La Ciudad Ideal en los Filósofos del Siglo XVIII
المدينة الفاضلة عند فلاسفة القرن الثامن عشر
Géneros
30
والظاهر أن الموضوع على هذا النحو كان من تحديد فالكونيه. ويذكرنا بموضوعات الجوائز التي أحبها القوم في القرن الثامن عشر حبا جما، لما وجدوا فيها من لذة أرضت ميلهم لاستطلاع كل شيء والمجادلة حول كل شيء، وقد جاءت في الحوار بين فالكونيه وديدرو هذه المسألة: إذا سلمنا بأنه قد ثبت ثبوتا قاطعا أن اصطداما سيحدث في يوم معين في المستقبل غير البعيد بين الأرض ونجم مذنب، وأن الاصطدام سيحطم الأرض تحطيما تاما، فماذا يكون تأثير معرفة هذه الحقيقة في أعمال الناس؟ لا تأثير بالمرة في رأي فالكونيه، أما ديدرو فقد ذهب إلى الضد، وقال: إن التأثير يكون نكبة أي نكبة، فإن توقع هذه النهاية يقتل كل ما يبعث في الإنسان الرغبة في الإتيان بأي عمل عظيم أو خير، إن توقع النهاية للعالم يبطل كل شيء، فلا طموح ولا منشآت لتخليد ذكر ولا شعراء ولا مؤرخون، وقد يبطل قيام الحروب فنعدم النابهين من رجال الحرب، وينصرف كل إنسان لمعاشه يزرع حديقته ويغرس كرنبه،
31
وأوى الرجلان للفراش دون الاتفاق على رأي، وأبت عليهما المشكلة أن يغفلاها أو يغفلا عنها، فتابعا الجدال فيها بالرسائل، ودام ذلك عدة سنوات، وتشغل رسائل ديدرو وحده حول الموضوع أكثر من مائتي صفحة من الطبعة الجامعة مؤلفاته.
32
ومن رسائله ما هو في حجم الكتاب الصغير، ألا يلفت هذا النظر؟ فها هو ذا رجل برح به هم البشرية فجهد جهد المستميت، وانفعل انفعال المقتتل، وسطر مائتي صفحة أو تزيد ليثبت أن الناس لو تأكدوا من انتهاء العالم فلا تجيء من بعدهم أعقاب يذكرونهم بالخير أو بالشر، لاندفعوا توا في طريق الغواية والآثام.
والذي غاظ ديدرو من صاحبه أنه لم يحمل الموضوع على أي معنى من معاني الجد، أما هو فقد كاد أن يكون بالنسبة له أمر حياة أو موت، فأبى أن يدعه جانبا، وظلت المشكلة تشغل باله طوال حياته، وكانت إن هي تركته فليس هو لها بتارك، تقلقه أحيانا ويقلقها هو أحيانا أخرى، وبين آونة وأخرى نراه يكر عليها كرة جديدة عنيفة، يكر مثلا في كتاب (ابن أخي رامو)، وفي كتاب (الفسيولوجيا)، وفي «المقال في أقلاديوس ونيرون».
ولب المشكلة في الواقع هو المسألة المستعصية عن أسس الأخلاق والحياة الطيبة، وقد عرض ديدرو للأسس المصدقة مثل الإيمان بالله وبالبعث، وانتهى به التفكير إلى إنكارها، ولكن الأمر لم ينته عنده بذلك، فتساءل: وماذا يبقى للإنسان إن حرم ثواب الآخرة؟ وأي شيء يمنع الإنسان إن حرم ثواب الآخرة من أن يخلي نفسه وهواها؟ ولم يتعرض للعذاب من أجل الحق والعدل إن لم يوف أجره في دنياه أو في أخراه؟ ومهما أجاب العقل عن هذه الأسئلة فإن قلبه الرحيم ثبته في إيقانه بأن الفضيلة حق، هي حقيقة الحقائق، وأن سلوك طريق الفضيلة لا بد ملاق جزاءه، ولكنه لم يستطع أن يتصور إلا جزاء واحدا فقط، وهو رجاء خلود الذكر لدى الأجيال المستقبلة، ويتعجب ممن ينكر هذا فيقول: «ألا ترى أن رجاء خلود الذكر هو المشجع الوحيد والمعضد الوحيد والسلوان الوحيد في أيام الشقاء.»
33
وأيضا لو كان أسلافنا لم يقدموا شيئا من أجلنا، ولو كنا لا نقدم شيئا لأخلافنا، فإن ما تبتغيه الطبيعة للنوع الإنساني من كمال يذهب سدى،
Página desconocida