ولقد كانت الجبال المحدقة بسهل البقاع وبعلبك مكسوة بالأشجار على قممها وأسنادها وسفوحها حتى السهل، فأصبحت اليوم جرداء صلعاء وذلك للنوائب التي اجتاحتها، مثل مصادرة الحكام بإحراق الحراج والغابات للاقتصاص من المجرمين، واتخاذها للوقود والفحم الحطبي وتذويب الحديد وطبخ الكلس الحجري. وقد اكتشفت كتابة في أحد سفوحها الشرقية تذكر أن نبوخذ ناصر ملك بابل قطع الخشب من هناك لهياكله، وفي الصرود (الجرود) كتابات كثيرة تدل على حفظ الغابات وتحديدها، ومن أهم الغابات الباقية الآن حراج لوسا قرب الليطاني في آخر البقاع مقابل قضاء حاصبيا، وفيها النمر إلى يومنا وغاب ميدون في تلك الجهة ، وبعض بقايا غابات قديمة في بعض الضواحي منها غاب عميق وغيره، وحبذا لو أعيد غرس الغابات لاستفادت منها البلاد وتعدلت الأمطار.
ومن المعادن القديمة فيه الحديد في وادي السنديان قرب مشغره، والحمر في سحمر بالجبل الشرقي، وميدون بالجبل الغربي على حدود لوسا قرب حاصبيا، واستخرج في القديم النحاس من كلشيس (عين الجر)، ومعنى اسمها اليوناني النحاس. ومن بريتان أيضا. ولن تزال مزرعة جرن النحاس إلى يومنا دليل ذلك. والفرزل كلمة فينيقية أو سريانية بمعنى الحديد تدل على استخراجه منها قديما. وكان للبنانيين اليد الطولى في سبك الحديد وتطريقه وصنعه أدوات مختلفة إلى نحو منتصف القرن التاسع عشر الماضي، فصار الحديد السويدسي من أسوج وغيرها شائعا لرخصه، وبطلت صناعة استخراجه عندنا.
ومن صناعات هذا القضاء القديمة صناعة ضفر الحصر، لكثرة الأقصاب والسعد (نوع من القش) ونحوها في غاب عميق وما يجاوره؛ ولذلك اشتغل فيها معظم السكان. وقد روى أبو الفداء الحموي المؤرخ وابن بطوطة الرحالة وغيرهما أن البقاعيين أتقنوا هذه الصناعة، وأن السلطان يعقوب المغربي بعد أن ترك عرش الملك زهدا وجاء البقاع تزهد واشتغل بضفر الحصر، وأنكر ذلك المقري، وأشهر محل فيه لهذه الصناعة الآن خيارة فالسلطان يعقوب.
ومن ذلك عمل الفخار في قرية عيتا المشهورة بعيتا الفخار، وتربتها تصلح لكل أنواع الخزف المتينة ومنها تتخذ المواعين والأواني المختلفة الأشكال، كالجرار والخوابي ونحوهما. ولقد عمل من تربتها الآجر (القرميد) في فرنسة، فكان أمتن ما عرف من نوعه. ومن المريجات تربة صالحة لمثل ذلك.
وفيها منذ القديم صناعة الخمور والدبس والزبيب، ولن يزال اسم حمارة السريانية بمعنى المخمرة يدل على ذلك. وعرفوا أيضا بناء السفن؛ لأن بلادهم بقيت بحرة مدة طويلة.
واشتهر كثير من سكان هذه البقعة بصنعة البناء، ولا سيما عمل الجسور في الأنهر الجارية، وتجفيف الأرض لتعودهم ذلك، وقد اشتهر ابن بصيص البعلبكي باني جسري نهر الكلب والدامور وغيرهما في القرن الرابع عشر للميلاد، ولو لم يكن في بلادهم إلا قلعة بعلبك وبعض أطلال الهياكل الأخرى، لكفاهم فخرا بهذه الصناعة منذ القديم.
وعرفت فيه صناعة الغزل والنسج مثل نسج الخام وتطريزه، وكانت لالا والقرعون مشهورتين بنسج البسط الصوفية (الواديات) والشعرية (البلس).
واشتهرت الفرزل بعمل الملبن المسمى بجلد الفرس وهو من خصائصها، وكذلك الزبيب الجوزاني.
واشتهرت مشغره بعمل البارود، ولن تزال صناعته فيها وفي عيتنيت.
ومن بقايا صناعات البقاع الدباغة في مشغره، وهي متقنة كل الإتقان أشبه بدباغة زحلة، وصنع الخمور في كساره وشتوره، وفيهما معامل مشهورة في أوروبة ومعمل الخواجة سليم بولاد في شتوره أسس سنة 1878، وبعده معمل للمسيو برون الفرنسوي. وكذلك ضفر الأطباق (الصواني) وفيه مقاطع حجرية من المرمر
Página desconocida