12
سؤال الفيلسوف يتجه إذن إلى ما نراه وما نألفه كل يوم، وإذا بهذا الشيء يشف أمام أعيننا، وكأننا نفتحها عليه لأول مرة، ويفقد ألفته ليكشف عن وجه غريب وعميق معا. إن سقراط الذي يعرف كيف يسأل فيسلب الأشياء وضوحها الموهوم كما يسلب المسئول يقينه المزعوم يشبه نفسه بالسمكة الرعاشة، تصيب ضربته بالذهول والاندهاش كل من يستمع إليه، في كل يوم نقول هذا «صديقي»، هذا «بيتي» أو هذا «مالي»، ولكن ما من أحد يسأل نفسه ما هو «الملك»؟ وما معنى أن «أملك» شيئا؟ وهل يمكن لإنسان أن يملك هذه الأشياء؟ أو هل يمكن أن يمتلك شيئا على الإطلاق؟ هل من الأمور الواضحة بذاتها أن أوجد وأرى وأولد وأموت؟ هل بلغت معرفتي بهذا كله من اليقين مبلغا لا أملك معه الشك فيها؟ وهل يمكن أن يوجد شيء لا يحتمل الشك والسؤال؟ أليس في هذا كله ما يحمل على الدهشة؟!
الفلسفة ابتعاد وغربة، لا عما نراه ونحس به كل يوم من ناس أو أشياء، بل عن تفسيراتنا السائدة لها، عن قيمها التي نسلم بها كل يوم، لا لأننا نهوى الشك والهدم أو نريد أن نشذ فنفكر غير ما يفكر سائر الناس، بل لأن الأشياء نفسها تكشف لنا فجأة عن وجه جديد لم نألفه من قبل، ولأن ما اعتدناه كل يوم يصبح في لحظة واحدة غير عادي ولا يومي ولا واضح بذاته. إن الوجه العادي يختفي فجأة ليظهر مكانه وجه الواقع على حقيقته، ولا يحدث شيء من هذا حتى يجري في أنفسنا شيء آخر ارتبط بمبدأ التفلسف من قديم، ذلك هو الدهشة: «نعم، بحق الآلهة يا سقراط العزيز، إنني لا أستطيع أن أنتزع نفسي من الدهشة من معنى هذه الأشياء، وفي بعض الأحيان يكاد يصيبني الإغماء من مجرد النظر إليها.» بهذه الكلمات يهتف الرياضي الشاب ثيايتيتوس في وجه سقراط، بعد أن يستدرجه هذا الذكي الساخر الرحيم بالكلام حتى يعترف بجهله ويسلم بحيرته، ويجيب سقراط: «أجل، إن هذه الحال نفسها هي التي تميز الفيلسوف، هذا ولا شيء غيره هو أصل الفلسفة.»
13
بهذا المرح المشرق الوديع يعبر سقراط عن الحقيقة التي دخلت الفلسفة من قديم كما دخلت ضمير كل إنسان يفكر، ولن تخرج منهما أبدا، ليس من قبيل الصدفة أن يبدأ الفكر الفلسفي بهذه العبارة: «الدهشة أصل الفلسفة»، وأن يكتب ديكارت عبارة قريبة منها على باب الفلسفة الحديثة تقول: «الشك أصل الفلسفة»، ولم يكن لشيء من ذلك أن يحدث لو لم يكن بين الدهشة والشك ما بينهما من قرابة وجوار، كانت طريقة سقراط أن يثير في صاحبه الدهشة بالنسبة لكل ما يعتقد في وضوحه وما يسلم به تسليما أعمى، وكانت طريقة ديكارت أن يحملنا على الشك في كل ما آمنا به في الفلسفة وما ورثناه بالتسليم والتصديق، تمهيدا للبحث عن أساس سليم أو عن «صخرة لا تتزعزع» تقيم عليها بناء الفلسفة من جديد، الشيء الرئيسي إذن في الحالين هو الإرباك، على نحو ما يقول هيجل: «إنه الإرباك الذي ينبغي لكل فلسفة أن تبدأ به. إن على الإنسان أن يشك في كل شيء، ويتخلى عن كل ما افترضه من قبل؛ لكي يحافظ عليه من بعد شيئا ناتجا من خلال التصور.»
14
في الدهشة كما في الشك يحار الفكر مع نفسه، هذه الحيرة هي الدفعة التي لا بد منها لكي يكون فكر على الإطلاق، وهي الدفعة التي لا بد منها لكي يستيقظ هذا الفكر ويجرب أن «العالم» أعظم وأعمق وأغنى بالأسرار مما توحي به حياته اليومية، وأن الوجود بما هو وجود غني بالأسرار، لا بل هو السر نفسه؛ لأنه غني بالتناقض والمشقة والغموض بالنسبة للإنسان، بل لأن معين أسراره لا ينفد، ومنبع نوره لا يغيض.
في الدهشة تصمت الحياة اليومية - ولو للحظة واحدة - لنرى «الحياة». ترفع الموجودات قناعها اليومي لتكشف عن وجه «الوجود»، ولكن ما الذي يدهشنا حين نندهش، فيصيبنا الذهول ونتجمد كما لو كنا نجلس مع سقراط؟ ليس للمدهش صلة بالغريب المثير غير المعتاد، فمن كان في حاجة إلى شيء يثيره ليبعث الدهشة في نفسه، شيء لم تره عين ولا سمعت به أذن كما يقال، فقد كل حاسة للاندهاش، أعني ذلك الاندهاش الحق من معجزة الوجود؛ فالدهشة التي تستثيرها عجيبة لا تحدث كل يوم ما زالت هي نفسها في حاجة إلى دهشة حقيقية تخلصها من قيد كل يوم، دهشة تجعل الإنسان يرى المدهش فيما يألف، والغريب فيما اعتاد، والمعجزة فيما تقع عليه عيناه كل يوم؛ هنالك يعرف وهو في الحقيقة لا يعرف شيئا، هنالك يبدأ فعل التفلسف، ومعه يبدأ القلق والخطر؛ الجزيرة الآمنة لا تعود آمنة، الواحة السعيدة تصبح مسكنا للشقاء، هنا يقترب الفعل الفلسفي من الفعل الشعري؛ فالفيلسوف والشاعر كلاهما يرى العالم وكأنه يراه لأول مرة، وكلاهما يتصل موضوعه بما يبعث الإنسان على الدهشة وما يطالبه بها، ولعل هذا هو الذي جعل توماس الأكويني في تعليقه على ميتافيزيقا أرسطو يقول: «أما السبب الذي من أجله يقارن الفيلسوف نفسه بالشاعر فهو أن المدهش هو موضوع كليهما.»
15
أما الفيلسوف فقد عرفنا ما قاله على لسان أفلاطون، وأما الشاعر فيقول جوته في نهاية قصيدة صغيرة بعنوان «بارابازة»
Página desconocida