وكان أكبر ما أعانه على هدوئه وسكونه أنه أخذ نفسه بعمل الخير والمعروف، فوجد فيه لذة تفوق لذة تلك الآمال والأحلام، فولع به ولعا شديدا، وأصبح لا يسمع بمنكوب قريب منه أو ناء عنه إلا ذهب إليه وأعانه على نكبته جهد استطاعته، ولا يطرق عليه بابه في دجى الليل أو ضحوة النهار طارق لحاجة من الحاجات إلا أخذ بيده فيها واحتملها في نفسه أو في ماله، واتخذ أسرة صديقه «فرتز» أسرة له، فعالها، وواساها، وخلط نفسه بها، وأصبح أخا لكبيرها، ووالدا لصغيرها، ووجد في نفسه من الأنس بها والاغتباط بعشرتها ما كان يتمنى لنفسه طول حياته أن يكون له بين زوجته وأولاده، وعاد إلى فنه القديم، فن الموسيقى، وكانت قد شغلته عنه تلك الشئون الماضية، فتعهده في نفسه واستحياه، واستجد جميع آلاته وأدواته، فكان إذا جن الليل وخلا بنفسه قام إلى قيثارته فلعب بأوتارها، أو جلس إلى البيانو فوقع عليه بعض الألحان القديمة أو الحديثة توقيعا يجيد فيه إجادة لا عهد له بمثلها من قبل، فقد صقلت تلك الآلام الماضية التي كابدها في حياته صفحة نفسه وأنارتها، وملأتها شعورا ووجدانا، وسمت بها إلى سماء فوق سمائها الأولى، فتجلت بجلالها ورونقها في نبرات صوته حين يتنغم، وحركات أنامله حين يوقع، وما هي إلا أيام قلائل حتى ارتقى به الأمر إلى منزلة الابتكار، فوضع ألحانا جديدة محزنة كانت تنفجر من ذلك القلب المصدوع تفجر المياه الصافية من صدوع الأحجار، فتنساب في أفئدة البائسين والمحزونين، وتتغلغل في أعماق قلوبهم حتى تبلغ سويداءها.
وما كان «استيفن» عالما من علماء الموسيقى، ولا حافظا من كبار حفاظها، ولا كان نصيبه من الإلمام بقواعدها وأصولها أكثر من نصيب زملائه ولداته، ولكنه كان ذا قلب، والقلب هو الينبوع الثجاج الذي يتفجر منه الشعر والموسيقى وسائر الفنون الأدبية، وليس أشعر الشعراء أحفظهم لقواعد اللغة وقوانينها، بل أدقهم شعورا وألطفهم حسا، وليس أفضل المغنيين أعلمهم بفنون النغم، وضروب الإيقاع، بل أنطقهم قلبا وأفصحهم فؤادا، وما ملك نوابغ الممثلين أفئدة الناس وقلوبهم في مواقف تمثيلهم، ولا استدروا دموع الباكين من محاجرها، إلا لأن لهم قلوبا حزينة متفجعة تتأثر بصور الوقائع التي يمثلونها؛ فإذا بكوا صدقوا في بكائهم، وإذا تفجعوا تفجعوا بقلوبهم، ولا يفهم لغة القلب غير القلب ولا يشعر بسر النفس غير النفس، ورب أنة بسيطة ساذجة يسمعها السامع في جوف الليل من ثاكل منكوب تأخذ من نفسه ما لا تأخذه قطعة شعرية بليغة مملوءة بغرائب المعاني وبدائع التصورات، ينظمها شاعر غير باك ويغنيها مغن غير محزون، وما قواعد الشعر والموسيقى والرسم والتصوير إلا حدود يتقي بها المقلدون المحتذون الوقوع في الخطأ الفني، أما الملهمون فما أغناهم برقة وجدانهم ولطف حسهم وصفاء نفوسهم وسلامة طباعهم عن التمثل والاحتذاء. (74) من ماجدولين إلى سوزان
كنت أرجو أن تطول عشرتنا في «كوبلانس» أكثر مما طالت، وألا يفرق بيني وبينك إلا الموت، ولكن هكذا أراد زوجك أن يطوي بك هذه المرحلة البعيدة، وأن يحرمني أعز صديقة كنت لا أجد لذة العيش إلا بجوارها، ولا أستسيغ طعم الحياة إلا معها، ولعلك هانئة في موطنك الجديد كما كنت هانئة في «كوبلانس».
أنا سعيدة والحمد لله، لا أشكو شيئا غير فراقك، وحرماني رؤيتك، و«إدوار» لا يزال يحبني وينزل عند رغباتي، ويتفقد جميع مرافقي وحاجاتي، فله الشكر على ذلك.
لا أكتمك يا «سوزان» أني كنت أشعر في نفسي ببعض الحزن على ذلك الفتى المسكين الذي لقي في سبيلي ذلك الشقاء العظيم الذي تعلمينه، ولقد سررت اليوم سرورا عظيما حينما علمت من أخباره أنه قد نسي ذلك الماضي جميعه خيره وشره، وأنه قد عاد إلى رشده وصوابه، ونزع عن تلك التصورات الغريبة والخيالات السوداء التي كانت تخالط عقله، وتذهب براحته وسكونه، وأصبح يأنس بالناس ويشعر بلذة المخالطة والاجتماع، ويعيش في بيته الذي بناه في «جوتنج» عيشا هادئا ساكنا لا يمازجه حزن ولا كدر، بل سمعت عنه ما هو أكثر من ذلك، وهو أنه يشتغل بفن الموسيقى اشتغالا يستغرق جميع مشاعره وعواطفه، وأنه قد برع فيه براعة غريبة لا يبلغ مبلغه فيها إلا القليل من الناس، ويقول الذين حدثوني حديثه إن شأنه في ذلك الفن سيكون شأنا عظيما، وربما بلغ فيه بعد قليل من الأعوام مبلغ النابهين من نوابغه وأفذاذه، فحمدت الله على ذلك حمدا كثيرا؛ لأني كنت أشعر في أعماق نفسي بالحزن عليه والرثاء له، بل بالنقمة على الدهر من أجله، وكان يخيل إلي أنه لو مات في سبيله هذه لتنغص علي عيشي، ولقضيت بقية أيام حياتي محزونة النفس، موحشة القلب حتى يوافيني أجلي.
اكتبي إلي كثيرا يا «سوزان» وحدثيني عن كل ما يحيط بك من الأشياء، ذلك ما يعزيني عن فراقك بعض العزاء. (75) من ماجدولين إلى سوزان
أنعي إليك مع الأسف والدي، فقد مات رحمة الله عليه بعد مرض لازمه خمسة أشهر، وكنت قائمة بتمريضه كل هذه المدة في «ولفاخ» حتى مضى لرحمة ربه، ولم أعد إلى «كوبلانس» إلا منذ أيام قلائل، وهذا ما حال بيني وبين الرد على كتبك التي أرسلتها إلي، فسامحيني في تقصيري، وابكي معي ذلك الأب البر الرحيم الذي أحبني في حياته فوق ما يحب الآباء أبناءهم، ومات وهو لا يأسف على فقد شيء في الدنيا سواي، ولقد كنت لأسمع قبل اليوم أن الفتاة الثاكل لا تبكي أباها وهي متزوجة كما تبكيه وهي عذراء، فأرتاب في ذلك ارتيابا كثيرا، حتى مات أبي فبكيته بكاء لا تبكيه متزوجة ولا عذراء، فرحمة الله عليه وعلى أيامه الغر الحسان، وعلى نفسه الطاهرة.
ولقد عزاني عن فقده بعض العزاء أن كثيرا من صواحبي وأصحاب زوجي كتبوا إلي كتب تعزية رقيقة حملت عن نفسي بعض همومها وأشجانها، والذي عجبت له كل العجب وملأ نفسي دهشة وحيرة أني وجدت بين تلك الكتب كتابا من «استيفن» أرسله إلي من «جوتنج» يعزيني فيه أجمل تعزية وأرقها، ويتفجع فيه على الميت تفجعا عظيما، ويخاطبني بتلك اللهجة التي لا يخاطب بها المرء إلا أكرم أصدقائه عليه، وآثرهم عنده، فعجبت لأمره كثيرا وقلت في نفسي: إن كان الرجل لا يزال يضمر لي في قلبه حتى اليوم بقية من ذلك الإجلال القديم بعد الذي كان بيني وبينه، فهو أكرم الناس خلقا، وأشرفهم نفسا، وأعلاهم همة، على أن الذي سرني في عمله هذا أكثر من كل شيء أنه قد غفر لذلك الشيخ المسكين تلك الإساءة التي كان يظن أنه أسلفها إليه، فمضى لربه طاهر النفس، نقي الصحيفة، لا يحمل تبعة، ولا يجر وراءه إثما.
ألا تعجبين معي يا «سوزان» لهذا الإنسان الغريب الذي كنا نتهمه بالأمس في عقله، وننزل به إلى مرتبة المخالطين الممرورين الذين لا يصلحون لشأن من شئون الحياة كيف استحالت حاله، وهدأت ثوره نفسه، وأصبح رجلا كريما مهذبا، عاملا مستقيما، طيب السريرة والنفس، لا يحقد ولا يضطغن، ولا يأبى أن يغفر الذنب الذي لا يغفره أحد، وينسى الإساءة التي لا ينساها إنسان؟! أهديك يا «سوزان» تحيتي، وبلغي «فردريك» تحيتي وتحية «إدوار». (76) من ماجدولين إلى سوزان
لم تكتبي إلي يا «سوزان» منذ ثلاثة أشهر إلا كتابا واحدا لا يزيد على خمسة أسطر، وهو قليل لا يقنعني منك، فإن لم تكتبي إلي لتعزيتي وتسرية هموم نفسي فاكتبي إلي لأعلم أنك سعيدة هانئة في موطنك الجديد.
Página desconocida