ومرت على سيرل برتراند أيام تعسة كتلك التي مرت عليه أيام أن كان في باريس، فكان يذهب في كل مكان ينتظر أن يجدها فيه، ولكنه لم يرها لا في الكوراس ولا في الأوبرا ولا في أي مطعم حديث ولا في الكنيسة أيام الآحاد. لقد عادت أيامه السوداء التي عاناها في باريس مرة أخرى، بل إنها كانت أسوأ بكثير، إذ إنه في أي مكان يسير فيه كان يسمع اسمها على الألسن مرتبطا باسم أخيه غير الشقيق.
غير أن سيرل لم يكن ليعير هذه الشائعات أذنا صاغية، وكان يرجو ألا يخرج هذا عن أن يكون أراجيف لا صحة لها.
أيمكن أن تكون فيرونيك المعبودة لأخيه الهزيل الضعيف؟! إن فيرونيك له وحده، وتربطه بها قوة الحب العظيمة.
ولكم فكر في جنون أن يقتحم فلا ماري تريز ثم يلقي بذراعيه حولها ويحملها بعيدا إلى جزيرة نائية، حيث لا يسمع شيئا عن هذا الزواج المفزع الذي كان في نظره عبارة عن حياة طويلة تعسة لها.
على أنه لم يكن هناك فائدة من اقتحامه فلا ماري تريز، إذ إنها لم تكن هناك فقد أرسلها البارون كريستوف إلى أقاربها في أوستريا، إذ رأى أن الأصوب لها أن تكون بعيدة عن دكان بادن لمدة قصيرة؛ فقد أدرك من اختباراته أن السيدة البرنسيس متقلبة الأهواء ذات طبع شاذ، وعلى كل حال فقد بان من الأصوب أن تبتعد الفتاة لوقت قصير ثم ترتب مقابلة رسمية بينها وبين خطيبها. والواقع أن السيدة نفسها لم تكن تثق في ولدها، حتى إنها رأت هي وكريستوف أن من الخير ألا يتقابل الصغيران إلا حينما يتقرر نهائيا أمر مستقبلهما. •••
وأرسلت السيدة بعد سفر فيرونيك إلى ابنها تطلب إليه الحضور إلى بادن بادن، وحضر إليها وإن كان في الواقع قد حضر بسبب قوي آخر لم يكن ليخطر على بال السيدة حتى ذلك الوقت، لم يكن هذا السبب سوى إلين سان أماند التي عقدت اتفاقا مع أوبرا بادن بادن، حيث تقوم بالدور الأول في «الباربير» إحدى روايات روسيني الخالدة.
وازدحمت الأوبرا بالمتفرجين، وكان معظمهم من أعلى الأوساط وأرقاها، وكان الإمبراطور نابليون والإمبراطورة قد غادرا بادن، فحضر في تلك الليلة البرنس بسمارك وزوجته والسيدة البرنسيس دي بوربون وكذلك البرنسيس مترنيخ والدوقة موشي والبارون كريستوف مع بعض أصدقائه، ثم البرنس دي بوربون في مقصورة أخرى، وقد حضر أيضا روسيني نفسه وحوله جماعة من المتملقين، كل منهم مستعد لخلع قفازه الأبيض ليصفق أعلى تصفيق.
وصاح المؤلف الكبير العجوز بأعلى صوته فى آخر المشهد الكبير من الفصل الثاني: برافو إلينا، برافو! وتدلى نصف جسمه من المقصورة وهو يلقي بباقة عظيمة من الزهور إلى الممثلة الصغيرة الأولى.
وعندما نزل الستار تقدمت الآنسة سان أماند لتتلقى تحيات المتفرجين، فتساقطت على قدميها باقات من الزهور، كان بينها واحدة مكونة من الزنبق الأبيض ألقيت من مقصورة البرنس دي بوربون أو بالأحرى لويس التاسع عشر ملك فرنسا. وعندما رأته السيدة والدته وهي جالسة في مقصورتها ضغطت على مروحتها بعنف، فانكسرت أحد قضبانها المطعمة بالجواهر الثمينة، وقال صوت مشفق من جانب المقصورة: يا للأسف، لقد كانت مروحة جميلة! وكان هذا صوت الكونت فريزن حيث كان يؤدي واجب التحية للسيدة إبان الاستراحة، قال هذا وأردف كلامه بابتسامته الساخرة على وجهه الجميل، وقد لاحظ توتر أعصاب السيدة وانفعالها، وأشارت بمروحتها المتكسرة إلى مقصورة ابنها ملك فرنسا، وقد وقف على قدميه بعد أن خلع قفازه متجها مع الجمهور حيث كانت الآنسة سان أماند، ثم قالت بغصة: إنه ذاهب إليها!
فهز فريزن كتفيه كأنما يقول: ولم لا؟
Página desconocida