الحقيقة الأخرى لمستها في تجوالي بين حضارات آسيا، كثيرا ما سمعت ذلك التعبير يرن في أذني: ألا تعرف أنك من مصر موطن أول الحضارات؟
وهذه حقيقة أخرى.
والمسألة أبدا بعد هذا ليست صدفة، وليس معنى زوال الحضارة عن شعب وتسليمها لشعب آخر أنه يرتد إلى الوراء مثلا أو يبدأ يصبح أقل حضارة. إن زوال معالم الحضارة عن البلاد لا يعني أبدا زوالها من الإنسان نفسه، وإذا كان الذكاء المصري هو الذي أحدث في العالم القديم ما يشبه ثورة الصناعة والتكنولوجيا في العصر الحديث باكتشافه لأول ثورة في العالم وأول تكنولوجيا: الزراعة وآلات الزراعة، إذا كان ذكاؤنا هو أول من بدأ يعمل الذكاء البشري، فمعنى هذا أنه الآن أعرق ذكاء وأخصبه وأطوله عمرا.
كل ما في الأمر أن الذكاء كي يصبح فعالا لا يكفي أن يكون صفة موروثة أو مكتسبة، إنما التحضر والتقدم يصنعه الذكاء الجماعي لا التفوق الفردي.
نحن إذن أول «مجتمع» ذكي عرفه الإنسان، كل ما في الأمر أن عمر هذا المجتمع الذكي لم يدم طويلا، وما لبث النظام الذي كان يتيح استثمار الذكاء جماعيا أن توقف عن التطور وانفرط عقده، وأصبحنا ومنذ تلك اللحظة وإلى الآن أفرادا أذكياء تماما في مجتمع لم ينجح في تجميع هذا الذكاء واستثماره، أو بالأصح في مجتمع غبي متخلف، أطفالنا يولدون عباقرة بالقياس إلى أطفال العالم، ومفروض أن يتسلمهم نظام حياة ينمي هذا الذكاء الفردي ويربيه على تكوين مجتمع ذكي يعمل طول الوقت، ويطور نفسه بحيث يستطيع باستمرار أن يستوعب ذكاء أفراده، وبذكائهم الجماعي يحيا ويتقدم وينتج، ولكن لأن عكس هذا ربما هو الذي يحدث، بحيث يجد الفرد الذكي نفسه في حالة صدام مع مجتمع قاصر عن استيعاب ذكائهم، بحيث يتحول بذكائه لخدمة ذاته أو بالأصح الدفاع عن ذاته وهكذا.
ميزة الذكاء الآسيوي
ولم ألمس هذه الحقيقة الغريبة بقدر ما لمستها في آسيا.
إن الفرد المصري أو العربي أذكى، ولكن ميزة الذكاء الآسيوي المتوسط أنه موجود في مجتمع ذكي، مجتمع يعرف قيمة الذكاء، ويهيئ له كل السبب ويعرف كيف يخلق النظام الذي يتيح لأذكياء كثيرين أن يعملوا معا؛ أن يحدث هذا التعاون الذكائي الكامل، ذلك الذي يصنع في الحقيقة أي حضارة أو صناعة أو حتى فن، وبالتالي يصنع الإنسان ويدربه ليكون أذكى، بحيث يعوض بالإرادة ما افتقده بالوراثة، بحيث يصبح ذكاء المرء محسوبا له، وليس كالحال هنا محسوبا عليه، بحيث يكتشف في كل فرد مكمن طاقته وتفرده وقدراته، وفي مكانها الصحيح يجيد استخدامها. •••
ذلك في رأيي سر أي مجتمع ناجح، سر أي تقدم علمي أو صناعي أو حضاري أو ثقافي وفني، خاصة ونحن لم نعد في عصر الفلتات الفردية، نحن في عصر المجتمعات الذكية، وكما بدأ العالم ينقسم إلى أغنياء وفقراء، فكذلك بدأ ينقسم إلى مجتمعات أذكى ومجتمعات أقل ذكاء أو أغبى، والهوة بينهما أيضا تتسع؛ فالذكاء ثروة ذكاء، حتى القوة الفيصل فيها هو الذكاء، والجيش الأقوى اليوم هو الجيش الأذكى.
بل إن التعليم ذاته لا يحل المشكلة.
Página desconocida