وفي أواخر سنة 1829 طلب عبد الله باشا وزير عكاء الأموال الأميرية من النابلسيين، فعصوا ولا سيما آل طوقان وجرار وبرقاوي وعبد العال ودحيش وأبي غوش وغيرهم، واعتصموا بقلعة سانور النابلسية، وكانت حصينة الموقع منيعة الجوانب حاصرها الجزار مرارا، وكان زعيم العصاة أسعد بك طوقان والشيخ قاسم الأحمد الجرار، فحاصرهم عبد الله باشا زمنا حتى أوشك أن يرجع عن هذا الحصن مخذولا، فاستصرخ الأمير بشير الشهابي فجمع من مقاطعاته نحو ألفي مقاتل كلهم أبطال مدربون، وذلك في اليوم الثالث من بدء سنة 1830م، وبينهم نحو خمسمائة مقاتل منهم مائتان من زحلة وثلاثمائة من بسكنته وكفر عقاب في المتن، كانت نفقتهم على حسابهم الخاص إذ لم يقبلوا مثل غيرهم نفقات الأمير الحاكم، فسار إلى عكاء فالناصرة، ثم جاء إلى قرية جنين التي تشرف على سانور واستقبله هناك عسكره باحتفاء بالموسيقى وإطلاق البنادق. فلما رأى النابلسيون الذين خارج القلعة العسكر اللبناني، وكانوا يعملون باسه في المواقع الماضية جمعوا ثلاثمائة فارس من العرب، ومنعوا العسكر الاستقاء من ينبوع خيموا قربه، فوثب عليهم المتنيون ولا سيما سكان زحلة وبسكنته وكفر عقاب، وأعملوا فيهم السيوف حتى دحروهم إلى قريتي عرابة وعجة طولوزة، فاعتصموا هناك، فحاصرهم عسكر الأمير الذين اندفق كالسيل فحمى بعض الفرسان المذكورين عين جباع، فلم يستطع النابلسيون أن يستقوا منها فضويقوا، ولكنهم ثبتوا في الحصار وحمي وطيس القتال، ففر النابلسيون جميعهم إلى سانور، واعتصموا بمعقلها المنيع فشدد اللبنانيون في حصارها، وكان شجعانهم يحمونهم من هجوم النابلسيين، وجرت أمام القلعة مناوشات عديدة عادت على النابلسيين بالخسارة والفشل، فجدد حصارها بإطلاق المدافع، فهدم أكبر أعاليها، ولما خيم الغسق في ذلك اليوم العصيب كانت النابلسيات يغمسن الدثر (اللحف) بالزيت ويشعلنها ويطرحنها خارج القلعة؛ لينظر رجالهن عساكر الأمير ويطلقوا عليهم الرصاص. وكان الأمير بشير قد شعر بحرج الموقف وقلة العساكر، فأرسل رسلا إلى الأمير حيدر إسماعيل اللمعي ليوافيه بعسكر آخر من البلاد، فجمع من فوره جيشا جرارا بقيادته، وبادر لمعاضدة الأمير، فوصل إليه والقلعة قد فتحت عنوة، وتم النصر للبنانيين الذين أبدوا بسالة لا مثيل لها، ولا سيما الزحليون والمتنيون، وكانت قد نفدت ذخائر الخصوم وخارت قواهم، فأنفذوا حسينا عبد الهادي من زعمائهم إلى الأمير، فتم الصلح على شرط أن يهدم الثائرون القلعة بأيديهم ويسلموا أسلحتهم لعبد الله باشا، فدكت أبنيتها حتى أسسها وعطلت آبارها ومغاورها وأنفاقها (دهاليزها)، وغشى عبد الله باشا مدافعه بجوخ أحمر إشارة إلى فتحها. وكان في داخل القلعة أكثر من ألف ومائتي نسمة منهم من مشايخ بني الجرار اثنان وأربعون، فعند تسليمها لم يبق منهم سوى 367 رجلا، والباقون قتل معظمهم وفر الآخرون، وقتل من عسكر الأمير بشير سبعة وثلاثون رجلا للحال، ومنهم أسعد حمادة الدرزي من بعقلين، وحنا الشنتيري الماروني من بكفية، وكانا بطلين مدربين ووقع أحد عشر جريحا توفوا منهم صليبي أبو طقا ويوسف الطباع، واثنان آخران وهم من زحلة، وبريء من المجاريح مائة وخمسة بينهم بعض الزحليين منهم بولس أبو سابا ممن كان الأمير بشير يضمد جراحهم بيده. وعاد الأمير بعسكره ظافرا ولم يدخل عكاء؛ لأن الطاعون كان متفشيا فيها ، فلاقاه اللبنانيون بموكب عظيم إلى صيداء وهنأوه بالظفر، وطار صيت اللبنانيين ولا سيما الزحليين والمتنيين وعرفوا بشجاعتهم وإقدامهم.
ومما يرويه الشيوخ أن كلا من إلياس هاشم المعلوف وطنوس شبلي المعلوف من شليفه في بعلبك حميا عين جباع، فلم يستطع النابلسيون الاستقاء منها فتضايقوا، وكذلك طنوس الطباع وخليل أبو عيد حجي من زحلة دخلا قلعة سانور ليلا في أثناء الحصار، وقتلا أحمد الجرار البواب وحمل أحدهما طنوس رأسه وبندقيته، وتلك البندقية بيعت منذ أمد يسير إلى أحد أفراد أسرة الشميل؛ فسر بهم عبد الله باشا حتى إنه قال لمشايخ بني الجرار العاصين: «أما تعلمون أن عسكر الأمير بشير اللبناني مدرب بالحرب والكفاح، وأميرهم ما سار في مهمة إلا وكان النصر حليفه، أما سمعتم ما جرى بموقعة المزة وكيف اقتحم سورها بفرسانه وأحرق القرية، أما علمتم بفتكه بعسكر درويش باشا»، ثم أخذ يعدد لهم المواقع التي أبلى فيها اللبنانيون فوقع الرعب في قلوب المشايخ وطلبوا العفو.
ولما زار هذه القلعة كل من روبنصن وسمث الإنكليزيين على أثر هذه الموقعة، وصفاها وصفا مدققا وذكرا حصانتها وموقعها كما بينت ذلك في «دواني القطوف»، بتفصيل واف راجع صفحة 236 متنا وحواشي. (4) إبراهيم باشا المصري في زحلة
وسنة 1830م جاء إبراهيم باشا ابن محمد علي باشا جد الأسرة الخديوية إلى سورية وفتح عكاء. وكان الأمير بشير الشهابي من أنصاره، فبعث إليه أن يجمع كمية وافرة من الشعير لخيول فرسانه فطلب الأمير من الزحليين ذلك، فأرسلوه وقدموا أيضا ما تحتاج إليه خيول عساكره التي كانت مخيمة على بيادر الكرك وكان قوادهم نازلين في ثكنة (شونة) معلقة زحلة التي عمرها بأمر الأمير بشير عيسى الخوري مخايل عيسى من بحمدون جد بني البحمدوني في زحلة، وكان من خاصة الأمير وشيخ المعلقة نافذ الكلمة لدى الوزير والأمير يبلغ الزحليين أوامرهما.
وسنة 1831م جاء الأمير قاسم ابن الأمير بشير الشهابي الكبير مع مهندس أفرنجي زحلة، فاحتفر خندقا حولها خشية أن تفاجئهم العساكر التي اجتمعت في حماة بقيادة الوزراء لمحاربتهم، وانضم إليها الأمير أمين الحرفوشي حاكم بعلبك، ولم يطل الوقت حتى بعث إبراهيم باشا إلى الأمير قاسم في زحلة يخبره بالنصر في مواقع حماة ونواحيها، ويطلب منه أن يرسل الذخائر الحربية (الجبخانة) إلى بعلبك؛ فأرسلها إليه وكان قد جاء بعلبك، ونزل في القلعة لكثرة المطر.
ثم جاء زحلة من عكاء عباس باشا أخ الوزير بألف جندي، وكانت طريقه على جسر المجامع فمرجعيون، وبقي ثمانية أيام لكثرة الأمطار، وكان يصحبه الأمير محمود ابن الأمير خليل ابن الأمير بشير الشهابي، ومعهما ذخائر حربية ومدافع وقافلة من الجمال، فوصلاها في أواسط شهر ذي القعدة سنة 1247ه (1831م). وفي 23 ذي القعدة وصل الأمير بشير زحلة قادما من بيت الدين، وحضر إليها إبراهيم باشا من بعلبك يحف به أربعة فرسان، فرأى الخندق الذي حفر حول زحلة ونظم عساكره ورتب طريقة مدافعتهم، ثم بلغه حدوث خصام بين الدروز والمسيحيين في دير القمر والمتن بدسائس آل جنبلاط، فسار من فوره إلى بيت الدين بعساكره وسكن الثورة، ثم نمي إليه أن عسكر حماة مخيم في بلاد بعلبك، فجاء زحلة بعسكر الجهادية فتأكد كذب الخبر وأن الوزراء في حمص، فبقي هو في زحلة يرتب حركاتها العسكرية، ثم لما قدمت العمارة المؤلفة من أربع عشرة سفينة من الإسكندرية إلى طرابلس مثقلة بالذخائر، وفيها سريتان (ألايان) من الجهادية عددهم ثمانية آلاف أرسل، فاستقدم نصفهم إلى عكاء والنصف إلى زحلة. وصارت الحركة المركزية لجنده في زحلة لتوسطها بين المدن الأخرى.
ففي 12 ذي الحجة أرسل الأمير محمودا الشهابي من زحلة، ومعه يوسف بك الضابط بخمسمائة جندي لملاقاة العسكر القادم من طرابلس، وللقبض على بعض الثائرين فأمسكوا بعضهم وعادوا إلى زحلة. وفي هذا اليوم سار إبراهيم باشا من فيلق (أوردي) زحلة إلى فيلق عكاء، فوصلها بيومين.
وفيها؛ أي سنة 1831م كادت تتلاشى صناعة النسج في زحلة، لورود الخام من أوروبة بحرا في المراكب، فرخصت أثمان الخام فيها كثيرا، فترك الأهلون هذه الصناعة التي كانوا جميعهم يشتغلون بها، ويربحون منها أموالا كثيرة. وكان من بواعث إماتة هذه الصناعة تجنيد الزحليين وتسخيرهم مثل غيرهم من اللبنانيين، وانشغال نسائهم بخدمة الجنود المصرية المخيمة عندهم.
وسنة 1832م أرسل الوزير إبراهيم باشا الذخيرة من صيداء إلى زحلة، وسخر لها جميع الجمال والبغال والحمير من بلاد جبيل إلى بلاد صفد، ودام ذلك شهرين، فاجتمع نحو ثلاثين ألف عسكري مصري فيها، وجمع الأمير عسكرا من لبنان واتخذ الوزير زحلة النقطة الكبرى لمواقعه، وازدحمت الجيوش في ضواحيها واكتظت بالذخائر، وكان العسكر يجري التمرينات الحربية والموسيقى والطبول ترتج لها تلك الضواحي، ويتجاوب صداها في وادي البردوني. وفيها أرسل الأمير بشير الشهابي الذي كان مخيما بعسكره اللبناني، وبينه الزحليون في مرجة دمشق إلى ولده الأمير أمين أن يجيء زحلة من بيت الدين، ويجمع أربعة آلاف غرارة شعير من بلاد بعلبك والبقاع للعساكر، ويستودعها بعلبك وزحلة، فأتم الأمير أمين أمر والده بمساعدة الزحليين، وأخذ كثير منهم يتجرون بالحبوب ويحتكرونها ولا سيما الشعير. وقد اشتد الغلاء في هذه السنة، وصار ثمن مد القمح 12 غرشا مما لم يسبق له مثيل في زحلة التي كانت إذ ذاك مستودعا لحاصلات حوران وبلاد الشرق وبعلبك والبقاع. وفيها سار إبراهيم باشا الصغير وعباس باشا شقيق الوزير بفيلق زحلة إلى قرية حسيا قرب حمص.
وكان الأمير أمين الحرفوشي قد انضم إلى وزراء الدولة، الذين كانوا في حماة كما مر وجاءوا حمصا، فاغتنم ابن عمه الأمير جواد الحرفوشي هذه الفرصة، وترك دمشق وجاء زحلة لمقابلة إبراهيم باشا، وبواسطة أعيان زحلة ولاه حكم بعلبك وما إليها. وكانت المواقع تتوالى إذ ذاك بين العساكر العثمانية والجنود المصرية، فبقيت زحلة في أثنائها مخيما للعساكر المصرية ومستودعا لذخائرها وعددها ومؤنها ومباءة للوزير إبراهيم باشا والأمير بشير الشهابي وقوادهما ومدبريهما، مثل سليمان باشا الفرنسي وعثمان باشا وحنا بك البحري أمير اللواء وبطرس كرامة وغيرهم.
Página desconocida