قال «فرتز» لزوجته والشمس تشرف على الدنيا من وراء خدرها، والكون يمسح عن عينيه سنة الكرى: أما أنا فإني باق هنا لأني أريد أن أصطاد لاستيفن نوعا من السمك قال لي صباح الأمس: إنه يحب أن يكون على مائدته اليوم، واذهبي أنت إليه، وانتظريه حتى يستيقظ، ولا تأخذي معك من الأولاد غير طفلك الرضيع، وأغلب ظني أنه لا يستيقظ من نومه إلا متأخرا، فقد عاد أمس من تلك السفرة التي سافرها إلى «ولفاخ» حزينا مكتئبا كثير الهم والشجن، فسألته عن شأنه فلم يخبرني بشيء، فجلست إليه أحدثه أحاديث مختلفة رجوت أن أسري بها عن نفسه، فلم يصغ إلي، حتى انتصف الليل، فآذنني بالذهاب إلى منزلي، فتركته وهو يعالج النوم فلا يجد سبيلا إليه.
قالت: مسكين هذا الرجل، ما أحسب أن أحدا شقي في هذه الحياة شقاءه، أو لاقى فيها ما لاقاه، والناس يحسبونه سعيدا مغتبطا، ويحسدونه على نعمته وهنائه، قال: نعم، لقد فتك ذلك الغرام القديم بنفسه فتكة لا أحسب أنه بارئ منها أبد الدهر، فوا رحمتاه له، ووا أسفا عليه! اذهبي إليه يا «جوزفين» وانتظري يقظته، واحذري أن يزعجه بكاء طفلك، وربما لحقت بك بعد قليل، فذهبت حاملة طفلها على يدها حتى دنت من باب الحديقة فمرت على مقربة منها مرور البرق امرأة مقنعة في أخلاق رثة مشعثة، تسرع في مشيتها وتتعثر في ذيلها، فعجبت لأمرها، ولكنها لم تحفل بها، ودخلت الحديقة فراعها أن رأت بين يديها في دهليز الباب سفطا صغيرا كأن فيه شيئا يضطرب، فدنت منه فرأت طفلا رضيعا ملففا بثيابه يمتص ثديا صناعية موضوعة بجانبه، فذكرت تلك المرأة التي رأتها منذ لحظة تسرع في مشيتها كالخائفة المذعورة، وقالت في نفسها: إنه طفلها ما من ذلك بد قد أثمت فيه وحاولت التخلص من عاره فألقته هنا.
وهتفت بالبستاني - وكان يعمل في ناحية أخرى من الحديقة - فلباها، فسألته عن السفط، فدهش إذ رآه وقال: إنه لم يره إلا الساعة، فلم تر أن تصنع شيئا دون أن ترى رأي «استيفن»، فذهبت إلى مخدعه وأشرفت عليه فرأته مستيقظا في فراشه، فدعاها حين رآها، فدخلت إليه وقالت له: قد كنت أظن أنك لا تستيقظ اليوم إلا ضحوة النهار، قال: إني لم أنم حتى الساعة، فقصت عليه قصة السفط وأخبرته خبر المرأة المقنعة التي رأتها، ووصفت له حالتها في اضطرابها وتخبلها، فداخله ريب عظيم، ونفض غطاءه عنه نفضا وخرج مسرعا في مباذله حتى بلغ مكان السفط، فرآه ورأى الطفل في مضجعه منه، ورأى بجانبه هنة بيضاء فتأملها فإذا كتاب مختوم، فأخذه وقرأ في عنوانه «من ماجدولين إلى استيفن»، ففضه بسرعة وأمر نظره عليه إمرارا، فلمح بين سطوره كلمة «الموت» فصرخ في وجه «جوزفين» أين ذهبت تلك المرأة التي حدثتني عنها؟ قالت: ذهبت في هذا الطريق، وأشارت إلى طريق النهر! فصرخ صرخة عظيمة وقال: إنها ماجدولين، وإنها قد ذهبت إلى الموت! وألقى الكتاب من يده، وعدا عدوا شديدا حتى أشرف على النهر، فرأى خلقا كثيرا مجتمعين على ضفته، وكلهم يشير إلى الماء بأصبعه، فنظر حيث يشيرون فرأى الغريقة تضطرب في أيدي الأمواج، وتمد يدها ناحية الضفة كالمستغيثة، وكانت الزوبعة ثائرة، والريح تعصف من كل جانب، ورأى صديقه «فرتز» يحتث زورقه إليها لإنقاذها، فأخذ يهتف ويقول: أدركها يا «فرتز»، أنقذها يا صديقي، إنها ماجدولين، ثم نضا ثوبه عنه وهم بإلقاء نفسه في الماء، فأشفق عليه الناس أن يصيبه مكروه فاعترضوا سبيله، فدفعهم عنه دفعا شديدا، واقتحم النهر وظل يسبح وراء الزورق، والموج يدنو منه مرة، وينأى به أخرى حتى بلغه بعد لأي فتشبث به، وكان الزورق قد دنا من مكان الغريقة والغريقة تطفو وترسب، ويتموج شعرها على سطح الماء مرة بعد أخرى.
في هذه الساعة، والقلوب خافقة، والنفوس ذاهلة، والناس يهتفون بالدعاء مرة، ويصرخون صرخات الفزع أخرى، ثارت موجة هائلة حول مكان الغريقة كالطود الشامخ، ولبثت لحظة تعج وتصطخب، فصاح الناس بصوت واحد: رحمتك اللهم وإحسانك، ثم انحسرت فإذا سطح الماء أملس منبسط، وإذا الغريقة لا عين لها ولا أثر.
وما رأى «استيفن» هذا المنظر حتى جن جنونه، وألقى بنفسه في الماء، وغاص حيث غاصت، فاندفع «فرتز» وراءه، وهبط مهبطه، وما زالا يرسبان مرة، ويطفوان أخرى، ويصارعان في هبوطهما وصعودها جبابرة الأمواج صراعا شديدا، ثم انفرج الماء عنهما، فإذا هما صاعدان يحملان الغريقة فوق أيديهما، ولا يعلمان أحية هي أم ميتة؟ وما زالا يسبحان حتى بلغا الضفة فطرحاها، وأكب الناس عليها يتسمعون ضربات قلبها، ويتلمسون أنفاسها، و«استيفن» واقف ناحية يشخص بصره إليها وينتظر قضاء الله فيها، ثم انتبه فإذا القوم جاثون من حولها، وقد رفعوا قبعاتهم عن رءوسهم، وأخذوا يهمهمون بصلواتهم؛ فعلم أن الأمر قد انقضى، فسكن للحادث سكونا عميقا لا تتخلله زفرة ولا أنة، وجثا بجانب الجاثين يصلي بصلاتهم، ويدعو بدعائهم، فأبكى منظره الناس جميعا، وهالهم من سكونه وجموده فوق ما كان يهولهم من جزعه وبكائه، ثم أخذوا ينصرفون واحدا بعد آخر؛ حتى إذا لم يبق منهم أحد نهض «استيفن» من مكانه ومشى إلى الجثة فاحتملها على يده وسار بها إلى المنزل، و«فرتز» يتبعه صامتا، فصعد بها إلى الطبقة العليا ودخل إلى تلك الغرفة الزرقاء فأضجعها على ذلك السرير الذي كان بالأمس سرير عرسها، فأصبح اليوم لحدها الأخير.
وجثا على درجات السرير جثي العابد على درجات الهيكل، وظل على حاله تلك بضع ساعات لا يطرف ولا يتحرك، حتى حلت ساعة الدفن، فنهض من مكانه وأكب على الجثة وكشف الغطاء عن وجهها، وتناول من فمها تلك القبلة التي كانت تحرمها عليه الحياة، حتى أحلها له الموت، ثم سقط مغشيا عليه. (95) من ماجدولين إلى استيفن
ماذا أصنع بالمال من بعدك يا «استيفن»؟ بل ماذا أصنع بالحياة جميعها بعد ما فقدتك، وانقطعت أسباب دنياي من أسباب دنياك؟
كنت أرجو أن أعيش لك وأن أقدم إليك في مستقبل حياتك هناء أفضل من الهناء الذي كنت ترجوه في ماضيك؛ لأكفر بذلك عن سيئتي التي أسلفتها إليك، فحلت بيني وبين ذلك؛ لأنك كنت واجدا علي، وكنت ترى أن لا بد لك من الانتقام لنفسك، فقضيت بذلك علي وعلى نفسك في آن واحد؛ لأني أعلم أنك تحبني، وأنك لا تستطيع أن تهنأ بالحياة من بعدي.
كنت أشعر أن بين جنبي ثروة من الحب تملأ فضاء حياتك هناء ورغدا، وكنت أرى أن في استطاعتي أن أمنحك في كل ساعة من ساعات حياتك من السعادة ما لا تستطيع امرأة في العالم أن تمنحه رجلا في الكثير من الأعوام، ولم أكن أرجو على ذلك أجرا سوى أن أراك سعيدا بين يدي، وأن أعيش بجانبك عيش النبتة الضعيفة بجانب الدوحة العظيمة يفيء عليها ظلها، ويترقرق عليها نسيمها.
لم لم تعف عني يا «استيفن»؟ ووالله ما أحببت أحدا في الحياة غيرك، ولا سكنت نفسي إلى عشرة إنسان سواك، ولم يستطع الرجل الذي نقمت مني بسبب زواجي منه، وحاسبتني عليه حسابا شديدا أن ينتقص ذرة واحدة من ذلك الحب الذي أضمرته لك في قلبي مذ عرفتك، فلو أنك أغضيت عن هفوتي وأذنت لحلمك أن يسع جهلي لوجدت بين يديك فتاة عذراء بقلبها وعواطفها، لم تمسسها يد، ولا عبث لفؤادها عابث، ولا فرق بينها وبين تلك الفتاة القروية الساذجة التي أحببتها في «ولفاخ» حبا جما، وعاهدتها على المحبة والولاء.
Página desconocida