ولكن هذا موضوع آخر آمل أن أتناوله قريبا إن شاء الله.
في تلك الليلة أحسست بمزيج غريب من العواطف وأنا ألتقي مع الوجوه الشرقاوية الحلوة، أحسست أني لأول مرة أتحدث من القلب إلى القلب حديث الإنسان إلى أهله وعشيرته. إن الشرقاوي نموذج للمصري المنتمي إلى محافظته دون تعصب، إنسان سمح طيب شهم يحسن الظن تماما بالآخرين، ولهذا يطلقون عليه التشنيعات والنكات، فهو إنسان فيه براءة الصحراء التي تحد جانبه الشرقي وطيبة قلب الفلاح المصري، والشرقية هي الرحم الذي أنتج لمصر كثيرا من فنانيها وثوارها، حيث تتفاعل المصرية فيه مع الشامية والسعودية، وحيث يتعايش الأقباط والمسلمون في سلام منذ مئات السنين، وحيث تمتزج حضارة البحر الأبيض بحضارة الدلتا، الفرعوني بالقبطي بالفن الإسلامي؛ مما يجعلني أستعمل تعبير عبقرية المكان على الشرقية باعتبارها لا بد أن تنسحب على عبقرية الإنسان وتفانيه الموغلة في الإبداع.
كانت زيارة أرجعتني لشبابي في الزقازيق الثانوية لأول حب سحب فيه والد الفتاة، وكان صعيديا حمشا، البندقية فانسحبت في سلام إلى ناظر الثانوية المرعب، إلى ليلة جاء فيها يوسف بك وهبي ليمثل رواية ووقفت ساعات على باب الممثلين لأراه وأرى المرحوم محمود المليجي، إلى آلاف الذكريات، كنت أتحدث أو كنت أعود أعيش أو كنت أتكلم حديث المرتاح إلى أهل ينصتون.
ليس مهما ما كنت أحسه ولكن المهم أنني مع الدكتور محمود الشريف، أتمنى أن تصبح الزقازيق واحدة من أهم العواصم الثقافية المصرية، وشهادة لله لولا صلاح مرعي مدير الثقافية الجماهيرية في الشرقية، ذلك الذي بالكاد استطاع أن يحافظ على فرقة الشرقية للفنون الشعبية حتى لتطلبها البلاد الأوروبية بالاسم، أتمنى أن يتحول قصر الثقافة في عهده الجديد وبزعامة المحافظ إلى معمل تخريج فنانين وفنانات لطرحهم على المستوى القومي والمحلي أيضا.
على بركة الله وبالتوفيق التام يا دكتور محمود الشريف.
أحفادك يا طه
لم يكن تجوالي طويلا ولا متعبا، ولكني كنت ألهث وقلبي يخفق بفرحة، نادرا، نادرا، ما تنتابني، شباب شباب، أولاد وبنات، محجبات وسافرات ومنقبات، أطفال بالآلاف، شيوخ، أساتذة جامعة، وأشباه حفاة، عرب بمقالات وخواجات، ألوف البشر تموج، تتوه تلتقي وتفترق وتعود إلى اللقاء، الجو رغم الشتاء دافئ، والعاصفة الرملية الترابية أخفاها جمال الازدحام، أجمل ازدحام؛ فلا تدافع فيه ولا حدة ولا خناقة ولا كلمة غضب، العالم فقط هو صوت الضحكات، والمجاميع من الطلاب، والعائلات ... كل هذا في معرض، يا الله، للكتاب، للثقافة، لعيد الكلمة. قاهرتي العزيزة، الآن أحبك كما لا يمكن أن يكون قد أحب قيس ليلى، يا حبيبتي العزيزة، يا قاهرتي وعاصمتي وملجئي وانتمائي ومثواي، تعودين إلى نفسك فتعودين أيضا، تعودين إلي أنا كفرد حتى ...
هذا هو المعرض العشرون للكتاب، في لمحة خاطفة لمعت في ذاكرتي صورة أول معرض كما أقيم لأول مرة في أرض المعارض القديمة بالجزيرة في يناير عام 68، وافتتحه رئيس الوزراء حينذاك، أو افتتحه وزير لست أذكره، وكما رأيته، في اليوم التالي، الناس مجموعات قليلة متناثرة في أرض المعرض الصغيرة، تماما بالقياس تماما إلى أرض المعرض الحالي، مجموعات قليلة تبدو وكأنها تتجمع لتحتمي من برد خفي وقشعريرة الغربة؛ إذ كانوا فعلا قد تجمعوا على غربة بعد هزيمة 67. في العام التالي لها مباشرة، ومظاهرات الطلبة، وتمزق الصدر المصري بآلام الذبحة العسكرية التي أخذته على خوانة، بمجموعات المثقفين والمتعلمين القليلة، التي قدمت وكأنما لتحيي الذكرى السنوية لعاصمة الفكر والإبداع التي كانت، مذهولين لا يعرفون العدو من الصديق، مهزومين لا يعرفون من هزمهم أهي إسرائيل أم المناط بهم هزيمة إسرائيل؟ جو كئيب كأيام أمشير ومحاولة للتشبث بالثقافة والكتاب بعدما، تقريبا، ضاع كل شيء ومعه أيضا الثقافة والكتاب.
ولكن ما أمامي الآن هو القاهرة، القاهرة، القاهرة التي رفعت الرأس المنكس ووقفت وانضبطت وحاربت وانتصرت وقاومت سرقة الانتصار، القاهرة 88، القاهرة في معرض للقاهريين، والقاهريون في معرض لقاهرتهم الجديدة، أخذوا عشرين عاما ليعيدوها ويصنعوها ولكنهم صنعوها، وكأنما من جديد أنشأوها، وكأنما بسواعدهم واقتصادهم المحدود والمقاطعة، الاتهامات وسيول النسل المتزايد والازدحامات واختناقات وقفزات الأسعار المريبة، أوقفوها ومن مريلة روضة الأطفال الممزقة، علموها، وألبسوها، وفي العشرين ها هي في فستان الزفاف.
أبيض أبيض ذلك اليوم، عبوس الناس في الشوارع الذي كان يدعوني أنا الآخر للعبوس والاكتئاب انقشع، الناس فرحانة وكأنهم أطفال، والأطفال مجانين بالمسرح، وأمهاتهم معتزات أنهن بصحبتهم إلى معرض الكتاب، وأجنحة كتب الأطفال والكمبيوتر، ويرفع أب ابنه ذا السنوات الخمس ليصافحني ويقول لنا هذا فلان يا ولد، وأفرح بالولد، وفي فرحة طفولية أقبله وأعطيه كتابا وكأنما سيقرؤه؛ فعملة الحب اليوم هي الكتاب، سقط الدولار، والدينار والجنيه وساد الكتاب، وبجنون زاد سعره، ولكنه لا يزال مطلوبا ومرغوبا وجميلا جدا والله، هذه الصفوف والأجنحة ودور النشر المتنافسة، عمك الحاج مدبولي بجلبابه واقف وسط مملكته أو بالأصح حديقته الحافلة بالفكر والفن والأغلفة من كل مكان في العالم ، تحس أن اليوم يومه والعيد عيده، وأتذكر قولا قيما قاله مرة في برنامج تليفزيوني واستعجبت يومها للقول إذ قال وهو يفسر مهنة بيع الكتب ونشرها: الكتاب حب، صدقت يا حاج، فها أنا ذا أرى بعيني أن الحب أيضا كتب.
Página desconocida