نزعت ورقة من هذا الدفتر كتبت عليها تلك الجملة مقلدة خطه أتم التقليد، وعند الصباح أرسلت تلك الرسالة مع أحد خدمها إلى منزل جان كي يطمئن رجاله عليه فلا يبحثون عنه.
وكانت قد لبثت في غرفتها إلى أن جاء السير روبرت فسألها قائلا: ماذا فعلت؟
قالت: لقد قبضت على المركيز. وأنت ماذا فعلت؟
قال: إني دعوت الأشراف الثلاثة الذين ذكرتهم لي للغداء عندي غدا، ولقيت المركيز روجر في نادي الحسان ففعلت أيضا ما أوصيتني به، وجعلت المحادثة تدور على نادي هرمين السري.
قالت: ماذا قال المركيز؟
قال: إنه أنكر وجود مثل هذا النادي في لندرا، ثم قال تأييدا لحجته: إنه إذا كان هذا النادي موجودا كما تدعون فإني أتعهد أن أكون من أعضائه.
قالت: إذن لقد تم لنا النصر.
قال: وأنا قد فعلت كل ما أوصيتني به. فهل تريدين أن تخبريني الآن بماذا يكون؟
قالت: كلا. ولكني وعدتك أن أبرهن لك على أن المركيز روجر هو ابن النورية سينتيا، وستقف غدا على هذا البرهان أنت وأشراف الإنكليز.
قال: ألا يجمل بنا اتقاء هذه الفضيحة؟
قالت: كلا. فإن روجر لا يتنازل لأخيه إلا إذا افتضح الأمر لدى جميع الأشراف. •••
وفي الساعة العاشرة من صباح اليوم التالي ذهب الطبيب بولتون إلى المركيز ليتم عملية إزالة الوشم فأخبره المركيز بأمر هذه الجمعية السرية، وبما كان من تعهده بالانتظام فيها، وأن غرض هذه الجمعية معاقبة كل شريف يقدم على أعمال منكرة، وأنه ينتظر أن يأتوا إليه في هذه الليلة فيدخلوه في سلك هذه الجمعية.
فأطرق الطبيب مفكرا وقال: أرى أنك اندفعت اندفاعا غير محمود، وأنك مخطئ في ذهابك إلى هذه الجمعية.
قال: ربما. ولكن لم يبق سبيل إلى الرجوع حذرا من أن أتهم بالخوف.
وبعد هنيهة خرج الطبيب وهو يقول في نفسه: لقد أشغلت بالي هذه الجمعية، ولا شك أن هناك مكيدة تكيدها ألن.
أما المركيز فقد جاءه في ذلك اليوم رسول مقنع من قبل الجمعية، واتفق وإياه على أن يأتي إليه في اليوم التالي للذهاب به إليها.
وفي اليوم التالي جاءه ذلك الرسول عند انتصاف الليل فخرج وإياه وركبا مركبة، حتى إذا سارت بهما قال له الرجل: إني سأعصب عينيك حسب قواعد جمعيتنا، فهل تقسم لي أنك لا تنزع العصابة؟
قال: أقسم.
فعصب عينيه، وسارت بهما المركبة إلى أن وقفت؛ فخرج الرجل مع المركيز ودخلا من باب، فمشى وإياه بضع خطوات ثم قال له: لك الآن أن ترفع العصابة.
فرفع المركيز العصابة ونظر إلى ما حواليه، فرأى على نور القمر أنه في مقبرة، فقال له: أهنا تجتمعون؟
قال: ألعلك تخاف الأموات؟
قال: لا أخاف الأموات ولا الأحياء.
قال: إذن اتبعني.
وسار الاثنان بين القبور حتى وصلا إلى ضريح كبير من الرخام، ففتح الرجل باب الضريح وقال له: إلى مغارتك الآن. فادخل من هذا الباب تجد سلما ، فانزل عليه حتى تبلغ الدرجة الأخيرة فتسير في رواق صغير تجد في آخره بابا، فتقرعه ثلاث مرات وتذكر اسمك. والآن أعطني حسامك.
فأعطاه حسامه، ودخل المركيز غير هياب، ونزل السلم حتى انتهى إلى الباب فقرعه، فأجابه صوت من الداخل قائلا: من أنت؟
قال: أنا الذي تنتظرونه.
قال: من أنت؟
قال: أنا المركيز روجر دي إسبرتهون.
قال: ادخل.
ثم فتح الباب واتقدت الأنوار عند ذلك فأنارت المكان. •••
ولنعد إلى سينتيا؛ فإنها بعد ساعة ذهب عنها تأثير المخدر وحلت عقدة لسانها، فأخرجوها إلى القاعة بعد وثوقهم من انصراف جان، وأقاموا يتناوبون الحراسة عليها.
وفي اليوم التالي جاءت ألن فخفق قلب سينتيا، ولم تعلم أتثق بهذه الفتاة بعد ما رأته من حبها لولدها أم تحذر منها وقد قال لها أخوها: إنها عدوتهم اللدودة.
أما ألن فإنها دنت منها فأخذت يدها بين يديها وقالت: آه لو تعلمين كم يسوءني أن أراك جازعة وأنت أم روجر الذي لا أحب سواه في هذا الوجود.
قالت: إنك واهمة؛ فليس لي ولد.
قالت: إنك تحذرين مني وحقك أن تحذري في الظاهر؛ لأنهم لا بد أن يكونوا قد أخبروك بأني عدوة ولدك، والله يشهد أني أحبه.
قالت: لقد قلت لك إنه ليس لي ولد، ولا علاقة لي بهذا الفتى الذي تذكرينه، ولكن لنفترض أني أمه فكيف لا أحذر من امرأة اختطفتني في الطريق، وعهدت بحراستي إلى امرأة سافلة تعذبني؟
قالت: ومن أنبأك أن الذي حدث هنا قد جرى بأمري، بل من أنبأك أني لا أتعذب أشد مما تتعذبين، ولكني لا أحاول إقناعك فإن ذلك محال كما يظهر، ولم يبق لي إلا أن أقول بأنك حرة.
فصاحت سينتيا صيحة فرح، ومشت إلى الباب، ثم رجعت وقالت لها: ولكن لماذا حبستني يومين ثم أطلقت سراحي اليوم؟
فأجابتها قائلة: إذا أردت أن تعرفي السبب فلا بد من أن تدعيني أفترض أنك أم روجر، إن روجر يحبني وأنا أحبه، ولكن رجلا تعرفينه حال بيننا، وهذا الرجل هو جان دي فرانس؛ فإنه يحبني حبا فاسدا ، ويتعقبني منذ ثلاثة أعوام، وقد آلى على نفسه إهلاك خصمه؛ إذ بات ألد عدو له فهو يخدعك ويخدع المركيز إسبرتهون، ويمثل هذه الرواية الشائنة أقبح تمثيل، والآن فاذهبي إلى أخيك الذي تحبينه وتآمري وإياه - دون أن تعلمي - على إهلاك ولدك روجر. أما أنا فسأقاومكم بجملتكم وحدي لأني أحبه.
إني أحبه أسمعت؟ وسأجد من حبي قوة تعينني على إنقاذه من مخالبكم، ولكن إذا كنت تحبين أخاك حقيقة فاجتهدي أن تهديه سواء السبيل.
وعند ذلك دخل خادم من خدم المركيز روجر وهو يلهث من التعب فناول مس ألن رسالة وقال لها: هذه رسالة من سيدي المركيز.
فأخذت الرسالة، ولم تلبث أن قرأتها حتى شهقت وسقطت مغميا عليها بين يدي سينتيا، وأسرعت الهندية إليها فاغتنمت سينتيا هذه الفرصة ونظرت إلى الرسالة فقرأت فيها ما يأتي:
حبيبتي ألن،
إني سقطت في كمين، وسأموت بعد ساعة إذا لم تسرعي إلى نجدتي، فإني في قبضة جمعية هرمين السرية.
وعند ذلك فتحت ألن عينيها وقالت: هلموا إلى إنقاذه إنهم سيقتلونه، وصاحت سينتيا قائلة: ولدي ولدي.
فقبضت ألن على يدها وقالت لها: هلمي ... أسرعي؛ فإن كل دقيقة نفقدها تقربه من الموت.
ثم خرجتا راكضتين إلى المركبة فصعدتا إليها، وأمرت ألن السائق أن ينهب الأرض إلى سانت حيل. •••
والآن لندخل إلى نادي تلك الجمعية السرية قبل وصول المركيز روجر إليها ببضع دقائق، وذلك في قاعة مستديرة مفروشة بالحرير، وفي وسطها مائدة من البلاط الأبيض عليها نعش مكشوف وبجانبه مطرقة ومسامير، وقد وقف رجل بالقرب من تلك المائدة مقنع الوجه مرتديا بملابس حمراء وهو مستند إلى حسام مجرد، وكان وقوفه في إناء كبير مملوء بالنخالة.
وأمام هذه المائدة منصة من الخشب كان جالسا عليها اثنا عشر رجلا يلبسون فرو السمور، وعلى وجوههم براقع من الحرير الأبيض، وهم جالسون دون حراك كالأصنام.
وكان بينهم رجل واقفا في الوسط وراء منضدة من البلور، وهو يلبس مثل رفاقه، ولكنه كان يمتاز عنهم بعقد من الكهرباء في عنقه.
وكان على تلك المنضدة كثير من الأوراق وقضيب قصير من العاج، فقرع المنضدة بالقضيب استرعاء للأسماع وقال: أيها اللوردية إني جمعتكم الليلة للاحتفال بدخول عضو جديد بيننا مشهود ببسالته وآدابه.
وقال له أحد الأعضاء: لقد علمنا بأمر هذا العضو، ولكننا لم نعرف اسمه.
قال: إنه يدعى المركيز روجر دي إسبرتهون.
فقال سواه: إذا كان ذلك فلا فائدة من إضاعة الوقت في امتحان بسالته فإنها مشهورة.
فقال الرئيس: لا أجد بدا قبل أن نخوض في الحديث من أن أذكركم بغايتنا من تأليف هذه الجمعية، وهي معاقبة كل شريف إنكليزي يسيء، وكل جريء يجسر على انتحال ألقاب الأشراف. إذن فاعلموا أنه حدثت جريمة عظيمة من هذا القبيل أبسطها لكم بكلمتين، وهي أن جريئا من طائفة النور تجاسر على انتحال لقب لورد.
فظهرت علائم الاشمئزاز على الجميع، ومضى الرئيس في حديثه فقال: إني بينما كنت أعد اليوم دعوة اجتماعكم لإدخال المركيز إسبرتهون في جمعيتنا وردتني هذه الرسالة التي أتلوها عليكم وهي:
إن نادي هرمين لم يهتم إلى الآن إلا بأمور ثانوية، مثل كشف حيلة نبيل يحتال في سباق الخيل كي يجعل السبق لجواده، ومثل منع زواج الشريف من غنية من عامة الشعب طمعا بمالها، إلى غير ذلك من الأمور التافهة التي لا تذكر بالقياس إلى الجريمة التي بسطتها لكم.
وإني أسأل جمعيتكم السرية أي عقاب يستحق من يخدع شعبا بأسره وينتحل لقب سيد عظيم مات وهو في المهد، ويجسر على الجلوس في مجلس اللوردية؟
فضج الأعضاء لما سمعوه، وقال لهم الرئيس: إني ألقي عليكم هذا السؤال الذي سأله صاحب هذه الرسالة، فأي عقاب يستحقه هذا الرجل؟
فوقف أحد الأعضاء وأجاب قائلا: يجب أن ينزع عن كرسيه وهو في مجلس اللوردية، وأن يجره الكناسون على الطرقات.
وقال آخر: وأنا أقترح نفيه إلى إحدى الجزر.
وقال سواه: أما أنا فأرتئي غير هذا الرأي.
فقال الرئيس: ماذا ترتئي؟
قال: إن أول شرط من شروط جمعيتنا أن يكون أعضاؤها من النبلاء، وأن يكون جميع الأعضاء متضامنين، فإذا دخل ذئب إلى قطيع يقتلونه ، وكذلك إذا دخل ذئب مزور بين النبلاء فقد وجب عليهم أنفسهم أن يقتلوه، وعلى ذلك فإذا ثبتت التهمة على المتهم أقترح أن يموت؛ فارتعش الحاضرون وجعلوا ينظرون إلى النعش الموضوع على المائدة وإلى الجلاد.
فقال الرئيس: إن البرهان موجود، إنما يجب قبل الحكم أن نعرض هذه الجريمة على العضو الجديد، أي على المركيز روجر، فمتى أبدى رأيه فتحت هذا الكتاب الثاني الذي ورد لي اليوم أيضا؛ فإنه يتضمن اسم هذا المزور، وهو موجود بين أعضائنا.
فصاح الجميع قائلين: هذا محال؛ فإننا نعرف أنفسنا.
قال: لا تعجبوا فقد أنبئوني بوجود براهين.
قالوا: إذن ليصدر الحكم في هذه الجلسة، وليتأهب الجلاد لإعدام الجاني، وعند ذلك طرق الباب ثلاث مرات، وذكر الطارق اسمه ففتح الباب، وكان هذا الداخل المركيز روجر نفسه؛ فوقف ينظر إلى تلك الوجوه المقنعة، وابتسم حين رأى النعش والجلاد.
فسأله الرئيس قائلا: من أنت؟
قال المركيز دي إسبرتهون: وإني قائد فرقة الفرسان. - ماذا تريد؟ - أريد التشرف بالانتظام في سلك جمعيتكم. - هل أنت نبيل؟ - نعم. - ألم تقدم في حياتك على ما يمس الشرف؟ - على الإطلاق. - حسنا فأجب الآن على هذا السؤال، وهو: ما يستحق الرجل الذي ينتحل لقب سواه ويعبث بأشراف الإنكليز؟ - إن هذا الرجل لا يمكن أن يوجد. - بل هو موجود. وتلا عليه الرسالة، فلما أتمها قال له روجر: إن هذا الرجل يستحق الموت.
قال: هو ذاك؛ فإن هذا النعش معد له، وهذا الجلاد الذي تراه سيقطع رأسه، والآن فاسمعوا الرسالة الثانية كي تعلموا اسم هذا المزور الذي حكمتم عليه:
منذ ثلاثة أيام عرضت امرأة نورية تدعى سينتيا شكواها إلى مدير البوليس، وادعت أنها بدلت طفلها بطفل ابن لورد إنكليزي ذكرت اسمه، فأصبح طفلها النوري ابن اللورد، وهو اليوم يعد من كبار النبلاء.
وهنا أوقف الرئيس التلاوة، وسأل روجر قائلا: ألا تزال مصرا أيها المركيز أن هذا المزور يستحق الموت؟
قال: كل الإصرار.
فعاد الرئيس إلى تلاوة الكتاب وقال:
أما هذا الطفل الذي أبدل بابن اللورد، أي ابن سينتيا النورية ، فهو يدعى اليوم المركيز روجر دي إسبرتهون.
فصاح روجر قائلا: هذا زور وبهتان.
وعند ذلك سمع الأعضاء صيحة أخرى وهي صيحة أم، ثم فتح باب ودخلت منه امرأة منبوشة الشعر وقد جحظت عيناها فركضت إلى روجر فطوقته بذراعيها وقالت للرئيس: رحماك رحماك أشفق على ولدي. ارحم شبابه، ولا تحكم عليه بالموت، فهو بريء وأنا المجرمة. أتقتلون ولدي ...؟ ولدي أميري الذي لا أحب غيره في الوجود. انظروا إليه ما أجمله!
أما روجر فإنه أبعدها عنه بعنف وخاطبهم قائلا: أيها اللوردية إن هذه المرأة إذا كانت قالت الحق وأثبتت أني لست ابن اللورد إسبرتهون. أرجوكم أن تنفذوا بي حكم الإعدام في الحال.
ثم مشى إلى النعش فركع أمامه وقال لسينتيا: أنت يا من تدعين أنك أمي، هاتي برهانك إن كنت صادقة، وأنت أيها الجلاد تأهب.
ولكنه قبل أن يتم حديثه سمع ضجيج في الخارج، ثم طرق الباب بعنف، وسمعوا صوتا يقول: افتحوا باسم الشرع.
فأمر الرئيس بفتح الباب، فدخل رجل بملابس البوليس كان يتبعه رجل بالملابس المدنية واثنان بملابس عمال المستشفيات، فانحنى البوليس مسلما وقال لهم: أسألكم المعذرة أيها الأسياد لإزعاجكم، ولكنني ما أتيت إلا بمهمة سلمية، ولا أسألكم عن هذا النعش فما أتيت إلا لأساعد الطبيب ملتون وهو طبيب مستشفى المجانين في بلدام؛ فإن مجنونة هربت من المستشفى وجنونها ينحصر في كونها تدعي أنها أم فخامة اللورد إسبرتهون.
فكان لهذا الكلام أشد وقع على الحاضرين، ونظرت سينتيا إلى ما حواليها، وقد كاد يذهب صوابها، ولكنها فهمت كل ما جرى؛ فدنا الطبيب من الرئيس وقال له: إني كنت طبيب اللورد إسبرتهون الخاص حين كان حاكم الهند، وقد شهدت ولادة ابنه، ورأيته يترعرع حتى بلغ مبالغ الشباب، فلما جاءوني بهذه المنكودة وسمعتها تدعي أنها أم المركيز أيقنت من فوري أنها مجنونة، وأدخلتها إلى المستشفى.
ثم التفت إلى أحد العاملين وقال: احملها يا نيلي.
فدنا العامل منها، وعرفت سينتيا أنه شمشون، فتكلفت الجنون إثباتا لقول الطبيب، وجعلت تضحك حين حملها شمشون وتقول: يا لورد إسبرتهون خير لك أن تعود من عالم الأموات كي تقنع هؤلاء المجانين أن روجر ولدنا.
فلم يبق سبيل للريب بأنها مجنونة، فلما انصرفوا بها اعتذر الرئيس إلى المركيز وقال: لقد ثبتت لنا شجاعتك أيها المركيز. وإننا نعترف بأنك جدير أن تكون منا، فقد رضيناك عضوا عاملا في جمعيتنا.
وعند ذلك أشار الرئيس إشارة؛ فأزيلت البراقع عن الوجوه، ودهش روجر دهشا عظيما؛ إذ رأى أن جميع هؤلاء الأعضاء أصحابه في نادي الحسان، فقال: يخال لي أني حالم.
فقال الرئيس: لقد كاد حلمك يكون كابوسا لو لم يحضر الطبيب ملتون. والآن فإني أقترح كتمان هذه الحادثة، وموعد الجلسة القادمة بعد ثلاثة أيام.
الفصل الثامن
غرام الأخوين
عادت ألن بعد خيبتها إلى المنزل وهي ناقمة على أولئك الأشراف الذين صدقوا رواية بولتون، وأيقنت أن مساعيها لم تخب إلا بمكايد النور. ومع ذلك فإن جان لم يكن معهم؛ فإنه قتيل لا شك في البئر.
وقد خطر لها أن تتفقده، فأخذت مصباحا فعلقته بحبل طويل ونزلت إلى الحديقة، فدخلت إلى المغارة وفتحت باب البئر وأدلت المصباح فرأت جثة خامدة في الأرض والجرذان من حولها، فتراجعت منذعرة لهذا المشهد الفظيع؛ إذ عرفت وشاح جان وأيقنت أنه مات.
ثم عادت إلى المنزل وهي تقول في نفسها: لقد هلك عدوي الآن، ولم يبق لي إلا أن أختار بين روجر وليونيل وأجعله مركيزا؛ فإن ذلك منوط بالمحادثة التي ستجري بيني وبين السير روبرت.
وبعد هنيهة دخل السير روبرت وهو مصفر الوجه مضطرب.
فقالت له: ما هذا الاضطراب؟
قال: أظن أن النور قد عبثوا بنا. - كيف ذلك؟ - إني عائد من نادي الحسان، وكنت فيه لألتقط أخبار الجمعية السرية كما أوصيتني إذ قلت لي إن النورية ستقول أمام أعضاء تلك الجمعية إن المركيز روجر ولدها، وكنت أتوقع أن الأعضاء يتهامسون حين عودة المركيز، ولكن الأمر كان على الضد فقد عاد الأعضاء يصحبهم المركيز وصداقتهم أمتن مما كانت من قبل. - أصغ إلي يا عماه فسأخبرك بكل ما حدث.
ثم أخبرته بكل ما جرى ، فقال لها: إذن إن هذه المرأة مجنونة. - كلا. ولكن هؤلاء النور كانوا أشد منا. - بل إني سأفوز عليهم ولو اضطررت إلى أن أقول في البرلمان: إن المركيز روجر مزور. - كيف السبيل إلى إقناع البرلمان؟ - بالعلامة الموشوم بها. - لقد ذهب أثرها تماما، ولم يبق من البراهين الدالة على أصله غير أمه التي أذاع الطبيب بولتون أنها مجنونة، وهو قد أبعدها الآن لا محالة.
فضرب الأرض برجله مغضبا وقال: ولكن لا بد من جلاء الحقيقة.
قالت: هذا صعب كما يظهر، ولا بد لنا من التسليم وتصديق ما صدقه سوانا. - كلا. إن ذلك لا يكون. - إني أتزوج ليونيل، ويبقى في عيون الناس ابن ضابط فقير. - كلا كلا. وسأقتل ابن النورية.
فنظرت إليه نظرة منكرة وقالت: ألعلك نسيت أني أحبه. - إذن. ماذا تريدين أن تصنعي؟ - أصغ إلي جيدا يا عماه أثبت لك أني قادرة على مقاومة هذه الطائفة. - هو ذاك.
ولكن حربا كحربنا لا تنتهي بمعركة واحدة. - ألعلك تريدين العود إلى المعترك؟ - دون شك، فقد استعملت العنف، والعنف ليس سلاح النساء؛ ولذلك وضعت خطة أخرى. - ما هي؟ - ألم تقل لي إنك سافرت مرة إلى الصين. - نعم، ولكن أية علاقة للصين بما نحن فيه؟ - ألم تر الصينيين يبيعون بضائعهم للأوربيين، فإنهم يبسطون بضائعهم فإذا أراد الأوربي شراء حاجة عد الصيني الثمن على أصابعه، فإذا أراد الأوربي المساومة أرجع الصيني بضاعته، فلو أمره الإمبراطور أن يبيع ذلك الذي ساومه لأبى، وأنا مثل ذلك الصيني. - ماذا تعنين؟ - أعني أني أستطيع حمل المركيز على التنازل عن لقبه وثروته لليونيل، فلا تسألني لماذا. - وماذا تريدين مني مقابل ذلك؟ - أريد أن تسافر غدا للصيد في جبال إيكوسيا. - إني أوافق على هذا السفر وأطلق لك الحرية، فماذا تصنعين في غيابي؟ - أجعل ليونيل لوردا. - إذن سأسافر غدا.
فعرضت له جبينها كي يقبلها حسب عادته ولكنه لم يفعل، واكتفى بمصافحة يدها، فلما ذهب إلى غرفته نزع القفاز من يده التي صافحها بها وألقاه في النار، ثم تنهد تنهدا طويلا وقال: إنها فتاة مسترجلة متهتكة، ولكنها ستجعل ليونيل لوردا. •••
ولنعد الآن إلى الطبيب بولتون، فليست هي الصدفة التي أوقفته على سر ألن وجعلته يضربها هذه الضربة القاضية.
ولا بد لنا في كشف هذا السر من أن نعود إلى الليلة التي ألقت فيها ألن جان دي فرانس في البئر، فقد كانت واهمة في اعتقادها أنه مات؛ فإنه لم يقتل حين سقوطه، بل أصيب برضوض بسيطة لوقوعه على أرض رطبة، وجرحت جبهته جرحا خفيفا.
وقد نهض بعد سقوطه، وامتحن أعضاءه بالتمرين؛ فوجد أنها غير مصابة بكسر، ولكنه قال في نفسه: لا شك أن هذه الشيطانة قد انتصرت علي هذه المرة.
وقد أقام نحو ربع ساعة دون حراك، ثم جعل يفحص الأرض فعلم أنه في جوف بئر، فاستعان بعلبة الكبريت الشمعي وأنار ذلك المكان المظلم، فرأى البئر مستديرة وأن جدرانها ملساء وهي بعيدة الغور بحيث يستحيل عليه الخروج منها بتسلق الجدران، فقال في نفسه: ترى أقضي علي أن أموت من الجوع؟
ثم جعل يفكر في أمره فقال في نفسه بعد الإمعان: لا شك أن هذه البئر غير مخصصة لجمع المياه فإنها محفورة في وسط مغارة ولها باب يفتح بلولب خفي وليس هذا شأن الآبار العادية، فلا بد أن تكون حفرت خصيصا للالتجاء إليها في أيام المخاوف والثورات، أي إنه لا بد أن يكون فيها منفذ يخرجون منه إلى خارج هذا القصر.
وكانت أرض البئر ضيقة لا تتجاوز مترين، وقد أصبح ترابها وحولا لشدة الرطوبة، فأخذ يرفع تلك الوحول بخنجره ويديه حتى انكشف له بلاط الأرض، فرأى حلقة من الحديد في وسط رخامة فرقص قلبه فرحا، ونزع تلك البلاطة، فانكشفت له حفرة أخرى رأى على نور الشمعة أن علوها لا يزيد عن مترين فألقى نفسه فيها وراء مدخل دهليز ضيق لا يستطيع المسير فيه واقفا فسار فيه نحو عشر دقائق فسمع صوت عجلات مركبة فوق رأسه فأيقن أنه باب خارج القصر، وأنه تحت أحد الشوارع.
وما زال يسير في هذا الدهليز، وهو كلما توغل في السير شعر بهواء بارد يهب على وجهه حتى بلغ سطح الأرض من منفذ كان مخفيا بين أدغال كثيفة رآها على نور القمر.
ولكنه لم يكد يزيح هذه الأدغال حتى رأى مكانا فسيحا كثرت فيه الأشجار والصلبان السود، فعلم أنه في مقبرة وطاف فيها فوجد أنها مسورة بسور عال لا يمكن تسلقه ونظر في مكان القمر من الأفق فعلم أن الساعة قد بلغت الثالثة بعد انتصاف الليل، وقال في نفسه: سأختبئ وراء هذه القبور إلى أن يفتح الحفار باب المقبرة في الصبح فأخرج منه.
وقد اختبأ وراء شجرة كبيرة وهو يبتسم ابتسام الظافر ويتوعد ألن بالانتقام الفظيع.
وفيما هو في مكمنه رأى أن باب المقبرة قد فتح ثم رأى على نور القمر رجلين مقنعين دخلا إلى التربة ودنوا من موقفه وهما يتحدثان فسمع أحدهما يقول لرفيقه: لقد عزمتم على قبول المركيز دي إسبرتهون بينكم؟
قال: نعم. وهل يوجد في نادي هرمين من يفضله؟ وغدا سيقابله رسولنا، وبعد غد نحتفل بإدخاله في الجمعية.
وقد سمع جان هذا الحديث، ثم رآهما وقفا عند ذلك القبر الذي دخل منه المركيز إلى الجمعية كما تقدم بيانه ففتحاه ودخلا.
أما جان فقد عرفهما من صوتهما، وأيقن أنهما من أعضاء تلك الجمعية السرية التي لم يستطع الاندماج فيها لأنه لم يكن من أشراف الإنكليز، ثم أيقن أن حارس المقبرة متفق مع أعضاء الجمعية بدليل أنهم يدخلون إليها في ظلام الليل متى شاءوا.
وقد مشى إلى الباب وكان الخادم يهم بإقفاله؛ فأشار إليه جان أن لا يقفله وانحنى الحارس أمامه؛ إذ حسبه من الأعضاء.
أما جان فإنه نظر إلى وجهه الأسمر ثم وضع يده على كتفه وقال له: أرني كتفك الأيسر فإنك من النور.
فاضطرب الرجل وقال له: رحماك يا مولاي لا تفضحني؛ فإن كاهن هذه الكنيسة إذا علم أني من النور طردني.
قال: ماذا تدعى؟
قال: أدعى في لندرا باستر. - وفي المضارب؟ - رهامر.
فنزع جان القناع عن وجهه وقال له: انظر إلي أتعرفني؟
فركع أمامه وقال له: كيف لا أعرف ملكنا؟ - إذن. لقد وجبت عليك طاعتي، فاذهب بي إلى مكان يمكن أن نتحدث به دون أن يسمعنا أحد.
ثم دله على القبر الذي دخل منه الرجلان؛ فارتعش النوري وقال له: ألعلك عارف يا مولاي؟
قال: نعم. لقد رأيت رجلين دخلا إليه، فمتى يخرجان منه؟ - إنهما لا يخرجان من هنا، بل من طريق آخر. - إذن. نحن وحدنا الآن؟ - نعم؛ إذ لا يدخل أحد إلى التربة قبل الساعة الثامنة من الصباح، والآن فإني مضطر إلى حفر قبر. - لمن؟ - لرجل من العمال توفي في المساء وسندفنه في الصباح. - أريد جثته.
فنظر إليه النوري بملء الانذهال وقال له جان: هل تستطيع أن تخبئني إلى المساء؟
قال: نعم في هذه الغرفة التي نضع فيها الآلات.
فقال جان في نفسه: إني سأرسل هذا الحفار إلى شمشون عند الصباح كي يطمئن علي.
ثم تبع الحفار إلى تلك الغرفة، فتداول وإياه مدة طويلة وأطلق سراحه، وأقام في تلك الغرفة ينتظر الليلة التالية بجازع الصبر.
وفي الليلة التالية جاءه الحفار فقال له: إن الجثة حاضرة يا سيدي، فماذا تريد أن تصنع بها؟
قال: إني أريد أن أدفنها في المكان الذي أعد لدفني فاحملها واتبعني.
فحملها وعاد جان بها إلى تلك البئر التي ألقته فيها ألن، فوضعه فيها وألقى وشاحه فوقها.
وبعد ذلك بساعة كان جان عند الطبيب بولتون، فقال له الطبيب: من أين أتيت؟
قال: من عالم الأرواح. وقد بعثت بعد الموت أمامك وأمام شمشون، ولكني ميت أمام جميع الناس. - ماذا تعني؟ - أعني أنه يجب أن يعلم الجميع منذ اليوم أني ميت، وهذه هي الطريقة الوحيدة لإنقاذ روجر من براثن تلك النمرة التي يدعونها ألن.
وقد قص عليه كل ما جرى، وأقام عنده فوضعا تلك الخطة التي نجحت كل النجاح وقضت على آمال ألن.
وعلى ذلك؛ فإن إنقاذ سينتيا في الجمعية السرية وإنقاذ روجر إنما كان بفضل جان الذي كانت تحسبه ألن من الأموات. •••
على أن الأخطار المحدقة بالمركيز روجر لم تقف عند هذا الحد، فإنه إذا كان نجا من ألن فلا يزال له عدو أشد خطرا منها، وهذا العدو إنما هو ابن عمه السير جيمس الذي كان يتوهم أنه قتل في أميركا حين ألقى نفسه من شرفة الحصن إلى البحر.
ويذكر القراء ذلك الرجل الذي جاء إلى دابي ناتا الهندية، واشترى منها حبة من سبحة إذا أذيبت بكأس من الخمر كانت سما زعافا.
أما هذا الرجل فإنه كان السير جيمس فإنه لم يكن يعلم أن ليونيل هو ابن اللورد إسبرتهون الشرعي لاعتقاده أنه مات وهو في المهد، فلم يكن له هم غير قتل المركيز روجر؛ لأنه وريثه الوحيد، فلما فرغت جعبة مكايده عزم على قتله بالسم.
وقد عاد إلى لندرا متنكرا فيها باسم رجل من عظماء الإسبان، وعلم أن المركيز مشترك في نادي الحسان، فدخل فيه وبات واحدا من أعضائه، وإنما فعل ذلك كي يتمكن من دس السم للمركيز بحيلة سوف تظهر.
وأما ألن فقد اعتقدت أن الجو خلا لها بعد موت جان وبعد سفر السير روبرت، فأخذت تتمعن في أمرها وتقول في نفسها: إن هؤلاء النور قد ورثوا الحقد عن زعيمهم جان، فإذا تزوجت روجر لا آمن شرهم، وخير لي أن أغتنم فرصة غياب السير روبرت فأتزوج ليونيل، ثم أرى رأيي في فضيحة روجر.
وقد قامت من فورها فكتبت إلى ليونيل رسالة موجزة قالت له فيها: إنها تريد أن تراه لشأن خطير، فأسرع إلى موافاتها وقابلها بملء البرود، فجزعت لما رأته وقالت له: لماذا تنظر إلي هذه النظرات يا ليونيل؟
فأجابها بلهجة الساخر قائلا: أخاف أن تكوني مع الذي تؤثرينه علي، وأن أكون نغصت عليك هذا اللقاء. - ليونيل ... ما هذا الذي أسمعه منك؟ ألم تعد تحبني؟ - لماذا أحبك وأنت لا تحبينني؟ - إنك تكذب يا ليونيل. فقد انتظرتك في الحديقة فلم تحضر. وفي اليوم التالي علمت أنك جرحت في مبارزة. - نعم إني بارزت الرجل الذي تحبينه، والذي دخل إلى الحديقة مكاني، أي المركيز روجر. - ألعلك جننت! إن المركيز لم يأت إلى هنا. - لا أثق بشيء مما تقولين .
فوقفت وقد تكلفت الغضب وبرقت عيناها فقالت له: اخرج من هنا فإنك تهينني.
وقد قالت له ذلك بلهجة الآمر، فطاش صواب ليونيل وخرج خروج القانطين وهو يقول: إني سأقتل المركيز روجر. •••
كان المركيز دائم الاضطراب بعد تلك المحادثة التي جرت له في تلك الجمعية السرية، فكانت سينتيا تتمثل له بكل مخيل ويسمع صوتها تقول: إنه ولدي. بلهجة لا تخرج إلا من أفواه الأمهات.
وكان الطبيب بولتون كتب إليه في اليوم التالي يخبره أنه سافر إلى أرلندا لشأن عائلي مستعجل، فخامر المركيز شك، وأراد أن يستجلي الحقيقة، فركب مركبته وذهب إلى مستشفى المجانين في بلدام وهو يقول في نفسه: إني أريد أن أرى هذه المرأة التي تدعي أنها أمي.
وهناك قابل المدير وقال له: هل أستطيع مقابلة الطبيب بولتون أحد أطباء المستشفى؟
قال: إنه ليس من أطبائه يا سيدي، وليس له به أدنى اتصال.
فذهل المركيز وقال له: ألا يوجد عندكم امرأة مجنونة تدعى سينتيا؟
قال: لا أعلم؛ إذ يوجد عندنا تسعمائة امرأة، وسأراجع السجل. كم يبلغ عمرها؟ - نحو الأربعين. - ما هو نوع جنونها؟ - إنها تتوهم كونها أمي. - هذا محال يا مولاي. فلو دخلت إلى المستشفى امرأة تدعي هذه الدعوى على فخامتكم لعلمت بأمرها في الحال، ومع ذلك فسأرى.
وقد أخذ ينظر في سجل ضخم بينما كان المركيز يناجي نفسه فيقول: ترى ألعل هذه المرأة قالت الحق؟
وعند ذلك خطرت له بسرعة التصور كل حوادث حياته، فذكر الوشم الذي كان على كتفه، واهتمام بولتون بإزالته، ومخاطرة الناباب عثمان بحياته في سبيل حمايته، واحتجاب بولتون بعد تلك الحادثة، ونظرات تلك المرأة الحنونة التي كانت تدعي أنها أمه، وصياحها تلك الصيحة المنكرة حين سمعت الأعضاء يحكمون عليه بالموت؛ فزاد به الشك، ولا سيما بعد أن أخبره المدير أن هذه المرأة لم تدخل إلى المستشفى، وعاد إلى منزله وهو في أشد حالات اليأس، وقد خجل من نفسه حتى إنه لم يعد يجسر على الذهاب إلى النادي، وكتب إلى نائبه في قيادة الفرقة أن يتولى عنه شئونها، وبحث بحثا دقيقا عن عثمان فلم يجده.
فبينما هو جالس في غرفته في تلك الليلة دخل إليه خادم ينبئه بقدوم ليونيل، فقال له: ليدخل.
فدخل، وعرف المركيز من اصفرار وجهه وتوهج عينيه أنه قادم إليه بزي عدو لا بزي صديق.
أما ليونيل فإنه انحنى أمامه وقال له: إني قادم لألتمس من فخامتكم إقالتي من الخدمة في الفرقة.
قال: لماذا تريد الاستقالة؟ - لأني أريد مبارزة قائد أرقى مني في الفرقة، ولا يحق لي مراقبته ما زلت خاضعا لأمره.
فقطب المركيز حاجبيه وقال: إذا كان ذلك فقد رضيت استقالتك، والآن قل لي من هو هذا الذي تريد مبارزته؟ - هو أنت أيها المركيز. - أنا؟ - نعم أنت. فإني أريد أن آخذ بثأري. - تأخذ بثأرك؟ - نعم. ورجائي من فخامتك أن لا تتقنع بذلك القناع الذي أخفيت فيه وجهك حين بارزتني منذ عشرة أيام وتركتني شبه ميت على بلاط لندرا.
فجعل المركيز ينظر إليه بعين الانذهال ويقول: أقسم بشرفي إنك فقدت صوابك.
قال: كلا أيها المركيز، فما أنا بمجنون. - أتدعي أني بارزتك ثم تقول إنك من العاقلين؟ - إني لا أعلم بأنك تنكر لتصون سمعة التي بارزتني من أجلها. والآن أرجوك أن تعين موعد مبارزتنا، وأن ترد لي ذلك المفتاح الذي سلبته مني كما يسلب لصوص الليل.
فمد المركيز يده ليقرع الجرس وهو لم يبق شك أن هذا الفتى مجنون.
فقبض ليونيل على يده وقال: كلا. إنك لن تقرع الجرس، وسترد لي ذلك المفتاح الذي أعطتني إياه مس ألن.
وقد وقعت هذه الكلمة من فؤاد المركيز وقع شرارة في برميل بارود، فدفع ليونيل بعنف وقال له: إنك مجنون ونذل؛ لأنك تحاول تدنيس سيدة جديرة بالاحترام كانت تحبني وتشفق عليك.
ثم امتشق حسامه واقتدى به ليونيل، ولكنهما قبل أن يتقارعا فتح باب الغرفة ودخلت منه امرأة فحالت بينهما وهي تقول: كلا إنكما لن تتقاتلا.
وكانت هذه المرأة اللادي سيسلي، فصاح ليونيل قائلا: أمي. وانحنى المركيز أمام هذه المرأة التي لم يكن يعرفها، وقال لها: شهد الله يا سيدتي أني تجاوزت مع ولدك حد الصبر، ولكنه أهانني كما يهينون المتشردين.
قالت: ألا يوجد في القاعة الكبرى في هذا القصر صورة اللادي سيسلي زوجة اللورد إسبرتهون الميتة منذ اثني عشر عاما.
قال: بلى.
قالت: إذن انظر إلي.
فحدق المركيز بها وقال: إن الشبه عظيم.
فأخذت بيده وذهبت به إلى تلك القاعة ووقفت بجانب الصورة وقالت: انظر إلي وإلى هذه الصورة.
قال: ماذا أرى؟ ألعلك أمي؟
قالت: لا أعلم إذا كنت أمك، ولكني أعلم أني أدعى اللادي إسبرتهون زوجة أبيك، وأن هذا الذي تقاتله إنما هو ولدي الثاني، أي ابن أبيك اللورد إسبرتهون.
وكان روجر أمام التي توهم أنها أمه، فلما علم أن ليونيل أخوه نهض، فمشى إليه وضمه إلى صدره وهو يقول: اغفر لي يا أخي.
ثم عاد إلى اللادي وأخذ يقبل يديها، فسالت دمعتان من عينيها على جبينه وقالت بصوت يتهدج: لا شك أن السير روبرت خدعني فإنه ولدي.
ثم قبلت جبينه قبلة حادة أخص ما يقال في وصفها إنها قبلة أم. •••
وفي اليوم التالي ذهب المركيز إلى النادي وهو فرح القلب باسم الثغر، فتسابق الأعضاء للسلام عليه؛ فإنهم لم يروه منذ أسبوع، وقال له واحد منهم: إنك لو أتيت أمس لرأيت عجبا.
قال: لماذا؟
قال: لأنك كنت رأيت رجلا عجيبا في أطواره؛ فإن إحدى عجائبه أن له خمسة عشر اسما تبتدئ بالدون رودرو بيدرو دانتس ... إلخ، وهو من عظماء الإسبان. يلبس في أصبع من أصابعه خاتمين من الماس وغيره من الحجارة الكريمة، ولا شك أن له مناجم ذهب؛ فقد خسر أمس ألفين وخمسمائة جنيه وهو يضحك كأنه من الرابحين أو كأنه الناباب عثمان.
فارتعش المركيز لذكر عثمان، وقال لهم: هل لكم أيها السادة أن تخبروني عما تعلمونه عن الناباب عثمان؟
فقال أحدهم: يقال إنه يتنزه في أراضيه في إيكوسيا. وقال آخر: إن هذا الرجل عجيب أيضا في أطواره، فإنه بينما نراه هنا وهو مرتد بملابس الأعيان نراه يتجول في أقبح أزقة لندرا وهو بملابس البحارة.
فأجابه أحدهما قائلا: ألعلها حكاية تقصها؟
قال: بل حقيقة رأيتها؛ فقد رأيته في الليل داخلا إلى وبنغ وهو يحدث رجلا من عامة الشعب ويحدثه الرجل دون كلفة كأنهما صديقان.
فارتعش المركيز لذكر النوري وأراد أن يغير الحديث فقال: لقد كنتم تتحدثون عن هذا الإسباني، فمن أين أتى؟
فقال واحد منهم: إنه قادم من أميركا وهو يقول: إنه لقي ابن عمك السير جيمس فيها. - متى؟ - منذ ثلاثة أشهر. - هذا محال أيها السادة؛ فإن ابن عمي سقط من أعلى الحصن منذ ستة أشهر. - هذا الذي قلناه له، ولكنه أثبت مدعاه، وفوق ذلك فهذا هو قد حضر، وستقف منه على الحقيقة.
وبعد هنيهة دخل الإسباني فعرفوه بالمركيز فقال: إني عرفت رجلا من أسرة إسبرتهون كان أسيرا لدى الجنرال جاكسون - زعيم الثائرين في أميركا - وهو يدعى السير جيمس.
فقال له المركيز: متى كان ذلك؟
قال: منذ ثلاثة أشهر تقريبا.
قال: إذن. لقد عرفت رجلا انتحل هذا الاسم؛ فإن السير جيمس قد مات.
فابتسم الإسباني وقال: تريد أنهم حسبوه ميتا.
قال: إن من يسقط من علو خمسين مترا ويصاب برصاصتين لا يعود إلى التنزه في أرضنا.
قال: هو ما تقول، ولكن السير جيمس أصيب بجراح وقد التقطه الأميركيون وحملوه على قارب إلى معسكر العصاة؛ فشفي وبات أسيرهم، ودليل صدقي أنه عهد إلي بمهمة لدى فخامتكم. - أهي خطية أم شفاهية؟ - شفاهية. وإني ما دخلت إلى هذا النادي إلا على رجاء فيه؛ فقد عهد إلي السير جيمس أن أخبرك بشأن خطير.
قال: إذا لم يكن ذلك مما يقال أمام الحاضرين فعين موعدا لاجتماعنا.
قال: إذا شئت فاقترح علي عند انتصاف الليل أن نلعب بالشطرنج؛ فإننا نختلي في غرفة ونتحدث.
قال: هو ذاك، وسنجتمع في الساعة الأولى بعد انتصاف الليل؛ فإني مضطر إلى الذهاب الآن في بعض الشئون.
وقد أقام المركيز ساعة بينهم، ثم خرج من النادي فركب مركبته على أن يعود بعد ساعة. •••
عندما دخلت اللادي سيسلي إلى الغرفة التي كان المركيز وليونيل يتبارزان فيها لم يكن قدومها من قبيل الصدفة والاتفاق، بل كان من تدبير مس ألن؛ فإنها حين رأت ليونيل خرج من عندها وهو يتوعد المركيز قالت في نفسها: إنه ذاهب الآن لمقابلة المركيز، وقد دنت النتيجة التي أنتظرها، فلأسرع بإخبار أمه.
وكان منزل اللادي بجوار منزلها؛ فخرجت مسرعة من الحديقة وسارت.
اركضي يا سيدتي إلى قصر إسبرتهون ولا تتأخري لحظة؛ فإن ولديك يقتتلان.
وقد عرف القراء ما جرى؛ فإن اللادي سيسلي وصلت قبل فوات الأوان، ومنعت حدوث المبارزة، وكان ما تقدم لنا بيانه من أنها باتت تعتقد أن المركيز ولدها حقيقة؛ فإن السير روبرت كان قد قال لها قولا مبهما مفاده: أن المركيز روجر ابن غير شرعي للورد إسبرتهون، ولكنه لم يقل هذا القول بصفة جازمة، فلما رأت ما كان من مروءة المركيز حين قابلها وحين رأى صورتها وقال لها: إنك أمي، لم تتمالك عن أن تصيح قائلة: نعم. إنك ولدي.
وعند ذلك نسي المركيز ما جرى له في الجمعية السرية وما كان من صياح سينتيا، حتى إنه نسي تلك الحماية الخفية التي كان يتولاه بها الناباب عثمان، وعاد إلى الاعتقاد بأنه ابن اللورد إسبرتهون الحقيقي الشرعي.
وقد أقام ساعة بين أمه وأخيه لم يجد أهنأ منها في حياته، فكان يسأل أمه أسئلة مختلفة وهو يعجب كيف أنها أذاعت خبر موتها، بحيث اضطرت إلى أن تخبره بكل التفاصيل عن حياتها المحزنة وما كانت تلقاه من ظنون زوجها وعنفه، وكيف أن أخاه السير جاك وشى بها وشايات سافلة حتى بات يعتقد أن ليونيل ليس ولده، بحيث اضطرت أن توهمه أيضا أن ولده ليونيل قد مات كي تنقذه من غضبه.
فقال لها المركيز: ولكن أبي قد مات، فلماذا لم تأتي إلي بعد موته فتقولي لي: أنا هي أمك، وهذا هو أخوك.
قالت: ذلك لأني كنت أخاف هذه الشرائع الإنكليزية الظالمة التي تخص كل شيء بالابن الكبير وتحرم بقية الأولاد؛ فآثرت أن يبقى ليونيل كما هو على أن يظهر وأثير عوامل التحاسد بينكما.
قال: إن هذه الشرائع التي تخافينها لا تسري إلا على الأشراف الذين يريدون أن يلجئوا إليها أما أنا فلا فرق عندي بين الأولاد ولا أميز بين البكر عنهم في شيء.
ثم مد يده إلى ليونيل وقال له: إننا سنقتسم إرث أبيك يا أخي بالسواء، وسألتمس من الملك في أول مقابلة أن يأذن لنا بالاشتراك.
فضمت اللادي روجر إلى صدرها وقالت: إنك شريف كريم يا بني.
وقد اتفقوا على أن يكتموا هذا الأمر إلى أن يعقد مجلس اللوردات أول جلسة.
ثم أوصلهما المركيز إلى منزلهما، وقبل أن يفارقهما همس في أذن ليونيل قائلا: إني تخليت لك عن مس ألن، فأنت الذي تتزوجها، وقد تركه وانصرف مسرعا إلى منزله، فبكى بكاء أليما لهذه التضحية التي ضحاها.
وفي اليوم التالي كتب إلى مس ألن يقول:
إني مضطر إلى مقابلتك اليوم لشأن تتعلق عليه راحتي في حياتي.
فأجابته مس ألن قائلة:
في الساعة العاشرة من هذه الليلة في منزلي الصيفي.
وبعد أن تلقى هذا الجواب ذهب إلى النادي وجرت تلك المحادثة التي بسطناها بينه وبين السير جيمس المتنكر بشكل إسباني، ثم برح النادي في الساعة التاسعة على أن يعود إليه في الساعة الأولى بعد انتصاف الليل كي يجتمع بالإسباني.
وقد خرج في مركبته، فذكر ما سمعه في النادي بشأن الناباب عثمان، فعاوده الشك، وجعل يحدث نفسه فيقول: ترى لماذا هذا الرجل يحميني؟ وما هذه العلائق السرية التي له مع النور؟
وقد عاد إلى التفكير بالطبيب بولتون وذلك الوشم الذي محاه عن كتفه وبسينتيا. وعلى الجملة فقد عاوده الشك القديم، ولكنه لم يخجل هذه المرة بل قال في نفسه: إذا ثبت لي أني ابن النورية، فإني أسافر سفرا لا أرجع منه، وأجعل ليونيل وريثي.
وما زالت المركبة تسير به حتى وقفت عند باب منزل ألن الصيفي، فدخل وهو خافق القلب؛ فإنه سيضحي أعظم تضحية يضحيها قلب إنسان.
ولما دخل إليها ضبط نفسه وقال لها: أسألك المعذرة يا سيدتي، فقد مضى عشرة أيام دون أن أخبرك بشيء من أمري.
فأطرقت رأسها إلى الأرض وقالت: وا أسفاه! لقد فهمت أيها المركيز. فارتعش وقال: ماذا فهمت؟
فأجابته بصوت منخفض متقطع قائلة: لقد فهمت أنك لا تحبني.
قال: إنك مخطئة؛ فإني أحبك اليوم كما كنت أحبك من قبل. وإذا كنت اليوم أضحي هذه التضحية العظمى فلأن رجلا أخلق مني بحبك.
وهنا توقف؛ إذ رأى أن ألن تكاد أن تسقط عن كرسيها، ثم تجلد وقال لها: إن ليونيل يحبك.
قالت: إني أعلم. - وإنه يحبك حبا لا يوصف. - ولكني أحبك. - وإن ليونيل أخي.
فتكلفت الانذهال العظيم كأنها لم تكن عارفة بشيء من هذا، وقالت له: ليونيل أخوك؟
قال: نعم. إنه ابن اللورد إسبرتهون الأصغر، وهو فتى جميل، وسيكون غنيا لأني سأقاسمه ثروتي، فلا بد أن تكوني امرأته، وسيعقد قرانكما بعد ثلاثة أيام في كنيسة قصرنا.
فصاحت ألن صيحة قنوط وألقت نفسها بين ذراعي المركيز كأنها أغمي عليها.
وعند ذلك فتح الباب ودخلت خادمتها، فقال لها المركيز بصوت يتهدج: احمليها إلى غرفتها وعالجيها حتى تستفيق؛ فإن قواي قد تلاشت، ولا أستطيع الوقوف أمامها.
وخرج وهو يشهق بالبكاء ويقول: رباه لقد تمت التضحية، فهبني من لدنك قوة تعينني على التجلد؛ فإن الانتحار حرام.
حتى إذا سارت به المركبة استفاقت ألن من إغمائها، فأطلقت سراح الخادمة، ثم جعلت تبتسم وتقول: أظن الآن أن المهمة قضي معظمها؛ فإن السير روبرت حين يعود يجدني زوجة ليونيل.
أما اللادي سيسل فستكون معي لا علي؛ لأنها تعتقد الآن أن روجر ولدها، وهي لا ترى رأي ولدها من أن النورية لا يجب أن تكون امرأة لورد، فلا تعترض في زواج تتوقف عليه حياة ولدها.
ومتى تم عقد الزواج يسهل علي إقناع روجر أنه ابن سينتيا وهو من أهل المروءة والكبرياء فلا يرضى بعد ذلك أن يتمتع ساعة للغيب وثروته هما لسواه، ويتنازل عن حقه لليونيل، فأصبح المركيزة دي إسبرتهون.
وفيما هي تناجي نفسها بهذه المطامع أنصتت مصغية؛ إذ خيل لها أنها تسمع وقع خطوات، ففتحت النافذة بسرعة وأطلت منها ولكن الظلام كان حالكا فلم تر أحدا، فقالت في نفسها: لا شك أن الذي سمعته كان حفيف الشجر أو صوت مسير قارب في النهر.
وبعد فما هذا الجنون ومم أخاف، إذا كان جان دي فرانس قد مات؟!
الفصل التاسع
الاعتراف
عاد المركيز روجر إلى نادي الحسان فوجد الإسباني ينتظره، فاتفقا على اللعب بالشطرنج، وتراهن أعضاء النادي، واقترح الإسباني أن لا يحضر لعبهما أحد، ثم دخل مع المركيز إلى غرفة، فأقفلا بابها وجلسا بجوار نافذة مقفلة تطل على مشرف يشبه الرواق.
وقد وضعا الشطرنج بينهما على مائدة، وقال له الإسباني: لقد تعودت أن أشرب كأسا من الخمر خلال اللعب، فهل توافقني على ذلك؟
قال: دون شك، وملأ كأسين من زجاجة أمامهما فشرب كل منهما نصف كأسه وبدأ اللعب.
وكان الإسباني متختما بخاتم من الياقوت بخنصر يده اليمنى.
فبينما هو ينقل رقاع الشطرنج سقط خاتمه إلى الجهة التي كان فيها المركيز فانحنى المركيز ليلتقطه واغتنم الإسباني هذه الفرصة فألقى في كأس خصمه حبة سوداء لم تلبث أن امتزجت بالخمر حتى ذابت فيها.
ثم أخذ الخاتم شاكرا، فقال له المركيز: أتعلم لماذا رضيت أن ألاعبك بالشطرنج؟
قال: دون شك؛ فإننا سنتحادث بشأن السير جيمس ابن عمك، فاعلم أن الأميركيين أنقذوه.
قال: لقد أخبرتني بذلك. - وإني لقيته حين كنت بمعسكر الجنرال جاكسون فتعرفت به وعهد إلي بمهمة لديك. - ما هي هذه المهمة؟ - إنه يريد أن يعود إلى إنكلترا. - إنها جرأة نادرة من هذا الأفعى. - ولكنه نادم أشد الندامة لإساءته إليك. - وأنا آسف لأني لم أقتله كما يقتلون الذئاب.
فهم أن يجيبه، وعند ذلك فتحت النافذة فجأة وهب هواء شديد أطفأ المصباح فقام الإسباني لينير المصباح من المستوقد ونهض المركيز يحاول إقفال النافذة فلم ينتبه أحد منهما إلى يد مدت من تلك النافذة فأبدلت موضعي الكأسين بحيث وضعت كأس المركيز أمام الإسباني وكأس الإسباني أمام المركيز.
ثم أضيء المصباح، وأقفلت النافذة وعادا إلى الحديث فقال المركيز: لقد قلت لي إن السير جيمس ندم على ذنوبه، وأنه يريد العودة إلى وطنه .
قال : نعم. وإني أكفل صدق توبته وندمه.
قال: لا أشير عليك أن تكفل شيئا؛ فإنه إذا عاد إلى لندرا حاكمته فحكم عليه بالإعدام، وإني أشرب الآن نخب هذه الساعة.
ثم أخذ كأسه وشرب ما فيه جرعة واحدة، واقتدى به الإسباني فشرب كل كأسه جرعة واحدة، وعادا إلى اللعب.
وكان الإسباني ماهرا في الشطرنج، فغلب المركيز وقام المركيز ففتح باب الغرفة وقال للذين راهنوا معه: يسوءني أن أخبركم بأنكم خسرتم معي.
فدفع الخاسرون وقبض الرابحون، وأعجب الحاضرون بمهارة الإسباني.
وعند ذلك دخل عضو جديد إلى النادي فقال واحد من الحضور: هو ذا الناباب عثمان عاد إلينا بعد الهجر الطويل. فحياهم عثمان وقال لهم: لقد علمت أنه جرت مراهنة عظيمة في الشطرنج.
فأشاروا إلى الإسباني وقالوا: نعم هذا هو الرابح.
فقال عثمان: أحق ما تقولون؟ أهو الدون بيدرو فقال له الإسباني: أتعرف اسمي؟
قال: لا يوجد في لندرا من لا يعرفك، فهل تريد أن تشرفني بملاعبتي بالشطرنج؟
وكان الإسباني يود الانصراف وهو ينظر من حين إلى حين نظرة الفاحص إلى المركيز؛ فأجاب عثمان قائلا: لقد فات الأوان يا سييل فإننا في ساعة متأخرة من الليل.
فقال له عثمان: إن من كان من سلالة فرنند كورتس لا يخاف ملاعبة هندي مسكين مثلي.
فقال الجميع: نعم. هذا محال؛ فإن الدون بيدرو من أعظم اللاعبين.
وقد ألحوا عليه بالقبول فلم يجد بدا من الامتثال، وقال لعثمان: إني رهين أمرك يا سيدي.
فقال عثمان: إنك لاعبت خصمك منذ هنيهة دون شهود. قال: هو ذاك.
قال: أما أنا فأوثر أن يكون لكل منا شاهد فاختر شاهدك من بين الحضور.
فاختار الإسباني الصراف مكسويل، وهو الذي أدخله إلى النادي، واختار عثمان المركيز روجر، فتراهن الحاضرون، ودخل الأربعة إلى قاعة اللعب. فقال الإسباني في نفسه: يخال لي أن هذا النوري الذي خيب كل آمالي قد عرفني. وقد شعر بدوار خفيف حمله على محمل الاضطراب من مقابلة جان.
أما جان فإنه أقفل الباب بالمفتاح من الداخل، وجلس في المكان الذي كان المركيز جالسا فيه وبدأ اللعب.
فقال جان مخاطبا الصراف: إنه إذا رضي الدون بيدرو أن يلاعبني كل ليلة فلا يمضي زمن وجيز حتى ينفد ماله في مصرفكم من المال.
فابتسم الإسباني وقال: سوف نرى.
فقال جان: ولكن الوقت لا يتسع له لسوء الحظ.
فاضطرب الإسباني وقال: كيف ذلك؟
قال: ذلك أن المرء لا يعلم كم يفسح الله في أجله، وفوق ذلك فقد درست شيئا من الطب.
فاشتد اضطرابه وقال: أتعني أني مريض؟ - بل أعني أنك في أشد حالات الخطر من مرضك. - وأنا أرى أنك تلاعبني على الطريقة الهندية. - كيف ذلك؟ - ذلك أنك تحاول إخافتي. - كلا. فإني أراهن أنك تشعر الآن بحرارة شديدة في صدرك لا تعلم أسبابها. - لنلعب يا سيدي. - كما تريد. ولكني أخاف أن لا تستطيع إتمام اللعب؛ فقد بدأ وجهك يصفر، وهذا الاصفرار من تأثير الخمر التي شربتها، فهل هي جيدة؟ - إنها من أفضل الخمر. - أتحسبها جيدة بالرغم عن تلك الحبة السوداء التي وضعتها في الكأس؟ - أرى أنك تشبه المجانين. - ما أنا المجنون بل أنت، فإنك غلطت في الكأس أيها السيد العزيز.
ولم يكد جان يتم جملته حتى صاح الإسباني صيحة ألم فاصفرت شفتاه، وحاول أن ينهض فمنعه جان عن النهوض وقال: ابق في مكانك فإن الموت على هذا الكرسي خير لك من الموت في الطريق.
فصعق الإسباني، وجعل ينظر إلى جان نظرة المأخوذ، والصراف والمركيز ينظران إلى الاثنين منذهلين وهما لا يفهمان شيئا من هذا الحديث.
وعند ذلك التفت جان إلى المركيز وقال له: اعلم يا سيدي أن هذا الرجل الذي تراه أراد تسميمك وهو يلاعبك، فوضع في كأسك سما هنديا يقتل شاربه بساعة.
قال: ماذا تقول؟
قال: أقول الحق، فانظر إلى هذا الإسباني الكاذب كيف أن أعضاءه تتشنج من الألم، ولكن اتفق لحسن الحظ أنه بينما كان ينير المصباح الذي أطفأه هواء النافذة مدت يد من وراء تلك النافذة فوضعت كأسك موضع كأسه بحيث شرب الدون بيدرو كأسك المسمومة.
فاصفر وجه روجر وقد رأى تأثير السم بدأ على وجه الإسباني، فقال: ولكن أية فائدة لهذا الرجل من قتلي وأنا لا أعرفه ولم أسئ إليه؟
فلم يجبه جان، بل التفت إلى الصراف وقال له: إن المال المودع في مصارفكم باسم الدون بيدرو قد دفعتموه لهذا الرجل. أليس كذلك؟
قال: نعم.
قال: إذن. فاعلم أن الدون بيدرو قتل منذ شهرين، وأن الذي قتله وانتحل اسمه إنما هو هذا الرجل.
فحاول الإسباني أن ينهض، ولكنه لم يستطع إذ كان قد دخل في دور النزع، فدنا جان منه فنزع الشعر المستعار عن رأسه ولحيته وقال للصراف: انظر.
فبهت الصراف وصاح المركيز قائلا: السير جيمس؟
فقال له جان: إن الموت قد مر بك أيضا أيها المركيز.
ثم فتح تلك النافذة التي مر منها الهواء فأطفأ المصباح ونادى قائلا: تعال يا ويلس.
فدخل من النافذة ويلس خادم السير جيمس، ودنا من سيده وهو يحتضر فقال له بملء البساطة: يسوءني يا سيدي أن أراك تموت، ولكن الخمسمائة جنيه التي قبضتها من هذا الهندي الكريم أفضل منك؛ فإنها تضمن لي العيش بسلام، ولذلك بحت له بسرك.
غير أن السير جيمس لم يفقه كلمة من حديثه فقد كان يحتضر، وبعد هنيهة فاضت روحه وسقط إلى الأرض، فانحنى جان أمام الصراف والمركيز وحاول الانصراف، فقبض المركيز على ذراعه وقال له: أما هي يدك التي غيرت موضع الكأسين؟
قال: ربما. - إذن لقد أنقذتني أيضا من الموت.
فانحنى جان ولم يجب، فقال له المركيز: إنك ستجيبني إذن على أسئلتي.
قال: كلا. - أريد أن أعلم على الأقل لمن أنا مدين بهذه الحماية السرية. إني أريد، أفهمت؟ - وإذا أبيت أن أقول؟ - إني أعرف عند ذلك كيف أكرهك على التصريح.
فابتسم جان ابتسام المطمئن وقال له: لقد كان ابن عمك السير جيمس يزاحمني في امرأة أهواها وقد اختطفها مني فانتقمت منه بإنقاذك.
ثم أفلت منه وخرج من النافذة مقتفيا أثر الخادم فتوارى في الظلمات.
أما روجر فإنه وضع يده على جبينه وقال: إنه كذب. نعم إنه كاذب في ما قال . •••
قبل ذلك بساعة كانت مس ألن قد استفاقت من إغمائها الكاذب، فجعلت تبتسم هازئة بمروءة المركيز الذي ضحى نفسه من أجل أخيه، وقد سمعت وقع خطوات كما تقدم ففتحت النافذة وأطلت منها، فلم تر ما يحمل على الريبة، فعادت وهي تلوم نفسها وتقول: ترى ممن أخاف وقد مات جان دي فرانس؟
ولكنها لم تكد تتم جملتها حتى فتح الباب فذعرت ذعرا عظيما؛ إذ رأت شمشون يصحبه نوري آخر وسينتيا أخت جان، وحاولت أن تأخذ غدارة معلقة بالجدار، ولكن شمشون كان أسرع إليها منها إلى الغدارة؛ فقبض عليها وكمم النوري الآخر فمها، وأوثقت سينتيا يديها، فحملها شمشون وخرج الجميع بها وهي شبه مغمى عليها لاضطرابها لا تدري إلى أين يذهبون بها.
وأما ليونيل فقد كان تأثره شديدا من مروءة أخيه حين قال له: إنك تحب مس ألن وستتزوجها، وكان سروره عظيما حين عرف حقيقة نسبه، وأيقن أنه من عظماء الأشراف.
وفي اليوم التالي ذهب إلى أخيه فلم يجده، ولكنه كان قد ترك له رسالة يقول له فيها: إني مهتم بتحقيق سعادتك فلا تجزع وكن من الصابرين.
وقد عاد في الليل إلى أخيه فلم يجده، وفي صباح اليوم التالي ضاق صدره ولم يعد يطيق الصبر، فذهب إلى منزل السير روبرت فطرق الباب وجاءه خادم فقال له: سل مس ألن إذا كانت تريد أن تقابلني.
فقال له الخادم: إنها لو كانت هنا يا سيدي لما كانت استفاقت الآن. - ماذا تقول؟ أما هي هنا؟ - كلا يا سيدي. - إذن أين هي؟ - لقد وردت إليها رسالة مساء أمس فركبت مركبة وذهبت بها. - من أين أتت هذه الرسالة؟ - لا أدري. ولكن الذي جاء بها كان أحد خدم المركيز دي إسبرتهون؛ فقطب ليونيل حاجبيه وقال: إلى أين ذهبت؟ - أظن أنها ذهبت إلى منزلها الصيفي.
فاضطرب ليونيل، حتى إنه لم يعد يدري ما يصنع، وقبض على ذراع الخادم فقال له: إنك ستذهب بي إلى هذا المنزل؛ فإني لا أعرف مكانه.
فلم يسع الخادم مخالفته؛ إذ كان يعلم أن له منزلة سامية عند السير روبرت، وذهب وإياه إلى ذلك المنزل، فأخبرته الخادمة أن رجلين وامرأة قد اختطفوها في الليل، فهاج ليونيل هياج المجانين؛ إذ أيقن أن أخاه قد اختطفها بدليل الرسالة التي أرسلها إليها، وعاد مسرعا إلى أخيه، فقال له وهو يتوهج من الغضب: إنك خدعتني شر خداع.
فتراجع المركيز منذهلا وقال له ليونيل: نعم إنك اختطفت مس ألن لتجعلها خليلتك.
فصاح المركيز وقد بلغ منه الانذهال أشده قائلا: مس ألن ... هل اختطفوا مس ألن؟
قال: إنك تعلم من ذلك فوق ما أعلم فأنت الذي ...
فقبض المركيز على ذراعه وقال له: إنك تتكلم من غير عقل، وأنا أمنعك عن أن تتهمني هذه التهمات الشائنة.
وكانت لهجة المركيز تدل دلالة واضحة على صدقه، فقال له: ولكن من الذي اختطفها؟
قال: أوضح لي أيها المنكود ما جرى بدلا من أن تتهمني.
قل ... ماذا جرى؟
قال: جرى أنهم في الليلة الماضية اختطفوا مس ألن من منزلها الصيفي. - من الذي اختطفها؟ - رجلان وامرأة، وسمعت الخادمة ذينك الرجلين يدعوان المرأة باسم سينتيا.
فارتعش المركيز حين سماعه هذا الاسم وقال لأخيه: اذهب فسأجدها.
وكان الخادم الذي دل ليونيل على منزل ألن الصيفي قد دخل معه إلى غرفة المركيز، فارتعش أيضا حين سمع اسم سينتيا وقال: إذا كانت هي تلك المرأة التي عرفتها؛ فإني أعرف أين توجد. - أتعرف أين هي سينتيا؟ - نعم. بشرط أن تكون تلك النورية التي عرفتها.
فلبس المركيز قبعته وتقلد حسامه، وحاول ليونيل أن يتبعه فأوقفه وقال له: إني أقسم لك يا أخي بتذكار أبينا إني رجعت عن حب مس ألن، ولم أعد أحبها إلا كأخت، وسأفرغ كل مجهودي لتكون امرأتك.
قال: لقد وثقت بك، فدعني أذهب معك.
قال: إني لا أجدها إلا إذا كنت وحدي؛ فثق بي، وإني أتوسل إليك أن لا تتبعني.
فتردد ليونيل وقال له المركيز: أستحلفك بالله أن لا تتبعني. فأطرق برأسه وقال: ليكن ما تريد.
وسار المركيز يصحبه الخادم، وكان يسير مستعجلا والخادم في أثره لا ينبس بحرف، حتى إذا وصلا إلى زقاق ضيق كثرت فيه الوحول قال الخادم: يخال لي أن الليلة التي اختطفنا فيها سينتيا.
فقاطعه المركيز قائلا: أأنت اختطفتها؟
فاحمر وجه الخادم ولم يجب فقال له المركيز بلهجة المتوعد: قل.
قال: إني أخاف يا مولاي أن تطردني مس ألن إذا تكلمت. - لا خوف عليك فإني أستخدمك. - إذا كان ذلك، فاعلم يا مولاي أني اختطفت سينتيا النورية بمشاركة زميلي نوح وامرأة هندية تبيع السموم. - متى؟ - منذ ثلاثة عشر يوما. قد اختطفناها بينما كانت تسير في هذا الزقاق. - لماذا اختطفتموها؟ - لا أعلم، فقد كان ذلك بأمر السير روبرت ومس ألن. - مس ألن ... أهي التي أمرتكم باختطافها؟ - نعم يا مولاي. - إلى أين ذهبتم بها؟ - إلى منزل السير روبرت الصيفي، وحين قبضنا عليها كانت خارجة من منزل الطبيب بولتون.
فقال المركيز في نفسه: بولتون ... مس ألن. ما هذه الأسرار؟ ثم قال للخادم: امض في حديثك، وأخبرني بكل ما تعلم.
قال: إننا حبسنا سينتيا في منزل مس ألن مدة يومين، وفي المساء جاءت مس ألن وقالت لها: تعالي فإن حياة ابنك في خطر.
فجعل العرق يسيل من جبين المركيز وقال له: هل تبعتها؟ قال: نعم، فقد ركبت وإياها مركبة، ولم أدر إلى أين ذهبنا، فإن زميلي نوح كان يقود المركبة. - والآن كيف ترجو أن تجد سينتيا؟ - لظني أنها عادت إلى منزلها. - هذا المنزل؟ - يجب أن يكون هنا في زاوية هذا الزقاق، نعم لقد عرفته؛ فهذا فهو. وقد سار به حتى أوصله إلى المنزل، فقال له المركيز: اذهب الآن فلم يعد لي بك شأن.
ثم طرق الباب؛ ففتحت له فتاة حسناء تبلغ السادسة عشرة من العمر، فحياها المركيز وسألها قائلا: هل سينتيا هنا؟
فنظرت الفتاة نظرة حذر إلى الشارع وأجابته قائلة: إنك واهم يا سيدي، فلست أعرف سينتيا.
وكان المركيز قد رأى ما كان من حذرها، فقال لها وهو يبتسم: لا تخافي يا ابنتي؛ فإني صديق، وإن عثمان أرسلني.
ففتحت الباب وقالت: ادخل يا سيدي؛ فإن سينتيا في الغرفة العليا مع أختي .
قال : يجب أن أقابلها وحدها.
قالت: إذن تفضل بالانتظار إلى أن أخبرها.
وبعد هنيهة جاءته سينتيا؛ فخفق قلبها حين رأت ولدها، وبادرها المركيز بقوله: هل أنت التي تدعين سينتيا؟
قالت: نعم.
قال: أأنت التي تقولين إنك أمي؟
فاصفر وجهها، ولكنها تمكنت من ضبط نفسها فقالت له: ألتمس من فخامتك معذرتي؛ إذ يظهر أني كنت مجنونة، فقد كنت في الطريق حين رأيتك عائدا من أميركا، فذكرت حين رأيتك ولدا فقدته كان يشبهك أتم الشبه، فاشتد بي الحزن حتى أصبت بذلك الجنون.
وكانت تكلمه بلهجة المتوسل، ويرى المركيز من اضطرابها أن عوامل خفية تتنازع في قلبها، فقال لها: أقسمي لي بإلهك وبأرواح آبائك إنك تقولين الحق وإنك لست أمي.
فتراجعت منذعرة كأنها رأت هوة قد فتحت أمامها، فقال لها: أقسمي.
فرفعت يدها إلى السماء وفتحت فمها كي تقسم، ولكن يدها سقطت على ركبتها وأطبق فمها دون أن تستطيع الكلام.
فصاح روجر قائلا: نعم إنك أمي. أتنكرينني وأنا ولدك؟
فنسيت المنكودة عند ذلك أيمانها، ونسيت عهودها لأخيها، ولم تعد تذكر غير أمر واحد، وهو أن هذا الفتى الجميل الذي يملأ العين قرة، وهذا القائد الباسل الذي لا يتحدثون إلا ببسالته إنما هو ثمرة أحشائها؛ فصاحت صيحة حب لا تدركها غير الأمهات، وألقت نفسها بين يديه وهي تقول: ولدي ولدي! •••
ولنعد الآن إلى مس ألن فإنهم بعد أن قيدوها وكمموها خرجوا بها إلى قارب كان راسيا عند الشاطئ، فمخر في المياه إلى سفينة كبيرة، وهناك أصعدوا الأسيرة إليها، ونزعوا الكمامة عن فمها، فقالت لها سينتيا: لقد دنت ساعة عتابك يا مس ألن، وأنت التي ستتولين الحكم على نفسك.
قالت: إن هذا الكلام مبهم لا أفهمه.
قالت: سوف تفهمينه؛ فإنك أنت هنا الآن في سفينة ستسافر بعد غد صباحا، فاختاري بين أن تسافري فيها وبين أن تعودي إلى لندرا.
قالت: إني لا أجد الاختيار صعبا. - أتحسبين؟ - دون شك، فإني لا أريد السفر الآن. - إنك إذا بقيت في هذه السفينة تسافر بك إلى أميركا، وهناك يضمنون لك عيشا رخيا شريفا.
فأجابتها بلهجة الساخر قائلة: هذا هو اقتراحك الأول قد عرفناه، فلننظر في اقتراحك الثاني.
قالت: وإذا أبيت أن تسافري نعود بك إلى لندرا. - وبعد ذلك؟ - يحاكمونك أمام محكمتنا الخاصة، وينفذ فيك العقاب الذي يحكمون به، فتمعني. - لا حاجة إلى التمعن. - إذن تسافرين؟ - كلا. - أتؤثرين المحاكمة؟ - والعقاب.
فتنهدت سينتيا، وأشارت إلى ربان السفينة فدنا من ألن وقال لها: إنك أسيرتي أيتها السيدة إلى مساء غد فتفضلي واتبعيني.
قالت: سر أتبعك. ثم قالت في نفسها: إني لا أعدم وسيلة لإلقاء نفسي في النهر؛ فإني أجيد السباحة.
وقد سجنوها في غرفة لا نافذة فيها إلى البحر، فلم تيأس وقالت: سنرى في الغد ما يكون.
ونامت ليلتها، وعند الصباح دخل إليها غلام بحري بالطعام فطمعت بإغوائه لما رأته من ظواهر بساطته، وقالت له: هل تريد أن تكون من الأغنياء؟
فابتسم وقال: دون شك، فماذا يجب أن أصنع؟
قالت: لا شيء سوى أن تساعدني على الخروج من هذه السفينة.
فضحك الغلام وقال: إن الربان يشنقني في صاري السفينة. بالسلام عليك أيتها اللادي.
ثم وضع صينية الطعام أمامها وخرج فأقفل الباب، فلم تجزع ولم تقنط، وكان مثلها مثل المريض لا يزال يرجو الشفاء ويعد معدات المستقبل ولو رأى الموت ماثلا لدى عينيه، ولذلك فإنها أكلت بملء الشهية، ثم وجدت كتابا في تلك الغرفة، فجعلت تتلهى بالقراءة فيه كأنها آمنة مطمئنة في منزلها.
ولبثت على ذلك إلى أن حان وقت العشاء، فجاءها البحار بالطعام ولكنه لم يكن وحده هذه المرة، فارتعشت ألن حين رأته وقالت له: لا شك أنك قادم إلي بنبأ جديد، فأجابها بلهجة الحزين قائلا: إني قادم لأرى رأيك الأخير، فقد كنت عازما على الرحيل صباح غد، ولكني وجدت الرياح موافقة للسفر، وستقلع السفينة بعد نصف ساعة.
فاصفر وجهها وقالت: إنك ستنزلني إلى البر فيما أظن؟
قال: ذلك منوط بك؛ فقد تركوا لك الخيار.
قالت: وأنا اخترت البقاء في لندرا. - إنك مخطئة؛ فإني نوري مثل شمشون وجان دي فرانس الذي قتلته ومثلك . أريد أني عارف بتاريخك؛ فإنك عدوتنا اللدودة، ولكن مجلس طائفتنا أشفق على شبابك، فإذا شئت ذهبت بك إلى الأنتيل أو إلى لويزيانا. - كلا كلا. لا أريد الذهاب. - يظهر أنك لا تعلمين ما ستلاقينه من العقاب إذا بقيت. - بل إني عالمة؛ فإن النور يريدون حبسي في أحد السجون المظلمة. - ربما. - ولكن يوجد رجلان يحبانني، وكلاهما غني باسل، وسيعرفان كيف يخرجانني من سجني.
فهز الربان رأسه وقال: إذن لا تريدين السفر؟ - كلا. - لم يبق لك غير ربع ساعة للتمعن؛ فإن رجالنا قادمون إلى السفينة. - ليعودوا بي إلى لندرا. أليس كذلك؟ - أظن. - إذن سأستفيد من هذه المهلة لأتعشى.
فخرج الربان، وهو يقول في نفسه: إني لم أجد أجرأ من هذه الفتاة. وجلست وهي تأكل وتقول: إن روجر وليونيل يبحثان عني، وجان دي فرانس قد مات، فلا أقنط ولو أجلسوني على النطع.
وبعد أن فرغت من طعامها عاد إليها الربان فقال لها: ماذا ارتأيت، فقد دنا وقت السفر؟
قالت: لم أرجع عن عزمي، وإني أدعو لك بالسفر السعيد.
قال: إنك مخطئة يا توبسي، فاعلمي أني لك من الناصحين.
فألقت وشاحها على كتفيها وقالت: لقد حضر الجلادون دون شك فسر بي إليهم.
فأصعدها الربان من جوف العنبر إلى سطح السفينة.
فرأت رجلين بملابس السواد وهما مقنعان، فضحكت ضحك الساخر وقالت: أية فائدة من التقنع؟ ألعلي لا أعرفكم فأين القارب؟ هلموا بنا إليه.
فدنا منها الربان وقال لها: إني أتوسل إليك يا توبسي أن تسافري، فذلك خير لك.
قالت: كلا. فإني أريد العودة إلى لندرا.
فتنهد وقال: لقد فعلت ما علي، فليفعل الله ما يشاء.
وعند ذلك عصبوا عينيها وأنزلوها إلى القارب، فساروا بها نحو نصف ساعة، ثم نزعوا العصابة عن عينيها ونظرت إلى البر فلم تجد أثر المنازل، ولكنها رأت على الشاطئ رجلا يمسك أعنة أربعة جياد، فقالت في نفسها: يظهر أننا سنركب الجياد، فإلى أين يريدون أن يذهبوا بي؟
وقد أخرجوها من القارب إلى الشاطئ حيث كانت الجياد، فناداه أحد الرجال المقنعين وقال له : هل لك ما تقوله لي؟
قال: نعم. فستجد إخوانا لنا في الطريق.
فاضطربت ألن وقالت: ألا نعود إلى لندرا؟
قال: إننا ثلاثة رجال سنصحبك، وقد تلقينا الأمر بقتلك إذا حاولت الفرار، وقد كان بوسعنا أن نقيدك فوق ظهر الجواد ونربطك إلى السرج كالأكياس، ولكننا نؤثر أن تركبي مثلنا فاركبي.
فلم تجد بدا من الامتثال، فركبت الجواد، وركب الثلاثة يخفرونها، فلم يسيروا بضع خطوات حتى يئست ألن من الفرار؛ إذ وجدت جوادها يشبه البغال.
وبعد ساعة من سيرهم وصلوا إلى غابة، وهناك صفر أحد الثلاثة، فأجيب بصفير مثله ثم أقبل ثلاثة فرسان من الغابة فانضموا إليهم واستأنفوا السير، فساروا ساعة ثم التقوا بثلاثة فرسان آخرين فانضموا إليهم، وكانوا كلما التقوا بكوكبة من أولئك الفرسان يتبادلون أقوالا مبهمة لم تكن ألن تفهم شيئا من معانيها؛ فاشتد خوفها - على بسالتها - حتى إنها ندمت لمغادرتها السفينة.
وما زالوا يسيرون إلى أن صاح الذي كان يتقدمهم قائلا: قفوا وترجلوا عن الجياد، ودنا اثنان من ألن، فأمسك كل منهما بإحدى يديها فسارا بها في زقاق ضيق والرفاق في أثرهم ربع ساعة، حتى انتهوا إلى مكان رأوا فيه نورا يضيء، فقال زعيمهم: لقد دخلنا.
فوجف قلب ألن وقالت: هنا؟
قال: نعم. فإننا فقراء كما تعلمين، وليس لنا قصور نجعل فيها محاكمنا.
فاشتد رعبها وقالت: محكمة؟
قال: دون شك. أتحسبين أننا نعاقبك دون محاكمة؟! ثم جرها بعنف إلى مكان ذلك النور، فرأت نارا مشبوبة عند باب مغارة، ودخلوا بها إلى هذه المغارة، فرأت كثيرا من الرجال متربعين على الأرض وكلهم مقنعون، ثم رأت رجلا وقف وقال: لقد تكامل عددنا الآن.
فارتعدت ألن حين سمعت هذا الصوت كأنها عرفته، واستأنف الرجل حديثه فقال مخاطبا الفتاة: إن صبر الذين خنتهم يا مس ألن قد نفد، وانتزعت الرحمة من قلوبهم. ومع ذلك فقد عرضنا عليك الحرية، ولو رضيت أن تسافري إلى أميركا لأعطيناك ثروة، ولكنك لم تقبلي.
فصاحت بصوت ملؤه اليأس قائلة: رباه! أنشر من في القبور؟
وعند ذلك كشف الرجل قناعه، وسقطت ألن على ركبتيها؛ إذ رأت جان دي فرانس، فقال لها: لا حاجة إلى تعداد جرائمك يا توبسي فإنك تعرفينها، وقد أتت ساعة عقابك؛ فإننا اخترنا أربعة وعشرين رجلا منا لمحاكمتك، وسينفذ حكمهم لا محالة؛ فلا تطمعي بالعفو.
ثم نظر إلى أعضاء المحكمة، وسأل رجلا كان واقفا على يمينه فقال: أي عقاب تستحقه هذه المرأة؟
فأجابه الرجل دون تردد قائلا: إنها تستحق الموت.
فصاحت ألن قائلة: أأموت وأنا في العشرين من عمري؟
فقال لها جان: أترضين أن نشوه وجهك وتعيشين؟
قالت: كلا فاقتلوني ... اقتلوني.
وعند ذلك سمع صوت عند باب المغارة يقول بلهجة ملؤها السيادة: بل إنك تعيشين ويبقى جمالك عقابا لك.
فالتفت الجميع إلى هذا الرجل فلم يعرفوه إذ كان مقنعا، وصاح جان قائلا: ألعلهم خانونا، فمن هذا الرجل؟
فمشى الرجل إليه فوضع يده على كتفه وقال له بصوت منخفض: إني أدعى أميري، ويحق لي أن أحكم عليكم؛ فإني ملككم.
ثم كشف قناعه ورده إلى وجهه مسرعا بحيث لم يره غير جان فانحنى أمامه بملء الاحترام وقال: مر أطع فقال له: مر رجالك أن يبتعدوا.
قال: كلهم؟
قال: ما خلاك وهذا الرجل الضخم مشيرا إلى شمشون.
فنظر جان إليهم وقال لهم: أيها الإخوان إن أميرنا الأكبر يأمركم أن تخرجوا.
فخرج الجميع ممتثلين، ولم يبق في المغارة غير جان وشمشون وألن وهذا الرجل.
وعند ذلك كشف الرجل قناعه، فصاحت ألن قائلة: روجر؟
وقال شمشون: المركيز دي إسبرتهون.
فقال المركيز: كلا. بل أميري النوري ابن سينتيا وزعيم الطائفة الأكبر.
ثم التفت إلى ألن وقال لها: إن هؤلاء الرجال أرادوا قتلك، وأنا عفوت عنك، ولكني ما عفوت إلا بشرط أن تبرحي لندرا في هذه الليلة، وأن تذهبي إلى السير روبرت في إيكوسيا، وأن ترجعي عن فكرة الزواج بليونيل.
فأطرقت رأسها دون أن تجيب، والتفت روجر إلى شمشون فقال له: وأنت فاذهب بهذه الفتاة ولا تفارقها إلا عند باب منزل السير روبرت، والويل لك إذا أصيبت بسوء.
فأخذ شمشون بيد ألن وخرج بها من المغارة، ونظر روجر إلى جان بفتور وقال له: لنتحدث الآن.
الفصل العاشر
الفرار
قال المركيز لجان حين خلا به في المغارة: هلم نتحدث أيها الناباب عثمان، فقد عرفت الآن كل شيء، فأنت جان دي فرانس، وإنك خالي، أي أخو أمي سينتيا.
إن أمي أخبرتني بكل أمري، وكيف أنك تجاسرت وجعلتني من أعظم أشراف الإنكليز، وأنك وبولتون كنتما كاذبين حين أوهمتما الأعيان في الجمعية السرية أن سينتيا مجنونة، بل إنك كذبت علي حين قلت لي إني ابن اللورد إسبرتهون الشرعي. فلماذا؟
قال: إنك ما دمت عرفت سر مولدك فلا بد لي من أن أخبرك بتفصيل ما جرى.
ثم قص عليه كل حكايته، وكيف أنه كان ابنا غير شرعي للورد إسبرتهون، وكيف أن السير جيمس قتل ولده وهو في مهده بسم الأفعى، وكيف أن أباه اللورد سرقه كي لا تعود ثروته إلى ابن أخيه جيمس؛ لأنه كان يعتقد أن ولده الثاني ليونيل ميت، وكيف أنه كان يراقبه الليل والنهار في لندرا وأميركا وفي كل مكان ذهب إليه كي يحميه من السير جيمس، إلى آخر ما عرفه القراء من أمره.
فلما فرغ من حديثه قال له المركيز: إنك إذا كنت قد أسأت إلي فقد كان شفيعك حسن القصد، وإني أغفر لك ولبولتون هذه الإساءة التي لا تغتفر، فإنك لو علمت ما أقاسيه الآن من العذاب لعذرتني على هذا القول، وكفى أني كنت لوردا وقائد فرقة الملك ومن أعظم نبلاء الإنكليز، ثم وجدت نفسي نوريا لقيطا لا فرق بيني وبين الخدم. - ولكنك ابن اللورد إسبرتهون. - هل أنا ولده الشرعي؟ - كلا، ولكن فات الأوان الآن، ولم يعد في وسعك أن تدوس تاج المركيزية وتخلع وشاح اللوردية، فقد لقينا في هذا السبيل أشد ما يلقاه بشر من العناء، وإذا كنت ترى أن وجودنا في لندرا يثقل عليك فقل كلمة نبرحها بجملتنا ويبقى سرك محفوظا مدى الحياة.
فهز روجر رأسه وقال: لا تسافروا، وإذا رأدتم السفر سافرت معكم. واعلم أنه لو كان السير جيمس باقيا في قيد الحياة لخشيت أن يعود اللقب والثروة إليه ولبثت على تنكري.
فقاطعه جان قائلا: ولكن ماذا يحدث بهذه الثروة إذا تركتها فإنها تعود إلى بيت المال.
قال: إنك واهم، بل إنها تعود إلى وريثها الشرعي؛ أي إلى ليونيل ابن اللورد إسبرتهون الثاني؛ فإنه لم يمت كما تتوهمون.
فغطى جان وجهه بيديه وقال: وا أسفاه! لقد قضي على آمالي.
وعند ذلك ظهر رجل في باب المغارة فصاح الاثنان قائلين: هو ذا الطبيب بولتون.
أما بولتون، فإنه دنا منهما وقال: إني اجتزت خمسين ميلا بست ساعات، ولكني وصلت قبل فوات الأوان.
فقال روجر: ماذا حدث؟
قال: حدث أن عدونا السير روبرت واقف على كل أمرنا. - السير روبرت. ألم يكن صديق والدي؟ - نعم. ولكنه الآن عدوك الألد، بل إنه عدو طائفتك بأسرها؛ فإني أرى أنك عرفت الآن حقيقة أمرك فلم يبق سبيل إلى التكتم، فاعلم أن السير روبرت يشتغل بملء الجهد منذ أسبوعين، وقد زار جميع اللوردية في إيكوسيا ولندرا، وسيتكلم في المجلس الأعلى بعد أسبوع حين افتتاحه. - ماذا يريد أن يتكلم؟ - يريد أن يطلب نفي النور من جميع إنكلترا، وأنت ترى إذا كان يوافق أن تتنازل الآن عن لقبك لأخيك وتدع هذا الرجل يقضي القضاء المبرم على طائفتك.
فأطرق المركيز مفكرا ثم قال: كلا، إن الجندي لا يعتزل الخدمة في يوم القتال، وسيرى السير روبرت أني سأكون خير كفؤ له في ذلك المجلس، فاطمئنوا أيها الرفاق، فسأبقى المركيز دي إسبرتهون وقائد فرقة الملك إلى أن تزول هذه الأخطار. •••
ولنعد الآن إلى ألن فقد أوصلها شمشون إلى منزل السير روبرت، ثم تركها وانصرف، فدخلت وهي تقول في نفسها: لقد نجوت الآن، وبات روجر يحتقرني، ولكن بقي لي ليونيل بشرط أن أجتمع به قبل أن يلقاه روجر.
ولما دخلت إلى المنزل وجدت السير روبرت فيه وعلائم القسوة بادية في وجهه، فقالت له: متى عدت يا عماه؟
فأجابها بلهجة ملؤها الاحتقار قائلا: لقد وقفت على كل مكايدك، وعلمت أنك تجتمعين برجال طائفتك وبذلك المزور المحتال الذي انتحل لقب المركيز دي إسبرتهون.
ولقد قرأت في الأمثال العربية أن أعرابية اختبرت جرو ذئب وربته مع شاة لها، فلما أصبح الجرو ذئبا نسي التربية وافترس الشاة، فقالت فيه:
بقرت شويهتي وفجعت قلبي
فمن أنباك أن أباك ذيب
وهكذا أنت؛ فقد ربيتك خير تربية، وجعلتك من شريفات الإنكليز، فلما تكامل هداك نسيت التربية ولم تذكري إلا أن أمك نورية، فاعلمي أني لا أريد أن تقيمي في منزلي بعد الآن، وسيعطيك الصراف مكسويل مبلغا من المال في كل شهر تنفقينه؛ لأني لا أريد أن تعيشي عيش المتسولين، والآن خذي هذا.
ثم دفع إليها محفظة فيها أوارق مالية، فأخذتها من يده وألقتها عند قدميه وهي تقول: إني لا أريد صدقتك ولا شفقة أحد.
وقد خرجت من ذلك المنزل الذي قضت فيه كل أيام حداثتها وهي تأنف أن تلتفت إلى الوراء. •••
وقد وجدت نفسها على بلاط لندرا لا نصير لها ولا معين، ولو أصيبت امرأة ببعض ما أصيبت به لبكت بكاء الثكلى، ولكن قلبها كان قد صنع من الحديد، فكان عزاؤها عن طردها من منزل السير روبرت قولها: إن هذا الرجل قد حلني من قيود الامتنان، فبت قادرة على أن أنهج مع ليونيل كما أشاء.
وكان البرد شديدا في تلك الليلة والهواء زمهريرا، فمن كان في موقفها التجأ إلى أحد الفنادق؛ فقد كان لديها شيء من النقود في كيسها.
ولكنها كانت مجربة تعلم أن الوقت ثمين، وأن الدقيقة الواحدة قد تغير مستقبل الإنسان بجملته.
ثم إنها كانت قد رأت السير روبرت لا يزال في ثياب السفر؛ فأيقنت أنه لم يجتمع بعد بليونيل؛ فذهبت مسرعة إلى مكان تجتمع فيه المركبات؛ فركبت مركبة، وأمرت سائقها أن يذهب بها إلى الثكنة التي تقيم فيها فرسان الملك، وهي تعلم أن ليونيل يبيت أكثر لياليه في الثكنة.
وهناك لقيت حارس الباب وقالت له: إني أريد مقابلة الضابط ليونيل في شأن خطير.
قال: إن الدخول محظور يا سيدتي، ولكنك تستطيعين أن تكتبي إليه.
قالت: لا حاجة إلى الكتابة؛ إذ يكفي أن تذكر له اسمي.
فنادى الحارس أحد الجنود فقالت له: قل للقائد ليونيل إن مس ألن فالدن تريد أن تراه في الحال.
فانطلق الجندي، وبعد هنيهة أقبل ليونيل، فصاح صيحة فرح حين رآها، وقالت في نفسها: إنه لم يعلم شيئا بعد.
وكان ليونيل قد لقي عذابا شديدا في ذلك اليوم؛ فإنه ذهب إلى أخيه مرتين فلم يجده، ولكن المركيز أرسل له رسالة يقول فيها: إني وقفت على أثر مس ألن. فأقام كل يومه وهو يسير سير الهائمين بين منزل السير روبرت ومنزل أخيه، وأقبل المساء فلم تعد ألن إلى منزلها ولم يعد أخوه؛ فبات شبه المجانين.
وكانت واجباته تقضي عليه أن يبيت في الثكنة تلك الليلة؛ فعاد إليها، وجعل يتمعن في أمره فتارة يثق بأخيه فيطمئن وتارة يعاوده الشك فتقتله الغيرة.
وما زال على ذلك إلى أن جاءه الجندي وأخبره بأن مس ألن تريد أن تراه؛ فذهب إلى لقائها وقلبه يكاد أن يخرج من صدره لفرحه، وقال لها: أهذا أنت؟
فمدت إليه يدها وهي في المركبة فقطعها تقبيلا، وقالت له: نعم. أنا هي، وإنك إذا لم تبادر إلى نجدتي كنت من الهالكات، فهل تستطيع التغيب عن الثكنة؟
قال: نعم. فإني أنيب عني أحد زملائي.
قالت: إذن. افعل أيها الحبيب وأسرع؛ فإن الوقت لا يتسع للإمهال.
فعاد ليونيل إلى الثكنة، فكتب رسالة إلى صديق له من الضباط يسأله فيها أن ينوب عنه ورجع إلى مس ألن فصعد إلى المركبة بجانبها وقال لها: ماذا حدث أيتها الحبيبة؛ فإنك لا تعلمين مقدار ما لقيت من العذاب.
فقبضت على ذراعه وقالت: ليونيل! أتحبني؟
قال: أتسألينني إذا كنت أحبك؟ - ماذا تفعل من أجلي؟ - خير ما عندي دمي، وإني أسفكه في سبيلك. - إذن. فاعلم أن عمي وروجر قد تآمرا على إهلاكك؛ فإن عمي هو الذي اختطفني كي يبعدني عنك إلى الأبد ويزوجني بروجر.
فاصفر وجهه من الغضب وقال: إنها خيانة سافلة.
قالت: أتريد أن أكون امرأتك يا ليونيل؟ - كيف تسألينني وأنت تعلمين أن هذا كل ما أرجوه في الحياة. - إذن لنهرب ولنبرح لندرا في هذه الليلة إلى إحدى القرى، وهناك لا نعدم كاهنا يعقد زواجنا أو يزوجوني بالرغم بروجر ... ليونيل إني أموت إذا أكرهت على الزواج ... ليونيل إني لا أحب سواك.
وكانت تضغط على يده وهي تقول له هذا القول ضغطا على قلبه حتى سحرته ووافقها على الهرب.
فأمرت السائق أن يسير؛ فانطلق بالعاشقين وخرجت المركبة من لندرا بينما كان السير روبرت قد دخل إلى غرفة رقاده وعزم على أن يجتمع غدا بليونيل ويشفيه من حب ألن. •••
مضى على ذلك ثلاثة أيام والسير روبرت مضطرب أشد الاضطراب، فإن ليونيل لم يظهر في خلالها.
وكان قد سأل عنه في الثكنة، فعلم أنه خرج بعد انتصاف الليل مع امرأة كانت تنتظره في مركبة، وأن هذه المرأة تدعى مس ألن فالدن، وأنها سارت وإياه في تلك المركبة، فلم يبق لديه شك أنه هرب مع النورية.
وكان قد أنبأ البوليس بأمرهما، ولكن البوليس على مهارته في لندرا لم يقف على أثر الهاربين، فكاد يجن من يأسه لوثوقه أن ألن لا تعود إلى لندرا إلا وهي زوجة ليونيل.
وذلك أن في إنكلترا - ولا سيما في ذلك العهد - كان الزواج سهلا، فلو ذهب عاشقان إلى دير كاهن وسألاه أن يعقد زواجهما لفعل دون اعتراض، فكان هذا الخاطر يعذب السير روبرت عذابا شديدا؛ لأنه كان قد آلى على نفسه قضاء أمرين؛ أحدهما أن لا يدع ربيبته تتزوج بليونيل لأنه من الأشراف، وثانيهما أن يكره روجر على أن يرد ثروته لأخيه ليونيل ابن اللورد الشرعي.
وفيما هو في منزله يتأهب للذهاب إلى مدير البوليس، دخل إليه خادم قال له: إن رجلا يلبس ملابس التجار يريد أن يقابلك.
فأذن له فدخل، فقال روبرت في نفسه: يخال لي أني عرفت هذا الرجل.
أما الرجل، فإنه انحنى أمامه مسلما وقال له: ألا إن سيدي يعرفني دون شك.
قال: أذكر أني رأيتك، ولكن لا أذكر أين.
قال: لقد تشرفت بلقائك يا سيدي في الهند . - في الهند؟ - نعم. وكان ذلك مرتين: إحداهما في الطريق من شاندرناجور إلى كلكوتا، والثانية في خمارة عند باب تلك العاصمة. - أأنت هو؟ - نعم. أنا هو ناثائيل، والد توبسي الذي جلدوه خمسين سوطا لأنه طلب أن ترد إليه ابنته.
فقطب حاجبيه وقال له: والآن ماذا تريد؟ أتريد مالا؟
قال: إن تجارتي رابحة بإذن الله، وأنا أشتغل هنا منذ خمسة عشر عاما ما شكوت فيها إلا يوم جلدوني، فإن هذا الشعب الخامل لا يفتأ ينتصر للظالم على المظلوم، وقد أبوا أن يصدقوا أن مس ألن الحسناء إنما هي ابنتي. - أظن أنك لم تأت إلى هنا إلا لتقص علي تاريخ حياتك. - كلا دون شك. - إذن؛ ماذا تريد؟ - إني أصبحت شيخا كما ترى، وأنا الآن غني، وليس لي وريث؛ فأريد أن ترد إلي ابنتي. - إني لا أعترضك؛ فإن ابنتك قد أساءت إلي بعد إحساني. - لا عجب؛ فقد كانت أمها على شاكلتها. - وقد طردتها من عندي. - لقد عرفت ذلك أيضا يا سيدي. - إذا كنت قد عرفت ذلك، فلماذا أتيت إلي؟ - أصغ إلي يا سيدي، فإني أعرف أمورا أخرى أيضا. - ألعلك تعرف أين هي؟ - نعم. - تكلم. - رفقا يا سيدي. ولنبدأ بوضع شروطنا إذا أردت.
فأدرك أن لهجة العنف لا تفيد مع هذا الرجل، فقال له برفق: قل فإني مصغ إليك.
قال: إن توبسي ليست في لندرا؛ فقد هربت مع فتى جميل يهمك أمره وهي ستتزوج به. - كلا. إن هذا لا يكون. - إنك تستطيع منع هذا الزواج إذا تدخلت في شأنه، وأما إذا لم تتنازل إلى التدخل فإن الزواج كائن لا محالة. - أرى أيها الرجل أنك تعلم أين هما، وأنك تريد أن تبيعني هذا السر. - لقد قلت لك يا سيدي إني لست في حاجة إلى المال. - إذن؛ ماذا تريد؟ - إن ليونيل أحب بنتي حبا عظيما، حتى إنه لم يعد يصغي إلا لصوت قلبه، ولا يستطيع منع هذا الزواج غير رجل واحد. - وهذا الرجل؟ - هو أنا. ولكنك أنكرت - ولا تزال تنكر لسوء الحظ - أني أبو توبسي. - سأعترف بهذه الحقيقة . - إن اعترافك وحده لم يعد كافيا الآن. - ماذا يجب أن أفعل أيضا؟ - يجب أن تذهب بي إلى الملك.
فلم يتمالك السير روبرت عن الضحك، فقال له النوري: نعم. يجب أن تذهب بي إلى القصر فتقدمني للملك وتعترف أمامه بأني والد توبسي، ثم تلتمس من جلالته أن يصدر أمرا برد ابنتي إلي. ومتى صار هذا الأمر في يدي منعت الزواج.
فكره السير روبرت أن يقول أمام الملك بأنه جعل فتاة نورية ابنة أخيه وقال له: إن هذا محال.
قال: إذا كان ذلك، فليتفضل مولاي بمعذرتي لإزعاجه ويأذن لي بالانصراف. - بل ابق وقل لي أين هي الفتاة؟ - إني لا أخبرك إلا بهذا الشرط، فإما أن ترضى به وإما أن ترضى بأن تتزوج ليونيل. - كلا. إن ذلك لا يكون وأنا في قيد الحياة.
وقد أدرك السير روبرت أنه لم يبق له حيلة مع هذا الرجل، وأنه إذا أبى موافقته تزوجت تلك النورية بليونيل، أي بالمركيز إسبرتهون الحقيقي؛ فرأى أنه لا بد له من الامتثال وقال: ليكن، فسأذهب بك إلى الملك.
ثم أمر الخادم أن يعد مركبته، فقال له ناثائيل: لقد أصبت يا سيدي؛ فإن توبسي لا تعرف أن تكون سيدة عظيمة، وهي ستكون في مخزني على خير حال. •••
كان السير روبرت فالدن يعد من عظماء الرجال في لندرا، وطالما اهتز منبر البرلمان لبلاغته، ومن كانت له هذه المنزلة بين قومه على ما هو فيه من شرف النسب لا يطول وقوفه في أبواب الملوك.
وقد وصل إلى سراي الملك فوجد كثيرين من الناس في الردهة ينتظرون بجازع الصبر صدور الإذن لهم بمقابلة جلالته، فلم يكد يذكر اسمه للحاجب حتى صدر الأمر بإدخاله قبل جميع المنتظرين.
وكان الملك جالسا وحده في قاعته، فلما دخل إليه السير روبرت دهش؛ إذ رأى وراءه رجلا بملابس التجار.
فأدرك سر دهشته، وبدأ الحديث فقال: إن ملوك الإنكليز من بدء عهدهم إلى عهد جلالتكم لم يرق لهم مثل أن يقضوا بأنفسهم بالحق.
قال: هو ذاك.
قال: مولاي! إن هذا الرجل الذي تراه يضطرب بحضرة جلالتكم إنما هو أب منكود أنكرته ابنته، وهو يلتمس من جلالتكم ردها إليه.
وعند ذلك بسط له حكاية توبسي بالتفصيل، وكيف أنه أخذها ورباها إلى أن رأى ما كان من فساد أخلاقها؛ فاضطر إلى التخلي عنها، وأن أباها يطلبها الآن، ولكنها تنكره وتأبى أن تعود إليه، وأنه يلتمس من جلالة الملك أن يصدر أمره الكريم برد الفتاة إلى أبيها.
وقد وجد الملك هذا الملتمس حقا؛ فنادى رئيس حراسه وأراه ناثائيل، ثم قال له: اذهب مع هذا الرجل ورد ابنته إليه باسم الملك، وإذا أصرت على الإنكار بأنها ليست بنته فقل لها إن السير روبرت فالدن شهد بذلك، وإن الملك وثق بهذه الشهادة.
فانحنى رئيس الحراس، وبينما كان السير روبرت يحاول الانصراف دخل إلى القاعة الملكية المركيز روجر من باب آخر غير الباب العام؛ فإن الملك كان قد أذن له بالدخول إليه متى شاء بصفته قائد فرقته الأكبر.
ولم يظهر على المركيز شيء من علائم الانذهال حين رأى ناثائيل في قاعة الملك خلافا للسير روبرت؛ فإنه ارتعش حين رأى المركيز يحييه بيده.
أما المركيز، فإنه انحنى أمام الملك وقال: مولاي! إن فرقة الفرسان معسكرة في السراي، وقد جئت أسأل مولاي أن يعين كلمة السر التي يعينها بنفسه كل يوم.
فأشار إليه الملك إشارة مفادها اصبر إلى أن نكون وحدنا.
وحاول السير روبرت الانصراف، ولكن المركيز أوقفه بإشارة وقال للملك: مولاي! إني أعد نفسي سعيدا بلقاء السير روبرت في حضرة جلالتكم؛ لأني سألتمس أن أقول لكم أقوالا تهمه.
قال: قل أيها المركيز.
قال: مولاي! يوجد في فرقتي ضابط يدعى ليونيل أظن أن السير روبرت وصيه.
وإن هذا الضابط يا سيدي قد ارتكب خطأ عظيما؛ فإنه ترك الفرقة دون إذن وهرب مع فتاة أفاقة محتالة خدع بها وسيتزوجها إذا لم يحل أمر جلالتكم دون هذا الزواج.
وظهرت على الملك علائم الاشمئزاز، ومضى المركيز في حديثه فقال: إن هذه الفتاة كانت تدعو نفسها مس ألن فالدن، والحقيقة أنها بنت هذا الرجل الواقف بحضرة جلالتكم ويدعى ناثائيل.
فجعل الملك ينظر إليهما، وقال المركيز: إن وجودهما في قاعة جلالتكم يدل على أن جلالتكم قد أصدرتم أمركم بهذا الشأن.
قال: هو ذاك.
قال: إذا خرج ناثائيل التمست من جلالتكم أن تأذنوا لي بمقابلة بحضور السير روبرت.
فقطب السير روبرت حاجبيه؛ إذ لم يكن يعلم مراد المركيز، وأشار الملك إلى رئيس حراسه فأخرج ناثائيل وبقي روبرت والمركيز.
وكان الملك مصابا بمرض قضى عليه بأن يكون ضيق الأخلاق، فلو لم يكن يعطف عطفا خاصا على روجر لما صبر على بطئه في بيان مراده إلى هذا الحد، ولكنه نظر إليه وقال له برفق: قل أيها المركيز ما تريد قوله.
قال: مولاي إني مخبر جلالتكم خبرا ستدهشون له لو لم يكن السير روبرت حاضرا فيثبته.
ثم التفت إلى روبرت وقال: ألم تكن يا سيدي صديق والدي المرحوم اللورد إسبرتهون؟
قال: نعم.
قال: وإنك تعلم أن أبي صدق بامرأته اللادي سيسل وشايات كاذبة؛ فأبعدها عنه مع ولدها الثاني، وأن خوفها كان عظيما على ولدها؛ إذ كانت تخشى أن ينتقم منهما، فأوهمته أن ولده الثاني ميت.
فقال الملك: كيف ذلك؟ أهو حي؟ ألك أخ؟
قال: نعم يا مولاي، فهو ضابط في فرقتي، وإني ألتمس له العفو من جلالتكم، فهو ذلك العاشق المفتون الذي هام بتلك المحتالة وهرب وإياها.
قال: إنه ما زال أخاك أيها المركيز؛ فقد عفونا عنه وأعطيناه إجازة ثلاثة أشهر.
ثم رفع يده مسلما إشارة إلى انتهاء المقابلة، فانحنى الاثنان وانصرفا.
فلما وصلا إلى الردهة قال له السير روبرت: لي كلمة أقولها لك أيها المركيز.
قال: لك أن تقول أربعا إذا أردت.
قال: إني أريد محادثتك اليوم مليا، فهل تريد أن تعين لي موعدا للقاء؟
فأشار المركيز إلى الحديقة وقال له: إنها خالية وليس فيها أحد، فهلم بنا إليها.
قال: ليكن ما تريد.
ونزل الاثنان إلى الحديقة، وجلسا تحت شجرة غضة، فبدأ السير روبرت الحديث فقال: إني تغيبت عن لندرا أيها المركيز مدة أسبوعين.
فأجابه بجفاء قائلا : نعم. وقد عرفت أيضا أنك سافرت على أثر جلسة سرية عقدت في نادي هرمين كما أظن.
قال: أعرفت ذلك؟
فأجابه بعظمة قائلا: نعم. وقد عرفت أنك اتفقت مع مس ألن على اختطاف امرأة نورية تدعى سينتيا، وكانت تقول إنها أمي. - إنك ما دمت قد بدأت أنت سرد هذه الحوادث، فقد هانت علي مهمتي. - كيف ذلك؟ - إن هذه المرأة التي تقول أنها أمك، والتي أخذها عمال مستشفى بلدام بحجة أنها هاربة منه، لم توجد فيه. - إني أعرف ذلك، فقد عهدت إلى الطبيب بولتون معالجتها. - ألعلك تعتقد أنها مجنونة؟ - نعم. وإنك سافرت منذ أسبوعين إلى إيكوسيا، واجتمعت بكثيرين من أعضاء مجلس اللوردية ... خابرتهم بشأن نفي طائفة النور. - هو ذاك. فإني أريد طرد النور من إنكلترا، وهي خير طريقة لإكراه المزورين على الجلاء. - ولكن هذه الطائفة لا تنكر أصلها. - أتعتقد ذلك؟ - أصغ إلي يا سير روبرت، فلا حاجة إلى المعميات بيننا؛ فإني أعلم ماذا تفتكر. - ماذا؟ - إنك تحسبني ابنا غير شرعي للورد إسبرتهون، وأن أمي هي سينتيا، ولكني في عيون الملك والنبلاء والناس المركيز روجر، وقائد فرقة فرسان الملك، وإني لا أقول لك إذا كنت مخطئا أو مصيبا في اعتقادك؛ فإن من كان مثلي لا يتدانى إلى تبرئة نفسه. - ولكن ماذا تقول إذا أثبت اعتقادي بالبراهين؟ - إن براهينك ضرب من المحال، ولكن أصغ إلي فإنك معروف بإخلاصك للادي سيسل، وبأنك تحب ولدها كأنه ولدك. - هو ذاك؛ ولذلك أردت أن أرد له ميراث أبيه. فابتسم روجر وقال: أليس من العجيب أن تكون شيخا وأن أكون فتى فتثور حدتك وأسكن؟ ألا تريد أن تصغي إلي بسكينة؟ - إني مصغ. - أقول إنك إذا كنت تحب ليونيل حقيقة فلا تخاطر بمستقبله؛ فقد شاطرته أموالي.
فقاطعه قائلا: إنك لو كنت ابن اللورد الشرعي ...
فبرقت عينا المركيز وقال: إني أمنعك عن أن تشك بمولدي إلى أن تبرهن لإنكلترا بجملتها على صحة ما تقول.
فهاج ثائره وقال: إني أعلم كيف أكرهك على الاعتراف.
فأجابه قائلا: كفاك هياجا؛ فإننا إذا تبارزنا قتلتك لا محالة فنحرم ليونيل من وصيه وحاميه الوحيد، واعلم أني فتى ويقال بأني باسل وأن إنكلترا على وشك إثارة الحرب. ألا يجوز أن أقتل في غمارها وأنا في طليعة فرقتي؟ - ولكني لا أشير على ليونيل أن ينتظر هذه الصدفة. - وأنا أرى أنه لا سبيل إلى الاتفاق بيننا، وإنك تريد الخصام. فليكن ما أردت. - ليكن. - ولكنك مخطئ يا سير روبرت. - لا يخطئ من يعمل بما يوحيه إليه الواجب. - إذن أنت تريد الخصام. - نعم. - وستطلب إلى البرلمان نفي طائفة النور. - هذا لا ريب فيه. - وأنا سأدافع عنها ... إلى اللقاء.
ثم حياه وانصرف.
فوقف روبرت مطرقا مفكرا يقول في نفسه: إن هذا الرجل شديد، فكيف السبيل إلى إكراهه على الاعتراف، ومع ذلك فلا بد للحقيقة أن تظهر وأن يحل الولد الشرعي محل اللقيط.
وقد ترك الحديقة وانصرف، فلم يسر بضع خطوات حتى التقى بالطبيب بولتون، فحياه الطبيب وقال له: إني كنت أحسبك في إيكوسيا أيها الصديق.
قال: لقد كنت فيها وعدت أمس. - إني رأيتك خارجا من قاعة الملك، فهل أصبحت من الحاشية؟ - كلا. ولكني أدخل إلى الملك حين أحتاج إلى مقابلته وأسأل العدل. - ألعلهم أساءوا إليك؟ - كلا. بل أساءوا إلى رجل كانوا يحسبونه ميتا وهو حي يرزق. - إني أعلم ما تعنيه؛ فإنك تريد بهذا الرجل ليونيل ابن اللورد إسبرتهون الثاني. - بل وريثه الوحيد بعد موت أخيه المركيز. - أيها الصديق أسألك المعذرة؛ لأني لم أنتبه إلى حالتك العقلية حين رأيتك، وأنت تعلم أني طبيب.
فقبض روبرت على ذراعه فهزه بعنف وقال له: إنك تعلم يقينا بأني لست من المجانين. - وأنا أريد أن أعتقد هذا الاعتقاد إلا إذا عدت إلى مباحثتي في هذه الشئون؛ فإني التقيت الآن بالمركيز روجر وأنت تقول إنه ميت؟ - ليس هو بالمركيز روجر، بل هو ابن سينتيا. - أأنت تصدق وشايات توبسي التي جعلتها ابنة أخيك؟
فنظر إليه محدقا وقال له: إنه يجب أن تكون واقفا على هذه الحقيقة أكثر من سواك؛ فقد كنت طبيب اللورد الخاص. - لا شك أني أعرفها . - إذن تكلم. - أتريد؟ - بل ألتمس منك أن تقول الحقيقة. - إذن فاعلم أيها الصديق أنك على وشك الجنون، وأن خير ما تفعله هو أن تعد أمتعتك وتسافر إلى أوربا؛ فإن السفر مفيد في هذه الحالات.
ثم حياه وانصرف؛ فضرب السير روبرت الأرض برجله مغضبا وقال: إن جميع الناس من حزبه فليس لي به حيلة. •••
ولنعد الآن إلى ألن وليونيل، فإنهما خرجا من لندرا إلى إحدى القرى فباتا فيها، وعند الصباح سألها ليونيل قائلا: إلى أين نذهب؟
قالت: إن عمي وروجر سيطوفان إنكلترا للبحث عنا، وخير ما أراه أن نذهب إلى منزل أمك في إيكوسيا، وهناك ندعو كاهنا من إحدى القرى فيعقد زواجنا ثم نعود، ولا خوف علينا من أحد.
فوافقها إلى ما أرادت، وسافرا إلى هوتغور فأقاما كل يومهما مختبئين في أحد فنادقها.
وفي اليوم التالي أرادا استئناف السفر، فقال له صاحب الفندق: إن الخيل لا تعود قبل ساعتين؛ فاضطر العاشقان إلى الصبر ساعتين مرت بهما مرور عامين، وكان ليونيل يخرج من حين إلى حين إلى الطريق مفتقدا قدوم الخيل.
وفي خلال ذلك كانت ألن مختلية في الغرفة تسمع حديث الخدم في الردهة، فسمعت أحدهما يقول للآخر: إني لم أر لوردا كهذا اللورد الذي مر بنا.
فأجابه رفيقه: الحق أنه أشبه بالإسبانيين منه بالهنود؛ فإن شعره الأسود يشبه جانح الغراب ولون وجهه يشبه الزيتون.
فاضطربت ألن لهذا القول؛ إذ ذكرت جان دي فرانس، وعاد ليونيل إليها فأخبرها بقدوم الجياد وسافرا إلى إيكوسيا.
وهناك دعا ليونيل إليه أحد الكهنة وسأله أن يزوجهما في الغد؛ فوافقه الكاهن، ولكنه اعترض على أن يكون الزواج في الغد بحجة أن ذلك اليوم يوم جمعة، أي اليوم الذي صلب فيه المسيح، واتفقوا على أن يكون الزواج يوم السبت.
وفي ذلك اليوم ذهب ليونيل وألن إلى الكنيسة في الساعة المعينة، وكان فيها بعض أهل القرية حضروا للصلاة، ودخل في أثرهما ثمانية رجال غرباء كان أربعة منهم بملابس التجار وأربعة متشحون بوشاحات تخفي ملابسهم.
حتى إذا انتهت الصلاة وأراد الكاهن أن يبدأ حفلة الإكليل وقف في باب الهيكل وقال: أيها الناس، إني سأزوج ليونيل دي إسبرتهون من مس ألن فالدن، فهل يوجد من يعترض على هذا الزواج؟
فأجابه صوت قائلا: أنا.
وقد دنا هذا الرجل من الكاهن، فاضطربت ألن؛ إذ عرفت أن هذا الرجل أبوها ناثائيل، وقال له الكاهن: لماذا تريد الاعتراض؟ ومن أنت؟
قال: إني والد هذه الفتاة، وهؤلاء هم شهودي.
وعند ذلك دنا الثلاثة الذين كانوا معه، فقالوا: نعم نشهد أنه أبوها.
فصاحت ألن صيحة قنوط؛ إذ رأت أن هؤلاء الثلاثة كانوا جان دي فرانس وشمشون والمركيز روجر، وصاح ليونيل بصوت يتهدج بالغضب قائلا: روجر؟
فقالت مس ألن: إن هؤلاء الشهود كاذبون.
فتقدم عندئذ واحد من الأربعة الذين كانوا يخفون ملابسهم وأزاح الوشاح وظهرت ملابسه العسكرية وقال: إني أعترض باسم الملك على هذا الزواج، وأدعو توبسي باسم الملك أن تذهب مع أبيها ناثائيل.
فهجم ليونيل على أخيه وقال: أيها الشقي، ماذا فعلت؟
فوضع المركيز يده على كتف أخيه وقال له بملء السكينة: إني أنقذتك من العار؛ فإن مس ألن تدعى توبسي، وهي نورية وابنة هذا النوري، وقد طردها السير روبرت فعادت لك حتى كادت أن ترميك في فخها.
فأطرق ليونيل برأسه، وسقطت دمعتان من عينيه إلى الأرض.
الفصل الحادي عشر
عثمان والبرنس دي غال
بعد شهر من الحوادث التي تقدم بيانها خرج رجلان من سراي سانت جيمس - أي القصر الملكي - وجعلا يسيران في شوارع لندرا، وكانت الليلة حالكة والضباب كثيفا والبرد قارصا، فقال أحد الرجلين لرفيقه: أظن يا مولاي أننا نستطيع المخاطرة هذه الليلة.
قال: وأنا أرى رأيك يا دلتون؛ فإن دائني لا يفتكرون بي هذه الليلة. ولكني أرجوك أن تكون حكيما، فلا تلقبني بلقب السمو، ولا تدعني بيا مولاي، بل ادعني جورج.
ثم تأبط ذراعه دون كلفة وقال له: إني لا أجد مناخا أقبح من مناخ بلادنا، فما هذا الضباب الدائم؟ وما هذا البرد الذي لا يحتمل؟
قال: الحق أن مناخها شديد.
قال: وإن شرائعها أشد ؛ فإني لا أرى هؤلاء الناس يحترمونني وينحنون أمامي حتى أحمل احترامهم على محمل التهكم، وأي احترام هذا؟ فإن الملك لا يحق له الخروج من لندرا إلا بإذن خاص من البرلمان، وولي عهده لا تحفظ له خدمة إلا حين يكون في سانت جيمس أو في البرلمان، فمتى خرج منهما بات فردا من أفراد الرعية يحق لدائنيه أن يقبضوا عليه أينما وجدوه.
قال: إني أعترف أن هذه الشرائع شديدة على الأسرة المالكة.
فتنهد وقال: هل يسمح ملك فرنسا أن تسري هذه الشرائع على أسرته؟ ولكن أبي شديد الضعف كثير الميل إلى العامة؛ فإنه ما تقاضى عنده شريف وعامي إلا حكم على الشريف.
وهو يقول إنه يقتدي بذلك بأجداده حين كانوا في هولندا؛ فإنه يدعي أنهم كانوا يخضعون لشرائع البلاد قبل رعاياهم.
قال: أية فائدة يا مولاي من الشكوى، فلا دواء لهذا الداء إلا الصبر، فاصبر إلى أن تتيح الأقدار لسموك أن تجلس على عرش أبيك.
قال: اسكت وكفى! تدعوني بهذه الألقاب؟! أتريد أن أبيت الليلة في السجن؟ •••
كان هذان الرجلان البرنس دي غال - ولي العهد في ذلك الحين - وسكرتيره.
ولا بد لنا أن نوضح بالإيجاز سبب هذه المحادثة الغريبة بينهما، وذلك أن البرنس دي غال كان معروفا بفساد السيرة، وله عيوب كثيرة أخصها المقامرة، فكان يلعب حتى خسر كل ما لديه؛ فلجأ إلى المرابين، وقد كثرت ديونه وكثر مطله حتى وصلت شكوى الدائنين إلى أبيه الملك.
واتفق أن جريئا من أعضاء البرلمان وضع على منضدة الرئيس كثيرا من العرائض.
وكانت هذه العرائض شكاوى قدمها نحو ثلاثين مرابيا، يشكون من سمو ولي العهد أنه لم يف ديونهم، وأنه طردهم أقبح طرد حين طالبوه بالسداد.
فتلا الرئيس هذه العرائض على الأعضاء، واضطرب المجلس، فقدم عريضة بهذا الصدد إلى الملك.
وعند ذلك أمر الملك المجلس أن يصدر قرارا مفاده أن ولي العهد يعتبر لدى دائنيه كسائر أفراد الرعية، وأنه يحق لكل دائن أن يحاكمه وأن يسجنه إذا امتنع عن وفاء دينه كما يعاملون سائر الناس .
ثم نظر إلى ولده وقال له: إنك عضو في مجلس اللوردية بحق ولادتك، وإنك تقيم في قصر سانت جيمس بصفتك ولي عهدي، فإذا استدنت ديونا جديدة فإن دائنيك لا يستطيعون القبض عليك في سانت جيمس ولا في مجلس اللوردية، ولكنهم إذا لقوك خارجهما حق لهم أن يقبضوا عليك، وقد أنذرتك فتدبر.
فوعد البرنس أباه أن يسير سير العاقلين، وأنه لا يتجاوز بنفقاته الميزانية المعينة له.
ولكن وعده لم يقترن بالوفاء، فلم يمض عام حتى تراكمت عليه الديون، وقد أبى أبوه أن يفي دينه، وأمر المجلس بتنفيذ قراره، فلم يعد ولي العهد يستطيع الخروج من قصر سانت جيمس إلا متحذرا متنكرا، ولا يذهب إلى البرلمان إلا في مركبة ملكية يخفرها الفرسان.
والآن فقد عرف القراء سبب شكوى ولي العهد من البرد والضباب؛ فإنه لم يكن يستطيع الخروج في رائعة النهار والتمتع بنور الشمس.
وكان يسير مع كاتم أسراره دلتون في تلك الليلة، وكلاهما يشكوان، فقال له دلتون: أف لهذا البرد ما أثقله!
قال: إنه مهما يكن من ثقله فهو أخف عندي من الدائنين، وأرجو أن يكونوا الليلة في أسرتهم فلا يخطر لهم أن يتبعوني. - هذا ممكن. - أتظن أنه لم يرنا أحد حين خروجنا من القصر؟ - إني لم أر أحدا يا مولاي. - إنك تطمئنني. - أتأذن لي يا مولاي أن أسألك سؤالا؟ - قل. - أخرجت في هذه الليلة الباردة لاستنشاق الهواء أم أن لك غاية أخرى؟ - بل لغاية أخرى؛ فقد أصبحت من العشاق. - ومتى كنت من أهل الزهد يا مولاي، فإنك كل يوم من الغرام في شأن؟ - ولكن غرامي اليوم لا يقاس به غرام. - ألعلنا ذاهبان لإنشاد الأهازيج تحت مشرف منزل التي تحبها؟ - ليس هناك مشرف. - إن لجميع القصور في لندرا مشارف. - وهي ليس لها قصر. - إذن؛ إنها من نساء التجار. - بل هي دونهن مقاما. - إنك تدهشني يا مولاي، فمن هي هذه الساحرة؟ - لا شك أنها ساحرة كما تقول بدليل أنها فتنتني بنظرة. أتريد أن أصفها لك؟ - تفضل يا مولاي. - إنها شقراء الشعر سوادء العينين لا تتجاوز ثمانية عشر ربيعا، وهي تلبس ملابس أهل القرى، ولكنها خلقت كما اشتهيت، فلو رأتها دوقة لسرى إلى قلبها الحسد، وتمنت أن تكون في مكانها، وعلى الجملة فهي جوهرة مكنونة. - أين وجدت هذه الجوهرة يا مولاي؟ - إن لهذا اللقاء حكاية دون شك؛ فقد كنت ذاهبا منذ ثلاثة أيام إلى البرلمان، فمررت من هنا حيث نحن الآن.
وأنت تعلم أني حين أكون ذاهبا إلى البرلمان لا أكترث للدائنين؛ إذ لا يستطيعون إيقاف مركبتي والحراس محدقون بها.
وقد فتحت النافذة وجعلت أبتسم للناس الذين كانوا يحيونني من الجانبين.
وفيما أنا على ذلك، رأيت تلك الفتاة التي وصفتها لك وقد وقفت تنظر إلي وإلى مركبتي فابتسمت لها وأرسلت إليها قبلة في الهواء بيدي؛ فاحمر وجهها حياء وانصرفت مسرعة.
وكان يصحبني خادم ذكي رأى ما كان، فاندفع في أثرها، وأخبرني في هذا الصباح عن كل ما عرفه من شأنها. - أين تقيم يا مولاي؟ - إنها تقيم في شارع لا يخطر لأحد أني أذهب إليه، ثم ضحك وقال: إنها تقيم في وينغ. - هو ذاك يا مولاي؛ فإن دائنيك لا يمكن أن يخطر لهم أنك تتجول عند انتصاف الليل وفي مثل هذه الليلة الباردة في شارع لا يقيم فيه غير الرعاع واللصوص. - إذن أسرع الخطى؛ فإني أريد أن أصل إلى هذه الحسناء التي فتنتني.
فحك دلتون أذنه، ووقف موقف المتردد، فقال له البرنس وهو يضحك: ألعلك تأنف من الذهاب إلى وينغ؟
قال: كلا يا مولاي. ولكني لا أرى من الحكمة أن تخاطر بنفسك في هذا الشارع الذي لا يقيم فيه غير قطاع الطرق والبحارة السكارى، وفوق ذلك فإن هذه الفتاة لا بد أن يكون لها أب أو إخوة أو عشيق. - كلا. فإنها تقيم في بيت صغير مع أختها المريضة وعمتها العجوز كما أنبأني خادمي، وإني متقلد حسامي تحت وشاحي، وأظن أني أحسن استخدامه عند مسيس الحاجة. - اسكت اسكت يا مولاي. - ماذا؟ - أظن أنهم يتبعوننا. - ماذا تقول؟ - إني أسمع منذ بضع دقائق وقع خطوات من ورائنا ، وهي متناسبة مع خطواتنا.
فوضع البرنس يده على قبضة حسامه ووقف مصغيا، فسمع حديثا لم يتبينه؛ إذ كان يصل إلى مسمعه شبه الهمس فقال: إنهما رجلان يتحدثان في شئونهما، فلنهتم نحن في شأننا.
ومشى فتبعه دلتون وهما يصغيان فيسمعان وقع خطوات الرجلين، فقال البرنس: لقد بدأت أن أضجر منهما، فقف إلى أن يمرا ونرى ما يكون.
ولكنهما حين وقفا وقف الرجلان، فمشى البرنس إليهما وهو لا يراهما لتلبد الضباب إلى أن لاح له أشباح سوداء، فصاح بهم دلتون قائلا: إنكم إذا كنتم من قطاع الطرق فقد أخطأتم بتعقبنا فإننا لا نملك غير سيفين صقيلين.
فأجيب بضحك الساخر، ورأى أن الاثنين أصبحا ستة، فتراجع إلى الوراء وقال للبرنس: جرد حسامك يا مولاي فقد طوقونا.
فامتشق حسامه وصاح بهم قائلا: إلى الوراء.
ولكنهم أجابوه بالضحك، ثم سمع صفيرا خاصا ورأى الأشباح محدقة به، فعاد إلى الإنذار والوعيد.
وعند ذلك قال له واحد منهم بلهجة المتهكم: لقد عرفناك يا مولاي، ونحن كثيرون، فخير لك التسليم إذا كنت من العاقلين.
فانقض البرنس بحسامه على الرجل الذي كلمه وتراجع الأشباح كأنهم ذعروا، فاندفع البرنس في أثرهم.
ولكنه لم يسر ثلاث خطوات حتى عثرت رجله بشيء لم يره فوقع على الأرض، وأفلت الحسام من يده.
وكان دلتون سقط مثله؛ فانقضوا عليهما وقيدوا أيديهما.
وعند ذلك أدرك البرنس أن هذا الرجل الذي كان يتهكم عليه إنما كان من ضباط البوليس التجاري الذي كان يعهد إليه الدائنون القبض على المديونين وإرسالهم إلى السجن.
وقد توهج البرنس من الغضب وقال لهم: ويلكم أيها الأشقياء فسنقطع رءوسكم جزاء لكم.
فأجابه الضابط قائلا: إن رأسي يا صاحب السمو الملكي ثابت بين كتفي لا خوف عليه.
قال: ويحك أيها الوقح أتعرفني وتجسر ...
قال: لست أنا الذي يجسر يا مولاي على هذه الجرأة القبيحة، وإنما هو البرلمان. أما أنا فإني من أخلص رعايا جلالة الملك.
فحسب البرنس أنه يستطيع إغواءه بالمال، فدفع إليه كيسه وقال: خذ هذا.
فهز الضابط الكيس كأنه يريد أن يعلم مقدار ما فيه من الدنانير ثم قال له: إن سموك مخطئ يا مولاي.
قال: ماذا تعني؟ - أعني أن هذا الكيس لا يوجد فيه أكثر من عشرين دينارا، ومقدار الدين الذي على سموكم يبلغ ستة آلاف جنيه، وهو المبلغ الذي اضطررت من أجله أن أكمن لكم قرب السراي وأقبض عليكم بالرغم عني. - تبا لك من خائن. - كلا. لست بخائن يا مولاي، فقد كنت عالما أنكم عازمون على الخروج في هذه الليلة من السراي. - إني سأشنقك أيها الوقح. - إن الحبل المعد لشنقي لم ينسج بعد. - ومتى صرت ملكا؟ - إن جلالة أبيك في أتم عافية، وهو أصغر مني سنا، فمتى ارتقيت إلى العرش كنت أنا من أهل القبور، فلا خوف علي من عقابك. والآن فليأذن لي مولاي أن أقول له إن البرد قارس، وإنه يجدر به أن يعود. - عد بي إلى سانت جيمس. - كلا يا مولاي. - إذن إلى أين؟ - إلى السجن التجاري يا مولاي.
فارتعد البرنس لهذه الإهانة، ومضى الضابط في حديثه فقال: إني كنت واثقا من القبض على سموكم في هذه الليلة، فأنبأت مدير السجن فأعد لكم غرفة جديرة بسموكم.
فطاش صوابه من الغضب وقال: أيها اللص! إنك لم تظفر بي بعد.
ثم حاول أن يقطع وثاقه فلم يستطع.
وعند ذلك سمع وقع خطوات عسكرية؛ فجعل يصيح مستغيثا ويقول: إلي ... إلي.
فأسرع صاحب الخطوات وقال: من هذا الذي يستنجد؟
فقال البرنس: أنا هو البرنس دي غال، تجاسروا على أن يمدوا أيديهم إلي.
فدنا الرجل وظهرت علائم الدهشة على الضابط حين رأى هذا الرجل؛ فقد كان طويل القامة يلبس ملابس البحارة، ولكن نبل هيئته كان يدل على أنه متنكر بهذه الملابس.
أما هذا الرجل؛ فإنه انحنى بملء الاحترام أمام البرنس، ثم نظر إلى الضابط وقال له: ويحك كيف جرؤت هذه الجرأة على ولي العهد؟
فتمتم الضابط قائلا: الرئيس! ثم أجاب الرجل قائلا: أرجو معذرتي فقد امتثلت للأمر الصادر إلي.
قال: ليس لك أن تتلقى الأوامر إلا مني، وإني آمرك الآن أن تركع عند قدمي سموه؛ فإنه قد يعفو عنك بعد رجائي.
فركع الضابط ممتثلا، وجعل يعتذر بلسان يتلعثم والبرنس مندهش مما يراه.
ثم أمره الرجل أن ينصرف برجاله فأسرع بالامتثال وانحنى الرجل أمام البرنس وقال له: ما كنت أتمنى يا مولاي إلا أن أكون مررت بهذا المكان قبل أن يتجاسر هؤلاء الأشقياء.
وكان البرنس قد ثاب من دهشته الأولى، ولكنه لبث معجبا بهذا الرجل، فقال له: من أنت أيها السيد فقد رأيت ضابط البوليس التجاري يضطرب أمامك وهو لا يضطرب أمام أحد؟!
قال: ذلك أنه مدين لي بجميل.
فقال له دلتون: ولكنك كنت تكلمه بلهجة السيادة، وسمعته يناديك متمتما بلقب الرئيس.
قال: ذلك أني كنت شبه رئيسه.
فقال له البرنس: إني لا أدعك تنصرف قبل أن أعرف اسمك؛ فإني أريد أن أظهر لك امتناني في الغد على مشهد من النبلاء.
قال: لا حاجة إلى ذلك يا مولاي فإني ما عملت إلا ما يجب علي، ويكفيني رضاك.
إنما ألتمس من سموكم أن يأذن لي بمرافقته إلى سراي سانت جيمس.
ولكن البرنس ذكر حين زال عنه هذا الخطر الغرض الذي كان قادما من أجله، فقال له: إني لا أريد العودة إلى السراي.
قال: إن سموكم قد يكون مخطئا.
قال: إني عاشق، وأريد أن أرى من أحب.
فابتسم الرجل وقال: إني عارف بذلك يا مولاي.
فزاد اندهاش البرنس، ومضى الرجل في حديثه فقال: إنكم رأيتم يا مولاي منذ يومين فتاة شقراء تلبس ملابس عامة الشعب. - هو ذاك. - وإن هذه الفتاة هي أخت المرأة التي أحبها؛ فإذا كنتم تريدون يا مولاي مراعاة من أنقذكم من هذا الموقف ...
فلم يدعه البرنس يتمم حديثه وقال له: كفى، فإني لا أعود إلى التفكير بها مهما كلفني ذلك من العناء؛ فإني مدين لك، وأنا من دم ملكي، فاعلم أني أتعهد لك بأني لا أحاول إغواء هذه الفتاة. - أشكركم يا مولاي. - والآن. ولم يبق لي غاية من مواصلة السير فقد رضيت اقتراحك، فعد بي إلى السراي. - إني ممتثل لأوامر سموكم.
وسار الثلاثة عائدين إلى القصر الملكي، فقال له البرنس: أتعلم أيها الصديق أن لك من السلطة النافذة ما لم ينل بعضه ابن الملك.
فابتسم الرجل وقال: أتحسب يا مولاي أن لي هذه السلطة؟ - دون شك. - ليس على سموكم، إلا أن يثق بي فيستطيع بعد ذلك الطواف في الشوارع حين يشاء وكما يشاء. - أحق ما تقول؟ - نعم يا مولاي. - كيف ذلك والدائنون يراقبونني ليل نهار، أيدعونني أسير دون اعتراض؟ - نعم يا مولاي. - إذن أنت من السحرة. - ربما. - إذا كان ذلك، فهبني شيئا من القوة، وثق أني لست ممن ينكرون الجميل. - أتثق بي يا مولاي؟ - كل الثقة. - إذن. تفضل بالذهاب معي.
وكانوا قد اجتازوا في تلك الساعة جسر لندرا، وعطفوا إلى الشوارع الكبرى الجميلة، فكان الرجل يسير في الطليعة مسرعا، والبرنس ودلتون يتبعانه.
وبعد ربع ساعة وصلوا إلى منزل جميل حسن الرواء، فوقف الرجل وقال: لقد وصلنا.
ثم قرع الباب ففتحته امرأة عجوز، وانحنت أمام الرجل بملء الاحترام، وقال البرنس في نفسه: لا شك أنه نبيل متنكر.
ثم دخل دلتون في أثره إلى المنزل، فاجتازوا رواقا، ثم صعدوا سلما، ففتح الرجل الباب وأدخلهما إلى قاعة كان يدل فرشها إنها غرفة أشغال.
وقد قدم كرسيا للبرنس ولبث واقفا أمامه باحترام، فضحك البرنس وقال له: لقد قلت لنا إنك ساحر، ولكني لا أجد في هذه الغرفة ما يحمل على الرعب.
قال: إن الطريقة التي سأرشد مولاي إليها تشبه السحر لبساطتها.
قال: ما هي؟
قال: إن الدائن يشبه الكلب الهائج، فإذا أعطيته لقمة سكت هياجه.
قال: إن الطريقة سهلة كما تقول، ولكن تنفيذها صعب؛ فإني لا أستطيع أن أعطي الدائنين شيئا.
ففتح الرجل درجا وأخرج منه غلافا محشوا بالأوراق، فقال له: هذه هي قوائم حسابك يا مولاي.
فوقف البرنس منذهلا، وقال له الرجل: وإن هذه القوائم معلم عليها بالوصول من أصحابها. - ولكن ... - هذه هي يا مولاي، فتفضل وانظر فيها.
فافتقدها فوجد عليها تواقيع أصحابها، فخيل له أنه في حلم، وقال له: هل لك أن توضح لي هذا المعمى؟
قال: إن حله سهل يا مولاي، فقد وفوا جميع دائنيك ما خلا الذي كان يطالبك هذه الليلة، وسيوفي حقه غدا. - من الذي وفى عني هذا الدين؟ - المخلصون لسموك يا مولاي. - ربما كنت أنت؟ - نعم يا مولاي. - إذن من أنت؟ - إن اسمي لا يدل على شيء يا مولاي. - ولكني أريد أن أعرفه. - فانحنى الرجل وقال: إني أدعى عثمان. - أأنت هو الناباب عثمان الذي جعلك جاك روجر وريثه الوحيد؟ - نعم يا مولاي. - وأنت الذي وفيت ديني؟
فانحنى عثمان، وقال له البرنس: إذن أنت من كبار الأغنياء. - لست أنا الغني يا مولاي، بل طائفة أتولى زعامتها. - ما هي هذه الطائفة؟ - هذا الذي يستحيل أن أقوله لسموكم. - ولكني أريد أن أعلم. - ليس هذا بسري يا مولاي. - أتعلم أني مدين لك بستة آلاف جنيه؟ - كلا يا مولاي فلست مدينا لي بشيء.
فوقف البرنس وقد بدت عليه علائم الأنفة.
إنه لو وفى البرلمان ديوني لقبلت، وأما أن تفيها طائفة سرية فلا. - أئذا أتيت يا مولاي إلى سراي سانت جيمس والتمست مقابلة سموكم، أتأذن لي بالمقابلة؟ - دون شك. - إذن سأزور سموكم في يوم لا أستطيع أن أعينه الآن، وأطلب مكافأتي عن هذه الخدمة اليسيرة التي تشرفت بتقديمها لمولاي.
فقطب البرنس حاجبيه وأدرك عثمان خوفه من هذا القيد، فقال: اطمئن يا مولاي، فلا أطلب ما يمس بالشرف والواجب.
قال: إذن أبق هذه القوائم عندك؛ فإني أريد أن أبقى مدينك إلى أن أفي هذا الوعد الذي أعدك به اليوم.
فانحنى عثمان وقال: لم يبق لي يا مولاي غير ملتمس ألتمسه من سموكم. - ما هو؟ - هو أن تتفضلوا بكتمان ما كان بيننا. - إني أعدك بالكتمان.
ثم التفت إلى كاتم أسراره وقال له: أسمعت يا دلتون؟
فانحنى دلتون، وقال عثمان مخاطبا البرنس: والآن هل يريد مولاي أن يعود إلى السراي؟
قال: نعم.
فقرع عثمان جرسا ودخل شمشون، فقال عثمان للبرنس: إن هذا الرجل يمثلني يا مولاي في شوارع لندرا، وإنكم تستطيعون أن تسيروا إلى حيث تشاءون حين يكون في خدمتكم .
ولما وصل البرنس إلى السراي ودخل إلى غرفته دهش دهشا عظيما؛ إذ رأى على منضدة جميع قوائم الحساب التي رآها عند عثمان، فقد وصلت قبله إلى غرفته، مع أنه لم يقف في الطريق حين خروجه من منزل عثمان، وقال في نفسه: لم يبق شك في أن هذا الرجل من السحرة.
وقد صعد إلى سريره وحاول الرقاد، ولكنه لم يغمض له جفن إلى الصباح وهو يناجي نفسه بهذا السؤال ويقول: ترى ماذا يريد مني هذا الرجل مقابل الدين الذي وفاه عني، وهو ستة آلاف جنيه؟
ولما أشرق الصباح قام إلى منضدة وكتب ما يأتي:
من البرنس دي غال إلى الناباب عثمان
أيها السيد
إنك أنقذتني من الدائنين ورددت إلي القوائم، ولكنني لا أزال مدينا لك، فاعتبر هذا الاعتراف سندا علي بذلك الدين.
ثم نادى دلتون وأمره أن يذهب بالرسالة إلى المنزل الذي اجتمعا فيه بعثمان، وانتزع من أصبعه خاتما كان منقوشا عليه شعار الأسرة المالكة وقال له: أعطه الرسالة وهذا الخاتم على سبيل التذكار.
فخرج دلتون وعاد بعد ساعة وهو يحمل الرسالة والخاتم.
فقال له البرنس: ما هذا؟
قال: ألعلك واثق يا مولاي أننا لم نكن أمس حالمين، وأن ما جرى لنا كان في اليقظة؟ - وأنت؟ - لست واثقا. - كيف ذلك؟ - ذلك أني بحثت أدق بحث في ذلك الشارع عن المنزل وعن الناباب عثمان فلم أقف على أثر. - إن الرجل قد يختفي وأما المنزل ... - لم أجدهما. - أنا أجدهما.
ثم تأبط ذراع دلتون وخرج وإياه في رائعة النهار، فطاف جميع شوارع لندرا دون أن يقف على أثر لذلك المنزل؛ فجعل دلتون يضحك ويقول: أرأيت يا مولاي؟! إننا كنا حالمين.
قال: أريد أن أوافقك على اعتقادك ولكن ذلك محال؛ فقد لقيت في طريقي كثيرا من الدائنين، فكانوا ينحنون أمامي بملء الاحترام؛ مما يدل أنهم قبضوا ديونهم.
وعاد البرنس إلى السراي، فلبث بضعة أيام وهو منذهل أشد الانذهال مما اتفق له.
ثم تناسى هذه الحادثة، وكاد أن ينسى عثمان.
وبعد أسبوع، دعاه أبوه الملك إليه وقال له: يظهر أن نصائحي قد أثرت فيك.
قال: ماذا تعني جلالتك؟
قال: لقد علمت أنك وفيت ديونك.
قال: نعم يا مولاي.
فمد إليه يده فصافحه وهو يقول: إذا كان ذلك فإني أعود إلى صداقتك، وأزيد راتبك أربعة آلاف جنيه في العام.
فانحنى البرنس أمامه شاكرا وهو يقول في نفسه: لا شك أن عثمان سحر أبي فأنعم علي هذا الإنعام.
ثم قال له الملك: إنك ما دمت أصبحت من العاقلين؛ فإني آذن لك بحضور المجلس الخاص الذي حرمتك من حضور جلساته.
قال: لقد أغدقت علي نعمك يا مولاي؛ فإنك تسمح لي أن أهتم بشئون المملكة.
قال: إنك تعرف السير روبرت فالدن - أحد أعضاء مجلس البرلمان - أليس كذلك؟
قال: نعم.
قال: خذ هذه الورقة التي قدمها إلينا واقرأها، فأخذ البرنس الورقة وقرأ ما يأتي:
مولاي
ألتمس من جلالتكم أن تأذنوا لي بمقابلة خاصة يحضرها سمو البرنس دي غال واثنان من أعاظم النبلاء لشأن خطير يمس شرف جميع نبلاء الإنكليز.
فلما قرأها قال له أبوه: ما عساه يريد السير روبرت؟
قال: إنه يا مولاي مشهور بغرابة أطواره، وأظن أنه يهتم بالصيد والأسفار أكثر من اهتمامه بالسياسة.
ومع ذلك فإن جلالتكم قد عودتم الأشراف أن لا ترفضوا لهم مقابلة، وسنرى ما يريد.
قال: إذن اكتب له أننا سنستقبله غدا في الساعة التاسعة من المساء في قاعتنا الخاصة، وسيحضر هذه المقابلة ولي عهدنا واثنان من الأشراف كما قال.
فأخذ البرنس قلما وكتب ما يأتي:
إن جلالة الملك جورج الثالث قد تفضل وأذن للسير روبرت فالدن أن يتشرف بمقابلته في الساعة التاسعة من مساء غد في القاعة الخاصة.
جورج
برنس دي غال
وقد أقام البرنس مدة يتحدث مع أبيه، ثم دعاه أبوه إلى تناول الطعام معه، فذهب البرنس إلى قاعته الخاصة كي يتأهب للجلوس على مائدة الملك، فقد كان من مصطلحاتهم أن لا يجلس ولي العهد على مائدة الملك إلا وهو مرتد ملابس قائد الفرسان العام.
وبينما كان غلمانه يعطرونه ويلبسونه حانت منه التفاتة إلى المنضدة؛ فرأى رسالة مختومة ففضها وقرأ فيها ما يأتي:
نلتمس من البرنس دي غال أن يمر بقاعة أشغاله حين ينتهي من لبس ثيابه.
فألقى هذه الرسالة في النار، وبعد أن فرغ من لباسه ذهب إلى قاعة أشغاله فصاح صيحة دهش.
ذلك أنه رأى الناباب عثمان بجانب المستوقد وهو على أتم السكينة.
الفصل الثاني عشر
الرحيل
في اليوم التالي - أي في اليوم الذي عينه الملك لمقابلة السير روبرت فالدن - ركب روبرت مركبته وذهب لزيارة اللادي سيسلي قبل موعد الملك بساعة؛ فإنها لم تكن أشهرت أمرها بعد.
وكان ليونيل قد برح به الوجد؛ فإنه على أنفته ونفوره من الزواج بنورية كان لا يزال يحب توبسي، وقد أمرضه هذا الحب حتى أوشك أن يشرف على الموت.
فلما دخل روبرت كان ليونيل نائما، فسأل أمه عنه فقالت له: إن الطبيب يبشرنا بقرب شفائه، ولكنه أول من أمس كاد أن ينتحر. - كيف ذلك؟ - إنه أراد أن يلقي بنفسه من النافذة، ولو لم يتفق دخول روجر في تلك الساعة ويمنعه عن قصده لقضي عليه، ولكنه سكن بعد ذلك، وذهب يأسه بذهاب الحمى.
فقطب روبرت حاجيبه عند ذكر روجر وقال: إني أتيتك لأحدثك بشأن المركيز روجر. - ولدي؟ - المركيز روجر. - إني مصغية إليك. - إني لم أرك بعد ذهابي إلى قصر إسبرتهون، وقد اتصل بي أن المركيز روجر يريد أن يعترف علنا بأن ليونيل أخوه وأن يشاطره ثروته. - هو ذاك. فكيف تشكك الآن بمولده؟ - بل لم يبق سبيل إلى الشك. - تريد أنه ولدي أليس كذلك؟ - كلا. إنه ليس ولدك. وقد ثبت لي ذلك بالبرهان. - ما هو برهانك؟ - لقد لقيت العبد الذي كان يحرس ولدك روجر حين كان خادما عند اللورد إسبرتهون، وهو يثبت أن ولدك لسعته حية وهو في مهده فمات، وكان ذلك في اليوم الذي قتلت فيه السير جاك. - رباه! ماذا أسمع؟! ألا يمكن أن يكون هذا الرجل كاذبا؟ - كلا. بل إنه يقول الحق. - وإذا لم يكن ولدي، فعلى ماذا عزمت؟ - على أن ألتمس من الملك أن يجعل ليونيل مركيزا بدلا منه. - وروجر؟ - يعود إلى طائفة النور التي خرج منها. - كلا. إن ذلك لا يكون؛ فإنه إذا لم يكن ولدي فإني أحبه كأنه ولدي، وكفى أنه كاد أن يقتل ليونيل، فلما سمع صوتي ألقى حسامه إلى الأرض. - تمعني؛ فإنك تسيئين إلى ليونيل وتحرمينه من لقبه. - إن ليونيل نفسه لا يريد حرمان من يدعوه بأخيه. - ولكنه ليس كذلك، بل هو مزور. - ليس هو الذي ارتكب هذا التزوير، وفوق ذلك فإنه إذا لم يكن ولدي فهو ابن اللورد.
فنظر إليها بحزن وقال في نفسه: لا أرى أحدا غيري يسمع صوت الواجب. ثم نهض فودعها وقال: أرى يا سيدتي أنه يجب أن أعمل قصدي.
قالت: ماذا تريد أن تعمل؟
قال: واجباتي.
وقد تركها وانصرف إلى دكان كان يجتمع فيه العبيد الذي يطلبون الاستخدام، فنادى واحدا منهم - وهو أحد العبدين اللذين كانا في خدمة اللورد إسبرتهون في الهند - وقال له: هل أنت متأهب؟
قال: نعم يا مولاي. - أتقول ما قلته لي أمام الملك؟ - نعم يا مولاي. - إذن أنت واثق أن المركيز الحقيقي قد مات. - كل الثقة؛ فقد أخبرتك كيف أن الطبيب بولتون أخذه من مهده وهو ميت بموافقة اللورد، وكيف أنه عاد في الليلة نفسها بطفل حي يشبهه فوضعه في مهده، وكيف أن هذا الطبيب رشاني بمبلغ عظيم من المال حين علم بأني رأيته، وأمرني أن أسافر إلى سنجابور. - أتعيد كل هذه الأقوال أمام الملك؟ - نعم. - إذن تعال معي.
فصعد العبد إلى جانب السائق، وسارت المركبة إلى قصر الملك، فلما أراد السير روبرت الدخول اعترضه حاجب قائلا: الدخول ممنوع.
قال: إن الملك أرسل إلي كتابا يأمرني فيه بالحضور. - ألعلك لم تعلم يا مولاي بماذا حدث؟ - ماذا؟ - إن الملك أصيب بالليل بعارض جنون، وقد تولى البرنس دي غال مكانه إدارة المملكة.
فاغتم السير روبرت وحاول الانصراف، وعند ذلك جاءه ضابط فقال له: أأنت السير روبرت يا مولاي؟
قال: نعم.
قال: تعال فقد أمر سمو البرنس أن ندخلك إليه.
فأمر العبد أن ينتظر في الردهة، ودخل وحده إلى القاعة الملكية، فابتسم له البرنس دي غال وقال: إنك التمست مقابلة جلالة الملك؛ فأمرني أن أتولى مقابلتك عنه لأنه مريض.
ثم إنك التمست أن تكون هذه المقابلة بحضور شاهدين من أشراف المملكة فاخترت شريفين من خيرة رجال بلاطنا.
ثم قرع جرسا، فدخل كاتم أسراره دلتون فأشار البرنس إليه، وقال مخاطبا السير روبرت: هذا أحد الشاهدين، وهو اللورد أرشيبالد دلتون كاتم أسراره، وإن أحد أجداده قاتل بجانب الملك غيليوم الفاتح.
فانحنى السير روبرت أمامه، وقرع الملك الجرس أيضا وقال: هذا شريف آخر لا سبيل إلى الشك بشرفه وبسالته.
وعند ذلك فتح الباب ودخل المركيز روجر دي إسبرتهون وهو بملابس التشريفات الكبرى.
فتراجع السير روبرت كأنما هوة قد فتحت أمامه.
أما المركيز فإنه حياه وجلس إلى يمين البرنس كما جلس دلتون عن يساره، فنظر البرنس إلى السير روبرت وقال له: تكلم فإننا مصغون إليك.
فبذل السير روبرت جهدا عنيفا حتى تمكن من ضبط نفسه، ونظر نظرة منكرة إلى المركيز، ثم انحنى أمام البرنس وقال: إن طائفة يا مولاي قد جاءت إلى إنكلترا منذ عشرين عاما وهي طامعة بالمناصب، وتنذر بأن تحل محل أبناء البلاد فيها.
قال: أوضح ما تقول. فمن هذه الطائفة؟
قال: إنها طائفة النور يا مولاي.
فضحك البرنس وقال: لقد كنت أحسب أن أعمال هذه الطائفة مقصورة على التجول في الشوارع والرقص في الطرقات. - كلا يا مولاي؛ إذ يوجد واحد منهم من كبار الجوهريين. - حسنا. - ويوجد واحد منهم من الصيارفة. - وبعد ذلك؟ - وآخر من القضاة. - لم أجد إلى الآن موضع الضرر. - وأخيرا، فإن واحدا منهم يجلس مع النواب في مجلس اللوردية. - ما هذا القول؟ ألعلك فقدت صوابك؟ - كلا يا مولاي، بل إني أقول الحق. - ألديك برهان على ما تقول؟ - دون شك. - إذن أنت تعتقد أنه يوجد نوري بين أعضاء اللوردية؟ - هو ذاك. - إنك تروي لنا حادثا جللا، فكيف يكون هذا الانتحال؟ - إنه ابن أحد اللوردية، ولكن أمه النورية ولدته سفاحا، فحل محل ولده الشرعي. - إنك إذا استطعت أن تبرهن لي عن ذلك طردت جميع النورية من المملكة. - وإني ألتمس منك أن تأذن لي بتقديم هذا البرهان. - ولكني أريد قبل ذلك أن تذكر لي اسم هذا المنتحل. - إنه يدعى روجر دي إسبرتهون، وهو على يمينك يا مولاي.
أما روجر فإنه لم يبد عليه شيء من علائم الاضطراب، بل إنه نظر إلى البرنس وقال له بملء السكينة: إني أرى يا مولاي ما يراه سموكم، وهو أن السير روبرت فالدن قد فقد صوابه.
ومع ذلك؛ فإنه إذا استطاع أن يبرهن أني نوري رضيت أن أطرد مع طائفتي.
فأجابه البرنس قائلا: لا شك أن السير روبرت اغتر بأقوال تلك النورية المجنونة التي أتتك يوم عودتك من أميركا، فذكرت ولدها الميت، وادعت أنها أمك.
فقال السير روبرت: إنها كانت تقول الحق يا مولاي. - هات برهانك. - أتأذن لي يا مولاي أن أدخل رجلا كان في خدمة اللورد إسبرتهون حين كان حاكم الهند، فهو يثبت أن روجر الحقيقي، أي أن ابن اللورد الشرعي قد مات. - أين هو هذا الرجل؟ - في الردهة يا مولاي.
فأصدر البرنس أمره بإدخال العبد، ولكنه قبل أن يدخل أزيحت ستارة بجانب الباب وظهر رجل مختبئا وراءها وهو بملابس فرسان الملك؛ فنظر إلى العبد نظرة منكرة، ثم رفع سبابته على فمه يأمره بالتكتم، ودخل وراء الستارة.
وقد ارتجف العبد حين رأى هذا الرجل واصفر وجهه الأسود، ثم أطرق برأسه إطراق المستسلم للقضاء ودخل، فقال له البرنس: ماذا تدعى أيها الرجل؟ - ألينيو. - أكنت في خدمة اللورد إسبرتهون في الهند؟ - نعم يا مولاي. - أكان له ولد؟ - نعم يا مولاي. - وهذا الولد مات؟ - لا أعلم.
فتوهجت عينا السير روبرت من الغضب لهذا الجواب غير المنتظر، وقال له: ويحك أيها الشقي! ألم تقل لي إنه ...
قال: لقد قلت لك يا سيدي إن حية لسعته وإنه كان مريضا. - بل قلت لي إنه مات. - لا أعلم يا سيدي إذا كان قد مات؛ فقد طردوني من القصر في اليوم نفسه، وكان الطفل لا يزال في قيد الحياة .
فاصفر وجه السير روبرت، ووضع يده على جبهته، فابتسم البرنس وقال لروجر: اطمئن أيها المركيز فقد ثبت لنا الآن جنون السير روبرت فالدن.
ولما خرج العبد من القاعة الملكية انصرف وهو يقول: لقد كذبت، ولكنني اضطررت إلى الكذب؛ فإن هذا الرجل الذي أمرني بالكتمان قد أنقذني مرة في الهند من الخناقين، فلم أجد بدا من طاعته.
أما هذا الرجل، فقد كان جان دي فرانس. •••
بعد ذلك بأسبوعين كان المركيز روجر مريضا في سريره، وقد اشتد به المرض حتى خشي عليه من الموت.
وذلك أنه بينما كان ساهرا ذات ليلة في نادي الحسان أصيب بدوار شديد فجائي وسقط بين يدي الناباب عثمان.
وقد حملوه إلى قصره وجاءوه بالطبيب بولتون فتولى معالجته.
وكان قبل ذلك بأسبوع أعلن أن ليونيل أخوه، واستأذن البرنس دي غال، واستصدر أمرا من البرلمان فأشرك أخاه بثروته ولقبه؛ فانتقل مع أمه إلى قصر المركيز.
فلما جاء الطبيب بولتون وفحص المركيز قال: إنه مصاب بحمى هندية، وإنها حمى خطيرة، ولكنه غير قانط من شفائها.
وقد اضطربت لندرا لمرض المركيز؛ فإن انتصاراته الأخيرة حببته إلى جميع الناس، ولا سيما حين ذاع بينهم أنه لم يجر على نظام اللوردية وأنه ساوى نفسه.
ففي تلك الليلة، أي بعد أسبوعين من مرضه كان مرضه يحول إلى غيبوبة، فلم يكن يعود إليه صوابه إلا في النادر.
وكان الطبيب بولتون واللادي سيسلي وليونيل واقفين بجانب سريره، وقد فتح عينيه ونظر إليهم، فأسرعت اللادي إليه وأخذت يده بين يديها وقالت له بملء الحنو: ولدي ... كيف أنت ...؟ ألم تعرفني؟
وقبل ليونيل جبينه وقال له: وأنا، ألست بأخيك؟
فبرقت عينا روجر وفتح فمه يحاول الكلام، ولكنه ما لبث أن سقط برأسه على الوسادة وعاد إلى الغيبوبة.
فصاحت أم ليونيل قائلة: رباه أنقذه مما هو فيه.
وأمسك ليونيل يده وجعل يغسلها بدموعه، فنظر الطبيب إلى اللادي وقال لها بصوت منخفض: إن مرضه شديد.
قالت: إنك ستشفيه. أليس كذلك؟
قال: لا أستطيع أن أجزم بشفائه. وا أسفاه!
فجعلت تشهق بالبكاء ، فقال الطبيب: إن الموقف خطير يا سيدتي، ولا بد لي من أن أقول لك الحقيقة في هذا الموقف. - رباه! ماذا تريد أن تقول لي؟ - إن روجر ليس بولدك. - إني عارفة بذلك، ولكني أحبه كأنه ولدي؛ فإنه كريم شريف.
ثم بسطت يديها إلى السماء وقالت: رباه! خذ حياتي واجعلني فداء هذا الفتى الكريم؛ فقد كان يحبني ويحترمني حب الأبناء للأمهات.
وركع ليونيل وقال: أيها الأخ العزيز، إني لا أعلم إذا كان بطن واحد قد حملنا، ولكني أعلم أن أبانا واحد، وأنك أليق مني بإرث لقبه المجيد.
فأنهضه بولتون وقال له: إذن أتوافق إذا قدرت السلامة لروجر أن يكون هو المركيز الحقيقي وتكون أنت ثاني أنجال اللورد إسبرتهون؟
قال: أنقذه أيها الطبيب وإني أقسم بالله أن لا أقول كلمة في حياتي تدل أني واقف على الحقيقة.
قال: إذن سأفرغ مجهودي في سبيل شفائه، فدعوني أبقى وحدي معه.
فخرج ليونيل وأمه وعيونهما غارقة بالدموع، وذهب بولتون فأقفل الباب من الداخل وعاد إلى المركيز وقد فتح عينيه واستوى جالسا في سريره وعاد إليه هداه، فقال له بولتون: أسمعت الحديث؟
قال: نعم. وقد أيقنت الآن أنهما جديران بفضيحتي.
ثم نظر إلى شعار أسرة إسبرتهون المنقوش فوق المستوقد وإلى صور أعضاء تلك الأسرة المعلقة على الجدران، فقال يخاطبها: أيتها الرسوم الكريمة، اصفحي عن ابن النورية اللقيط لحلوله زمنا محل الابن الشرعي ولإقامته في قصر لا يحق له الإقامة فيه.
يا آل إسبرتهون، إني لا يحق لي أن أتسمى باسمكم، وإن كانت دماؤكم تجول في عروقي فسأرجع سيفكم القديم إلى من يعرف أن يتقلده، وسأرجع ثروتكم العظيمة إلى من يعرف كيف ينفقها في سبيل مجدكم.
ثم التفت إلى الطبيب وقال له: أيها الصديق القديم، إني فعلت الآن واجباتي، فهات الشراب الذي أعددته فإني أشربه بملء الارتياح ودون خوف.
فذهب بولتون إلى منضدته، فأخذ كأسا من الفضة وأخرج من جيبه زجاجة صغيرة، فأفرغ ما كان فيها في تلك الكأس وجاء بها إلى روجر.
فأخذ روجر الكأس وهو يتبسم وشرب ما فيها جرعة واحدة وقال: ما هذه النهاية! فليحفظ الله المركيز ليونيل دي إسبرتهون من كل كيد.
ثم انقلب على سريره وقد أطبقت عيناه واصفر وجهه وبردت يداه.
وذهب بولتون ففتح الباب وخرج إلى حيث كان ليونيل وأمه فقال له بصوت يتهدج من الحزن: إن قضاء الله لا يرد يا سيدي الكولونيل؛ فأنت الآن المركيز دي إسبرتهون، وستجلس في مجلس اللوردية.
وفي اليوم التالي غصت ردهات قصر إسبرتهون بالمركبات وغصت قاعاته الرحبة باللوردية وأشراف الإنكليز؛ فإن المركيز روجر دي إسبرتهون وقائد فرسان الملك قد أدركته الوفاة.
وكانوا قد وضعوه في القاعة الكبرى، وأقبل الأشراف يودعون جثته، وكان البرنس دي غال نفسه قد حضر مع جميع بطانته، وسمعه الناس يقول حين انصرافه: إن الملك فقد بفقده أبسل قواده، وأنا فقدت خير صديق.
وبعد انصراف البرنس أقفلت أبواب القصر، فقد انتهى عرض الجثة، وعند ذلك قال الناباب عثمان لليونيل: يجب أن تخرج من هذه القاعة يا سيدي المركيز.
قال: أأترك أخي كلا ... كلا.
قال: إن هذا لا بد منه، فقد دنا وضع الجثة في التابوت، وعادة الإنكليز أنهم لا يدعون أهل الميت يحضرون هذا المشهد الذريع.
فأكب ليونيل على وجه روجر ليعانقه، ويغسله بدموعه فنهض عثمان وأخرجه من القاعة.
وعاد إليها، فأشار إلى الكاهن أن ينصرف، فخرج ولبث عثمان وحده أمام روجر وهو يتحقق في وجهه ويقول: إني أعددت لك مستقبلا عظيما، ولكنك أبيت.
وعند ذلك فتح الباب ودخل منه الطبيب بولتون ووراءه رجلان يحملان التابوت وهما شمشون وذلك النوري حارس مقبرة سانت جيل.
فوضع عثمان أصبعه على فمه إشارة إلى السكوت، وسأله بصوت منخفض قائلا: أأعددت المعدات؟
قال: نعم فإن تشييع الجنازة سيكون عند هبوط الليل، وسندخل التابوت إلى مدفن العائلة وجميع حراس المقبرة من رجالنا. - أأنت واثق من الدواء الذي أعددته؟ - نعم، ولكن لا يستطيع سواي استعماله. - وإذا اتفق أنك مت هذه الليلة؟ - يلبث روجر ميتا إلى أن يستفيق يوم الحشر في وادي يهوشافاط.
فارتعد عثمان وقال له الطبيب : ولكن المحني فسأبقى حيا إلى انتصاف الليل، وإن أبواب القبر المقفلة على المركيز روجر ستفتح فيخرج منها أميري ملك النور وهو في أتم عافية.
قال: إذن افعل فعالك، واذكر أنك ضمنت حياته.
قال: لا تخف واذهب في شأنك.
فذهب جان ونقل شمشون ورفيقه روجر إلى التابوت وأقفلاه.
فقال لهما الطبيب: اذهبا الآن إلى المقبرة ولا تبرحاها واذكرا.
فقال شمشون: اطمئن فإننا لا ننسى.
ثم انصرفا فأخرج بولتون زجاجة صغيرة من جيبه وقال: إني أرتعد حين أفتكر أن حياة روجر في هذه الزجاجة، وأني إذا مت ...
ولكنه قبل أن يتم جملته اضطرب وجعل العرق البارد يسيل من وجهه؛ فإنه رأى وجه رجل قد ارتسم في مرآة كانت بجانبه ولم يدر من أين دخل فإن الباب كان مقفلا.
أما الرجل فإنه مشى إلى بولتون وقال له: إنك أخطأت أيها الطبيب بإبعادك الخدم وأهل الميت وجان دي فرانس عنك.
فتوقع بولتون خطرا عظيما وقال: السير روبرت فالدن؟
قال: نعم. أنا هو؛ فإنك اتخذت كل أسباب الاحتياط. لكنك نسيت أن تقفل بالمفتاح هذا الباب.
فوضع الطبيب يده على قبضة حسامه وجرد السير روبرت حسامه ببطء وقال: لك الخيار الآن بين أن تعطيني هذه الزجاجة وبين أن تموت؛ فإني لا أريد أن يعود روجر إلى الحياة في هذه الليلة.
وقد مشى بحسامه إلى الطبيب؛ فجرى بينهما قتال عنيف لم يكن يسمع في خلاله غير صوت أنفاسهما.
وكان بولتون يقاتله وهو يرتعد خوفا على روجر ويقول في نفسه: إنه إذا قتلني مات روجر.
فكان هذا الخاطر يشدوه في القتال، ولكن السير روبرت كان من أشهر رجال السيف، وقد عول على قتل بولتون وكسر الزجاجة.
وفيما هما يتقاتلان صاح بولتون صيحة يأس هائلة فإن حسامه قد انكسر، وشعر برأس حسام السير روبرت على صدره وسمعه يقول: إني لست من الذين يقتلون الناس غيلة، ولكن أقسم بالله إنك إذا لم تعطني الزجاجة قتلتك دون إشفاق.
فتراجع بولتون إلى الوراء واحتمى وراء كرسي كبير وهو يقول: من لي بسيف ... رباه لا تقض بموت هذا البريء.
وعند ذلك فتح الباب الذي دخل منه السير روبرت بعنف، ودخلت منه توبسي ربيبة السير روبرت وهي تحمل سيفا؛ فأسرعت بإعطائه إلى الطبيب وهي تقول: وأنا أيضا لا أريد أن يموت روجر؛ فقد أنقذني من الموت، وأنا أحبه.
فأخذ السيف من يدها، وعاد الاثنان إلى القتال بأشد عنف. •••
وفي الساعة الثامنة من المساء احتفل بتشييع جنازة المركيز روجر دي إسبرتهون إلى مقبرة سانت جيل، حيث كان لأسرة إسبرتهون ضريح خاص.
وقد مشى في ذلك الموكب المهيب جميع نبلاء إنكلترا، وكان يتقدمهم اثنان مكشوفا الرأس؛ أحدهما ليونيل الذي أصبح الآن مركيزا، والثاني أعظم نبيل بعد الملك وهو البرنس دي غال.
وكان الناباب عثمان يسير بين أعضاء نادي الحسان وهو حزين القلب كاسف البال.
ووراء الجميع الطبيب بولتون. أما السير روبرت فالدن فلم يره أحد بين جموع المشيعين.
وقد وضعوا التابوت على بلاطة عند مدخل الضريح، وجعل كل من المشيعين يقف في دوره عند التابوت فينحني وينصرف، إلى أن جاء دور الطبيب فانحنى أمامه وقال بصوت منخفض: رحمك الله يا سير روبرت فالدن.
ذلك أنه كان قد قتله ووضعه في التابوت بدلا من روجر. •••
وكان رجل واقفا وراء شجرة كبيرة وهو متشح برداء كبير وقد قنع وجهه بقناع كثيف فلم يفته شيء من تفاصيل هذه الحفلة.
وقد مر الناس به، فكان يراهم من وراء مكمنه ولا يرونه، فرأى ليونيل يسير وهو يشهق بالبكاء، ورأى عثمان يسير وهو مطرق الرأس، ورأى البرنس دي غال يسير وإلى جانبه الدوق دي سومنرست، وسمع هذا الدوق يقول للبرنس: هل تصدقون سموكم ما أشيع من أن المركيز دي إسبرتهون كان من النور؟
فأجابه البرنس قائلا: لا أعلم إذا كان البرنس نوريا، ولكن الذي أعلمه أنه لو كان النور مثله لجعلتهم كلهم حين أصير ملكا من الأشراف.
فقال الرجل المقنع في نفسه: إنك شرفتني أعظم تشريف، وسأخدم عرشك بدمي.
ولما انصرف الناس خرج الرجل المقنع من مكمنه، فوجد عند باب المقبرة فارسين كان أحدهما يمسك عنان جواد أدهم فترجلا عند وصوله وقدما له الجواد، ثم انحنيا بملء الاحترام وقالا له: أيها الملك، إن رعاياك ينتظرون أوامرك.
أما هذا الرجل فقد كان روجر؛ فإن بولتون كان قد رد إليه الحياة بعد أن سقاه ذلك المخدر، وبعد أن قتل السير روبرت ووضعه في نفسه فتقنع وشهد جنازة نفسه مع المشيعين.
الخاتمة
كان البحر هادئا وسفينة النور تتأهب للسفر بتلك الطائفة إلى غير هذه البلاد.
وكان عند الشاطئ خلق كثير من تلك الطائفة، وبينهم أميري ملك النور أي روجر، وجان دي فرانس، وشمشون، وجميع رجال الطائفة ونسائها وأولادها، وقد أحدقوا جميعهم بملكهم الجديد بعد جان، فاسترعى مسمعهم ووقف بينهم فقال: أيها الإخوان، إني جمعتكم هنا لأن ساعة الرحيل قد دنت، وسترفع سفينتنا مراسيها.
أيها الإخوان، إن الله إلهنا وإله جميع الناس قد وضع كلا من مخلوقاته في الموضع الذي خصه به، فقال للنسر: إنك ستحلق في الفضاء وتحلق بجناحيك وتجعل الهواء مملكتك.
وقال للرجل: إنك ستنشئ المدن وتؤسس الممالك.
ولكنه قال للنوري: إنك ابن البرية، وإن هواء الحرية كان عاصفا حين مولدك، فكانت الرمال تثور على خيمتك والرياح تقتلع أطنابها وأنت بعيد عن المدن والقرى.
غير أني منحتك نظر النسر النافذ، وقوة الجواد العربي السريع، وجرأة الأسد الهصور. وأردت أن تكون ذلك السائح الأبدي تطوف البلاد وتجوب الفيافي وأنت آمن مطمئن، وجعلت مواطنك الدنيا وحدود بلادك من القطب إلى القطب، فدع الناس العاديين يشتغلون ببناء المدن وتعيين الحدود وإنشاء الممالك. أما أنت فمدنك المضارب، ومملكتك لا حد لها.
أيها الإخوان إنه إذا وجد بينكم من التذ عيش الحضارة وأنف من عيشنا عيش التشرد، وأراد أن يبقى في هذه البلاد فليقف؛ فإني لا أكره أحدا على الذهاب معنا.
فلم يقف واحد منهم، بل هتفوا جميعهم بصوت واحد ارتج له الفضاء قائلين: ليحي أميري ... ليحي ملكنا.
قال: إذن، لنسافر.
ثم أخذ مشعلا من يد شمشون فلوح به ثلاث مرات وقال: هذه هي الإشارة التي اتفقت عليها مع ربان السفينة.
ولم يكد ينتهي من إشارته حتى أجابه ربان السفينة بإشارة مثلها وأرسل القارب لنقلهم إليها.
وعند ذلك سمعوا وقع حوافر جواد يركض، ولم تكن غير هنيهة حتى وصل ذلك الجواد ورأوا عليه امرأة.
وقد نزلت تلك المرأة عن جوادها وقالت: إني نورية مثلكم، وأريد أن أسافر معكم.
فصاح جان وأميري وشمشون قائلين: توبسي؟
فقالت لأميري: نعم. أنا هي توبسي التي كانت تدعى مس ألن، ولو أخبروك بأني أنا التي أعطيت السيف لبولتون فأنقذك لرضيت أن أكون منكم وأنا أسافر معكم.
قال: نعم. لقد علمت، وستسافرين معنا.
فنهضت عند ذلك امرأة وقالت بصوت مرتفع: ولكني أنا لا أريد.
وقد مشت إليها والخنجر مجرد بيدها فضج الجميع إذ رأوا أن تلك المرأة التي كان يحبها جان أصدق حب، وهي التي أطلقت ألن النار عليها فأصابتها بجرح كاد يقتلها.
أما تلك المرأة، فإنها دنت من أميري وقالت له: إنك ملكنا الآن، ولا بد للملوك من العدل.
قال: إني سأحكم بالعدل.
قالت: إني أدعى اليبسي، وهذه المرأة عدوتي اللدودة، وقد أصابتني برصاصة لا يزال أثرها في كتفي، فألتمس طردها من الطائفة أو قبولها بمبارزتي.
فقالت ألن: لقد رضيت المبارزة.
فاضطرب جان وقال: إني لا أريد.
ولكن أميري أسكته وقال لتوبسي: أتقولين إنك ترضين مبارزتها؟
فجردت ألن خنجرها وقالت: نعم، ولكن بشرط أن لا ينتهي قتالنا إلا بالموت، وأن لا يعترضنا أحد فيه.
فأطرق جان برأسه، وجعل أميري ينظر إلى هاتين المرأتين اللتين بلغتا من الجمال بقدر ما بلغتا من الحقد، ثم قال: لقد أذنت بقتالكما.
فصاحتا صيحة فرح، وقال جان: ماذا فعلت يا أميري؟ فقال له شمشون: لا يحق لك أن تعترض الآن؛ فإن اليبسي كانت البادئة.
ولم ينقض المتبارزتان كما يتبادر إلى الأذهان، بل وقفت كل منهما والخنجر مجرد بيمينها ويدها اليسرى إلى الأمام كترس تذود به عن صدرها وهي تنظر إلى خصيمتها كما تنظر الضواري إلى الفريسة وتتأهب للانقضاض، فقالت اليبسي: إني أكرهك؛ لأنك أردت قتل جان دي فرانس ، وهو شبه معبودي.
فأجابتها توبسي أما أنا فلا أكرهك، ولكني أحتقرك، وأريد أن أجعلك سلما أرقى به إلى حيث أشاء.
فهلع قلب جان من خوفه على حبيبته، وركض يريد أن يحول دون القتال، ولكن شمشون أوقفه في مكانه وقال له: إن الملك أمر أن لا يعترض أحد قتالهما، فلا تكن أول العابثين بأمره يا جان.
ونشب القتال بين الفريقين، ولكن توبسي احتالت على اليبسي فألقتها إلى الأرض وركعت فوق صدرها، ورفعت يدها بالخنجر، وهمت أن تغمده في قلبها، فبسط جان يديه إلى أميري وقال له: رحماك العفو العفو.
فالتفتت إليه توبسي وقالت: إنك تسأل العفو؟
وقالت: إني أعفو، ولكن بشرط.
ثم نظرت إلى أميري وهي لا تزال راكعة على صدر خصيمتها، وقالت له: إني كنت طامعة، وشرائعنا لا تحرم الأطماع وتجيز الانتقام، وبعد فإني أصلحت ما أفسدته. أليس كذلك؟
قال: نعم.
قالت: إني يحق لي أن أغمد خنجري في صدرها؛ فإذا عفوت عنها فبماذا تكافئني؟
فهاج في صدر روجر حبه القديم وقال: إني أجعلك ملكة.
فنهضت توبسي نهوض المنتصر وألقت بخنجرها إلى الأرض؛ فأمسك أميري بيدها وقال للجميع: انحنوا أمامها فإنها زوجتي وملكتكم.
فكادت تسقط بين يديه لفرحها، وقالت له بصوت خافت: إنك تعلم يقينا أني بت أحبك أصدق حب بعد أن أنقذتني، فاعلم أن حبك لا ينتزع من صدري حتى بعد الموت. •••
وعند الفجر كانت السفينة تخترق عباب البحر وهي تحمل النور وأموالهم.
Página desconocida