ولما حارب إبراهيم باشا الدروز كما مر واعتقل بعض أعيانهم وأرسلهم إلى مصر مثل سعيد بك جنبلاط وملحم بك العماد وملحم بك حمادة وغيرهم ممن التجأ إلى الأستانة؛ أجمع الدروز على مقاومة إبراهيم باشا، وكان قد أرهقهم بأخذ سلاحهم وتجنيدهم مرارا وأوغرت صدرهم إعادته أربعة آلاف بندقية (بارودة) للمسيحيين؛ بل للموارنة بعد أن كان جمعها منهم، وحسبوا أنه بذلك سيقوي المسيحيين عليهم ويضعفهم، فيفتكون بهم فصاروا يثيرون المسيحيين على المصريين. وما صدر أمر الوزير بإرجاع البنادق الأربعة آلاف إلى المسيحيين حتى جاء من أبيه الأمر بجمعها منهم. فتكدر أهل دير القمر وغيرهم، وتجمهر اللبنانيون من دروز ومسيحيين، وعصوا بأسلحتهم قاصدين حرب المصريين، وهي الحرب المعروف «بالعامية»، إذ اشترك فيها عامة المسيحيين والدروز واتفقوا يدا واحدة على محاربة إبراهيم باشا، وكان ذلك في شهر أيار سنة 1840م. فانقسموا أربع فرق (كاشات)، ونصبوا عليهم قائدا عاما (سر عسكر) الشيخ فرنسيس أبا نادر الخازن. واشتهر بهذه الحرب يوسف الشنتيري وأبو سمرا غانم من المسيحيين وأحمد داغر الشيعي (المتوالي) من برج البراجنة بظاهر بيروت، وكان قوادهم من الأمراء الشهابيين واللمعيين والمشايخ الإقطاعيين وغيرهم، وكانت الفرقة (الكاشة) الرابعة قرب زحلة بقيادة الأمير علي بن الأمير أحمد قيدبيه، وانضم إليها الأمير خنجر الحرفوشي برجاله، فسلبوا ذخيرة العسكر المصري الذاهبة إلى صيداء، وجاء عثمان باشا المصري بعساكره إلى المعلقة، وكان زعماء الحركة (العامية) الأمراء الشهابيون واللمعيون ومشايخ الموارنة، وكانت الدولة العثمانية قد أرسلت السر ريتشرد وود الإنكليزي الشهير معتمدا لطرد المصريين، فأثار ضرام هذه الحرب، وبقيت من منتصف أيار إلى أواخر تموز من سنة 1840. (7) موقعة شتوره
ومن المواقع التي حدثت في جوار زحلة في أثناء الحرب (العامية) اللبنانية. موقعة «شتوره» التي انقض فيها نحو ستة عشر ألفا من الجنود المصرية المدربة على ألف ومائتين من اللبنانيين وأصلوهم نارا حامية، وهجم الهنادي عليهم بالسيوف (الشلفات)، وأعملوا فيهم شفارها الحادة. فجندلوا كثيرا من القتلى. وكان عثمان باشا قائدهم قد نصب المدافع على إحدى التلال المشرفة على شتوره وأمطرهم بقنابلها. فقتل نحو مائة وعشرين وثار ثائر العسكر المصري وتعقبهم وعاث في لبنان.
أما الزحليون فلم يدخلوا في الحرب (العامية)؛ ولذلك لم يحضروا موقعة شتوره؛ لأن الأمير بشير الكبير كان قد أرسل إليهم الشيخ رشيد غالب الدحداح لإقناعهم، وخشوا من فتك إبراهيم باشا المخيم بعساكره بين ظهرانيهم، ومع ذلك فإنهم أغضبوا اللبنانيين المسيحيين والدروز والدولة المصرية. وكان فضول قرقماز من كسروان شيخا في زحلة من قبل الأمير بعد الشيخ وردان الخازن المار ذكره، فنسب إليه اللبنانيون الخيانة بإقناع الزحليين لعدم الدخول في الحرب (العامية) فقصدوا قتله، ففر إلى «قعفرين» فوق زحلة قرب منبع نهرها البردوني فقتلوه هناك.
وهكذا اضطرب حبل الدولة المصرية في سورية، واتفقت دول إنكلترة وروسية وبروسية والنمسة مع الدولة العثمانية بموجب معاهدة «لندن» بتاريخ 15 تموز سنة 1840 على طرد الحكومة المصرية من سورية. وكان إبراهيم باشا المصري قد اقتصر على امتلاك ولايتي سورية وأطنة وتنظيمهما، فأرسلت الدول المارة الذكر أسطولا من بوارج إنكليزية ونمسوية بقيادة روبرت ستبفرد والسر شارل سمث، فحضرا وأرسلا الكومودور السرنابيه إلى بيروت، وكان محمولها نحو عشرة آلاف مقاتل من العثمانيين والإنكليز، فضربوا بيروت في 11 أيلول سنة 1840م، وفر سليمان باشا الفرنسي قائد العساكر المصرية إلى زحلة وضربت الأساطيل عكاء، وذهب نابيه إلى مصر وعقد مع محمد علي باشا والد إبراهيم باشا اتفاقا بتاريخ 27 تشرين الثاني سنة 1840 يصرح له أن تكون خديوية مصر وراثية لأسرته. وكان إبراهيم باشا المصري قد قدم من مرعش إلى زحلة واستقدم إليه الأمير بشيرا الكبير وتفاوضا مليا، وخيم العسكر المصري في المعلقة وصار يتراجع إليها القواد بما بقي من جنودهم مدحورين، مثل عثمان باشا قائد حملة كسروان الذي حارب سكانه خمسة وعشرين يوما، فاندحر في موقعة وطا الجوز واستظهر عليه الكسروانيون، وسليمان باشا عاد من الحازمية مدحورا من أمام أساطيل الدول المتفقة المشار إليها. وانضم إليهم عسكر طرابلس الشام والجهات الأخرى فصارت زحلة محل سكنات هذا الجيش الجرار بعد أن كانت محل حركاته في أول مواقعه.
وإذ ذاك كان محمد علي قد أرسل يستقدم إليه ولده إبراهيم باشا من سورية، فبرح زحلة يوم السبت في 9 تشرين الثاني سنة 1840 إلى دمشق، وسار منها على طريق غزة بعد أن هدم الحصون والمعاقل. وعرض على الأمير بشير الكبير أن يسلم، فاستمهل أياما اعتذر في آخرها أنه لا يستطيع أن يغضب عليه إبراهيم باشا؛ لأن أولاده وأنسباءه يحاربون مع جيشه فيفتك الوزير بهم انتقاما منه إذا انحاز ضده. ولذلك استسلم إلى الأمير الإنكليزي وبعد ثلاثة أشهر أخرج من سورية بأسرته ومدبريه وبعض أنسبائه فكانت نهاية حكمه في تلك السنة وإخراج الدولة المصرية من سورية أيضا.
فهذه كانت أهم ذرائع التنافر والتنابذ والمناوأة بين طائفتي المسيحيين والدروز المتجاورتين المتحابتين، وكأن البلاد ألفت التعصب فتوالى عليها من العصبيات القيسية واليمنية، واليزبكية والجنبلاطية، والمعلوفية والمكارمية، والزحلية والقنطارية. ثم بدأت العصبية المسيحية والدرزية فكانت الأخيرة أشر من الأولى وتحفز الدروز للتنكيل بالمسيحيين، ولا سيما سكان زحلة ودير القمر الذين أوغروا صدورهم ببسالتهم ونفوذ كلمتهم لدى إبراهيم باشا والأمير بشير ولمعاضدتهم إياهما. (8) مشيخة زحلة الأولى
كان الأمراء اللمعيون أيام تسلطهم على زحلة يتولون إدارة شئون سكانها ويفضون مشاكلهم، إما بذاتهم أو بواسطة دهاقينهم (خوليتهم) وخاصتهم. ثم استبد بهم القنطاريون فكانوا يأتمرون بأمرهم مدة إلى أن قيض لهم الظفر في موقعة المزة، وكانوا في مقدمة جيش الأمير بشير الشهابي الكبير. وفاتنا هناك أن نذكر أنهم ساروا بقيادة يوسف الحاج شاهين الأرثوذكسي وابن عمه أنطون فلما وزع الأمير السلاح على عسكره جميعه، وبقي الزحليون فقط أراد إعطاءهم السلاح، فمنعهم قائدهم المذكور عن أخذه وتلكأ برجاله عن القتال حتى عندما ضعف عسكر الأمير، وكاد يتقهقر تقدم يوسف برجاله البواسل ودحروا العدو، وكان يوسف السكاف والحاج نصر من حملة الأعلام اللبنانية فتقدما حتى القلعة، وكان فيها عسكر فوضعا سلما على سطحها وصعد يوسف السكاف عليه، ونصب علمه فوقها فكان النصر للزحليين باهرا. فقال الأمير ليوسف: لماذا تأخرت بهجومك برجالك الأشداء، فأجابه: إن تأخر توزيع الأسلحة عليهم أخر هجومهم. فأحبه الأمير كثيرا، ورأى فيه بسالة وسداد رأي، فكان يعتمد عليه منذ ذلك الحين بعد أن كان عرفه عند وجود عبود البحري الخطاط في بيته أيام فراره من وزير دمشق.
فهذا كان بدء مشيخة الزحليين ففوض إليه حل المشاكل، وكان يستشيره بكثير من شئون زحلة وبلاد بعلبك ويعتمد على رأيه فنفذت لديه كلمته، وكان يوسف متزوجا بشقيقة إبراهيم مسلم الكاثوليكي، فنال ابن حميه منزلة لدى الأمير وقلدهما مشيخة زحلة، فاتفقا طول حياتهما على رفع شأنها وحرراها من ظلم القنطاريين.
وفي حرب سانور كان أنطون الحاج شاهين ابن عم يوسف هذا قائد الحملة الزحلية والمتنية مع ابنه إبراهيم، فعادا بعسكرهما ظافرين فمضت مدة على مشيخة زحلة بزمن الأمير بشير الكبير، وفي عهد إبراهيم باشا المصري حتى كانت زحلة أشبه بجمهورية صغيرة يحكمها شيوخ ينصبهم الحاكم بإرادة الشعب.
ولما كان أنطون الحاج شاهين مدبر (كتخدا أو كاخية) الأمير أمين الحرفوشي وشي عليه مرة إلى الأمير بشير الكبير، فذهب مع ابن عمه يوسف إلى بيت الدين لمقابلته حسب أمره، فامتنع الأمير عن مقابلتهما خشية أن يقنعه يوسف فيعفو عن أنطون الذي أمر بسجنه وإرساله إلى عكاء، وبعد ثلاث سنوات مرض أنطون فيها فأرسل الزحليون الطبيب ترانوبي من أطباء إبراهيم باشا المصري لتطبيبه وقيل: إنه سممه فتوفي نحو سنة 1836م، فاشتد حزن يوسف عليه وتوفي بعده بنحو سنتين؛ أي نحو سنة 1838م، وكان داهية في رأيه قوي الحجة كريما باسلا مثل أنطون. أما إبراهيم مسلم فبقي نافذ الكلمة إلى أن توفي يوم الأحد في الرابع من أيار سنة 1841 قبل موقعة العريان وكان حصيفا شجاعا جوادا، ولما اختلف الوكلاء في زحلة عند إنشاء بيت المكس (الكمرك)، وفشا التحزب بين سكانها أرسل الأمير بشير الكبير شيخا على زحلة الشيخ وردان الخازن. ثم فضول قوقز من قرقماز في كسروان، وهذا قتله الأمير بشير قاسم في أثناء الحرب العامية عند إخراج الدولة المصرية. ثم خلفه مدة يوسف عدبا أحد رجال فضول المذكور فهذه حالة زحلة في سنواتها الأربعين الأولى من القرن التاسع عشر.
Página desconocida