وكان أغناطيوس صروف مطران بيروت قد استفحل الخلاف بينه وبين الرهبان الحناويين، فعم البلاء واشتد الخطب وساد الاضطراب، وفيها توفي الأمير مراد منصور اللمعي وحضر الزحليون مأتمه ولبسوا عليه الحداد.
وسنة 1785م عم الطاعون مصر وبيروت وطرابلس وبعض أنحاء سورية ولبنان، وهرب السوريون إلى الجبال العالية، وكثر الغلاء وتضايق الناس ما عدا مدينة حلب، فإنها كانت بسعة لرخص الحبوب والحاجات فيها، ولحق زحلة ضيق شديد.
وسنة 1786م حكم بعلبك محمد أغا العبد الذي كان حاكم البقاع، فجاء الأمير مصطفى الحرفوشي زحلة، وكان فارا عند عرب خزاعة أنسبائه في شمالي سورية، فجمع من زحلة مائة مقاتل وبينهم بنو شبلي المعلوف المقربين منه، فنعل الخيول باللباد ودخل بعلبك بعسكره ليلا، وقتلوا من التقوا به وأهلكوا من عسكر العبد كثيرا، وكاد هو يسقط في أيديهم ففر إلى دمشق، واستتب الحكم لجهجاه وجاء زحلة كثير من سكان بعلبك وضواحيها، وعمروا كنيسة القديس ميخائيل الكاثوليكية.
وفيها انتشر الطاعون في البقاع واتصل بزحلة وضواحيها، ومات كثير من بدو البقاع وبعلبك، ولا سيما عرب الفضل، وامتد منها إلى حمص ونواحيها وأفنى التركمان، وكان فتكه ذريعا. وفي الصيف جفت المياه والينابيع ولا سيما العاصي وكثر الغلاء. وفي 22 تشرين الأول بعد نصف الليل حدثت زلزلة خفيفة. وفي تشرين الثاني من هذه السنة انفجرت ميازيب السماء، وجرت المياه على الأرض وحملت المواشي والغراس وأماتت اثني عشر شخصا ، وهدمت كثيرا من الأبنية، وكان ضررها في زحلة عظيما حتى طاف البردوني، وحمل بعض الناس وخرب العقارات.
وسنة 1788م كان أظن إبراهيم باشا قد نال ولاية دمشق بعد قتال وخلاف، فأرسل إلى الأمير جهجاه الحرفوشي يتهدده لاعتدائه على بعلبك، فأرسل حريمه إلى زحلة وخرب طواحين بعلبك التي تركها أهلها وفروا إلى زحلة وغيرها، فأسند والي الشام المذكور حكم بعلبك إلى الأمير كنج بن محمد الحرفوشي، وخلع عليه وأمده بعسكر دالاتية ومغاربة، فحارب هذا ابن عمه الأمير جهجاه، فاستنجد هذا بالأمير يوسف الشهابي وبالأمير شديد مراد اللمعي حاكم زحلة إذ ذاك، فأرسلا له عسكرا بينهم الزحليون فقصدوا قرية صنبرة فوق بعلبك، حيث كان عسكر دمشق محاصرا إياها للقبض على الأمير جهجاه، ففرقوا شمل المحاصرين وارتد عسكر جهجاه على المغاربة، فقتلوا منهم أربعين نفرا والباقون فروا إلى بعلبك، وكان ذلك يوم عيد الأربعين شهيدا في 9 آذار، وتوسط الأمر الشيخ عباس التل حاكم الزبداني، فدفع جهجاه ثلثين كيسا غرامة (بلصة)، ونحو مائتي كيس على حكم بعلبك، فأرسلت إليه الخلع مع حاكم الزبداني المذكور ليلة عيد البشارة في 25 آذار، ويوم العيد وصل الخبر إلى زحلة فسر أهلها وأطلقوا البنادق واطمأنوا بعدما كانوا قد أرسلوا أمتعتهم إلى الجبل، وبعدئذ حضر الأمير جهجاه إلى زحلة حيث أسرته فيها وفاوض المطران بنادكتوس أسقف بعلبك ليعود إليها لاستتباب الراحة، فيرجع جميع النصارى إليها قريرين، وعاد بأسرته وتبعه المطران وجميع الأهلين من نصارى ومسلمين وشيعيين.
وفيها توفي الأمير إسماعيل اللمعي أكبر أمراء المتن سنا وجاها ورأس عهدة (سمية) بني قيدبيه، وكان ذا سطوة ونباهة، فأجري له مأتم حافل حضره الزحليون ولا سيما المعلوفيون؛ لأنهم من عهدته، وخلف ثلاثة أولاد وهم الأمير حسن والأمير عساف والأمير حيدر الذي اشتهر بعد ذلك.
وفيها سقط ثلج عظيم حتى بلغ سواحل بيروت، وتضايق الزحليون منه ومات كثير من المواشي.
وفي 24 أيار انكسفت الشمس قبل الظهر بساعتين، وبقيت بضع ساعات.
وسنة 1789 حدث خلاف بين الأمير يوسف الشهابي والجزار، وانضم الأمير جهجاه الحرفوشي إلى الأمير الشهابي، فزحفت عساكرهما على وادي التيم، وفي 20 تموز التقيا في وادي عباد بعسكر الجزار وأمراء حاصبيا وعساكرها؛ فكان النصر للشهابي والحرفوشي وقتل من عسكر الجزار نحو مائتي نفر، فأوغر ذلك صدره غيظا وأرسل عسكرا إلى البقاع، وضبط غلالها ليحمل الناس على خلع الأمير يوسف واستمال الجنبلاطيين، فسعوا بتأييد آرائه فترك الأمير يوسف الحكم لابن أخيه الأمير بشير قاسم الشهير، وما استتب له الحكم حتى طلب منه الجزار طرد الأمير يوسف من البلاد، ففر هذا إلى صرد (جرد) كسروان، والتقى الجيشان في وادي الميحان، وهو عسر لا تسلك فيه الخيل إلا بشعب ضيق في حرج (حرش) كثيف الأشجار. وكان كمين من عسكر الأمير يوسف بينه رجال جبة بشراي والمشايخ الحماديون وأعوانهم في ذلك المضيق، فلما أقبل عسكر الأمير بشير وبينهم الزحليون وغيرهم من رجال البلاد أوقعوا بهم وفتكوا كل الفتك، فقتلوا منهم على حين غرة خلقا كثيرا، ولما رأى الأمير بشير أن عسكره كاد يندحر جرد سيفه وكر أمامهم، فتبعوه وصدموا عسكر الأمير يوسف بقلوب قوية، فشتتوا شملهم ومزقوهم كل ممزق ففر الأمير يوسف إلى الجبة ومنها إلى طاريا في بلاد بعلبك فالزبدانة فمنين قرب دمشق فحوران. وقتل بهذه الموقعة بعض الزحليين لهجومهم مع الآراء اللمعيين، ومن الجنبلاطيين قتل أو دعيبس بن علي بن بشير جنبلاط. والشيخ يوسف الدويهي من الجبة وغيره، وعرفت هذه الموقعة بموقعة الميحان إلى يومنا.
وفي هذه الأثناء اشتد الخلاف بين الأمراء الحرفوشيين على حكم بعلبك، وكان الخلاف بين الجزار والأمير يوسف شديدا، وهكذا الحال في وادي التيم، فعم الويل في البلاد وكثر القلق واضطرب حبل الأمن، وكثرت المهاجرة إلى زحلة من جهات كثيرة، ولحقها خسائر ومخاوف ومصادرات كثيرة. وكان الأمير جهجاه قد صودر بأموال وافرة كما مر، فلم يستطع دفعها فدهمه الحاج إسماعيل الكردي من حمص بعساكره تلبية لطلب وزير الشام، ولما كان جهجاه خارج بعلبك سبي حريمه الأربع وماله وأمتعته وذهب إلى دمشق. فاشتد غيظ جهجاه وجاء بعلبك وعاث فيها وتهدد سكانها، ففروا مع كثير من سكان قرى بعلبك إلى زحلة ونواحي دمشق.
Página desconocida