وتشاء المقادير أن يخرج سيرل برتراند في نزهة طويلة على قدميه في ذلك المساء، فكان الوقت متأخرا عندما أشرف، بعد أن قضى وقتا طويلا في صعوده إلى التل، على مرأى ذلك البناء المحاط بشجر اللبخ، وقد غطاه زهره الأبيض فبعث في الجو عطرا زكيا.
وتقدم سيرل إلى الحائط القليل الارتفاع الذي يفصل بين الطريق وبين حديقة الفندق الصغير، فتخطاه وسار بضع خطوات حتى اقترب من باب الدخول، فإذا به يرى رجلا وامرأة واقفين داخل الباب وقد عانق كل منهما الآخر، فتأخر سيرل بانتباه إلى ظل الأشجار وسطع القمر وقتذاك، وكان وجه المرأة يغمره الضوء فشاهد وجه ألين سان أماند، غير أنه لم ير من الرجل غير شعره الكستنائي الذي يشبه شعره هو.
وطال احتضان العاشقين ونفد صبر سيرل فسعل سعلة منبهة، فخلصت نفسها من بين ذراعي عاشقها وأعطته يديها فغمرها بقبلاته ثم تحولت عنه وسارت بخطوات مسرعة في ممشى الحديقة نحو الفندق ، فظل الرجل واقفا في مكانه، وكان جسمه يهتز كأنما قد عجزت ساقاه عن حمله، بيد أن سيرل لم يجد من نفسه رغبة في مقابلته، ففضل الانتظار قليلا حتى يذهب هذا في سبيله. وبعد لحظة، تحول الرجل ففتح باب الحديقة بيد غير ثابتة، فرأى سيرل برتراند أن عاشق ألين سان أماند ما هو إلا لويس أخوه غير الشقيق، ولم يصدق سيرل عينيه لأول وهلة؛ فقد بدا كل شيء في ناظريه مستحيلا وغريبا، فهو لم يكن لويس ملك فرنسا المنتظر فحسب، بل كان أيضا زوج فيرونيك المستقبل أطهر مخلوق على وجه الأرض، المرأة التي يحبها ويقدسها. لقد كان الموقف مروعا هائلا، حتى لقد مرت لحظات وهو مسمر في الأرض لا يستطيع الحركة، وأخيرا تنبه لصوت أقدام لويس تضرب الأرض وهو ينحدر نازلا فوق سفح التل. وأحس سيرل برغبة قوية في أن يتبع هذه الخطوات دون أن يدري ماذا يفعل، أيأخذ برقبة ذلك الكذاب المخادع فيصب عليه جام غضبه ويلقي في وجهه بأفظع اللعنات وأقذع السباب؟ أم ينتهي منه فيقضي على حياته؟
إنه لا يدري ماذا يفعل، ولكنه نزل وراءه، متتبعا خطواته ونفسه تعج بالحقد عليه والكراهية له. وظل سيرل في أثره دون أن تهدأ ثائرة نفسه، وقد تمنى له في سريرته ميتة عاجلة شنيعة، وبغتة. رأى الرجل يترنح ثم سمع صوتا يشبه أنين حيوان ألم به مكروه؛ فقد ارتطم لويس بصخرة في الطريق، وشعر بأنه يسقط وقد صدرت منه صرخة ضعيفة طالبا المعونة، ثم خر على ركبتيه، ولم يكد يستلقي بجسمه على الأرض الصخرية حتى التفت حوله ذراعان قويتان - لم يعرف صاحبهما إذ بدأ يفقد إدراكه - فأغمض عينيه في الوقت الذي شعر فيه بجسمه يرتفع عن الأرض، وقد حمل بسرعة وهو ينحدر إلى أسفل التل. •••
يقال عادة عن النساء إن أعمالهن لا يحكمها المنطق وإنهن ينسقن وراء الدوافع النفسية فتحكمهن أهواؤهن، ولكن عندما تسيطر هذه الدوافع النفسية على أعمال الرجال فإنهم يعجزون هم أيضا عن حسبان ما قد يطرأ عليهم من تغير . ولم يكن سيرل برتراند لينتظر من نفسه في ذلك الوقت أن يفعل مع أخيه ما فعله، في حين أنه كان منذ لحظة يحس نحوه بكراهية شديدة لدرجة أنه فكر في قتله؛ فلقد كان نفس الدافع المجهول الذي ساقه لتتبع خطوات لويس هو الذي دفعه بغتة لأن يحمله طول الطريق المؤدي إلى فلا إليزابث في أسفل التل!
ووصل سيرل وهو يحمل جسد أخيه غير المحبوب إلى سور حديقة فلا إليزابث، وبحث دون جدوى عن جرس للباب الخارجي أو سقاطة، وبينما هو على هذه الحال إذا به يرى الكونت فريزن السياسي الأوستوري وخلفه رئيس الخدم يخرجان من باب الفلا الداخلي، لقد عرفه سيرل من كثرة مشاهدته له في تردده على مقصورة أمه في الأوبرا. وكان القمر لا يزال ساطعا فسار الأوستوري بخطواته اللينة وهو يصفر آخر لحن من ألحان جون ستراس، وما كاد يصل إلى الباب الخارجي حتى وقف بغتة، إذ وجد نفسه وجها لوجه أمام هيكل طويل يحمل بين يديه رجلا له هيئة الميت، فكان أول ما عمله أن صاح في ارتياب: هيا، أنت هناك!
بينما كانت يده فوق جيبه الخلفي تبحث عن مسدسه، ولما لم يلق جوابا على ندائه، صاح بصوت أكثر ارتفاعا: هيا! ماذا تفعل هناك؟! وماذا تريد؟
فأجاب سيرل بخشونة: إنه سقط في الطريق فحملته وأتيت به إلى هنا؛ لأني أعلم أنه يقطن هذا المنزل، أو على الأقل إن والدته تقطن هنا.
وانتبه الكونت فريزن لمجرد سماعه صوت سيرل، فتأمل فيه طويلا من بين قضبان الباب الحديدية، وأدهشت سيرل نظرته الفاحصة الطويلة؛ فقد كان يعلم أن فريزن لا يعرفه وأنه لم يره قط من قبل، فقال له بصوت أجش: إنني لست لصا ولا شحاذا، وكل ما أريده هو أن أدخل هذا إلى منزله.
وتقدم فريزن بحركة آلية بطيئة إلى الباب الكبير ففتحه، ودخل سيرل إلى الحديقة، وكان رئيس الخدم قد أسرع إليهم لدى سماعه صوت الكونت، فقال له فريزن بكلمات مقتضبة وهو لا يزال يمعن النظر في وجه سيرل: لقد وهنت قوى جلالته في الطريق، ولحسن الحظ لاقاه هذا السيد فأتى به إلى هنا. لا تزعج السيدة البرنسيس بالخبر، بل اهتم بتجهيز الفراش لجلالته حالا.
Página desconocida