La Ciudad Ideal en los Filósofos del Siglo XVIII
المدينة الفاضلة عند فلاسفة القرن الثامن عشر
Géneros
والفلاسفة أدنى إلى روح الدين مما قدروا، كانوا حملة رسالة الحركات الدينية المسيحية مجردة من صبغتها الدينية، ولقد أسرف كتاب القرن التاسع عشر في تأكيد جانب السلب، من كفاح القرن الثامن عشر في سبيل نصرة العقل، وأسرفنا نحن في القرن العشرين في فهمنا من سالبهم معاني تزيد كثيرا على ما قصدوا، وفي الوقت نفسه قبلنا منهم طبقا لما أرادوا موجبهم وتقريراتهم.
وهذه التقريرات في منتهى البساطة، وهي تدعي صحة كل ما هو محتاج لإقامة الدليل على صحته، فلا عجب أن نتصور في القرن العشرين أن أولئك الشاكين من رجال القرن الثامن عشر كانوا قوما سريعي التصديق، سهلي الاقتناع، وأن عواطفهم ساقتهم دون روية إلى قبول الكثير من الكلام المعاد، وإلى التصديق بوجود الدواء الذي يشفي من كل داء.
وإن شئنا أن نلتمس وسيلة لفهم عقلية عصر من العصور، فخير ما نفعل هو أن نفتش عن الكلمات الدائرة على ألسنة أهله، وهذه كانت في القرن الثالث عشر: الله، الإثم، النعمة، الجنة، النجاة، وهي في القرن التاسع عشر: المادة، الحقيقة، الحقيقي، التطور، التقدم المطرد، وفي القرن العشرين: النسبية، التعاقب، الملاءمة، الوظيفة، المركب، وكانت في القرن الثامن عشر: الطبيعة، القانون الطبيعي، المبدأ الأول، العقل، العاطفة، الإنسانية، القابلية للكمال، الفضيلة.
وفي القرن الثامن عشر أقام الفلاسفة «مدينتهم الفاضلة» على دعائم ترتكز على هذا الثرى، وتصوروا الربوبية على ما يشتهون، ثم استحوذ عليهم ما أنساهم ذكر الله، ومنهم من قسا قلبه فجحده، إلا أن أكثرهم لم يهو إلى هذا؛ فالجحود معناه كون بلا نظام، وهذا لم يطيقوا أن يتصوروه، وبقي أغلبهم على الإيمان برب الكون، وهو المبدأ الأول، أو الكائن الأعظم أو المقتدر الكبير، أو المحرك الأول، وهو العلم، وهو الخير، واعتقدوا أنه أظهر الخلق على مشيئته لا عن طريق الكتب المقدسة والكنيسة، بل عن طريق كتاب الطبيعة الأكبر، وهو كتاب منشور للعالمين، وأنه ما من فكرة أو عادة أو سنة من السنن ببالغة الكمال، إلا إن كانت متفقة مع القوانين التي تطلع الطبيعة الناس عليها في جميع الآباد.
والطبيعة عند رجال العصور الوسطى كانت كونا تصوريا، مفارقا للكون الحقيقي، أو هي تركيب منطقي مثاله في العقل الإلهي، والقانون الطبيعي يتعلق بهذا الكون التصوري، ولا علاقة له بالظواهر الطبيعية، أما في القرن الثامن عشر، فالطبيعة هي الحقيقة المادية القائمة، والقانون الطبيعي ليس تركيبا من تراكيب المنطق القياسي، بل هو الأفعال المشاهدة بالعيان التي تفعلها الأشياء المادية.
ويرجع هذا التطور في فكرة الطبيعة لمكتشفات القرن السابع عشر العلمية، وبخاصة مكتشفات نيوتون. الطبيعة هي ما يراه أي واحد من الناس بعينه ويلمسها بيده فيما حوله، تجرى على سنن لا غموض فيها، تطلع آحاد الناس - جاهلهم وعالمهم على حد سواء - على قوانينها النافذة في كل شيء، وما الفلسفة إلا الإدراك السليم البسيط، وما دامت قد صارت تستخدم أنابيب الاختبار بدلا من فن الجدل، فلأي إنسان بالقدر الذي يسمح به ذكاؤه أن يكون فيلسوفا.
واتخذوا من الفلسفة النيوتونية على ما تصوروها أساسا للدين الطبيعي وللفلسفة الأخلاقية، واعتقدوا أيضا أن العقل لا يحصل على شيء ما من المعرفة بالوراثة، فليست هناك معان غريزية، ولكنه يحصل على المعرفة بوجوده في بيئته، وبالإحساسات التي تتدفق، والنفس عند الميلاد تخلو من أي معنى مغروس فيها، وهي حينئذ كالصحيفة البيضاء من الورقة الخالية من أي نقش، ثم ينقش العالم الطبيعي الخارجي والإنساني على هذه الصحيفة البيضاء جميع المعاني والمبادئ خيرها وشرها، المرقومة في النفس، فإن كان المحيط الخارجي مضطرب النغم، متنافر الألحان، فالنفس تكون كذلك، ولو تحقق ما يجب أن يتحقق - وليس ذلك بعزيز - واستقام النغم وانتظم اللحن، فالنفس تستقيم أيضا، فلا أساس إذن لما توهمه المتدينون من أن الإنسان آثم خسيس بجبلته، بل الصحيح أن الإنسان سوته الطبيعة، والطبيعة خلقها الله، ولبني الإنسان المقدرة على أن ينشئوا بين النظام الطبيعي العام وأفكارهم وأفعالهم ونظمهم توافقا وانسجاما، ولا يلزمهم لبلوغ هذا سوى استعمال ملكاتهم الطبيعية، وهكذا آمنوا بأن في الإمكان العمل لتشكيل كل شأن من شئون الحياة طبقا لقوانين الطبيعة وقوانين رب الطبيعة.
ولكنهم ما لبثوا حتى ثارت شبهات، فإن قيل إن الطبيعة خلقها الله، وإن الإنسان خلقه الله، فكيف يتأتى أن تكون للإنسان عادات وأفعال متنافرة مع الطبيعة؟ وهل يستطيع الفلاسفة أن يزعموا أن التنافر في الظاهر فقط، وأن لا شر مطلقا في الطبيعة؟ أيتبعون العقل حتى النهاية، وليكن ما يكون؟ وما النهاية؟ وجهتان لا ثالث لهما: العودة للدين أو التقدم نحو الإلحاد.
ولكن القرن الثامن عشر وجد مخرجا، وجده بتطويع العقل؛ وذلك بأن أضافوا إليه العواطف، فجعلوا الحكم لا له وحده، بل له وللقلب معا؛ وذلك أيضا بأن قيدوه بقيود التجارب، فجعلوا لها القول الفصل، وذلك أخيرا بأن استمهلوه مناشدين إياه أن يرجئ حكمه إلى أجل، فظل الفلاسفة هكذا تحت لواء العقل، وساروا قدما لبناء صرح «المدينة الفاضلة»، وجعلها آية التمام والكمال والبهاء.
المحاضرة الثالثة: التاريخ الجديد أو الفلسفة تعلم الناس بالأمثال
Página desconocida