مفاتيح الغيب
مفاتيح الغيب
Editorial
دار إحياء التراث العربي
Número de edición
الثالثة
Año de publicación
١٤٢٠ هـ
Ubicación del editor
بيروت
Géneros
Exégesis
تَعَالَى سَلَّطَ الشَّيْطَانَ عَلَى الْبَشَرِ وَلَمْ يُسَلِّطْ عَلَى الشَّيْطَانِ شَيْطَانًا آخَرَ فَهَذَا حَيْفٌ عَلَى الْبَشَرِ، وَتَخْصِيصٌ لَهُ بِمَزِيدِ الثِّقَلِ وَالْإِضْرَارِ وَذَلِكَ ينافي كون الإله رحيما ناصر لِعِبَادِهِ.
الْوَجْهُ الْخَامِسُ: أَنَّ الْفِعْلَ الْمُسْتَعَاذَ مِنْهُ إِنْ كَانَ مَعْلُومَ الْوُقُوعِ فَهُوَ وَاجِبُ الْوُقُوعِ، فَلَا فَائِدَةَ فِي الِاسْتِعَاذَةِ مِنْهُ. وَإِنْ كَانَ غَيْرَ مَعْلُومِ الْوُقُوعِ كَانَ مُمْتَنِعَ الْوُقُوعِ، فَلَا فَائِدَةَ فِي الِاسْتِعَاذَةِ مِنْهُ.
وَاعْلَمْ أَنَّ هَذِهِ الْمُنَاظَرَةَ تَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَا حَقِيقَةَ لِقَوْلِهِ: (أَعُوذُ بِاللَّهِ) إِلَّا أَنْ يَنْكَشِفَ لِلْعَبْدِ أَنَّ الْكُلَّ مِنَ اللَّهِ وَبِاللَّهِ، وَحَاصِلُ الْكَلَامِ فِيهِ مَا
قَالَهُ الرَّسُولُ ﷺ: «أَعُوذُ بِرِضَاكَ مِنْ سَخَطِكَ، وَأَعُوذُ بِعَفْوِكَ مِنْ غَضَبِكَ، وَأَعُوذُ بِكَ مِنْكَ لَا أُحْصِي ثَنَاءً عليك أنت كما أثنيت على نفسك» .
المستعاذ به:
الرُّكْنُ الثَّانِي: الْمُسْتَعَاذُ بِهِ: وَاعْلَمْ أَنَّ هَذَا وَرَدَ فِي الْقُرْآنِ وَالْأَخْبَارِ عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يُقَالَ: (أَعُوذُ بِاللَّهِ) وَالثَّانِي: أَنْ يُقَالَ:
(أَعُوذُ بِكَلِمَاتِ اللَّهِ)
أَمَّا قَوْلُهُ أَعُوذُ بِاللَّهِ فَبَيَانُهُ إِنَّمَا يَتِمُّ بِالْبَحْثِ عَنْ لَفْظَةِ اللَّهِ وَسَيَأْتِي ذَلِكَ فِي تَفْسِيرِ بِسْمِ اللَّهِ وَأَمَّا
قَوْلُهُ: (أَعُوذُ بِكَلِمَاتِ اللَّهِ التَّامَّاتِ)
فَاعْلَمْ أَنَّ الْمُرَادَ بِكَلِمَاتِ اللَّهِ هُوَ قَوْلُهُ تَعَالَى: إِنَّما قَوْلُنا لِشَيْءٍ إِذا أَرَدْناهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ [النَّحْلِ: ٤٠] وَالْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ «كُنْ» نَفَاذُ قُدْرَتِهِ فِي الْمُمْكِنَاتِ، وَسَرَيَانُ مَشِيئَتِهِ فِي الْكَائِنَاتِ، بِحَيْثُ يَمْتَنِعُ أَنْ يَعْرِضَ لَهُ عَائِقٌ وَمَانِعٌ، وَلَا شَكَّ أَنَّهُ لَا تَحْسُنُ الِاسْتِعَاذَةُ بِاللَّهِ إِلَّا لِكَوْنِهِ مَوْصُوفًا بِتِلْكَ الْقُدْرَةِ الْقَاهِرَةِ وَالْمَشِيئَةِ النَّافِذَةِ، وَأَيْضًا فَالْجُسْمَانِيَّاتُ لَا يَكُونُ حُدُوثُهَا إِلَّا عَلَى سَبِيلِ الْحَرَكَةِ، وَالْخُرُوجِ/ مِنَ الْقُوَّةِ إِلَى الْفِعْلِ يَسِيرًا يَسِيرًا، وَأَمَّا الرُّوحَانِيَّاتُ فَإِنَّمَا يَحْصُلُ تَكَوُّنُهَا وَخُرُوجُهَا إِلَى الْفِعْلِ دَفْعَةً، وَمَتَى كَانَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ كَانَ حُدُوثُهَا شَبِيهًا بِحُدُوثِ الْحَرْفِ الَّذِي لَا يُوجَدُ إِلَّا فِي الْآنِ الَّذِي لَا يَنْقَسِمُ، فَلِهَذِهِ الْمُشَابَهَةِ سُمِّيَتْ نَفَاذُ قُدْرَتِهِ بِالْكَلِمَةِ، وَأَيْضًا ثَبَتَ فِي عِلْمِ الْمَعْقُولَاتِ أَنَّ عَالَمَ الْأَرْوَاحِ مُسْتَوْلٍ عَلَى عَالَمِ الْأَجْسَامِ، وَإِنَّمَا هِيَ الْمُدَبِّرَاتُ لِأُمُورِ هَذَا الْعَالَمِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: فَالْمُدَبِّراتِ أَمْرًا [النَّازِعَاتِ: ٥]
فَقَوْلُهُ: (أَعُوذُ بِكَلِمَاتِ اللَّهِ التَّامَّاتِ)
اسْتِعَاذَةٌ مِنَ الْأَرْوَاحِ الْبَشَرِيَّةِ بِالْأَرْوَاحِ الْعَالِيَةِ الْمُقَدَّسَةِ الطَّاهِرَةِ الطَّيِّبَةِ فِي دَفْعِ شُرُورِ الْأَرْوَاحِ الْخَبِيثَةِ الظَّلْمَانِيَّةِ الْكَدِرَةِ، فَالْمُرَادُ بِكَلِمَاتِ اللَّهِ التَّامَّاتِ تِلْكَ الْأَرْوَاحُ الْعَالِيَةُ الطَّاهِرَةُ.
ثُمَّ هاهنا دَقِيقَةٌ، وَهِيَ أَنَّ
قَوْلَهُ: (أَعُوذُ بِكَلِمَاتِ اللَّهِ التَّامَّاتِ)
إِنَّمَا يَحْسُنُ ذِكْرُهُ إِذَا كَانَ قَدْ بَقِيَ فِي نَظَرِهِ الْتِفَاتٌ إِلَى غَيْرِ اللَّهِ، وَأَمَّا إِذَا تَغَلْغَلَ فِي بَحْرِ التَّوْحِيدِ، وَتَوَغَّلَ فِي قَعْرِ الْحَقَائِقِ وَصَارَ بِحَيْثُ لَا يَرَى فِي الْوُجُودِ أَحَدًا إِلَّا اللَّهَ تَعَالَى، لَمْ يَسْتَعِذْ إِلَّا بِاللَّهِ، وَلَمْ يَلْتَجِئْ إِلَّا إِلَى اللَّهِ، وَلَمْ يُعَوِّلْ إِلَّا عَلَى اللَّهِ، فَلَا جَرَمَ يَقُولُ: (أَعُوذُ بِاللَّهِ) وَ(أَعُوذُ مِنَ اللَّهِ بِاللَّهِ) كَمَا
قَالَ ﵇ «وَأَعُوذُ بِكَ مِنْكَ»
وَاعْلَمْ أَنَّ فِي هَذَا الْمَقَامِ يَكُونُ الْعَبْدُ مُشْتَغِلًا أَيْضًا بِغَيْرِ اللَّهِ لِأَنَّ الِاسْتِعَاذَةَ لَا بُدَّ وَأَنْ تَكُونَ لِطَلَبٍ أَوْ لِهَرَبٍ، وَذَلِكَ اشْتِغَالٌ بِغَيْرِ اللَّهِ تَعَالَى، فَإِذَا تَرَقَّى الْعَبْدُ عَنْ هَذَا الْمَقَامِ وَفَنِيَ عَنْ نَفْسِهِ وَفَنِيَ أَيْضًا عَنْ فَنَائِهِ عَنْ نَفْسِهِ فَهَهُنَا يَتَرَقَّى عَنْ مَقَامِ قَوْلِهِ أَعُوذُ بِاللَّهِ وَيَصِيرُ مُسْتَغْرِقًا فِي نُورِ قَوْلِهِ: (بِسْمِ اللَّهِ) أَلَا تَرَى
أَنَّهُ ﵇ لَمَّا قَالَ: «وَأَعُوذُ بِكَ مِنْكَ» تَرَقَّى عَنْ هَذَا الْمَقَامِ فقال: «أنت كما أثنيت على نفسك» .
المستعيذ:
الرُّكْنُ الثَّالِثُ: مِنْ أَرْكَانِ هَذَا الْبَابِ: الْمُسْتَعِيذُ: وَاعْلَمْ أَنَّ قَوْلَهُ (أَعُوذُ بِاللَّهِ) أَمْرٌ مِنْهُ لِعِبَادِهِ أَنْ يَقُولُوا ذَلِكَ،
1 / 76