فاختر من المعاني ما لم يكن مستورا باللفظ المتعقد، مغرقا في الإكثار والتكلف. فما أكثر من لا يحفل باستهلاك المعنى مع براعة اللفظ وغموضه على السامع بعد أن يتسق له القول، وما زال المعنى محجوبا لم تكشف عنه العبارة. فالمعنى بعد مقيم على استخفائه، وصارت العبارة لغوا وظرفا خاليا.
وشر البلغاء من هيأ رسم المعنى قبل أن يهيىء المعنى، عشقا لذلك اللفظ، وشغفا بذلك الاسم، حتى صار يجر إليه المعنى جرا، ويلزقه به إلزاقا. حتى كأن الله تعالى لم يخلق لذلك المعنى اسما غيره، ومنعه الإفصاح عنه إلا به.
والآفة الكبرى أن يكون رديء الطبع بطيء اللفظ، كليل الحد، شديد العجب، ويكون مع ذلك حريصا على أن يعد في البلغاء، شديد الكلف بانتحال اسم الأدباء. فإذا كان كذلك خفي عليه فرق ما بين إجابة الألفاظ واستكراهه له.
وبالجملة إن لكل معنى شريف أو وضيع، هزل أو جد، وحزم أو إضاعة، ضربا من اللفظ هو حقه وحظه، ونصيبه الذي لا ينبغي أن يجاوزه أو يقصر دونه.
Página 40