وكان الوقت متأخرا إذ كان صباح اليوم التالي قد أشرق في القاهرة، بل حل ظهره وليله ويوشك فجر يوم جديد أن يأتي إن لم يكن قد جاء فعلا.
لم تكن تلك أول مرة أزور فيها لوس أنجلوس؛ فقد زرتها عام 1966، وكنت تلك المرة مدعوا من قبل جامعة شيكاغو وقمت بجولة في أهم المدن الأمريكية.
ولكن هذه لوس أنجلوس أخرى تماما؛ عام 66 كانت مدينة متوسطة الكبر والمباني، وكانت تختلف عن غيرها من المدن الأمريكية في خلوها من ناطحات السحاب المشهورة أو ندرتها، ولكن هذه المدينة أصبحت غابة من ناطحات السحاب المهيبة، بل من مدينة واحدة تكاثرت مثل «أميبا» عمرانية مخيفة الأبعاد، فأصبحت خمس (أو ربما ست) مدن تكاد مدينة بيفرلي هيلز (حيث هوليود) تصبح أقلها أهمية.
فجأة وأفقت على الحقيقة، أنا في بلد غريب تماما، وكأن الدعوة كانت فرصة لكي أغمي عيني وأقذف نفسي في سفرة أخرى، وها أنا ذا أفيق على حقيقة أني في مدينة رهيبة الغنى والأبعاد، أقصر شارع فيها طوله سبعون كيلو مترا، وعربات بولسيها وإسعافها لا تكف عن النعيق، والعربات الأمريكية الهائلة الحجم كثيرة كثيرة وصفوفا صفوفا، تدبر حمراء وتقبل بأنوار بيضاء ساطعة، ماذا أتى بي يا ربي وماذا أفعل هنا، وماذا سأفعل في الجامعة غدا أو على الأصح بعد أن تذهب عني «تولة» الرحلة؟!
أقول: أغمضت عيني وقذفت بنفسي في تلك السفرة لأسباب لا علاقة لها بأهمية الدعوة أو الجامعة بقدر ما كانت أسبابا تتعلق بي شخصيا، كنت في الحقيقة أريد أن أخلد إلى نوع من الانفراد بالنفس وتأمل طويل لا تقطعه علاقات أو نشاطات أو زيارات لحياتي؛ فمنذ عام 1958 حين ارتبطت كتابتي بالصحافة وتركت الطب، هدهدت خواطري التي اعترضت على الفكرة بقولي لنفسي: إنها مجرد فترة قصيرة جدا، أجرب فيها الكتابة للصحافة؛ إذ لا مناص لكاتب القصة القصيرة، وحتى المسرح من الالتحاق بالصحافة إن آجلا أو عاجلا؛ فالقصة القصيرة الحديثة المكتوبة هي الابنة الشرعية للصحافة، لولا الصحافة ما وجدت، فكاتب القصة القصيرة لا يستطيع أن يصدر كتابا في كل مرة يكتب فيها قصة قصيرة، لا بد أن ينشرها في مجلة أو جريدة ثم يجمعها - أو لا يجمعها - في كتاب بعد ذلك، والمسألة في العادة تبدأ بنية نشر القصص القصيرة ثم يبدأ الكاتب ينزلق إلى كتابة خاطرة، ثم اقتراحا، ثم صورة قلمية، وفي النهاية يجد نفسه منغمسا تماما في دور الكاتب الصحفي؛ ذلك أن الصحافة تحمل الكاتب حملا إلى مشاكل الناس، مشاكل الاقتصاد والثقافة والسياسة والتعليم والإسكان والمواصلات، وحتى الحب يصل أيضا إلى مشاكله، وليس إلى قصصه فقط.
وأفقت لأجد نفسي قد قضيت أكثر من ربع قرن كتبت أثناءها أكثر من ثلاثة آلاف موضوع صحفي، وهو كم يعادل ما كتبته فنا عدة مرات، وقبل أن أشرع في رحلتي الأخيرة تلك كنت قد انتهيت من مراجعة كثير من هذه المقالات وتنسيقها في أربعة كتب صدر بعضها ولا يزال الآخر في انتظار الصدور، وحين راجعت هذا العدد المهول من المقالات اكتشفت أني ما تركت مشكلة من مشاكل الشعب المصري أو العربي إلا وكتبت عنها ونبهت إليها، حتى تجريف الأرض الزراعية كتبت عنه منذ خمس سنوات بعنوان: الذين يأكلون أمهم (أي الأرض)، ومن مشاكل تلوث البيئة إلى مشاكل السياسة والسياسيين والتلوث الثقافي والتعليمي والتربوي، حتى الانفجار السكاني كتبت عنه في الخمسينيات.
وهنا استوقفني سؤال مفجع: دعك من الأصدقاء النقاد وكاتبي المقالات الصحفية الذين سلخوني طوال السبعينيات حول نهايتي ككاتب فن «وهروبي» إلى الكتابة الصحفية؛ فهؤلاء كنت أجيبهم بقولي: إن نهاية الأرب في فهم الأدب هي أن يبادر الكاتب وينشئ شيئا من أجل الآخرين، فإذا شب حريق في دار إخوانه الآخرين هؤلاء، أيترك الناس تحرق البيت والآخرين وينزوي في ركن يكتب عما حدث قصة أو رواية أو مسرحية، أو يتصرف كالرجال ويشمر عن ساعده وبكل ما يملك يساعد فورا في إطفاء الحريق، وبعد هذا يكتب القصة أو لا يكتبها؟ هذا شيء غير مهم بالمرة؛ فالكاتب ليس صانعا ماهرا لكراس مذهبة أو كراسي مقاه ليس حرفي قصة ورواية ومسرحية. الكاتب روحه معلقة بروح شعبه، في مشنقة واحدة أو في باقة حرية واحدة. الكاتب هو «أول» من يبادر وآخر من ينكص. الكاتب ظاهرة اجتماعية بيولوجية قبل أن يكون ظاهرة فردية هدفها ذاتي محض، أن يكون أكثر أهل صنعته إتقانا لحرفته أو أكثرهم امتيازا على أقرانه.
مئات المقالات قرأتها وأنا أراجع الكتب الأربعة والسؤال المفجع يقف كاللقمة في زور الواقع، وماذا صنعت تلك المقالات؟!
لا بد أنها صنعت شيئا، كثيرا أو قليلا، غير مهم؛ فصدى الصنع أجده في كل مكان أذهب إليه، وصحيح أنها غيرت في تفكير كثيرين، ولكن هل غيرت حقا في الواقع؟ هل حلت فعلا مشاكل؟ هل أخذت بها أي حكومة أو حتى أي مصلحة؟!
ذلك أمر أترك الحكم عليه للناس وللتاريخ ...
Página desconocida