المهم أن المائة أصبحت بعد عامين مائتين ثم ثلاثمائة، وبدأ «ربو» بهاء يتفاقم والمدة التي يجب أن نقضيها تطول، وحينذاك، وكنا جاوزنا منتصف السبعينيات وجدت نفسي مضطرا إلى تأجير شقة في الإسكندرية للعام كله أو ... وهذا هو المستحيل بعينه، الحصول على شقة تمليك.
كان ثمة طبقة جديدة قد بدأت تزحف، وكالجراد الممتلئة حيوية بنقود وافرة، تزحف وتقتني كل شيء، وكانت شركة المعمورة تطرح كل عام حوالي خمسين شقة، كان سعر الواحدة منها ثمانية آلاف جنيه، وبالكامل كانت الطبقات الصاعدة مع الحكم الساداتي والانفتاح الجديد تأخذها كلها، نقدا وعلى الفور، وذهبت إلى رئيس شركة المعمورة في ذلك الوقت وقلت له: أريد شقة. فقال: قدم طلبا، وأنت وحظك، إذا أصابتك القرعة دفعت ثمنها وأخذتها. وكان معنى هذا بصريح العبارة أنني لا بد أن أعتمد على الحظ في شراء الشقة، وثانيا، وهذا هو المستحيل بعينه: أن أدفع ثمنها في الحال، ولم يفد أي نقاش مع رئيس الشركة، حتى وأنا أذكره أنه مع أنه رئيس مجلس إدارة أو حتى لو كان وزيرا فإن ماهيته لا تسمح له أبدا باقتناء شقة بهذا السعر في ذلك الوقت (عام 78)، وخرجت وأنا محبط أشد ما يكون الإحباط، ولكن موظفا ابن حلال في الشركة لحقني على السلم وقال لي إنني ممكن أن أحصل على شقة بالتقسيط، وكيف يكون هذا يا عم؟ قال: أنتم ناس كتاب ومتصلون، اذهب إلى وزير الإسكان وقدم طلبا، ولن يدخلوك القرعة وإنما «سيخصصون» لك شقة، وسيقسطون لك ثمنها على عشر سنوات. وبدا كما لو أن المسألة قد فرجت، وفعلا ذهبت، وقابلت الوزير، وقدمت الطلب، وقابلني الرجل بكل ما يملك من ترحاب ولطف، ولكنه أفهمني بطريقة يفهمها كل لبيب أن الشقق التخصيص تأتي قائمتها من رئاسة الجمهورية مباشرة، وبالطبع رفضت الفكرة رفضا باتا أول الأمر؛ فأنا أبدا لم أتعود أن أطلب من رئيس الدولة، أي رئيس دولة، شيئا خاصا بي، حتى لو كان الأمر يتعلق برئتي ابني، وصرفت النظر عن الموضوع، وعدت إلى القاهرة. وبعد ثلاثة أيام حدثت للولد أزمة نقلناه ليلتها في عربة إسعاف إلى مستشفى الشبراوي، ولحسن حظي أنا أسكن قريبا من مستشفى الزميل العزيز الدكتور محمد الشبراويشي الذي أقام لنا في أول الأمر مستشفى صغيرا في الدقي ما لبث أن توسع، ولحسن الحظ لم يلحقه التأميم، وأصبح يجمع كل التخصصات ويقدم كل أنواع الخدمات الطبية وبأسعار في مقدرة موظف قطاع عام مثلي، شيء يعتبر نعمة في الوقت الذي كانت المستشفيات الحكومية قد ساءت الخدمة فيها، وقل الدواء، وإن كانت لا تزال تحتفظ بأساتذتها الكبار، وقضى بهاء ثلاثة أيام بأكملها وهو بالكاد يستطيع أن يلتقط النفس، ونصحني الدكتور حسن حسني أستاذ امراض الصدر وابن عمي في الوقت نفسه أن لا بد لبهاء أن يقضي أشهر الصيف القائظة وبالذات يوليو وأغسطس في الإسكندرية، أو رأس البر، وكانت بورسعيد لم تعد صالحة للإقامة أو قضاء الصيف، وكنت في ذلك الوقت أكتب مقالات دائبة النقد للحكومة وللدولة، ولكن تحت إلحاح المرض فإن أي أب في الدنيا يضرب عرض الحائط بأي اعتبار آخر، وهكذا ذهبت إلى المعمورة، وكتبت طلبا للرئيس السادات، شارحا ظروف بهاء، وبمنتهى حسن النية، إن لم يكن السذاجة، سلمت الطلب لضابط الحرس الجمهوري الواقف على باب الحديقة الفاصلة بين المعمورة وبين فيلات الرئيسين عبد الناصر والسادات.
والحق أني فوجئت بعد يومين أو ثلاثة بتليفون من موظف في الرئاسة يقول لي إن الرئيس السادات قد أمر بأن يدرج اسمي ضمن من تخصص لهم شقق من كبار موظفي الدولة والرئاسة، وأن يقسط ثمنها كما هو الحال بالنسبة للآخرين، وشكرت للرجل مروءته، فقد تصورت أنه أدرك أن الأثرياء من تجار الخردة والخيش لا يمكن أن يستولوا على كل المتاح من الشمس والبحر والهواء، بحيث لا يبقى ثمة ثقب إبرة لكاتب أو شاعر أو عالم أو موظف يفني عمره وحياته في خدمة بلاده، ولا يستطيع أن يملك أو يستمتع بصيف أو ببحر أو بهواء.
وكنا قد وصلنا شهر أكتوبر والعائلة - عائلتي - كلها سعيدة بأن مشكلة بهاء قد حلت، وأنه أبدا أبدا لن تتكرر مأساة كتم أنفاسه كل صيف. في ذلك الشهر أقيم الاحتفال السنوي بعيد العلم، ذلك الذي توزع فيه الأنواط والجوائز، ودعيت لحضوره، وجلست ومعي الفنان الكبير صلاح طاهر نشاهد فقرات الحفل، وفي الاستراحة فوجئت بالأستاذ فوزي عبد الحافظ سكرتير الرئيس السادات يأتي لي حيث كنا أنا وصلاح نقف، وينتحي بي جانبا ويقول لي: إن الرئيس قد سحب منك الشقة، أي شقة؟ شقة المعمورة واستغربت تماما وسألت: لماذا؟ قال: ألم تكتب مقالا في الأسبوع الماضي عنوانه: مطلوب واحد قانون؟ قلت: نعم، قال ما دمت تريد تطبيق القانون فقد قرر الرئيس أن يطبقه عليك ويسحب منك التخصيص. والحق أني أحسست بشيء كالغثيان، إنني أعرف أن معارف وأصدقاء للرئاسة وللمحافظ مخصصة لهم عشرات الشقق، وهل معنى أن أكتب مقالا أطالب فيه بأن يسري القانون على الكبير والصغير، دون أي استثناء أن أعاقب بمنع الهواء عن صدر ابني؟ مع أن التخصيص قانوني ويترك للمحافظ وللرئاسة نسبة تصل إلى 25٪ من الشقق المعروضة لبيعها مباشرة دون إدخالها نظام القرعة، قلت له: يا سيدي إذا كان القانون سيسود في مصر بإلغاء تخصيص الشقة لي، وسيصبح كل شيء في البلد على ما يرام فأهلا به من إجراء، وأرجوك أن تبلغ شكري للرئيس على هذا الإجراء «العادل».
والحق أن شخصية الرئيس السادات كإنسان أو كبطل تراجيدي أو درامي لم تنل حظها من التأليف، فقد كانت تلك «العملة» أصغر كثيرا من حجم رئيس الجمهورية بل ولم تفلح في عقابي أو إسكاتي، فقد مضيت أكتب مقالات من أمثال: تعالوا ننظف مصر، وتعالوا ننظف مصر ثانية، أقول: لا يزال الرئيس السادات لم يكتب عن شخصيته وعن تصرفاته كما يجب، فبعد أقل من 15 يوما يبدو أنه كان قد راجع نفسه ووجد أنه تصرف بما لا يليق به ككبير للعائلة المصرية، وأن إجراء سحب الشقة مني لا يؤذي إلا ابني الصغير الذي لا حول له ولا قوة؛ إذ وجدت في البريد خطابا من مكتب نائب الرئيس السيد محمد حسني مبارك يستدعيني لمقابلته بقصر العروبة، وكانت تلك أول مرة أقابله فيها، وقال لي إن الرئيس السادات حول الأمر إليه، وأنه ستخصص لنا شقة في العام القادم، ومعنى هذا أنها ستزيد بمقدار أربعة آلاف جنيه، لم يتول السيد النائب هذا، ولكن عرفته فيما بعد، ولم يكن مهما حتى لو كلفني الأمر ما كلفني طالما أنني لن أستيقظ أبدا على «شخير» ولدي حتى تكتم أنفاسه ليلا.
المهم، حصلنا في النهاية على الشقة، وما زلت من أيامها أدفع ثمنها بالتقسيط إلى الآن، وهي نفسها الشقة التي سرقت في رمضان الماضي، ولكن لا أكتب عنها لأروي القصة، أو لأستعرض حادث السرقة، ولكني أكتب من الموضوع لسبب قد لا يخطر على البال مطلقا.
فقد دق لي عبد العظيم البواب ذات صباح رمضاني تليفونا من الإسكندرية قائلا إنه اكتشف أن لصا اقتحم الشقة وطلب مني الحضور لمعرفة ما سرق منها، وذهبنا على عجل إلى هناك، وفحصنا الشقة، ولم نجد شيئا ثمينا أو ذا بال قد سرق منها، فماذا يمكن أن يوجد في شقة مصيف إلا بضعة كراسي أو شماسي وملابس صيف؟ الذي أدهشني حقا أن أثمن ما سرقه اللص كان أنبوبتي بوتاجاز، وكانا، نظرا لوجودهما في فراندة صغيرة ملحقة بالمطبخ هما السبب الذي من أجله كسر اللص «شيش» البلكونة، ودخل الشقة وأخذ الأنبوبتين، مع راديو كاسيت، ومروحة، وأشياء من هذا القبيل ...
وأخذت أتأمل حادث السرقة تأملا أعمق بكثير من مجرد كونه حادث سرقة، فمسألة أن يكسر لص باب شقة أو يقتحم نافذتها ممكن أن تحدث، ولكن أن يكون الدافع إلى السرقة، الدافع الوحيد، هو أنبوبتا بوتاجاز فارغتان، مسألة غريبة فعلا، إنسان يعرض نفسه لأن يضبط متلبسا بجناية أو جنحة سرقة واقتحام بيت من أجل الاستيلاء على أنبوبتي بوتاجاز مسألة قد تدعو في ظاهرها للضحك، ولكن في حقيقتها لا بد أن تدعو للرثاء، فحتى اللصوص قد أصابتهم الأزمة الاقتصادية وأصبحت مسألة أن يعرض إنسان منهم نفسه للسجن من أجل أنبوبة بوتاجاز لا يتعدى ثمنها الثلاثين جنيها مسألة واردة.
أبلغت البوليس بالطبع وجاء ضابط المباحث، وجاء «بوكس» فيه أربعة مخبرين، ومفتش من إدارة السرقات بمديرية أمن الإسكندرية، وجاء فنيون من المعمل الجنائي ورفعوا البصمات، وكانت النتيجة أن عاد ضابط المباحث ومخبروها بعدد من البوابين ليستجوبوهم، وما كاد الموكب يمضي حتى وجدت نساء البوابين وبناتهم وأولادهم يتقاطرون على الشقة، وكذلك بعض رجال المنطقة ويستعطفونني لأتوسط لهم في الإفراج عن أزواجهم في تلك الأيام الرمضانية الكريمة، وكان يستعطفونني ونظراتهم تحرجني، وكأني قد أصبحت أنا الجاني وليس المجني عليه المسروقة شقته، ووجدتني أقضي يومين في الإسكندرية رغم مشاغلي الكثيرة فقط للتوسط للإفراج عن البوابين وأمري إلى الله، وحين نجحت أخيرا في هذا عدت إلى القاهرة بخفي حنين، أو في حقيقة الأمر بدون خفي حنين، وهذا هو ما غاظني حقا، فرغم أن الحصول على أنبوبتي بوتاجاز وجدته أمرا مستحيلا فلا توجد في الإسكندرية كلها أنبوبة بوتاجاز واحدة، ورغم سرقة وسام الجمهورية وأشياء لها قيمة معنوية كبيرة، إلا أن ما أحزنني ولا يزال يحزنني هو أن اللص قد سرق حذائي ماركة «باتا» الذي كنت أعتز به كثيرا؛ ذلك أن مقاس قدمي 46، وفي الصيف لا أطيق ارتداء الجورب، وكنت أستبدل الحذاء والجورب بما يسمى «سباتري» ولعامين متتاليين وأنا أبحث عن سباتري على قدر مقاسي دون أن أعثر له على أثر، حتى إني ذهبت إلى بورسعيد خصيصا لاحتمال أن أجد هذا المقاس هناك، وعدت دون أن أعثر للمقاس على أثر، إلى أن ذهبت إلى شركة باتا في الإسكندرية وسألت البائع عن المقاس، فقال لي إن آخر مقاسات يصنعونها لا تتعدى 44، وبالصدفة البحتة كان رئيس الشركة الأستاذ عادل يمر، وحين عرف المشكلة ابتسم لي ابتسامة مصرية محببة وقال: سنصنع لك «سباتري» مخصوصا، وطبعا استنكرت أن يفعل هذا فقال لي: إنه لا يفعله استثناء ولكن هناك بعض المواطنين المصريين أحجام أقدامهم عريضة من الأمام مثل أقدامي ومنهم محافظ القاهرة الصديق يوسف صبري أبو طالب ووزير الخزانة السابق الدكتور سلطان أبو علي يعانون من نفس المشكلة؛ ومن أجل هذا صنع قالبا مخصوصا لهذه الحالات الشاذة، وأيضا للمواطنين الذين يدوخون الدوخات السبع ولا يجدون مقاسهم. وما أروع وأسعد اللحظة التي عدت فيها بعد يومين فوجدت زوجين من الإسباتريهات لا يتجاوز ثمن الواحد منها سبعة جنيهات، وحين جربتهما أحسست براحة لم أحس بها منذ زمن طويل، حتى إني كنت لا أكاد أخلع أيهما من قدمي، بل بهما أستطيع أن ألف اليابان كلها وجنوب شرقي آسيا، وبدونهما لم أكن أستطيع أن أتحرك أكثر من بضعة أمتار، وكنت أتركهما في الإسكندرية، والطامة الكبرى أني وجدت أن اللص قد استولى عليهما مع أنه كانت توجد أسفل الدولاب أحذية جلدية أغلى وأكثر أناقة.
إذن اللص كان يعاني مثلي من كبر القدمين ولا بد أنه فرح فرحة عمره بالعثور عليهما إذ كان ممكنا أن يأخذ من الشقة أشياء أخرى، ولكن فرحته جعلته يكتفي بهذه الغنيمة، وأنبوبتي البوتاجاز اقتحم من أجلهما الشقة، ولولا أنني وأنا في طريقي للقاهرة مررت على إدارة شركة باتا ورئيس مجلس إدارتها وقصصت عليه القصة فطمأنني أن القالب الكبير لا زال عندهم، وأنه يمكنني أن أحصل على سباتريهات أخرى لكانت تعاستي ستبقى إلى أبد الآبدين، وبالمرة تفرجت على إدارة ومصانع شركة باتا بالإسكندرية، وهي شركة قطاع عام، لولاها، ولولا أسعارها الرخيصة لمشى نصف المصريين حفاة، ومع هذا فهي تحقق ربحا مجزيا تماما، وتكاد في نظافة مبناها ومصانعها تعادل إن لم تتفوق على بعض مصانع القطاع الخاص، ومن هذه الجولة اكتشفت أن مشكلة القطاع العام ليست مشكلة اقتصادية أو عمالة زائدة أو كل تلك الأسباب التي نقرؤها صباح مساء، إنها مشكلة إدارة أولا وثانيا وثالثا، أعطني مديرا يحب عمله ويتقنه ويشيع تلك الروح في موظفيه وعماله يعطك قطاعا عاما ناجحا، أما الشركات والهيئات الفاشلة فسببها الأوحد في رأيي أننا نعين فيها أناسا لا يبحثون إلا عن شكليات الوظيفة وفخامة المكتب ونوع جهاز التكييف والتليفونات ذات النغمات الموسيقية. إنني أقترح على الدكتور محمد عبد الوهاب وزير الصناعة أن يأخذ مديري شركات القطاع العام الخاسرة في جولة على شركاته الناجحة، ويريهم على الطبيعة لماذا ينجح الناجح ولماذا تفسد بعض الشركات وتخسر.
Página desconocida