خطاب اليمامة
معشر الأحياء:
قال تعالى:
ونريد أن نمن على الذين استضعفوا في الأرض ونجعلهم أئمة ونجعلهم الوارثين * ونمكن لهم في الأرض .
ومصداق هذه الآية الكريمة يا بني أمي قائم في ملك الله الواسع أنى ذهبتم بأبصاركم، فقلبوا الطرف فيما حولكم هل ترون اليمام والزرازير أكثر أم البواشق والنسور؟ وهل البقر والشاء أبقى على القتل والذبح أم الأسود والنمور؟ وهل صغار الأسماك أوفر وأغزر أم كبار التماسيح والحيتان؟ وهل أنواع الحيوان أجم وأنمى أم قبائل الإنسان؟
فإن تبينتم - ولا بد أن تتبينوا - أن الكثرة في جانب الضعف، فتدبروا ذلك تعلموا أن الله لم يخلق المخلوقات المستضعفة عبثا، وأنه لم يقدر عليها الفناء مذ خلقها ضعيفة كما يفتري أولاة الشر ومستحلو دم البريء، بل وهب لها من إرادة البقاء ما وهب لعامة الأحياء، وتمت فيها هذه الإرادة بالكثرة كما تمت في سواها بالقوة، فالجناية عليها جناية على إرادة البقاء، والسطو على حياتها انتحار في صورة اعتداء.
ولقد سمعتم أمنا الرءوم تناديكم قائلة لكم إننا رضعنا جميعا من لبانها، وإنه إذا نسب الأبناء فكلنا بضعة من جثمانها، وإنها تتألم في أصغر حي إذا مسه الألم، ويشق عليها أن تخرج منه ليستولي عليه العدم. وقالت لكم إن أخذكم الحي أخذ الجماد الذي لا يحفل حالة من حالاته مضيع لمعنى الحياة، حاط من شرفها، فميزوا بين المادة الصماء وإخوانكم في رغبة البقاء.
إن بعضكم ليقلق أحشاءه الجوع ساعة، فما هو إلا أن يساق إليه حيوان ساع نام فينقض عليه فيزهق روحه لينال منه ملء فمه لحما، ثم يتركه جيفة لا حراك بها، وليت هذه الأكلة تغنيه عن الطعام بعدها، ولكنه يفعل ذلك كلما جاع، ويجوع في اليوم مرات، أفمن أجل شبع ساعة تسلبون حياة هي كل ما يملك صاحبها من الوجود؟ أليس هذا أقصى ما تنتهي إليه عبادة الغرض وتحكم الشراهة؟
ولا يقولن متهكم منكم: لشد ما تغار اليمامة على تأييد فلسفة الرحمة بيننا؟ أفإن خلقها الله نسرا أو أسدا أيكون هذا رأيها وهذه غيرتها؟ فأقول لهذا المتهكم: إنني لا أدري ماذا يصير من رأيي لو كنت خلقت نسرا أو أسدا، على أن الذي أتحققه الآن وأؤكده أنه لا نسور الذرى ولا ليوث الشرى ينبغي لها أن تترفع عن فلسفة الرحمة؛ إذ ليس من قدير بئيس فيكم إلا وثم من هو أقدر منه وأشد بأسا، وليس من غالب بالقوة اليوم إلا وهو مغلوب بها غدا، وهب القوة انتهت إلى أحدكم واجتمع له الحول والحيلة، فهل أعطاه الدهر أمانا على نفسه أن لا تقهره الكثرة أو المكيدة يوما، فلا ترعى فيه عهدا لإحسان ولا ذماما لحق؟ وتذره ينادي العدل فلا يجده، ويناشد قاهريه الذمة فلا تنجده، فإذا نسي الرحمة وهو قادر عليها، فبأي وجه يذكر بها سواه وهو محتاج إليها؟
أنا إنما أدعوكم إلى دين سواء بينكم يرضيكم جميعا ولا يظلم منكم أحدا؛ دين يحوطكم بحارس من العدل والحق ويرصد عليكم وازعا من الواجب والضمير، فإن صدكم حارس العدل أو وازع الضمير مرة عن أعدائكم، صدهم ألف مرة عنكم. والعاقل من لم يغتر بيومه وتدبر عواقب أمره؛ ولأن تسمعوا هذا الهتاف مني أجمل بكم من أن تسمعوه من الضرورة القاسرة، وأنتم بحكمها عالمون.
Página desconocida