قد يقول القارئ: ولكن الشر قوة هائلة وطاغية، وهو لا يمكن أن يختفي من الوجود؛ لأنه كامن في طبيعة الوجود، والحق أن الشر قوة لا يمكن إنكارها، فنحن نلتقي ببشاعتها كل يوم، غير أن الصراع مع هذه القوة البشعة - بالمقاومة حينا وبالهجوم حينا آخر - هو - على التحديد - وظيفة الشجاعة، بل إن وجود الشجاعة نفسها - كما يقول القديس أوغسطين - هو الدليل الصريح على وجود الشر،
5
وإقدام الشجاع على محاربة الشر على اختلاف ألوانه وباختلاف البلاد والعصور، هو كذلك دليل على أنه قوة يمكن أن تهزم، وقد يكون صحيحا أن هذه الهزيمة لن تكون مطلقة، ولكن الشجاعة لا بد أن تحاول الانتصار عليها في كل مرة؛ لأن هذا الانتصار لن يكون بدوره انتصارا مطلقا.
هل نكون بهذا قد أفسحنا المجال لنوع جديد من الشجاعة، لعله لم يكن معروفا في غير هذا الزمان؟ إن الشجاع الذي يستشهد من أجل مبدأ أو عقيدة يحس يقينا أن موته لن ينصر هذه العقيدة أو ذلك المبدأ نصرا مطلقا، ومع ذلك فإن لديه من التفاؤل والثقة ما يدفعه على الإيمان بأن موته سيساهم في هذا النصر المؤكد الذي لا يشك في أنه آت حتما في زمان قريب أو بعيد.
ولكن ما حال ذلك الذي يدخل في معركة مع عدو يعرف سلفا أنه لا يقبل الهزيمة، وأنه وإن أفلح في نزع أظافره فلن يفلح في أن ينزع عنه الحياة؟ ألم يكن الأجدر به - وهو يحارب هذا العدو الذي لا يهزم - أن يوفر على نفسه عناء الدخول معه في معركة؟ أهناك معنى لدمه المسفوك وهو يعلم أنه يبذله بغير طائل؟ نعم، ذلك نوع من الشجاعة لم تعرفه عصور الشهداء في مختلف العقائد والمذاهب والأديان، إنها شجاعة يمكن أن نسميها الشجاعة اليائسة، فهي تتحدى وتحارب وتستشهد وتعلم أن هذا كله لا معنى له؛ لأن الوجود كله عبث ولا معنى له أيضا! وهي على العكس من كل ألوان الشجاعة التي عرفتها الإنسانية من قبل، متشائمة متجهمة الوجه، تقبل على الموت ثابتة العينين مزمومة الشفتين، مؤمنة بأن مغامرة الإنسان كلها باطلة، إنها تدخل المعركة وكفى، لا تبتسم ولا تغني ولا تحلم بتاج النصر، وإنما تقدم لأنه لا بد من الإقدام، وتدخل الحرب لأن العدو ينبغي أن يحارب مهما كانت النتيجة، ربما لأنه ليس هناك أمل في القضاء عليه، وربما لأنه ليس هناك أمل في أي شيء على الإطلاق! ولأنها لا تريد أن تثبت شيئا أو تؤكد مبدأ أو تنصر عقيدة ، فكل هذه كلمات ضخمة لا تساوي لحظة التفكير فيها، ما الذي يدفعها إلى هذه التضحية اليائسة؟ ما الذي يدعوها إلى إسالة الدم المهدور؟ لا شيء أيضا، فالنفي هنا أو العدم يطغى على كل شيء، ومع ذلك فلعله شيء يمكن أن نسميه كبرياء القلق أو عذاب الضمير أو غريزة المغامرة المتجددة، مهما تكن هذه المغامرة فاشلة أو عقيمة، ولعلها أخيرا الرغبة في تأكيد أن الإنسان الذي يعرف أن الموت لا مفر منه يريد كذلك أن يؤكد لهذا الموت نفسه أنه يرفض الاستسلام له، وأنه لن يموت إلا واقفا على قدميه! كبرياء وتحد وعناد، لن تخلو في الحقيقة من روح التفاؤل العظيم ونبل البطولة المعذبة!
ولكن لنترك هذه الشجاعة اليائسة جانبا، ولنعد إلى سؤالنا الأول عمن هو الشجاع؟
الشجاع يرضى أن يصاب بالجراح، لا بل قد يرحب بها ويذهب إلى حد أن يعانق الموت نفسه، ولكن هل يرحب بالجرح أو الموت لذاتهما أم أن وراءهما شيئا يهون في سبيله الموت كما تهون الجراح؟!
هنا ستختلف الآراء بسبب اختلافها في مفهوم الشجاعة؛ فهي ليست شيئا مطلقا، أو معلقا في الفراغ، بل هي دائما شجاعة من أجل هدف نريد تحقيقه، فالقديس توماس الأكويني مثلا يقول: «من أجل الخير يعرض الشجاع نفسه لخطر الموت»، وكذلك سيقول كل من يفهم الهدف من الحياة فهما دينيا أو أخلاقيا، فهو لا يرحب بالموت لذاته، بل يسلم به حين يكون هو الطريق الوحيد إلى الخير، غير أن هذا يفترض بدوره أن يعرف الشجاع ما هو الخير، وأن تكون شجاعته في سبيل تحقيقه، وسواء بعد ذلك أن نصف هذا الخير بأنه معرفة حقيقة الوجود أو تحقيق المجتمع الأفضل أو رفع الظلم عن المظلومين ... إلخ. ومن ثم فإن في استطاعتنا أن نقول: إن الشجاعة - وإن كانت تتطلب أعظم التضحيات - ليست هي أولى الفضائل ولا أعظمها، إنها بطبيعتها تردنا إلى فضيلتين سابقتين تتلقى منهما معناها وحقيقتها، ألا وهما الذكاء والعدالة، فبغير الذكاء والعدالة لا توجد الشجاعة، والذكي العادل هو الذي يستطيع وحده أن يكون شجاعا، «وليس عجيبا بعد ذلك أن نجد المسيحية ترتب الفضائل الأساسية هذا الترتيب: الذكاء فالعدالة فالشجاعة فالاعتدال.»
6
أما الذكاء، فلا صلة له بما نفهمه اليوم تحت هذه الكلمة من معاني «الشطارة» و«الدهاء» و«الفهلوة»؛ فليست هذه إلا حيلا يحتال بها الجبناء لتفادي الخطر وتحقيق أكبر قدر ممكن من المنفعة، لا بل إن الذكاء بهذا المعنى أقرب ما يكون إلى الغباء والأنانية، أما الذكاء الذي نقصده ونجعله شرطا لا غنى عنه للشجاعة فهو تلك الحكمة التي تجعل الإنسان يفهم كل شيء على حقيقته، وينظم سلوكه ومعرفته على أساس هذا الفهم الموضوعي للواقع؛ فالذكاء يعكس حقيقة الأشياء الموجودة من ناحية، كما يعكس «خيرية» السلوك من ناحية أخرى، أو لعل الأفضل أن نقول: إنه يترجم المعرفة بحقيقة الأشياء إلى السلوك الطيب الخير في الحياة، وهو يعد بهذا المعنى أب الفضائل جميعا، أو هو صورتها الباطنة، كما تكون النفس هي الصورة الباطنة للجسد. والشجاع مطالب بأن يكون ذكيا، أعني أن تكون لديه المعرفة بحقيقة الأشياء، وبالسلوك الخير الذي يطابق هذه المعرفة، فالذكاء هو الذي «يخبر» الشجاعة أو ينقل المعرفة إليها، وإذا كان يبصرنا بالخير في الواقع والسلوك، وكانت العدالة تسهر على تحقيق هذا الخير؛ فإن الشجاعة هي التي تحميه أو تمهد الطريق لتحقيقه؛ ولذلك لا يكون الشجاع شجاعا حين يركب رأسه ويعرض نفسه لكل ما هب ودب من الأخطار، وإلا لكان معنى هذا التهور الأعمى أن الحرص على حياته لا يساوي في قيمته ذلك الشيء أو تلك الأشياء التي يقدم عليها بغير ترو. إن الشجاعة الحقة تفرض نوعا من المعرفة والبصيرة والتقدير الصحيح للشيء الذي نضحي به وللشيء الذي نريد أن نصونه ونبقي عليه بهذه التضحية؛ ولذلك فلا يستطيع أحد أن يقول: إن دون كيشوت شجاع حين يهجم على طواحين الهواء ظنا منه أنها أرواح شريرة أو شياطين، فبقدر إعجابنا بمغامرته الهائلة يكون أسفنا للاندفاع الأعمى الذي يصحبها، وللآلام البشعة التي يقاسيها الفارس الحزين!
Página desconocida