Maquinaciones de Amor en los Palacios de los Reyes
مكايد الحب في قصور الملوك
Géneros
مقدمة المترجم
حبيب إمبراطورة
تهور وصيفة
مغامرة نسيبة هنري الثاني
فاجعة ملكة القلوب
مجنون متوج
قصة باميلي الغامضة
من حضيض الضعة إلى أوج الرفعة
مدام «لي شفاليه»
سر جزيرة سنت مرغريت
Página desconocida
مبادلة غريبة
البولونية الحسناء والإمبراطور
فاجعة في قصر
ابنة أخت الكردينال
التاج في سبيل الحب
سيدة فرسايل المجهولة
اختفاء أرشديوق
ملكة الجمال
ملكة مشعوذة
ملكة بلا تاج
Página desconocida
مقدمة المترجم
حبيب إمبراطورة
تهور وصيفة
مغامرة نسيبة هنري الثاني
فاجعة ملكة القلوب
مجنون متوج
قصة باميلي الغامضة
من حضيض الضعة إلى أوج الرفعة
مدام «لي شفاليه»
سر جزيرة سنت مرغريت
Página desconocida
مبادلة غريبة
البولونية الحسناء والإمبراطور
فاجعة في قصر
ابنة أخت الكردينال
التاج في سبيل الحب
سيدة فرسايل المجهولة
اختفاء أرشديوق
ملكة الجمال
ملكة مشعوذة
ملكة بلا تاج
Página desconocida
مكايد الحب في قصور الملوك
مكايد الحب في قصور الملوك
تأليف
ثورنتن هال
ترجمة
أسعد خليل داغر
قل لمن يحسد الغني ويرثي
لشقاء يحيق بالصعلوك
رب قصر يأويه لهفان ذو شج
و وكوخ يزهو بوجه ضحوك
Página desconocida
وإذا كنت في ارتياب فطالع
خدع الحب في قصور الملوك
مقدمة المترجم
قد يتوهم القراء بعد مطالعتهم هذا الكتاب، ووقوفهم على ما فيه من مكايد الحب الغريبة المدهشة، أنه كغيره من قصص العشق والغرام التي يطالعونها في هذه الأيام. ولدفع هذا التوهم أقول: لا يخفى أن قصص العشق والغرام - المترجمة والمؤلفة - مبنية في الغالب على حوادث وهمية تخترعها مخيلة الكاتب، فينسج لها على نول التصور الثوب اللائق بها، ثم يزيد عليه بالتحشية والتذييل ما تمس الحاجة إليه من إيضاح وتفصيل، أو يضيف إليه ما يقتضيه المقام من شرح وتعليق وتوشية وتنميق؛ حتى يجيء نسيج قصته طبق مراده من حيث إحكام السدى وإتقان اللحمة، ويقع سرد حوادثها واتساق تفاصيلها أحسن وقع في نفوس القراء.
وهو قد يبالغ ويغرق في تصوير الحوادث الغريبة المدهشة، فتفعل فعلها المطلوب في ذهن القارئ، ومع شدة استغرابه لها يقبل على مطالعتها بشوق ورغبة؛ إذ يعدها من الممكنات البعيدة. وقد يغلو في تمثيل الحوادث غلوا يجاوز فيها حدود الممكنات، ويجعلها في عداد المستحيلات. وعندي أن النوع الأول هو الجدير باحتذاء مثاله والنسج على منواله لاعتبارات ليس هنا محل الكلام عليها.
وقد تبنى هذه القصص على حوادث تاريخية وقعت في زمان بعيد أو قريب. ولكنك قلما تجد فيها للحقيقة التاريخية سوى ظل زائل ولون حائل، يبدو في الثوب الخلق، أو كأطلال خولة ببرقة ثهمد «تلوح كباقي الوشم في ظاهر اليد»، وما بقي مستنبط من مخيلة الكاتب، ومفرغ في قالب البسط والتفصيل على أحد الوجهين السابق بيانهما.
أما مشتملات هذا الكتاب فليست من جنس الحكايات المصنوعة التي لا حقيقة لها على الإطلاق، ولا من نوع القصص الموضوعة ولها شبه ظل الحقيقة التاريخية، بل هي حوادث حب وغرام حقيقية، جرت في قصور أوروبا وقياصرتها في أوقات مختلفة. وقد تخللها من نصب الحبائل والمصايد، وتدبير الخدائع والمكايد، واقتراف المآثم والمحارم، وتجرع غصص الكوارث والفواجع، ما يدهش العقول ويحير الأفكار وتقشعر لشدة هوله الأبدان. وهي كلها منقولة عن شهود ثقات رأوها بعيونهم وسمعوها بآذانهم ودونوها في تواريخهم.
وأما الغرض من ترجمتها إلى لغتنا العربية فليس مجرد التلهي بمطالعة فواجع المحبين ومصارع العشاق، ولا التسلي بالوقوف على تفاصيل حوادث الختل والمكر والخيانة والغدر، وغيرها من ضروب الإثم والشر، ولا التفكه بما فيها من الوقائع العجيبة الغريبة التي تبهت القارئ وتملأ فؤاده دهشة وحيرة؛ فإن هذه كلها مما يراه في القصص الموضوعة في لغتنا والمترجمة إليها.
وإنما الغرض من ترجمتها هو الاعتبار بما فيها من الأمور المخالفة لما يعهده الناس في قصور الملوك، والمغايرة لكل ما هو عادل وحق وشريف وطاهر وسار وحسن. وفي ذلك عظات كبيرة بالغة؛ أهمها ما يأتي:
أولا:
Página desconocida
ليس من الضرورة أن تكون تربة الثروة والجاه والقوة أصلح لإذكاء غرس الفضيلة، من تربة الفقر والضعة والضعف. بل كثيرا ما تكون هذه أصلح من تلك. فنرى من مظاهر خصب الفضائل والآداب في خصاص الصعاليك والوضعاء الضعفاء ما لا نجد له أثرا في صروح أرباب الصوالجة والتيجان وأصحاب السؤدد والشرف .
ثانيا:
ليس من الضرورة أن تكون قصور الملوك والأمراء والأغنياء والعظماء - على فخامتها ورحبها - أعذب موردا وأخصب مسرحا ومرتعا للسعادة من بيوت عامة الناس، بل قد يكون أهل هذه أسعد حالا وأنعم بالا من سكان تلك. وقد لا تجد داخل تلك القصور إذا جست خلالها واستبطنت أحوالها سوى نكد العيش واستفحال البؤس والشقاء.
ثالثا:
أن المال والجمال - وهما من خير النعم والبركات التي أسبغها الله على عباده في هذه الحياة - قد يصيران من شر النقم واللعنات إذا أساء الإنسان استخدامهما ولم يحسن استعمالهما، فيتحول دسمهما إلى سم ولذتهما إلى عذاب وألم.
أسعد خليل داغر
حبيب إمبراطورة
كانت القيصرة كاترين الثانية إمبراطورة روسيا في مقدمة الذين امتازوا في القرن الثامن عشر برفعة القدر وعظمة الشأن وغموض الأخلاق وغرابة الأطوار. ويقول عنها أحد المؤرخين إنها كانت منذ صباها إلى يوم وفاتها عانية بكمال الخضوع والاستسلام لشهوتين تملكتاها، ولم تستطع الانفلات من قيودهما؛ إحداهما عشق الرجال، والثانية شدة الشغف بالمجد. وهذا الشغف أسرفت فيه حتى أفسدته، فتحول إلى غرور وباطل. وقد ظلت أربعين سنة، منذ أورق غصن بهائها النضير، وأشرق بدر جمالها المنير، إلى أن عراها الذبول والأفول بيد الموت؛ وهي منبعثة كل الانبعاث في اقتناص الرجال بشبكة عشقها وغرامها. فكان لها من العشاق سلسلة متصلة الحلقات. وقد قربت كلا منهم إليها في حينه، وأسبغت عليه ما شاء من الحب والغنى والجاه والسلطان، وكانت تقصيهم وتستبدل بهم غيرهم كلما عن لها ذلك كما تفعل في تغيير ملابسها.
وربما لم يقم في الأرض امرأة مثلها في تناقض الخلال وتغاير الصفات. وكان فولتير في طليعة الذين انغمسوا في حمأة الخنوع لها. وهاك بعض ما يصفها به: «كانت أكبر عظيم في أوروبا بلا مدافع ولا منازع. فنفسها محيطة علما بكل الأشياء، وعقلها مدرك كنه القوى جميعها؛ فهي معلمة الفلاسفة، وأوسع معرفة وحكمة من أعضاء مجمع العلوم. إنها ملاك كريم يجب أن يقابله الناس بالخشوع والسكوت. وحيثما أقامت فجنة خالدة ونعيم مقيم.»
وهذه المخلوقة السامية التي يعدها فولتير مجلى الكمال في كل ما يروق العين ويشوق النفس، ويفضلها على جميع سابقيها ومعاصريها من الملوك والقياصرة والعلماء والفلاسفة، تخلت عن الاهتمام بشئون إمبراطوريتها، متفرغة للاستمتاع بأهواء الجسد الفاسدة وشهوات النفس السافلة، غير موجسة خوفا من انتقاد الناس ولا من عقاب الله.
Página desconocida
وقلما رزقت امرأة ما رزقته هذه الإمبراطورة من الجمال الذي خلبت به قلوب أعاظم الرجال. وفي روسيا كلها لم يكن لها من شبيهات في بهائها الباهر وحسنها الساحر، سوى نساء قلائل قد لا يجاوزن عدد الأصابع. اسمع ما تقوله عن نفسها في استعدادها لحضور مرقص: «أعمد إلى شعري الطويل الجميل الحالك السواد، فأعقصه مكورا في مؤخر رأسي، وأشده بشريطة حرير بيضاء، وأزينه بباقة ورد نضرة الأزرار والأوراق، وأضع باقة أخرى مثلها في صدري فوق ريطة (ثوب) من حرير رقيقة شفافة، فأبدو بقامة تزدري الغصن لينا واعتدالا، وأفوق جميع أترابي حسنا وجمالا.»
هكذا كانت كاترين الثانية في فجر صباها ومطلع شبابها. وهاك ما يصفها به بونياتوسكي وهي في الخامسة والعشرين، قال: «بلغ جمالها الحد الذي يصل إليه عادة جمال كل امرأة؛ فقد كان شعرها شديد السواد، وبشرتها بالغة حدا لا يوصف من شدة النعومة ونصوع البياض، يزينهما لون زاه زاهر، ولها عينان نجلاوان قال الله كونا فكانتا آية في حسن التكوين، تحت حاجبين كالقوسين، وفوق أنف أقنى وفم جامع من الحسن كل معنى، وقد تفنن فيه بعض واصفيه فقال إنه مخلوق للثم والتقبيل. ولها قامة كالصعدة السمراء في الدقة والاستواء، وابتسامة تفتر بها عن الدر في المرجان، وضحكة يقع صوتها في الآذان أطيب من وقع أعذب الألحان.»
ويقول فولتير في وصفه لها إنه لم ير أجمل من يديها، ولا أشد بياضا ونعومة من جسمها. وقد ظلت غانية بهذه المحاسن الباهرة النادرة إلى وفاتها وهي مشرفة على السبعين.
وليس عجيبا أنها - وهي ممتازة بهذا الحسن الخالب والجمال الجاذب - تفتن ملوك أوروبا وعظماءها، حتى رأيناهم يغلون في تملقها وترضيها ولو بالجثو عند موطئ قدميها. وكانت أذناها مفتوحتين على الدوام لسماع الملث والتملق، وكان العالم مفعما بروح النفاق والرياء، وقد راجت فيه بضاعة المداهنة والمصانعة، وبلغ من شدة غلو القوم فيهما أنهم كانوا يجعلون من يرومون التزلف إليه في منزلة الإله المعبود. ولكن مما حير الأفكار في ذلك الحين، ولا يزال مدعاة حيرتها في هذه الأيام، أن كاترين كانت تختار من بين عباد حسنها وجمالها واحدا بعد آخر، تختصه بميلها إليه وولوعها به على مرأى جميع الناس ومسمعهم.
قلنا إنها عشقت كثيرين، ولكن واحدا منهم امتاز بأنها بلغت من شدة الافتتان به مبلغا عظيما، وبهذه الوسيلة تمكن من امتلاك قيادها والاستئثار بالتسلط عليها؛ وهو بتيومكين.
أما حكاية اتصاله بها فتلخص فيما يأتي:
بعدما توفي زوجها بطرس الثالث ألقيت مقاليد الحكم إليها، فخرجت ذات يوم لتشهد عرض جيوشها. واتفق أن أحد الجنود الفرسان لاحظ أن سيف الإمبراطورة بلا حمالة، فعدا على ظهر جواده وقدم إليها حمالة سيفه، فراقها ما أبداه من نباهة الشأن وسرعة الخاطر، وعبرت عن استحسانها لعمله بابتسامة سلبت لبه وأسكرت قلبه.
وهذه الحادثة البسيطة كانت فاتحة دخول بتيومكين في حياة كاترين، وتمثيله فصلا ذا شأن من رواية تاريخ روسيا في أيامها. وقبل انتظامه في الجيش كان طالبا في جامعة موسكو يستعد في كلية اللاهوت لأن يكون من رجال الدين، لكنه طرد من الجامعة لشدة كسله وإهماله، وكان في الجيش مثلا مضروبا في سوء الأخلاق ونقص الفهم.
وهذه الحادثة نفسها لم يكن فيها ولا في بطلها ما يحيي ذكرها في بال كاترين. ولكن حدث أنها كانت ذات يوم تبحث عما يسليها ويدخل السرور إلى قلبها، فسمعت بجندي مشهور بالبراعة في الألعاب الهزلية المضحكة، ومن فورها أمرت بأن يؤتى به إليها. وعندما وقع نظرها عليه تذكرت أنه بطل يوم العرض. ولما عرض ألعابه أمامها أعجبت كل الإعجاب بما أبداه من الحذاقة والمهارة والجسارة، ولا سيما في تمثيله لها نفسها في كثير من حركاتها وإشاراتها وغير ذلك؛ مما أضحكها ضحكا أسال دموعها على خديها. ومنذئذ بسم الدهر لبتيومكين، فطلع طالع جده وأشرق نجم سعده، فأعلنت شموله بحمايتها واستظلاله بظل رعايتها. وكان بعد في ريق صبوته غير بالغ العشرين سنة، فأمرت بتعليمه اللغة الفرنسوية، وتخريجه في جميع شئون الدولة، وحصرت اهتمامها كله في العناية بمستقبله.
وكان عشيقها الخاص في هذا الوقت غريغوري أورلوف، الذي كان فيما يظن أطول شبان روسيا قامة وأجملهم طلعة. ثم مرت السنون وبتيومكين يتقدم في رتب الجيش، ويترقى من ملازم إلى ما فوقه، حتى بلغ رتبة جنرال. ولما شعر باليأس من حصوله على ما طمحت إليه نفسه؛ أي أن يكون حبيب كاترين المخصوص، عزم أن يترهب ويدخل أحد الأديار، وإذا بكتاب قد جاءه في أحد الأيام من سنة 1773 من كاترين، ولم يخف عليه مضمونه. فإنها أشارت فيه إلى شدة اهتمامها بمستقبله وحرصها على سلامته، وختمته بقولها: «ولعلك بعد الفراغ من تلاوة هذا الكتاب تسأل لماذا كتبته إليك. فاعلم أني كتبته ليتضح لك مبلغ عنايتي بك؛ لأنني دائما أتمنى لك الخير والسعادة.»
Página desconocida
ومرادها بهذا ظاهر لا يحتاج إلى شيء من الإيضاح. واتفق أنها اطلعت على ما يثبت خيانة غريغوري أورلوف، فأقصته عنها بعدما ظل وقتا طويلا ينعم بكونه حبيبها الخاص غير منازع من أحد. فاختارت بعده فاسيليتشيكو، ولكنها لم تلبث أن ملته فنقلته إلى موسكو، ووجهت التفاتها إلى بتيومكين، فأدنته منها وبوأته المنزلة التي طالما حن إليها وحسده ألوف من المقربين عليها.
ولا يسع القارئ أن يتصور الفرق الشديد بين هذه الإمبراطورة الفائقة في حسنها وجمالها، وهذا الجندي الذي سلطته على جميع الناس. فقد كان ضخم الجثة، قاتم اللون، خشن الجلد، قبيح الملامح، أعور، وقد فقد إحدى عينيه بالحادثة الآتية:
كان ذات يوم يلعب البلياردو مع ألكسس أورلوف المشهور بضخامة جسده وشدة قوته، وكان هذا في عداد عشاق كاترين المبعدين، فحدث أن بتيومكين فاه بما هاج غيظ أورلوف، وأفضى الأمر بينهما إلى النزاع، فلطم أورلوف بتيومكين لطمة أصابت إحدى عينيه وأفقدتها البصر. وكان هذا التشويه كافيا لأن يقضي على آماله ويحمل كاترين على إقصائه عنها، ولكن الأمر جاء لحسن حظه على خلاف المنتظر، فإنه لسعة مكره أقنعها بأنه فقد عينيه في سبيل الدفاع عن عرضها والذود عن شرفها، فعرفت له هذا الجميل وازدادت تعلقا به وميلا إليه.
هكذا كان منظر بتيومكين عشيق أجمل إمبراطورة في أوروبا مظهرا للقبح والدمامة، ولم يكن هذا بخاف عليه، ولأجله ظل وقتا طويلا يأبى على المصورين أن يصوروه، ولولا شدة إلحاح كاترين وتوسلها إليه لما أذن أخيرا لمصور أن يرسم صورته المحفوظة في قصر الشتاء في بطرسبرج. ولكن هذه الصورة كاذبة؛ لأنها لا تمثل ملامحه الحقيقية التي تعاف العيون النظر إليها لشدة قبحها.
ولم تكن دمامة منظره بأقبح من سوء أخلاقه وسفالة عاداته. قال عنه أحد المؤرخين: «كان بتيومكين دعابة، ولكن أكثر مزاحه مما تبذؤه نفس الحر الأديب. وكان من عادته على الدوام أن يقلم أظافره بأسنانه، ويمعن في حك رأسه الوسخ. وكثيرا ما كان يقضي أيامه في غرفته ليس عليه من الثياب إلا ما يستر عورته، منفوش الشعر وسخ الجسم، وهو يلهو بحك جسده وتقليم أظافره بأسنانه. وكان شديد الإفراط في الأكل والشرب والانبعاث في المسكرات على أنواعها.»
وكان في أسفاره يعيش على الثوم والخبز الأسود. أما في بطرسبرج وكيافو وجاسي وغيرها من أمهات مدن روسيا، فكان يتأنق في تناول أفخر الأطعمة وألذ الثمار وأطيب أنواع الحلوى. وكان بعدما يغادر قصر الإمبراطورة ويخلو في قصره، يخلع الحلة الرسمية ويرتدي جلبابا (جلابية) فضفاضا. وفي هذا اللباس كان يستقبل حتى السيدات. وفي الأرياف كان يلبسه في الحفلات والولائم الرسمية مقتصرا عليه في ستر عريه.
وكثيرا ما كان يعدل عن تعرية ساقيه فيغطيهما بنسيج مطرز بالذهب ومرصع بالألماس وغيره من الحجارة الكريمة.
فماذا كان سر تسلط هذا الجلف على أذكى امرأة في أوروبا؟ يقول أحد المؤرخين إنه في صباه استمالها بما كان يبديه من فرط شغفه وشدة ولوعه بها، ولكنه فيما بعد ذلك كان يواصل التزلف إليها بالإسراف في تملقها وإطرائها.
ومهما يكن من أسباب ذلك، فمن المحقق أن هذا الرجل الوضيع الحقير لم يلبث أن حاز سلطانا مطلقا على الإمبراطورة، فخضعت له وذلت كأنها إحدى إمائه. ويقول مؤرخ آخر إن شغفها به بلغ حد الجنون، وذلك ظاهر مما كانت تخاطبه به في كتبها الغرامية قائلة له: «يا روحي، يا ملكي، يا كنزي الفائق الثمن.» وكان لشدة دهائه ومكره يزيد نار هيامها به اتقادا بقوله لها في رسائله إليها: «عندما رأيتك أول مرة تعلقت أفكاري بك، وسحرني جمال عينيك، فإلى الآلهة أشكو ما أعانيه من حبي لك وشغفي بك، بك وحدك أهيم وإليك أحن، وبغير اسمك المقدس لا تنطق شفتاي، وسوى رسمك الفائق الجمال لا يجول في خاطري.»
وكانت إذا تبسم تطير ابتهاجا وحبورا، وإذا عبس تملكها اليأس واغرورقت عيناها بالدموع، بل لم تكن غلاظة طبعه ووحشية خلقه في مستأنف الأيام إلا ليضرما في فؤادها سعير الوجد والغرام. وما مثلها به في ذلك العهد إلا مثل قيصرة روسيا ورسبوتين في صدر هذا القرن. روى أحد الجالسين معهما حول مائدة الطعام في أحد الأيام قال: «جلس بتيومكين بجانب الإمبراطورة واجما مقطبا، ولم يقتصر على الوجوم وعدم الكلام، بل تعداهما إلى السكوت عن إجابة ما كانت توجهه إليه من الأسئلة، حتى ساءنا الأمر نحن الباقين، وتولانا غيظ وحنق لا مزيد عليهما. ولما فرغنا من تناول الطعام ذهبت الإمبراطورة إلى غرفتها، ثم عادت إلينا وعيناها محمرتان، ومحياها مغشى بسحب الغم والأسى. فإلى هذا الحد كان يبالغ في امتهان عشيقته الملكة غير مكترث لحضوره أمامها وسخ الجسد أشعث عاري الساقين، ليس عليه من الثياب سوى الجلباب، وهي ضاربة صفحا عن ظهوره في أقبح مظهر مناف لقواعد الحشمة والأدب.»
Página desconocida
ولما بلغ مراده من امتلاك قيادها والتسلط على أفكارها، طفق يعد لنفسه سبيل الحصول على ما أراد من التقدم والارتقاء، حتى أصبح حاكم روسيا المطلق، يدير شئونها الداخلية وسياستها الخارجية كيفما شاء لا ينازعه منازع. وتعين قائد الجيش العام وأمير البحر الأول، وبات إمبراطور روسيا بالفعل إن لم يكن بالاسم. واستحوذ على كل ما كان في طاقة كاترين أن تمنحه من الألقاب السامية ، والوسامات الرفيعة الشأن، والقصور والعقارات والتحف والنفائس، وجادت عليه فوق هذه كلها بملايين الريالات؛ فكانت حلله الرسمية تسطع بالوسامات المرصعة بأغلى الحلى والجواهر. وخصه جوزيف الثاني بلقب أمير الإمبراطورية الرومانية المقدسة، وأهدت إليه الإمبراطورة صورتها في إطار مرصع بالألماس، وهو امتياز لم يظفر به غيره من معشوقيها سوى غريغوري أورلوف. وفي أقل من سنتين ارتقى هذا الجندي ارتقاء منقطع النظير، وبات أوفر ثروة وأعرض جاها وأسمى مقاما من جميع رجالات أوروبا. وهذا كله ناله لأن أجمل النساء صورة وأشرفهن رتبة عشقته على قبح شكله وسوء خلقه.
على أن هذا كله لم يكن كافيا لإشباع مطامعه الفائقة الحد، فقال في نفسه: ها أنا الآن إمبراطور روسيا بالفعل، فلماذا لا أكون إمبراطورها بالاسم وأتزوج علانية المرأة التي قلبها في يدي أحوله كيفما شئت؟!
وقد سنحت له فرصة السعي لإدراك هذه الأمنية يوم غادرت الإمبراطورة قصرها إلى أحد الأديار لتقضي أياما في الصوم والاعتكاف للتكفير والاستغفار. فصحبها عشيقها وحاول إرغامها على الاعتراف به قيصرا لها، وجعله زوجا بدل عشيق. فخلع حلته الرسمية المتلألئة بالحلى والجواهر، وارتدى ثوب راهب وشرع يتلو المزامير في فجر كل يوم، وينشد تسابيح الصلاة في المساء، حتى رأى أن الفرصة سانحة والوقت مؤاتيا، فمثل أمام الإمبراطورة وعليه علامات النحول والهزال من مواصلة الصوم والتقشف، وقال لها إنه صمم على اعتزال كل ما في العالم من زخارف وأباطيل، والتماس سلام القلب وراحة الفكر في عيشة الزهد والتفرغ لعبادة الله. وما كان أشد خيبة أمله وضياع أمنية قلبه عندما فاجأته الإمبراطورة بما لم يدر قط في خلده. لم تتوسل إليه أن يعدل عما نوى، ولا عرضت عليه أن يتخذها زوجة له كما توقع، بل صوبت رأيه ووافقته عليه من كل قلبها، وأكدت له أنه بعمله هذا جار على مقتضى الحكمة؛ إذ هو ساع للحصول على خلاص نفسه، وذلك خير وأبقى. وما أبطأت أن أسرعت في الرجوع إلى قصرها، وغادرته يصلى نار الخيبة.
وبعد ثلاثة أسابيع دهشت إذ رأت الراهب القانت الزاهد داخلا إليها، متجملا بأغلى حلة وأنفس رداء، وكانت جالسة تتسلى بلعب الورق هي وبعض سيدات قصرها، فجلس بجانبها وحدق إلى الإمبراطورة المدهوشة بهذه المفاجأة، ثم مد يده وتناول الورق المطبق أمامها على المنضدة وفتحه، وأراها الورقة المفتوحة، وكانت مما تعده فألا حسنا، فهشت له وبشت وقالت: إنك دائما سعيد الطالع! وما لبث أن استرد ما كان له عليها من مطلق السلطان.
على أنه لم يغفل عن استخراج العبرة البالغة من هذه الحادثة، بل اتضح له أن امتلاكه لقلب الإمبراطورة الكثير التقلب لم يكن امتلاكا ثابتا دائما كما ظن. فقد سبق لها أن سئمت وملت كثيرين غيره من العشاق الذين كانوا أشد منه اجتذابا لقلبها وتسلطا على أفكارها؛ فمصيره من كل وجه عرضة لأن يكون كمصيرهم. ومنذ الآن رأى عيني كاترين تبعثان بنظرات الارتياح والاستحسان إلى شاب جميل الطلعة اتخذته كاتبا لها، فتوقع أنها تعده لأن يكون خلفا له. وقد وقع ما كان يخشاه سريعا؛ فإنه تغيب بضعة أسابيع للتفتيش في مقاطعة نوفغورود، وعاد فوجد ذلك الشاب حالا محله.
فهاج بركان غيظه وغضبه على كاترين، وأخذ يقذفها منه بحمم المساب والشتائم، حتى أصيبت من جرائها بأعراض هستيرية، واضطرت لشدة خوفها منه أن تتقي غضبه برد ما كان له من السلطان ورفعة الشأن، ولكنها أفرغت قلبها من حبها له وهيامها به. وهذا ما كان قاصرا همه عليه. فليكن غيره حبيبها وعشيقها ما دام هو قادر أن يكون إمبراطورا. فاكتفى بنيله هذه البغية، وعاد إلى سابق عهده رسول غرام كاترين وسفير عشقها، متمليا لذة تمهيد السبيل لعشاقها كما كان يتمتع بها عندما كان ينعم هو نفسه بمحبتها له.
وما خسره من محبتها له استرد أكثر منه من حيث استئثاره بها وتسلطه عليها. ومن الغريب أنه فاق ما كان عليه من قبل في تملقها وإطرائها ولو بلسانه لا من جنانه. فقد كتب إليها مرة وهو يقود الجيش في إحدى المعارك يقول: «أكتب إليك على بعد آلاف من الأميال وقصارى ما تشتهيه نفسي أن أتفانى في خدمتك، وأضحي بكل عزيز وغال في سبيل رفاهيتك وسعادتك، وتوفير أسباب مجدك وعظمة شأنك، أيتها الأم الحنون، لقد أسبغت علي كل ما عندك من النعم والهبات ولم أزل حيا، ولكن حياتي هذه ستظل وقفا على خدمتك.»
وكانت كاترين تجيبه عن كتبه بمثلها من حيث المجاملة والمصانعة، كقولها له في إحدى رسائلها: «أراك في كتبك إلي تحاول التعبير عما أروم أن أقوله لك. فثق يا صديقي أني لو استطعت لضمنت رسالتي إليك أرق التعابير الدالة على ثبات صداقتي لك.»
وبناء على شدة ثقة بتيومكين بصداقة كاترين، أطلق لنفسه عنان التمادي في ما أراد من الاستئثار بالسلطة والانبعاث في الإسراف والتبذير والتمرغ في حمأة الشهوات الدنسة، وأصبحت أعماله الشاذة ظاهرة للعيان، دلالة على أنه بلغ في غرابة الأطوار مبلغا أشبه بالجنون، بل هو الجنون بعينه. وبينما كان يقود الجيش في محاربة تركيا، كان حسب رواية أحد المؤرخين يقضي معظم وقته في صقل جواهره، والبعث بالهدايا إلى موضوع حبه وغيرها من سيدات القصر. وقد استصحب خمسمائة خادم ومائتي موسيقي، وجوقا كبيرا للرقص والتمثيل، ومائة مطرز وعشرين جوهريا.
ومن غرابة أطواره أنه كان كثير التقلب سريع التحول في آرائه وأفكاره، وكأنه المعني بقول الشاعر العربي:
Página desconocida
كريشة في مهب الريح طائرة
لا تستقر على حال من القلق
ففي أقل من ساعة كان يبدو لمجالسيه فرحا مسرورا وكئيبا مغموما، هاشا باشا وباسرا شديد التقطيب والعبوس، رقيق الحاشية لين العريكة، وفظا جلفا إلى الغاية. ومبالغا في الاحتفاء والترحيب بالزائرين، ومفرطا في ردهم على أعقابهم بما لا مزيد عليه من الجفاء والخشونة، يصدر الأمر ثم لا يلبث أن يعقبه بما يلغيه ويناقضه. وكان في إحدى المعارك يختبئ في قبو ويسد أذنيه حتى لا يسمع قصف المدافع، وفي غيرها يقف في الخنادق وقفة الأبطال الصناديد، ورصاص البندقيات يصفر عن يمينه ويساره. وبكلمة نقول عنه إنه كان مجموع متناقضات ومتغايرات.
ولما فاته التمتع بمحبة كاترين الحقيقية حول اهتمامه نحو غيرها من النساء الحسان، وهب يطلق لنفسه عنان التمتع بشهواته حتى في ساحات الكفاح. قال أحد المؤرخين: «كان الأمير بتيومكين يجلس على أريكة موشاة بالأطالس المطرزة بالحلى والجواهر، ومغشاة بالأزهار والرياحين، ومضمخة بغوالي الأطياب، وحوله الغواني بأفخر الحلل وأغلى الحلى، وأمامهن العطور في مباخر من ذهب. وكانت فريدة عقدهن الأميرة دولغورنكي زوجة أحد ضباطه.»
وكانت حفلات الولائم والمراقص تقام متواصلة متلاحقة بلا انقطاع، وهو لاه بها، يتملى لذاتها وينتهب مسراتها، والجيوش تخوض غمار القتال، وتكتوي بنار الطعان، وتضيف إلى رأسه أكاليل انتصارات جديدة مجيدة. قال شاهد عيان يصف انبعاثه في مخازيه وانصرافه لمداعبة محظياته وسراريه: «كان في ذلك الحين يأبى دخول أحد عليه، إلا إذا كان من متملقيه ومطرئيه. وكانت الغرف في قصر الكونتس غالفن مقسومة إلى قسمين؛ أحدهما للرجال، حيث مدت موائد القمار، والآخر للأمير، حيث يجلس على أريكته محاطا بالسيدات.»
وكانت أنباء هذه الفضائح تبلغ كاترين فلا تغضب لها، بل كثيرا ما كانت تنظر إليها بعين المسرة والارتياح. وكانت إذا رأته يعنى بشئون لذاتها وأمور عشقها وغرامها تقابل ذلك بالشكر والثناء. وقد يمل القارئ تلاوة تفاصيل هذه الحوادث الشاذة البالغة غاية الغرابة، ولكنها ليست بغريبة عن طبيعة هذين الشخصين النادرين، ولا عن تاريخ ما كان بينهما من العلاقات الشاذة التي ارتبطا بها مدة عشرين سنة، حتى بعد انقطاع صلات الحب بينهما.
ولما حول بتيومكين صلات العشق والغرام من كاترين إلى وصيفاتها بنات أخته - الواحدة بعد الأخرى - لم يبد على كاترين شيء من علامات النفور والامتناع. ولعل هذه الفعلة الشنعاء كانت أعظم ما في أعماله من موجبات الاستفظاع والاستنكار؛ فإن رسائله إلى بنات أخته - أولا إلى بارب ثم إلى شقيقاتها الأربع - مفرغة في أفحش القوالب التي يستخدمها أهل الخلاعة والدعارة للتعبير عن شوقهم وغرامهم. فقد كتب إلى بارب يقول: «إذا أحببتك حبا أبديا، ولم يكن لنفسي معين سواك، فهل تدركين معنى هذا؟ وهل أثق بقولك لي إنك تحبينني إلى الأبد؟ أحبك يا حياتي حبا لم أختص قط به أحدا قبلك. فقولي لي يا فارينكا (لعل فارينكا لقب بارب) يا حياتي وكل مناي، قولي لي إنك تحبينني، وهو كاف لأن يعيد إلي صحتي ومسرتي وسلامي وسعادتي. إنني ممتلئ بك يا روحي. بك وحدك يا ذات الحسن والجمال. الوداع الوداع. على البعد أعانقك عناقا لا حد له.» وحرارة هذا الشوق انعكست من كتب فارينكا إليه. فمن ذلك قولها له في إحدى رسائلها، وكان إذ ذلك مريضا: «إني في قلق وانزعاج لا مزيد عليهما، فأناشدك الله أن تكتب إلي بما يستطاع من السرعة لتطمئن نفسي ويسكن اضطراب قلبي عليك يا حياتي. أقبلك مرات لا عداد لها.»
وبعدما شفي من مرضه، سرى عن نفسه بالكتابة إليها عقب زيارته لها ورجوعه من عندها قائلا: «فارينكا، يا روحي ومصدر حياتي، لقد نمت ولم تذكري ما جرى، فقبلما فارقتك أضجعتك في سريرك مزودا لك بقبلات تفوق الإحصاء، ودثرتك بجلبابك، ورسمت علامة الصليب على محياك.»
وعندما كتب إليها هذه الرسائل كان في عبه رسالة شوق وغرام من إحدى عشيقاته، وهي من كبيرات نساء القصر جاها وشرفا تقول له: «كيف قضيت ليلتك يا عزيزي؟ لعلك كنت أنعم مني بالا! أما أنا فلم أذق طعم الرقاد ولم يغمض لي جفن. فأنت وحدك موضوع افتكاري، وشغلي في ليلي ونهاري. ولست أجهل شدة محبتك لي، وعنايتك بي. الوداع. حسبي هذا الآن؛ لأني منتظرة قدوم زوجي.»
ولما مل بنات أخته تعلق بمن تدعى براسكوفيا زاكرفسكا، فتصبته وتصباها، ولم يكن شغفها بهواه أقل من ولوعه بهواها. ومما كتبه إليها مرة: «أسرعي إلي، أسرعي يا نور عيني وحياة قلبي. أسرعي يا كنزي الفائق الثمن. بك أوجد وأحيا. وسأقضي حياتي كلها مبرهنا لك أني أحبك حبا يفوق الوصف، بل يشب عن طوق التصور. فمن صميم فؤادي أقبل يديك الجميلتين وقدميك الناعمتين. ولا يخطرن ببالك يا عزيزتي أني أهيم بك مدفوعا بجاذب حسنك وجمالك. لا، ليس هذا مبعث تهيامي، بل إني أرى في نفسك ملاكا مطبوعا على غرار ملاك نفسي. فكلانا واحد، وليس ممكنا أن يفارق أحدنا الآخر.»
Página desconocida
وإلى آخر حياته ظل هذا الماجن الخليع عبد لذاته وأسير شهواته، واستمر يلقي شباك مكره وخداعه، ويتصيد حسان النساء واحدة بعد الأخرى، منتقلا متبدلا بسرعة حق لكاترين أن تعد بالنسبة إليها مثال الرسوخ والثبات. وقد قال يوما عن نفسه: «لقد نلت كل ما تمنيت الحصول عليه، ولم يفتني منه شيء. طمحت نفسي إلى السلطة والسيادة، فأحرزت منها ما شئت، وأصبحت مطاع الأمر والنهي. وملت إلى القمار، وكان في إمكاني أن أخسر كل ليلة مبالغ لا تقدر من غير أن أشعر بأقل انزعاج على فقدها. وقضيت مرادي من مآدب وولائم يعجز عن الإنفاق عليها أعظم الملوك ثروة واقتدارا. وعندي من العقارات فوق ما أروم، ومن القصور ما لم يكن لأكبر السلاطين والقياصرة، ومن الحجارة الكريمة ما لا يحصى. فأنا من كل وجه مغمور بالعز والجاه والسؤدد، ومحاط بالثروة والغنى، ولست بحاجة إلى شيء ما على الإطلاق.» ولما فرغ من هذه التأملات عمد إلى إناء من الخزف الفاخر ورمى به الأرض، ثم دخل مخدعه وأقفل الباب وراءه.
وقد بلغ من الاستئثار بهذه العظائم مبلغا قصرت الإمبراطورة كاترين عن مجاراته فيه؛ فإن قصوره كانت مفروشة بأغلى الرياش وأكرم الأثاث، ومزدانة بأنفس ما ابتكرته قرائح رجال الفن في النقش والحفر والتصوير. وكان يقضي وقت الفراغ في عرض هذه التحف والطرائف، ونقلها من مكان إلى آخر، أو بجمع ما عنده من الحلى والجواهر. وفي ذات يوم مل جواهره فباعها، وما عتم أن اشتراها بمضاعف الثمن الذي باعها به.
ولعل أعظم مجالي الأبهة والمجد ومظاهر الفوز والانتصار التي ازدانت بها حياة بتيومكين، هي تلك الرحلة السنية الملكية التي أعدها لسفر كاترين إلى بلاد القرم في جنوب روسيا 1787 لكي تشاهد بعينيها الجوهرة الساطعة التي أضافها حبيبها السابق إلى تاجها الملكي. ولم يرد قط في التاريخ وصف رحلة أعظم شأنا وأبهى رونقا من هذه الرحلة، بل لم يرج قط على ملكة من سلع المكر والخداع ما روجه بتيومكين على كاترين.
وهذه الرحلة الطويلة التي بلغت مسافتها 2000 كيلومتر، قطعت الإمبراطورة بعضها في مركبة فاخرة يجرها ثلاثون جوادا ، وبعضها في مركب يخفره ثمانون سفينة وثلاثة آلاف جندي. وكانت في كل موقف تجد منزلا معدا حافلا بكل ما تشتهيه من أسباب الراحة والرفاهة. وكانت كيفما التفت على جانبي الطريق ترى البلاد والقرى عامرة بسكان تلوح على وجوههم أمارات رغد العيش ونعيم البال، والسهول الفسيحة الواسعة الأرجاء تموج كالبحر بقطعان المواشي، والفتيات يرقصن على نغمات قياثير الرعاة. هذه المظاهر الخالبة الساحرة كان بتيومكين قد سبق وأعدها وحول القفر الماحل الجديب إلى روض مريع خصيب، لتقر برؤيته عينا عشيقة لم يخامرها قط شبه ريب في صحة ما تراه وتسمعه. ولما اجتاز مركبها ضفاف نهر دنيبر إلى البحر الأسود مخفورا بالثمانين سفينة غصت ضفاف النهر بجماهير السكان رجالا ونساء وأولادا، وهم يزحمون بعضهم بعضا لينظروا هذا المشهد البالغ غاية الفخامة، ويقدموا إلى قيصرتهم فروض الولاء والإخلاص. وخلاصة القول إن كاترين اجتازت هذه المسافات الشاسعة محمولة على جناح الابتهاج والحبور والدهشة والاستغراب من كل ما شاهدته من الزينات الفاخرة الباهرة، التي يطول بنا الكلام لو أردنا وصفها بالتفصيل. وهبها ظنت أن لبتيومكين يدا في هذه الزخارف، فمن المحقق أنها لم تشر قط إلى ارتيابها بكلمة واحدة. وقد سافر الأمير نفسه في موكب لا يقل عظمة وفخامة عن موكب كاترين إن لم يزد عليه. وقد سبقت الإشارة إليه سابقا.
ولما عاد من سفره جرى له استقبال لم يجر قط لملك مثله في الأبهة والعظمة والفخامة. وأهدت إليه كاترين مائة ألف ريال وحلة رسمية يتألق صدرها بحجارة الألماس، وقصرا أنفقت على أثاثه ورياشه ستمائة ألف ريال. وهذه الهدايا مع شدة نفاستها وكرامتها لم تكن شيئا يستحق الذكر عند بتيومكين وليد الحظ وربيب الترف. فقد روي عنه أنه أنفق في سفرته هذه سبعة ملايين. وهذا المبلغ مع دلالته على أعظم ضروب الإسراف والتبذير ليس إلا جزءا يسيرا من المائة مليون ريال التي اغترفها من بحر جود كاترين.
على أن كوكب سعده الذي تألق بكمال الضياء في سماء روسيا مدة عشرين سنة كان لا بد له من الخضوع لحكم الأفول، وإن دلت الظواهر على إمكان مواصلته للإشراق الساطع الباهر سنين ليست بقليلة. فقد كان وهو في الثانية والخمسين من عمره ممتعا بصحة ونشاط لا مزيد عليهما، حتى كتبت عنه كاترين حينئذ - في ربيع 1791 - إلى أحد أصدقائها في باريس تقول: «من يشاهد المارشال الأمير بتيومكين يحكم بأن الانتصارات المجيدة التي أحرزها قد جملته وحسنته؛ فقد رجع من ميدان القتال بهيا كطلعة النهار، وطروبا كالهزار، ومشرق الوجه كنجم الصباح. وزاد ما كان فيه من خفة الروح وسرعة الخاطر وشدة البراعة في ابتكار أساليب الهزل والمزاح. وقد هجر عادة تقليم الأظفار بالأسنان، فأصبح مثالا للإنسان الكامل أو لكمال الإنسان.»
وآخر لقاء بين كاترين وعشيقها السابق كان في الحفلة التي أقامها لها في قصر توريدا، الذي كان آخر الهدايا الكبرى التي خصته بها. وكانت هذه الحفلة مما يعجز قلم أبلغ الكتاب عن وصف عظمتها. فقد بذل الأمير بتيومكين كل ما في استطاعته من مظاهر التجلة والتكريم في استقبال كاترين. ولم يترك قط شيئا من أسباب الاحتفال ومظاهر الترحيب إلا وفره وادخره، فلم يستقبلها في القصر كملكة أو قيصرة، بل كإلاهة.
فقد أعد لها ثلاثمائة موسيقي يوقعون على آلاتهم أعذب ما تشنفت بسماعه الآذان من مطربات الألحان، وأقام مرقصا تنكر فيه الراقصون والراقصات، وكانوا من نخبة عظماء روسيا وصفوة نسائها الحسان، وقد رفلوا كلهم بملابس أدهشت الأبصار بغرابة أزيائها وكثرة ما عليها من الحلى والجواهر. ولما مدت موائد العشاء ناءت بحمل صحاف الفضة وأطباق الذهب، وتدفقت الخمور على أنواعها من البواطي تدفق المياه من ينابيعها. ومن كل وجه كانت هذه الحفلة أعظم حفلة جرت في قصور الملوك، وآخر مظهر من مظاهر بتيومكين وعظمته، وكان سرور كاترين بها لا يوصف. وظلت إلى آخر ساعة تأبى الانصراف وتكره مفارقة هذا النعيم المقيم. ولما فرغ الموسيقيون من إيقاع نشيد مخصوص لجلالتها نهضت تستعد للخروج، ومدت يدها لوداع بتيومكين والدموع تتساقط من أجفانها، ولم يكن دونها شعورا، فخر أمامها ساجدا وتناول يدها وبللها بدموعه. وهكذا افترقا ذانك العاشقان فراقا لم يعقبه لقاء.
فبعد أيام امتطى بتيومكين غارب السفر في رحلة بعيدة إلى الأقطار الجنوبية، فلقي فيها حتفه ولم يعد منها. ولما بلغ جاسي أصابه مرض لم يكترث له في أول الأمر، ولا خطر بباله أنه سيكون القاضي عليه. وعلى رغم شدة إنذار الأطباء له وتكرار توسلاتهم إليه، ظل تاركا نوافذ غرفته مفتوحة، معرضا جسمه لنفح الهواء في أوائل فصل الشتاء واشتداد وطأة الزمهرير. وكان يرحض جسده بماء الكولونيا، ويتناول أغلظ الأطعمة بما هو معهود فيه من النهامة والإفراط، ويغتسل بمقادير كبيرة من الخمور وغيرها من السوائل.
ولشدة رغبته في مواصلة السفر، وعلى رغم كون حياته معلقة حينئذ بميزان القدر، أصر على وجوب الرحيل عن جاسي والشخوص إلى نيكولايف. ولكنه لم يسر بضعة أميال حتى أناخ عليه الداء بكلكله، فنقلوه من المركبة وأضجعوه على العشب، وبعد دقائق معدودة أسلم الروح ورأسه على حضن ابنة أخته الأميرة برانتسكي، فمات على قارعة الطريق في صباح يوم من أيام أكتوبر سنة 1791، وانتهت حياة ذلك الأمير الذي ظل مدة عشرين سنة معدودا من أعظم الرجال سطوة وسلطة، وأعرضهم جاها وعزا. وحسبه أنه كان صاحب السلطان الحقيقي في أكبر إمبراطورية.
Página desconocida
ولما بلغ كاترينا نعيه أغمي عليها وتحول الدم إلى رأسها، فعالجوها بالفصد. ولما أفاقت لم تجد إلى العزاء سبيلا، فقضت أياما في خلوتها تأبى مقابلة أحد، وهي ممعنة في الحزن والاكتئاب والنوح والانتحاب.
ولكن بعد دفنه في كنيسة القديسة كاترين في خرصون، كتب عنه الكونت دستوبشين يقول: «إنه مذ الآن قد أدرج في طي النسيان، وعاد غير مذكور بلسان إنسان. ولن يذكر في الأجيال المقبلة بسوى اللوم والذم. وقد كانت أعماله كلها متناقضة متضاربة، فكان يمزج عمل الخير بفعل الشر، ويتبع الحسنات أضعافها من السيئات، ويأتي ما ينشئ الحقد والضغينة والمقت والكراهة في قلوب الذين سبق فغمرهم بفيض جوده وإحسانه. وأشهر مظاهر ضعفه أنه كان يعشق كل امرأة يراها، ثم لا يلبث أن يبدل بها سواها. وهذه الشهوة على فسادها وشدة سفالتها كثيرا ما اقترنت بالنجاح، فكنت ترى النساء يتسابقن إليه لمطارحة العشق والغرام تسابق الرجال للحصول على المناصب.»
وبعد سنوات أمر الإمبراطور بولس ابن الإمبراطورة كاترين الثانية عاشقة بتيومكين وحاميته، أن ينبش قبره ويذرى رفاته في الهواء.
تهور وصيفة
وصف أحد شعراء الإنكليز جمال فرانسز جننس الساحر وحسنها الفتان، فقال ما ترجمته: «سبكتها الطبيعة في قالب محاسن لا يمكن التعبير عنها بالكلام، وصقلتها بمصقل ملاحة خالبة العقول وسالبة القلوب. فإشراق محياها يمثل لعين الناظر إليه لمعان جبين الفجر وسناء وجنة الربيع.» هذا وصف وجيز للجمال الرائع الذي ازدانت به هذه الفتاة، وقد مثلت أهم فصل على مسرح العالم في أيام هنري الثامن ملك إنكلترة الملقب بالملك الطروب.
ولدت فرانسز جننس سنة 1648 في سندرج قرب سنت ألبان في إنكلترة، ولم يدر قط في خلد إنسان أنها ستنال شيئا مما أحرزته فيما بعد من علو المكانة عند الأمراء والعظماء، بل كان حينئذ ما بينها وبين ما صارت إليه أبعد مما بين الأرض والسماء. وكان أبوها رتشرد جننس من عامة رجال الأرياف. فلم يكن يتوقع لبناته سوى أن يجدن أكفاء لهن يقترن بهم ويقضين معهم أيامهن في تربية أولاد أصحاء أقوياء، ويعشن عيشة الزوجات الصالحات المشهورات بحسن تدبير البيوت، ولم يخطر بباله ارتقاء إحداهن إلى مصاف الأميرات ودخولها في قصر الملوك.
على أنهن نشأن في أسرة توارثت الحسن والجمال من عهد بعيد، وكان هذا الجمال الأصيل التليد يزداد على توالى الأجيال صفاء ونقاء ورونقا وبهاء، حتى بلغ في بنات رتشرد منتهاه، وأصبح جمالهن المنقطع النظير موضوع حديث أهل البلد، مع أنهن كن بعد طفلات. ولما فتحت أزرار حسنهن، ولاحت لعيون الناظرين أزهار محاسنهن، وهي في طور البلوغ فاح أريجها وذاع صيتها في إنكلترة، وبلغ قصر الملك. ولما عزمت دوقة أوف يورك (زوجة أخي ولي العهد) أن تكون وصيفاتها أجمل الوصيفات في قصور الملوك، لم يعجب الناس حين سمعوا بأنها دعت فرانسز أجمل بنات رتشرد جننس إلى قصرها لتكون فريدة في عقد نسائه الحسان. وعلى الفور نظرت فرانسز إلى نفسها، فإذا بها وهي بعد في السادسة عشرة من عمرها قد انتقلت من عيشة الخشونة في الريف؛ حيث هل هلال حسنها وفتحت زهرة جمالها، إلى عيشة الترف والرخاء والرغد والهناء في أعظم القصور. وهذا الانتقال الفجائي أدهشها إلى الغاية. وعند وصولها استقبلت كواحدة من أعضاء الأسرة المالكة. ولم تبطئ شهرة جمالها أن شاعت وذاعت، وأخذ الناس يتحدثون عنها، ويتسابقون إلى مشاهدتها عند مسيرها في الشوارع أو تمشيها في المتنزهات. ولما رآها دوق أوف يورك وأخوه الملك أعجبا بها كل الإعجاب، وكانا في مقدمة العانين لسلطان حسنها عليهم.
وكان الدوق على الخصوص أكبر مشغوف بحب وصيفة زوجته، فأخذ يتعرض لها في دخولها وخروجها، ويضايقها بالمداعبة والمغازلة ومطارحة أحاديث الوجد والغرام، وهي تنفر منه ولا تعيره أقل التفات. ولما خابت مساعيه بالكلام وعلى لسان الوسطاء، عمد إلى توسيط القلم واستخدام الرسائل؛ فكان كل يوم يلقي بطاقات شكوى الشوق ووصف تباريح الهيام في جيوبها أو فروة يديها. ولكنها كانت في كل مرة تبذل جهدها في أن تجعل الذين يشاهدون وضع هذه البطاقات يرون طرحها لها كما هي غير مفتوحة ولا مقروءة؛ إذ كانت بعدما يضع البطاقات في جيوبها أو في فروة يديها تنفض الفروة أو تفتح منديلها وتلقي البطاقات، فتسقط على الأرض على مرأى المارة ويلتقطها من يشاء.
وكثيرا ما شاهدت الدوقة هذه الحوادث، ولم تجد في نفسها ما يوجب توبيخها لوصيفتها على إعراضها عن زوجها وعدم احترامها له. وعلى هذا المنوال كان حديث جمال فرانسز وتمنعها ملء الألسنة والمسامع بين الكبراء والعظماء.
وكان مما صحت عزيمة فرانسز عليه أن تتخذ جمالها ذريعة لنيل ما طمحت نفسها إليه من الغنى ورفعة الشأن، ولكنها في الوقت نفسه ما كانت قط لتسمح بهذا الجمال النادر المثال لمن لا يدعوها زوجته. وبناء عليه أعرضت بوجه باسر عن جميع الأمراء الذين حاولوا التزلف إليها وردتهم واحدا بعد الآخر يتعثرون بأذيال اليأس والخيبة.
Página desconocida
ولما تخلصت من إزعاج رجال القصر لها، وخلا لها جو الاختيار كما تشاء، وقع اختيارها على المركيز دي برني ابن أحد كبار الوزراء عند لويس الخامس عشر. وكان هذا الشاب ملحقا بسفارة فرنسا في لندن. فرأى فرانسز وأحبها وخطبها، وكتب إذ ذاك سفير فرنسا في لندن إلى الوزير أبي الخطيب في باريس يقول له: «إن الآنسة فرانسز جننس التي خطبها ابنك من أجمل فتيات إنكلترة، وهي، مع أنها ليست بطويلة القامة، ذات قد رشيق شائق، يزين محياها لون رائع رائق، ولها شعر طويل جميل شبيه بشعر مدام دي لانجفيل، وذات عينين هما غاية في الحسن والجمال. وقد خصت ببياض بشرة ونعومة جلد لم أر لهما قط مشبها.» ولكن أحلام المركيز بالسعادة والهناء لم تصح؛ فإن والده كان ينوي أن يخطب له غيرها من بنات الأعيان في باريس فدعاه إليه، وبسفره من لندن انتهى الفصل الأول من فصول الرواية المتضمنة حوادث غرام فرانسز.
وفيما هي تتجرع غصص الأسف على خيبة أملها عرض لها خطيب أجمل طلعة وأرفع شأنا من خطيبها الأول؛ ألا وهو دك تالبوت زهرة فتيان إرلندة، وفريدة عقد شبانها في الحسن والغنى والجاه والبسالة والإقدام. وكان فوق هذا كله ممتازا بشدة ذكائه وسرعة خاطره وخفة روحه وحسن أخلاقه. فلم يسع فرانسز أن ترفض طلبه عندما تقدم إليها خاطبا. وعلى الفور شاع خبر خطبته لأجمل فتاة في إنكلترة بموافقة دوقة أوف يورك. ولكن تالبوت كخطيب لم يتمكن من إرضاء فرانسز واكتساب محبتها. وبينما هو يعلل نفسه بتحقيق الأماني، أوعزت إليه أن يبحث عن فتاة غيرها؛ لأنه من طبقة تسمو جدا على طبقتها، وليس بينهما أقل تناسب يضمن لهما سعادة الحياة الزوجية.
ولم يطل انتظارها حتى أسعدها الحظ بالعثور على محب آخر كان مستطير الشهرة بجماله وشدة شغفه بمغازلة النساء والهيام بهن، حتى عد زير عصره وهو هنري جرمن. وكان ذا ثروة كبيرة يبلغ دخله في السنة عشرين ألف جنيه. وكان من أعظم مشتهيات قلبه أن ينال رضى فرانسز وينعم بقربها، لو لم يجد من غرابة أطوارها وإيغالها في المزح والمهازلة ما اضطره إلى التحول عنها.
فقد كانت أشد وصائف القصر الملكي استرسالا في العبث والمجون. ونقل الرواة قصصا كثيرة عن اشتغالها باللهو والمداعبة. فمن ذلك أنها تنكرت يوما في زي بائعة البرتقال، وأخذت تطوف في الشوارع ذهابا وإيابا وهي تنادي: «يا شاري البرتقال»، وظلت ممعنة في السير والنداء حتى زلت رجلها فسقطت وعرف الناس من هي. على أن هذه الحادثة مع شدة غرابتها ليست شيئا يستحق الذكر بالنسبة إلى الحادثة التالية، التي كانت من أكبر الأسباب الباعثة على انصراف قلب هنري جرمن عنها، وهاك تفصيلها:
كان تشارلس الثاني قد أقصى عن بلاطه لورد روتشستر لما اشتهر عنه من الانغماس في حمأة الإثم والدعارة. لكن هذا اللورد عاد إلى لندن متنكرا بزي طبيب ألماني بارع في معالجة الأمراض والعرافة (معرفة البخت)، وأخذ الناس يتوافدون إليه من كل فج للتطبب والوقوف على ما خبأه لهم القدر. وسمعت بصيته الآنسة جننس، وعزمت أن تزوره وتستنطق القدر على يده، فذهبت إليه مصحوبة بوصيفة أخرى اسمها بريس.
وبعد إنعام النظر في طرق التخفي، أجمعتا على التنكر في زي بائعات البرتقال في المسارح والشوارع - كما فعلت فرانسز في المرة الأولى. وما أبطأتا أن بدتا كلتاهما في زي واحد ولباس واحد، فخرجتا وفي يد كل منهما سل فيه برتقال، واستقلتا إحدى المركبات فسارت بهما إلى حيث تسوقها يد القدر وهما مستسلمتان فيها إلى عامل الطيش والغرور. ولما اجتازت بهما المركبة أمام مسرح الدوق، حيث كانت الدوقة والملكة جالستين تشاهدان التمثيل، دار في خلد الوصيفتين أن تدخلا المسرح وتعرضا بضاعتهما على من فيه غير مكترثتين لوجود الدوقة والملكة اللتين تعرفانهما جيدا.
هذا ما خطر لهما، ومن فورهما عملتا بموجبه، ولكنهما إذ دخلتا لم تجدا من الشجاعة ما يكفي لمواصلة هذا الاقتحام، وانبرى لهما أحد المشهورين بالوقاحة وقلة الحياء، فأخذ الآنسة جننس من ذقنها بإحدى يديه وطوق خصرها بيده الأخرى، فذعرت من هذه المفاجأة ذعرا لا يوصف، وانفلتت منه بعنف وبأسرع من وميض البرق، وفرت راجعة إلى المركبة ورفيقتها جارية في أثرها.
وقد تعرضتا لحادث أجل وأخطر شأنا من هذا قبيل وصولهما إلى بيت العراف الألماني؛ فإنهما عندما خرجتا من المركبة وتركتا سلي البرتقال فيها، لقيتا أمامهما الرجل المسمى برونكر، وكان أشد أهل زمانه خلاعة وتهتكا. فلما أبصرتاه أوشكتا أن تذوبا خوفا وهلعا؛ لأنهما علمتا أنه عرفهما. ولكنه لحسن حظهما وعلى خلاف ما ينتظر منه سلك سلوكا لا بأس به؛ إذ إنه اقتصر على شيء من المداعبة المألوفة وانصرف بعدما عنف الآنسة بريس (رفيقة فرانسز) ولامها؛ لأنها أبت أن تصحبه، وأنها لن تحصل في السنة كلها على ما تناله معه في اليوم.
وهذه الحادثة الثانية أيقظتهما من غفلتهما، وأكرهتهما على العدول عن مواصلة أعمال الطيش والاستهداف للمخاطر، فعادتا بما يستطاع من السرعة إلى القصر. وبعد أيام أذاع برونكر خبر تنكرهما في المدينة كلها، وبلغ مسمع هنري جرمن فزاده اقتناعا بصحة ما عزم عليه، ومن ذلك الحين قطع كل علاقة له بفرانسز جننس.
ولكن تقهقر هذا الفتى من الميدان لم يهمها على الإطلاق؛ لأن المعجبين بحسنها وجمالها، والمتسابقين لخطبة مودتها كانوا أكثر من أن يحيط بهم عدد. وممن تقدم إليها خاطبا في هذا الوقت جورج هملتون حفيد لورد إبركورن. وكان شابا وسيم المحيا نبيه الشأن، فسمحت له فرانسز بيدها، ولكنها على ما يقال لم تعطه قلبها مع يدها. وكثيرا ما تساءل الناس لماذا اختارته زوجا لها، وهو على رفعة شأنه وجلال قدره فقير وقير لا يملك شروى نقير؟ لماذا رضيت الاقتران به وهي لم تحبه، ولا شعرت بأقل ميل إليه؟ ولعل اقترانها به كان من الأسرار التي هي نفسها لم تستطع استجلاء غوامضها. وقد احتفل بزفافها إليه وهي في السابعة عشرة، وأنعم عليه الملك تشارلس بلقب كونت. وما عتمت أن صحبته إلى فرنسا حيث تطوع للمحاربة في جيش لويس الرابع عشر، ولقي حتفه في معركة فلندرس تاركا لقرينته ثلاثة أولاد صغار، ليس لهم ما يعيشون عليه سوى معاش زهيد من حكومة فرنسا.
Página desconocida
لكنها كانت لا تزال في شرخ صباها وأوج جمالها وعنفوان طموحها إلى الرفعة والشهرة. ومع ترملها وشدة فقرها كانت ترى مجال السعي لبلوغ آمالها واسعا أمامها وبابه مفتوحا، ولديها قلوب كثيرة تتهالك على الخضوع لسلطان حسنها وجمالها. وفي أثناء حداثتها عللت نفسها بأنها لن تموت إلا وهي حاملة لقب دوقة، وأمامها متسع من الوقت للحصول على هذا اللقب، وبلوغ الغاية التي وضعتها نصب عينيها. ولم تخلع ثياب الحداد على قرينها جورج هملتن، إلا كانت مرتدية حلة الاقتران بسفير إنكلترة في فرنسا؛ إذ لقيت في أحد أسفارها تالبوت الذي كان منذ خمس عشرة سنة عرض عليها أن يتزوجها وردته خائبا.
وكان هذا الشاب الإرلندي الجميل قد تزوج بغيرها وفقد زوجته، وظل فؤاده متعلقا بحب فرانسز، فعرض عليها الاقتران بها، ولم تبطئ هذه المرة أن أجابت طلبه بملء الارتياح. ونال الزوجان نصيبا كبيرا من المكانة وعلو المنزلة عند دوق يورك وزوجته.
وحدث بعد اقترانهما أن جيمس الثاني جلس على عرش إنكلترة، وكان لتالبوت منزلة رفيعة عنده، فأنعم عليه بلقب كونت، وولاه قيادة الجيش في إرلندة. فذهب إليها ومعه الكونتس فرانسز. وبعد بضع سنين صحت أحلامها وبلغت المئتاة
1
في مضمار سعيها، وأدركت الغرض الذي كانت تعلل نفسها به وصارت دوقة؛ إذ ترقى زوجها إلى رتبة نائب في إرلندة.
وحينئذ بلغت فرانسز أقصى أمانيها، بل فوق ما كانت تطمح نفسها إليه؛ لأنها لم تنل لقب دوقة فقط، بل كانت نائبة الملكة. وقلما شاهدت إرلندة ملكة ضارعت فرانسز في جمالها وعظمة شأنها ورفعة قدرها. وعلى رغم ما لقيته من الصعاب والمكايد والدسائس، ظلت قابضة على ناصية الحوادث والشئون بيد الحزم والعزم، ومحافظة على ما لها ولزوجها من جلال القدر وكرامة النفس. ولما حدثت معركة بوين وانتهت بانكسار جيش الملك جيمس الثاني، وآذنت شمس عظمتها بالغروب، لم تبرح رافلة بحلة الأبهة والعظمة، وواقفة على قدم العزم والثبات غير جاعلة للقنوط واليأس سبيلا للوصول إليها والاستيلاء عليها.
ثم فوجئت بموت زوجها بعلة قلبية، فانهار صرح عزها، وهوى كوكب سعدها، وأناخ عليها الدهر بكل من البؤس والشقاء ، حتى باتت في أواخر أيام حياتها في حاجة إلى ما يدفع عنها غائلة الموت جوعا، واضطرت أن تتعاطى الخياطة متنكرة. ولله ما كان أعظم الفرق بين تنكرها الاختياري في أيام صباها للهو والتسلية، وتنكرها الاضطراري في بدء الشيخوخة للحصول على القوت اليومي. وبمساعي صهرها دوق مارلبورو تمكنت من استرجاع بعض أملاك زوجها المحجوزة في إرلندة، فعاشت على ريعها واستغنت عن مزاولة الخياطة. وقضت الثلاثين سنة الأخيرة من حياتها الطويلة في دبلن بإرلندة، حيث بلغت قبلا أوج العظمة والكرامة. وفي هذه السنين الأخيرة كان جمالها قد فارقها راكبا جناحي نعامة، ونشأت وفاتها عن سقوطها في إحدى ليالي الشتاء الباردة من سريرها إلى الأرض، ولشدة ضعفها وخور عزمها لم تستطع النهوض ولا الاستغاثة. وفي الصباح وجدوها في أسوأ حالات الضعف، ولم تلبث أن أسلمت الروح. وهكذا قضت نحبها فرانسز جننس التي رشفت في اثنتين وثمانين سنة أحلى كئوس المسرة والهناء، وتجرعت أمر غصص البؤس والشقاء.
مغامرة نسيبة هنري الثاني
حدث ذات يوم في سنة 1766 أنه بينما كان المركيز والمركيزة بولانفيليه يسيران في مركبتهما الفاخرة، يجرها أربعة جياد بين باريس وضواحي قرية باسي، عرضت لهما فتاة صغيرة رثة الثياب حافية القدمين، وعلى ظهرها ولد أصغر منها، وسألتهما صدقة، وقالت وهي تحاول أن تجاري خيل المركبة في مسيرها: «تصدقا يا سيدي بقطعة نقود على يتيمين بائسين من سلالة هنري الثاني ملك فرنسا.»
فرمقها المركيز شزرا وانتهرها معرضا عن توسلاتها. لكن الفتاة لمحت علامات الحنان والمؤاساة بادية على محيا المركيزة، فاستأنفت السير والاستجداء، وكررت قولها السابق. وإذ ذاك التفتت إليها المركيزة وسألتها: «أين تسكنين أيتها الفتاة؟» ولما أخبرتها بعنوان مسكنها قالت لها: «اذهبي الآن، فسوف أنظر في أمرك.»
Página desconocida
وفي اليوم التالي بعدما بحثت المركيزة عن هذين الولدين اللذين يدعيان هذا الانتساب السامي استدعتهما إلى قصرها، وساءها ما رأتهما فيه من الضنك والبؤس، وعزمت أن تتبناهما وتعنى بهما وبأخيهما جاك.
ولم يكن في وسع المركيزة أن تتحقق صحة ما يدعيه هؤلاء الأولاد، وقد كفاها باعثا على المبادرة إلى إغاثتهم أنها رأتهم في أشد حالات الشقاء بلا معين ولا منجد. فأقدمت على إنقاذهم من براثن الفقر المدقع. وبعد سنين وقفت على تاريخ ماضيهم، وهو من أغرب ما يروى في تواريخ البشر عن كوارث الدهر ونوائبه.
فقد حدث قبل ذلك بنحو قرنين أن ملك فرنسا هنري الثاني من أسرة فالوي رزق ابنا من إحدى سراريه - وكن كثيرات - فخصه بلقب بارون دي فالوي، وأقطعه كثيرا من الضياع الغنية الخصيبة. ومن صلب هذا البارون خرج عدد ليس بقليل من أعيان فرنسا وعظمائها، ولكن الإسراف والطيش كانا متأصلين في أسرة فالوي، فكانوا كلهم مطبوعين على البطالة والإمعان في الترفه والتنعم وتبيد أموالهم وتبذيرها في سبيل لذاتهم وشهواتهم. وقبل بداءة قصتنا هذه بسنوات قليلة هبط عميد هذه الأسرة من مصاف الأعيان إلى مستوى السوقة، وباع كل ما كان باقيا عنده من العقارات، وأصبح قصره الفخم الأنيق مجلى العفاء والخراب، وزاد على هذا كله أنه تزوج فتاة من أوضع الفتيات شأنا، وهي ابنة حارس غابة الصيد. وانبعث في السكر والخلاعة وقضاء وقته بين الغوغاء، ومزاولة سرقة الصيد والبساتين وعرض ما يسرقه من الطيور والثمار للبيع على أطباق محمولة على رءوس زوجته وأولاده.
قلنا إنه فرط في كل ما ورثه عن أجداده من ثروة وجاه ورفعة شأن، ولكنه ظل حريصا على شيء واحد، وهو وثائق نسبه وحجج انتمائه إلى تلك الأسرة العريقة في الشرف. هذه الأوراق بذل في الاحتفاظ بها جهدا لا يوصف، وكان يخبؤها تحت فراشه القذر الوسخ ويخرجها في أثناء سكره وينظر إليها ثم يستخرط في البكاء والانتحاب ذارفا دموع الأسف على عز ظله زال وشرف لونه حال.
أما زوجته الوضيعة الأصل، فلم يكن لهذه الوثائق من قيمة عندها سوى اتخاذها وسيلة للاستنجاد بالأغنياء والعظماء. وهذا الفكر خطر ببالها أخيرا كأنه بإلهام، فقالت في نفسها: «لماذا لا نذهب بهذه الأوراق إلى باريس ونستخدمها هناك في سبيل الحصول على قليل من المال لسد العوز؟ هناك يجد سليل هنري دي فالوي على الأقل ما يستر عورة فقره ويكفيه تصعير خده للناس بالتسول والاستجداء، ويحول دون تعرضه لتجربة السرقة والسلب.» وبناء عليه نهض اللص الشريف ذات يوم هو وزوجته واثنان من أولادهما وغادروا مظهر شرف الأسرة ومسرح عار سليلها، وساروا قاصدين باريس. وأما ولدهما الثالث ماريان، فإذ كانت أصغر من أن تستطيع قطع هذه المسافة البعيدة مشيا على قدميها، تركاها عند باب بدال (بقال) تستندي جوده وعطفه بصمت أبلغ من الكلام.
ولما بلغوا عاصمة فرنسا لم يظفروا بشيء يحقق الآمال ويصدق الأحلام. فلم يثق أحد بصحة دعواهم، ولا وقفوا في باب إلا صدهم أصحابه وردوهم يتعثرون بأذيال الخيبة والإخفاق، فاضطروا أن يطلبوا خبزهم اليومي، ويدفعوا غائلة الجوع بالتكدية والتسول في الأزقة والشوارع.
وكان الأب (البارون) قد بلغ من العمر أرذله، ولقي من عاديات البؤس والشقاء ما نهك قواه وقوض أركان صحته، فلم يلبث أن قضى نحبه في أحد فنادق باريس. وليس بعيدا أن يكون قد قضى جوعا. وما أبطأت البارونة (زوجته) أن تعزت عنه بالاقتران بعائر أفاق كان من قبل جنديا، واسمه ريموند. ولما نبت به باريس ولم يستطع الإقامة فيها، هجرها مستصحبا زوجته وقد تركا أولادهما لرحمة العالم يعيشون كما شاهدناهم في بداءة هذا الفصل.
وكان من حسن حظهم أن لاقوا المركيزة بولانفيليه، فشملتهم بعطفها وحنوها، وحولت عسرهم يسرا، وأدخلتهم إحدى المدارس المجاورة. ولما بلغت جان - أكبر الأولاد - الرابعة عشرة، أرسلتها المركيزة إلى إحدى الخائطات لتتعلم فن الخياطة، ولكن الفتاة لم تستحسن ذلك، وشق عليها أن تتحمل مشاق التدريب على تعلم هذا الفن وتعنى بأعمال هي من شأن الخدم كالطبخ والغسل وكي الثياب وغيرها. نعم إنها نافعة ومفيدة، ولكنها لا تليق بمن يجري في عروقها دم الملوك. وبعد تكرار التوسلات وذرف الدموع رقت المركيزة لها وأخرجتها من سجنها وأبقتها معها في القصر كوصيفة أو رفيقة. وهذا ما كانت تصبو إليه وتعلل نفسها بالحصول عليه.
وكانت في أثناء وجودها مع المركيزة لا تكف عن ذكر نسبها، وطلب تحقيقه وإثبات صحته، فأوعزت المركيزة إلى أحد علماء الأنساب أن يعنى بالأمر. وبعد قليل جاءها بالخبر اليقين، وقال لها إن دعوى الفتاة صحيحة، وهي سليلة هنري الثاني دي فالوي ملك فرنسا. وبعد بضعة أسابيع ذهبت المركيزة بالأولاد إلى باريس وقصت حكايتهم على الملك لويس الخامس عشر نفسه، فأذن أن تدعى الفتاة جان الآنسة دي فالوي، وأن يلقب أخوها جاك بالبارون دي فالوي ويتعين ضابطا في الحربية، وأن يعطى كل منهم من خزانة الحكومة ثمانمائة ليرة في السنة.
وقد شعرت الأختان بما لنسبهما من العظمة والشرف عندما أعلن الملك رغبته في أن تعتزلا العالم وتقيما في دير، على أمل أن تكونا آخر من ينتسب إلى بيت فالوي. وبناء عليه أرسلت جان وأختها ماريان إلى أحد الأديار، ولكن المركيز كان قد أحب جان وطارحها أحاديث وجده وغرامه، فوجد منها أذنا صاغية. ولما دخلت الدير واصل زيارتها بلا انقطاع حتى اضطرت الرئيسة إلى إخراجهما كلتيهما.
Página desconocida
فدخلتا ديرا آخر، ولكنهما لم تلبثا أن خرجتا منه؛ لأنهما بعدما أثبتتا صحة نسبهما لم يبق في طاقتهما وهما سليلتا الملوك أن تعيشا عيشة الزهد والاعتزال. ولكن الضياع التي كانت لأجدادهما لم تزل محجوزة عنهما، فذهبتا إلى الجهة التي فيها تلك الإقطاعات لتطالبا برد حقوقهما المغصوبة. وهناك لقيتا من الحفاوة والإكرام ما يقصر عن وصفه أبلغ الكلام. ونزلتا ضيفتين كريمتين عند سيدة غنية تسمى عقيلة دي سرمونت. وفي بيتها أقيمت لهما الاحتفالات، وأولمت الولائم، وتسابق الضباط الذين في ثكنة لونفيل إلى ترضيهما وخطبة مودتهما. ويقول أحد عارفي الآنسة دي فالوي في وصفها: «إنها كانت رشيقة القوام، وذات عينين زرقاوين تنفثان سحر الجمال، وفوقهما حاجبان سوداوان كأنهما قوسان ترسل عنهما سهام الافتتان إلى قلوب الخليين، ومع أن وجهها كان مستطيلا قليلا، وفمها يزيد في اتساعه عن القدر المطلوب، فإن أسنانها كانت في بياضها وحسن انتساقها كاللؤلؤ المنظوم، يزينها ابتسامة شائقة رائقة. وكانت جميلة اليدين نحيفة القدمين، ولكنها كانت عارية من حلية الأدب.» وهذا النقص كان أهم ما عرفت به في حياتها، وظل أكبر عامل فيما أقدمت عليه ووجهت التفاتها إليه.
وكان في طليعة عشاقها البارون دي لامونت، وهو شاب حسن البزة بهي الطلعة، ولكنه عاطل من حلية العقل والأدب، وقد قبلته الآنسة دي فالوي خطيبا لها بعدما عبثت بضيافة عقيلة دي سرمونت بطول المكث وشدة التثقيل عليها وانتظام زوجها في سلك المغرمين بضيفتها غير المحتشمة.
ولم يمض على اقترانهما وقت طويل حتى رأت جان أنهما في عسر مادي لا يطاق؛ فإن زوجها لم يكن له من الدخل فوق راتبه من الجيش سوى جنيه واحد في الشهر. ولم يبطآ أن أصبحا رازحين تحت حمل دين ثقيل. وكانت البارونة مع شدة وطأة الفقر عليها، لا تنفك تواصل عيشة التبذير والإسراف. وحينئذ لم تر بدا من السعي فيما يخفف عنها أعباء البؤس والشقاء. ومن فورها قصدت ولية نعمتها المركيزة، وقرعت باب جودها وحنوها. وكانت المركيزة إذ ذاك في قصر سافرن نازلة ضيفة على الكردينال الأمير لويس دي روان، وقد أحسنت تمثيل حكاية بؤسها وضنكها، وهاجت الشفقة والرأفة في قلب المركيزة ومضيفها، فأوفت المركيزة ديونها كلها، وبادر الكردينال - وكان من أكبر الخاضعين لسلطة جمال النساء - إلى بسط ظل حمايته عليها.
وبعد اتصالها به واختبارها له وجدته على جانب عظيم من قلة العقل وشدة الغباوة وسفاه الرأي. وكان هذا كله لحسن حظها؛ إذ رأته خير وسيلة يسهل عليها استخدامها لقضاء مآربها. وفيما كانت تمهد السبيل لإدراك بغيتها بذلت جهدها في التقرب إلى سيدات البلاط، فأوهمتهن بأنها صديقة حميمة للملكة ماري أنطوانيت، وأطلعتهن على عدة رسائل مكتوبة حسب الظاهر بخط جلالتها، ولكنها بالحقيقة مزورة بخط أحد أصدقاء زوجها. وفي كل من هذه الرسائل تخاطبها الملكة بقولها: «حبيبة قلبي، وأعز صديقة لي، الكونتس» (متعمدة انتحال هذا اللقب). ولكن هذه الاحتيالات كلها لم تجدها نفعا حتى عند سراري الملك. فأعرضن عنها ولم يعرنها أقل التفات، فوجهت اهتمامها إلى جهة أخرى، ولم تجد ما يشفي غليلها من هذا القبيل سوى التذرع بالكردينال الذي كان في هذا الوقت قد أصبح متيما بها، وعبد رق لها تأمره بما تريد وتنهاه عما تشاء.
وكانت أخلاق الكردينال مظهرا لكثير من مواضع الضعف ووهن العزيمة. واطلعت البارونة جان على أهم موضع منها وصوبت إليه حملات التسلط بما لا مزيد عليه من الدهاء والاحتيال حتى استأثرت به وأخضعته لسلطانها. وخلاصة ذلك أنه لما كان في فينا منذ سنوات اطلعت ماري تريزا إمبراطورة النمسا على أعماله المغايرة للحشمة والأدب والعابثة بكرامة رتبته الدينية، فازدرته واحتقرته، ولم تقتصر على كراهتها له، بل حملت ابنتها ماري أنطوانيت أن تحذو حذوها، فلم تأذن للكردينال في الدخول إلى القصر الملكي في باريس.
وقد قضى وقتا طويلا يسعى في استعطافها وترضيها، واستخدم كثيرا من الوسائط وأنفق مبالغ باهظة من الأموال، فذهبت كلها أخيب من صرخة في واد أو نفخة في رماد. وكان لشدة غروره واعتداده بنفسه يظن أنه إذا تمكن من المثول أمام جلالة الملكة ماري أنطوانيت يستطيع أن يستبيها بفصاحة لسانه وسحر بيانه وحسن صفاته وجمال منظره، ويحول كراهتها له إلى إعجاب واستحسان إن لم يكن إلى غرام وهيام. ولكن هذا الشيء الوحيد - المثول أمامها - لم يقدر عليه؛ لأن ماري أنطوانيت أبت أن تراه إباء مطلقا.
وأمام هذه العقبة الكئود سنحت الفرصة لقرينة دي لاموت - الكونتس جان - واتسع مجال العمل. والإيهام الذي حاولت أن تأخذ نساء القصر بحبائله ولم تفلح، حاولت الآن أن تنصب أشراكه للكردينال. فأوهمته أنها أعز الصديقات على الملكة، ولكيلا تبقي عنده أقل ارتياب من صحة هذا الأمر أرته رسائل جلالتها إليها مفعمة بتعابير الشوق والمحبة والإعزاز، وقالت له إن جلالتها متعلقة بها تعلقا يتعذر وصفه؛ ولذلك هي مستعدة على الدوام أن تجيبها إلى ما طلبت، وليس في وسعها أن ترفض لها التماسا مهما يكن أمره عظيما. ومن أسهل الأمور عليها أن تحمل جلالتها على الرضا عنه والميل إليه، وستبذل جهدها في قضاء الحاجة حتى يتمكن من دخول القصر على السعة والرحب.
فسر الأمير لويس دي روان (الكردينال) بهذا الكلام، وطفق يعلل نفسه ببلوغها غاية المنى حين تعطف عليه الملكة بنظرة وابتسامة. وبعد ذلك - من يعلم؟ - فقد يتمكن بحسن تناوله وبراعة أساليبه أن ينال منزلة في قلبها لم ينلها أحد سواه.
وما عتمت قرينة دي لاموت أن جاءته مسرعة تتلو عليه بشرى نجاح مسعاها، قائلة له إنها تمكنت من إقناع الملكة بإخلاصه وولائه، ومحت ما كان عالقا بذهنها من آثار البغض له والحقد عليه. ثم ناولته رسالة من الملكة إليه تعلن فيها رضاها عنه، فلم يبق عنده مجال للشك في ما حدثته به. والرسالة نفسها أصدق شاهد، وهي مكتوبة بخط الملكة وممضاة: «صديقتك ماري أنطوانيت». وبعدما تلاها هذا الغر الأبله قربها إلى شفتيه وأشبعها تقبيلا. ثم تلتها رسائل أخرى كل منها تفوق سابقتها في عبارات الشوق والمحبة، حتى خيل إلى روان أنه أصبح في أوج السعادة، وأن السيدة العظيمة الشأن التي طالما أبت أن تشاهده، صارت الآن صديقته، بل أقرب إليه من صديقة له كما تدل عباراتها. ولم يبق لتتمة مشتهاه سوى أمر واحد، وهو أن يحظى بمقابلتها ويسعد بتقبيل يدها. وهذا ما وعدت حليفته البارونة أن توصله قريبا إليه، وتسبغ نعمته عليه.
وكان الوعد بالمقابلة أسهل جدا من تهيئتها وتعيين زمانها ومكانها. ولكن السعد الخادم لقرينة دي لاموت أعانها على تذليل هذه العقبة. ففي ذات يوم لقي زوجها فتاة بينها وبين الملكة مشابهة شديدة في الوجه والقامة. فتعرف لها وطلب إليها أن تصحبه إلى بيته. فلما رأتها قرينته سرت بها سرورا عظيما؛ لأنها ضالتها المنشودة. وكان اسمها ليغاي، وهي فقيرة تعيش بما تأخذه من الأجرة على ترتيلها في الكنيسة، فقالت لها جان أنها صديقة الملكة العزيزة، وأن جلالتها طلبت إليها أن تجد لها فتاة تمثل أمرها بخدمة تعينها لها، فتجيزها عليها بمبلغ خمسة عشر ألف فرانك. وعلى الفور أعلنت الآنسة ليغاي استعدادها لهذه الخدمة مبتهجة أشد ابتهاج بشرف خدمة الملكة وعظم مقدار الأجرة.
Página desconocida
وبعد أيام زفت جان إلى روان (الكردينال) بشرى وعد الملكة أن تقابله سرا تحت ستار الظلام في حديقة قصر فرسايل. ففاضت كأس بهجته وسعادته، وكاد لبه أن يطير من شدة الجذل، وأخذ يعد الساعات، بل الدقائق والثواني. وفي الوقت المعين دخل الحديقة، وطفق يروح فيها ويجيء وفؤاده يوشك أن يقفز خارجا من فمه من شدة الهياج والاضطراب، وبعد دقائق ظنها ساعات وأياما جاءته الكونتس وأسرت إليه قائلة: «أسرع، فإن الملكة في انتظارك!» والتفت حوله فرأى سيدة في حلة بيضاء قادمة نحوه مستذرية بظل سور الحديقة. فجثا على إحدى ركبتيه وانحنت السيدة فوقه بقامتها الطويلة الرشيقة، ووضعت في يده وردة، وقالت له بلهجة سحرت لبه: «ما أظنك تجهل معنى هذا.» وقبلما تمكن من جمع شمل أفكاره المشتتة فارقته بسرعة وغموض لا مزيد عليهما، ولبث وحده يمطر العشب الذي وطئته قدماها بقبلات شوق أحر من الجمر.
وفي مساء ذلك اليوم كتب إلى ماري أنطوانيت يقول: «إن تلك الوردة الساحرة مغروسة في قلبي. وسأحتفظ بها كل حياتي؛ لأنها تحيي في ذكرى أسعد ساعة في عمري.» ثم سلم الرسالة إلى الكونتس. وبعدما تلتها على انفراد وأوغلت في الضحك والاستهزاء بكاتبها، جعلتها طعام النار. وفي تلك الساعة نفسها كانت الآنسة ليغاي جالسة في أحد المطاعم تراجع في أفكارها الفصل المضحك الذي أجادت تمثيله، والأجرة الكبيرة التي نالتها عليه.
ولم يبق عند الكردينال أقل شك في شغف الملكة بمحاسنه وفوزه بصداقتها، بل بتملكه قلبها. ولشدة سروره وابتهاجه، أعطى الكونتس مبلغ خمسين ألف فرنك، ثم مبلغ مائة ألف فرنك، مصدقا قولها له إن الملكة في أشد احتياج إليهما.
وبعدما قبضت جان هذين المبلغين ذهبت هي وزوجها إلى حيث كانا عندما اقترنا، وهناك قضيا أياما وعاشا عيشة تبذير وإسراف لم يرو التاريخ أشد منها؛ إذ كانا ينفقان المال على الولائم والمراقص جزافا بلا تدبر ولا حساب، حتى لم يبقيا على شيء من المائة وخمسين ألف فرنك، وعادا إلى باريس ينصبان فخاخ المكر والاحتيال.
واتفق حينئذ أن المسيو بومر أحد جوهريي البلاط، كان قد قضى سنين في البحث عمن يشتري قلادة من أنفس الألماس وأغلاه، وهي تكاد تعد نادرة في جمال صنعها وإتقان ترصيعها. وقد أنفق عليها كل ما عنده من المال، ولكنه لم يستطع أن يجد من يقدرها قدرها ويشتريها ويدفع له ثمنها مليونا وستمائة ألف فرنك، وقد عرضها على جميع قصور الملوك في أوروبا وعاد منها كلها بخفي حنين. وبذل جهده في إغراء الملكة ماري أنطوانيت بابتياعها فلم يظفر، فلما ألح مرة على جلالتها قالت له: «لا أجهل أن الملك لا يبخل علي بثمنها، ولكني لا أروم شراءها. فخذها ولا تعرضها بعد الآن.»
فاشتمله اليأس من جراء حبوط مساعيه، ولم يكن يشأ أن يحل عقد نظامها ويبيعها حجارة كلا منها على حدة، ولم يسعده الحظ بلقاء من يريد أو يقدر أن يبتاعها كما هي. وكان كل سنة يتحمل فيها خسارة سبعين ألف فرنك ربا ثمنها. ولم يبق أمامه سوى شعاع أمل ضعيف بإمكان بيعه لهذه القلادة، فكان قد سمع بالكونتس دي لامرت وما بينها وبين الملكة من الصداقة الوثيقة العرى، وقال في نفسه إن كان في استطاعة أحد أن يحمل الملكة على شراء القلادة فإنما هو صديقتها هذه. وبناء عليه ذهب بالقلادة إلى الكونتس راجيا أن تسعى في تحويل الملكة عما عزمت عليه، وإقناعها بوجوب ابتياع هذه الحلية النفيسة.
لكنها قابلت رجاءه بالرفض والامتناع، وأبت المداخلة في هذا الأمر، فعرض عليها رشوة مقدارها ألف فرنك، وإذا بها استشاطت غيظا وحنقا، وأوسعته تأنيبا وتوبيخا، وصرفته من عندها محتقرا مهانا. لكنه تحمل ذلك كله وجاءها مرة بعد مرة. وفي المرة الثالثة آنس بعض علامات الرضا والانقياد، ولم يفتأ يلح ويلمح حتى فاز بحملها على الرضا والقبول، فقالت له: «سأبذل جهدي في السعي، فإن نجحت فعلت ذلك عفوا بلا توقع أقل جزاء. ولكن سواء نجحت أم أخفقت لا أروم أن يرد ذكر اسمي في هذه المسألة.»
وبعد خروجه من عندها زورت كتابا من ماري أنطوانيت إلى روان، وكان حينئذ خارج باريس، تطلب إليه أن يرجع حالا إلى العاصمة؛ لأنها في حاجة شديدة إلى مساعدته على قضاء أمر ذي شأن. وختمت الكتاب بقولها: «فإن شئت أن تفوز بمحبتي فلا تتأخر عن المجيء.» وعلى الفور أسرع الكرة عائدا إلى باريس. ومن الكونتس صديقة الملكة وكاتمة أسرارها اطلع على ما تروم جلالتها قضاءه؛ ألا وهو شراء القلادة لها.
قالت له الكونتس برزانة وحزم: «إن جلالة الملكة تروم إجراء المفاوضات بشأن شراء القلادة بما لا مزيد عليه من التكتم، ولو في الوقت الحاضر، مخافة أن يطلع الملك على ذلك ويغضب. ولما كانت جلالتها لا تستطيع الآن دفع الثمن نقدا، فهي ترغب في أن نيافة الكردينال يضمن الدفع.»
فطابت نفس روان بهذه الثقة الكبرى التي لجلالتها به، وعد ذلك أوضح دليل على تعلق قلبها به. وتم شراء القلادة بمبلغ 1600000 فرنك بضمان الكردينال، مقسطا أربعة أقساط في مدة سنتين بمقتضى صك ممضى بخط الملكة. وتسلمت الكونتس القلادة لكي تعطيها للملكة بيدها. ولا حاجة للقول إنها لم تلبث أن انتزعت حجارة الألماس من القلادة وأعطت أكثرها لزوجها، فباعها في سوق الجوهريين بمبلغ يكفيهما أن يعيشا في سعة ورخاء مدة الحياة الباقية.
Página desconocida
ولما كان الكردينال قد أصبح واثقا بحصوله على رضى المليكة ومحبتها، ذهب إلى القصر لتقر عيناه بمشاهدتها، فلم يلق إلا ما كان يلقاه سابقا من الصدود والإعراض والاحتقار والامتهان، ولكنه لشد غروره وغباوته سهل على نفسه تجرع كأس هذه الإهانة بقوله: «ألست واثقا بأني مالك قلبها؟ كفاني هذا. وليس ما لقيته من الصد والإعراض إلا من باب المواربة والتعمية، حتى لا يطلع الآخرون على ما بيننا من الغرام والهيام.» ثم عرض شيء آخر أوجب القلق والانزعاج. وهو أن الملكة شهدت غير واحد من الاحتفالات الرسمية، ولم تكن القلادة في عنقها. وهذه الحقيقة أثارت الريب والشكوك في قلب المسيو بومر. وقد زاد به القلق حتى إنه عندما بعث إلى جلالتها ببيان حساب بعض الأشياء التي ابتاعتها من عنده، انتهز هذه الفرصة وذكرها القلادة، وقال في ختام كلامه: «ويسرني كل السرور أن أرى أغلى قلادة في العالم يزدان بها جيد أجمل ملكة.» فلما قرأت الملكة هذه الكلمات ولم تفهم معناها قالت: «لعله مصاب بالجنون.»
ولكن يوم الحساب وكشف الحجاب كان قريبا، فإنه لما حان وقت دفع القسط الأول وقدره 400000 فرنك، انتظر الجوهري فلم يأخذ شيئا. وكانت قرينة دي لاموت قد أعطت الكردينال مبلغا زهيدا ليدفعه إلى الجوهري ويطلب إليه بالنيابة عن الملكة أن يمهلها في الباقي. وفي هذه الأثناء لاحظ باسنج شريك الجوهري بومر أن إمضاء الملكة على صك القلادة ليس فيه إلا مشابهة قليلة لخطها ... وهذا الشك تحول إلى حيرة وذعر، فذهب باسنج شريك بومر إلى الكونتس مستوضحا. فقالت له إن الإمضاء مزور، والملكة لا علم لها بالأمر، وعليه أن يقتضي المال من الكردينال!
ولما بلغ الملكة خبر هذه الخدعة، حمي وطيس حنقها وغضبها، وازدادت سخطا ومقتا للكردينال، وألحت في وجوب اعتقاله هو وجميع شركائه في هذه الجريمة الشنعاء لينالوا ما يستحقونه من العقاب. وبعد ساعة جيء بالأمير دي روان إلى حضرة الملك والملكة ليسأل عما فعل، فوقف أمامها وقفة ذل وعار حركت ساكن الشفقة عليه من قلوب المشاهدين. وقد استطاع تحمل نظرات الحنق المنصبة عليه من عيني الملك بشيء من التجلد. وأما نظرات الملكة التي لشدة غرامه بها أقدم على اقتراف هذا الإثم الشائن، فقد اخترقت أحشاءه وكادت تذيبه بنارها، فسأله الملك وشرر الغيظ يتطاير من كلماته: «من فوض إليك شراء القلادة لملكة فرنسا؟» فأجابه بلهجة الانسحاق والانكسار: «سيدة دي لاموت. وقد أعطتني كتابا من الملكة، فظننت أن بإطاعتي لأمر جلالتها أكون قد تشرفت بخدمتها.» فاعترضته الملكة بصوت يقذف بحمم السخط والغضب قائلة: «ظننت! ظننت أنك تخدمني! أنت الذي منذ جاء أول مرة إلى القصر لم أكلمه قط بكلمة، ولا وجهت إليه أقل التفاتة!» ولما عرض الصك الموقع بإمضاء الملكة إجابة لطلب الملك صاح: «ليس في هذا الإمضاء من المشابهة لخط الملكة أكثر مما فيه منها لخطي، وزد عليه أنك وأنت الأمير الكردينال تجهل أن الملكة لا تمضي اسمها ماري أنطوانيت فرنسا. فاذهب على الفور واكتب إلى الملكة معتذرا مستغفرا، ولا تنس أنك بأمر الحكومة موقوف رهن التحقيق.»
وبعدما كتب عريضة الاستغفار، أودع هو والكونتس دي لاموت وزوجها والفتاة التي مثلت الملكة سجن الباستيل.
لكن الفرنسويين على بكرة أبيهم شق عليهم أن يروا أحد أقطاب الكنيسة فريسة العار والشنار بيد الملكة التي كانوا يكرهونها، فأعلنوا مؤاساتهم له واستياءهم من تحقيره إلى هذا الحد. ولما جيء به للمحاكمة استقبلوه على جانبي الطرق كملك، وحين أعلنت براءته ثملت فرانسا كلها براح الحبور والابتهاج.
وكان دي لاموت قد تمكن من الفرار إلى إنكلترة، وأما قرينته فقد حوكمت وحكم عليها بأن تجلد متجردة، وتوسم في كتفها كمجرمة أثيمة، وتقضي حياتها كلها في السجن. فسيقت معولة مولولة مكمومة الفم وموثوقة اليدين والرجلين، ووسمت بميسم حام بالحرف
V - أول أحرف كلمة فالوي - في كتفها، وجلدت جلدا شديدا أمام جمهور غفير من المشاهدين، ثم ألقيت في مركبة بين حية وميتة، فسارت بها إلى السجن. ولما دخلته ورأت أنها سوف تقضي غابر حياتها مع أسفل طبقة من النساء المجرمات، استولى عليها الرعب واليأس، فاستخرطت في النوح والبكاء وذرف الدموع وهي تصيح: «يا لفالوي! يا لفالوي!»
وخلاصة ما يعرف عنها بعد ذلك أنها بمساعدة أصدقائها خارج فرنسا، ورشوة بعض الموكلين بحراسة السجن، تمكنت من الهرب متنكرة إلى إنكلترة حيث لقيت زوجها، ولما تراكمت عليها الديون وكثرت الدعاوى توسلت أن تعيش بما توجر عليه من نشر مذكرات مفعمة بالفضائح والمخازي عن ماري أنطوانيت، بحيث كانت تضطرها أن تقطع لسانها وتشتري سكوتها عنها بمبلغ من المال مرة بعد مرة. وكانت كل مرة تقضي المبلغ المتفق عليه واعدة بالكف والسكوت، ثم تنكث الوعد وتستأنف هتك الأستار عن الأسرار ونشر الأخبار، وزوجها يلذ وينعم بإنفاق ما كانت تناله من المال.
ولما تمادت في نكث مواعيدها للويس السادس عشر، على الوجه السابق بيانه، بلغ الغيظ من رسل الدوق دورليان في لندن مبلغا يفوق الاحتمال، وكانوا قد ابتاعوا منها مذكراتها، فتآمروا على الانتقام منها، وزوروا أمرا بالقبض عليها، وذهبوا إلى بيتها قاصدين اختطافها وأخذها إلى فرنسا؛ حيث يذيقونها غصص النكال. ولكنها بعدما دخلوا غرفتها احتالت عليهم بالخروج لقضاء حاجة، وأقفلت عليهم الباب ، وفرت ملتجئة إلى الطبقة العليا من أحد البيوت المجاورة. على أن أعداءها عالجوا الباب بالخلع والكسر، واندفعوا يفتشون عنها ومراجل الغيظ تغلي في قلوبهم، وما لبثوا أن عثروا على ملجئها، فقرعوا الباب طالبين فتحه وإلا كسروه.
وإذ ذاك أيقنت أنه لا وسيلة للهرب إلا من النافذة، ولم يخف عليها أن مصير فرارها منها إلى الموت. ولكنها لشدة هلعها أقدمت عليه وألقت بنفسها من النافذة، فسقطت في الشارع محطمة الجسم مهشمة الأعضاء. وبعد أيام ماتت، وكان ذلك في اليوم السادس والعشرين من شهر أغسطس سنة 1791، وبهذه الفاجعة انتهت حياة جان دي فالوي سليلة الملوك، وختمت حوادث لم يدون التاريخ أشد منها مغامرة واقتحاما.
Página desconocida
فاجعة ملكة القلوب
حدث في سنة 1646 أن امرأة برحت لندن قاصدة دوفر وهي في زي أهل الريف، مرتدية ثيابا رثة، ومعها ولد في ثياب صبي جميل العينين أصفر الوجه. وكانت تارة تقوده بيدها وتارة تحمله مع ما هي عليه من شدة الإعياء. وكان المارة ينظرون إليها بعين العطف والشفقة، وكثيرون من أصحاب المركبات يعرضون أن يقطعوا بهما جانبا من الطريق محمولين في مركباتهم. ولكن المرأة كانت تمتنع عن القبول بلطف وشكر. وأما الولد فكان يرفض كل ما يعرض عليه من هذا القبيل بغيظ وحنق صارخا: «دعني! أنا لست صبيا فلاحا! أنا الأميرة هنريتا الإنكليزية.» وإذ ذاك كانت المرأة تبادر إلى إسكاته بقولها له: «صه!» فيمعن المارة في الضحك.
ومع ما في تصريح الولد من الغرابة، فإنه كان صحيحا لا ريب فيه. وتلك الأطمار البالية كانت تستر عري هنريتا أصغر أولاد تشارلس الأول ملك إنكلترة. وكانت قد ولدت منذ نحو ثلاث سنين في إكستر في أثناء شبوب الحرب الأهلية التي ثلت عرش أبيها وذهبت به إلى المقصلة (الآلة لقطع الرءوس). ولما سقطت إكستر في أيدي الثائرين أخذت هذه الطفلة أسيرة، ووضعت هي وظئرها لادي دلكيث في قلعة سنت جيمس. أما والدتها فكانت قد هربت. وعند سنوح أول فرصة للادي دلكيث خرجت بالطفلة سرا متنكرتين بملابس نساء العامة وأولادهن، وطفقت تجد السير إلى دوفر؛ حيث عبرت البحر إلى فرنسا ذاهبة بالطفلة إلى والدتها الملكة هنريتا ماريا المقيمة في بلاط فرنسا مسقط رأسها.
وبعد وصول ابنتها إليها أعدت لها الحكومة منزلا في اللوفر يعد حقيرا جدا بالنسبة إلى قصرهما الفخم الفاخر في لندن. وعين لها مجلس النواب أربعين ألف ليرة في السنة، وكان هذا المبلغ يكفيها لتعيش بسعة. ولكنها كانت مضطرة أن تبعث بأكبر جانب منه إلى ابنها وأتباعه الذين كانوا في أشد حالات الفقر. وبناء عليه كانت مرغمة أن تعيش عيشة الضنك وتتجرع مرارة الاحتياج حتى إلى الطعام والوقيد. وكثيرا ما قضت ليالي الشتاء الطويلة الباردة هي وابنتها في أرق وحزن وبكاء، وليس لهما ما تدفعان به عضة الجوع وقرس الزمهرير.
ومع ما عانته من شدة البؤس والشقاء وشظف العيش، ظلت محتفظة بعزة نفسها ورفعة شأنها، ولم تبح لأحد بشكوى. ووجهت كل اهتمامها إلى تنشئة ابنتها على الطموح إلى المعالي، باثة فيها روح الشجاعة والإقدام والتعلل بمستقبل سعيد مجيد، يبسم لها عن ثغر الرغد والرخاء، وأقل ما في هذا الطموح أن تصير زوجة لويس الرابع عشر، وكانت والدته أكبر معينة لها على تعليل نفسها بتحقيق هذا الأمل مع ما يلابسه من ظواهر التعذر والاستحالة.
وذلك لأن ابنتها الأميرة هنريتا كانت في طفولتها غير محرزة شيئا من ملامح الحسن والجمال، وكانت عيوبها الطبيعية تزداد ظهورا ووضوحا بما كانت تصاب به على الدوام من الزكام والرمد ووجع الأسنان. فكان من أبعد الممكنات أن الملك وهو من أجمل شبان فرنسا وأشدهم طموحا إلى الجري وراء أميال الشبيبة، يرضى بأن تكون هذه القبيحة المنظر زوجة له. وكان يؤثر عليها بنات أخت مازاران الحسان، ويقضي أيامه في مغازلتهن. ولما أعدت والدته مرقصا لتجمعه بهنريتا أبى إباء مطلقا أن يرقص معها، ولم يذعن لإرادة والدته إلا بعدما هددته بأنها لا تأذن له في الرقص مع غيرها. وعندما عرضت عليه والدته بعد ذلك أن يتزوج هنريتا صاح بملء فيه ساخطا حانقا: «لن أتزوج هذه الفتاة القبيحة المنظر ما دمت حيا.» هكذا عزم، وأصر على عزمه إلى النهاية. ولما أراد الزواج اختار زوجة له إنفانتا ماريا تريزا ابنة فليب الرابع ملك إسبانية.
ولكن غيوم البؤس والخمول التي تلبدت في جو حياة هنريتا ووالدتها لم تعتم أن تقشعت؛ فإن أخاها تشارلس استرد عرش إنكلترة. وكأخت ملك إنكلترة نهضت تلك الأميرة المنبوذة من حضيض الضعة والخمول إلى يفاع الرفعة والظهور. وقد صحب رفعة شأنها إشراق غريب غير منتظر لبدر حسنها وجمالها، وتلك البنت القبيحة المنظر في طفولتها استحالت في السابعة عشرة إلى فتاة فاتنة العقول والأبصار ببهاء باهر وحسن ساحر. لم تكن جميلة بالمعنى المتعارف المبتذل، بل بما كان يتلألأ في عينيها من أنوار السناء والجلاء، ويتدفق في محياها من أمواج خفة الروح ونباهة الشأن وحسن التناول. وكان أخص ملامح جمالها ابتسامتها الشائقة التي كانت تكسو وجهها حلة البهجة وتحليه في عين كل ناظر إليه. وهذه المظاهر الخالبة زانها ذكاء نادر وسرعة خاطر قليلة النظير وخفة روح رائقة وبراعة فائقة في فنون الغناء والموسيقى والرقص. ولا عجب بعد ذلك أن تبيت صاحبة هذه الجواذب قبلة الأنظار، ومحط رجال الأمراء والعظماء يتبارون في خطبتها وطلب الاقتران بها. ويقال إن إمبراطور ألمانيا خطبها غير مرة محاولا أن ترضاه زوجا لها، فلم تجبه إلى ما طلب. وأخيرا رضيت أن تقترن بفليب دوق أورليان أخي لويس الرابع عشر الأصغر، وكان في استطاعتها أن تجد من هو فوقه رتبة ومقاما. وقبيل زفافها إليه زارت بلاط أخيها تشارلس الثاني ملك إنكلترة، فلقيت هناك من مجالي الاحتفاء والترحيب والتجلة والتكريم، ومظاهر الإعجاب بحسنها وجمالها، ما يفوق الوصف، بل يشب عن طوق التصور.
ولكنها بقبولها فليب أورليان زوجا لها، سعت إلى حتفها بظلفها، وقضت على سعادتها قضاء مبرما. ولو أنها بحثت في فرنسا كلها لما وجدت زوجا أقل منه جدارة بها وأهلية لها. قال عنه بعض واصفيه: «كان في حداثته أجمل ولد في فرنسا، فشب على أفسد الأخلاق وأرذل الصفات. ومع شدة جماله كان عاريا من حلية الفضائل . وإذ نشأ وترعرع بين النساء تملكه التفنيق والترفيه، وصار من أكبر المخنثين الذين يضرب بهم المثل. وكان عندما يرتدي ثياب بنت - وكثيرا ما كان يفعل ذلك - يصعب على من يراه أن يصدق نسبته إلى جنس آخر.» وظل حتى جاوز الثالثة عشرة يلبس لباس فتاة. ولما بلغ أشده صار خنثه أظهر وأجلى، فكان يقضي كل يوم ساعات في التجمل والتعطر والتبرج، وعرض نفسه على عشاق من جنسه. وقال عنه سنت سيمون: «كان امرأة بكل عيوبها ونقائصها، ولم يكن له شيء من فضائلها، وظل بعد بلوغه متخلقا بأخلاق الأولاد ضعيف الإرادة مهذارا، غريب الأطوار، كثير الغرور، سيئ الظن، مولعا بالنميمة والسعاية.» فكان والحالة هذه يستحيل على هنريتا أن ترى فيه من أول يوم اقترانها به غير ما يسوءها ويحزنها. وقد قال الدوق لأحد أصحابه: «انتهت محبتي لها بعد أسبوعين.» بل قيل عنه إنه يوم زفافها إليه تركها وذهب يطلب التمتع بلذاته بين جماعة المخنثين.
فهل يعجب أحد بعد ذلك إذا رأى الأميرة هنريتا تعرض عن زوجها الساقط وتلتفت إلى غيره؟ وكان من أسرى جمالها دوق بوكننهام وكونت دي غيش وغيرهما، حتى إن سلفها الملك نفسه الذي أشاح عنها في حداثتها صار الآن في طليعة عشاقها. وقبلما انقضى شهر العسل دعاها إلى فونتنبلو؛ حيث وجدت نفسها إلاهة القصر وجنية الينبوع وحورية الغابة. وهناك أعد الملك إكراما لها حفلات الصيد والرقص والغناء والولائم. وأصبحت زوجة فليب المهجورة مليكة بلاط لويس وقلبه. وهناك خلا الجو لها ولسلفها، فتساقيا كئوس الغرام مترعة، وتمليا لذاذات الهوى صافية من أكدار الرقباء، وقضى فصل الصيف كله ناعما بقربها والتنزه معها في غابة فونتنبلو، وهي غير باخلة عليه بشيء استتماما لمسرات نفسه وشهوات قلبه. لم تمنعه شيئا؛ هكذا قالت هي: «كنت أفضل الموت على عصيانه في شيء.» لم تمنعه شيئا، ولا أبدت أقل اكتراث للرأي العام أو مبالاة بصحتها.
ولما اتصلت هذه الأنباء بمسامع والدة الملك غلت مراجل غيظها، وادعى أخوه الغيرة ادعاء، فتظاهر بالاستياء والاشمئزاز. ولكن لويس سكن غيظ والدته وغيرة أخيه واعدا باجتناب مثل هذه الأعمال في المستقبل. والملوك ليسوا أوفى من رعاياهم بالمواعيد. فكان لويس تحت ستار التودد إلى لويز دي لافالير أجمل نساء الشرف في قصر الأميرة هنريتا، ينتهز الفرص للاجتماع بالأميرة نفسها، فيقضي ساعات خاليا بها وناعما بقربها. وما عتم أن تحول تكلفه حب لويز إلى كلف حقيقي، فهام بها واسترد قلبه من سيدتها إليها.
Página desconocida