La Ciudad Ideal en los Filósofos del Siglo XVIII
المدينة الفاضلة عند فلاسفة القرن الثامن عشر
Géneros
11
وهو أبدع ما كتب إطلاقا، والكتاب عبارة عن حوار متألق في أسلوبه تألق محاورات هيوم في أسلوبها، وكلاهما يدور على مشكلة واحدة، ولكن على خلاف المحاورات لا ينتهي «ابن أخي رامو» إلى شيء محدد، لا ينتهي حتى إلى بساطة ما انتهى إليه ديكنز في صحف بيكويك، وهو الإيمان بالقيم الخلقية الأولية، بالمحبة والمودة، بأن يسعد الإنسان بإسعاد غيره.
12
هذا؛ ولم يكن لديدرو نصيب من رصانة هيوم، فبقي حتى آخر عمره مشتت الفؤاد يلتمس عقله قاعدة كافية يبني عليها الفعل الفاضل، ولكنه لا يحصل عليها، ولا يستطيع قلبه أن ينكر الإيقان بأن لا شيء في هذا الوجود يفضل أن يكون الإنسان رجل خير.
13
وإنا لنحس في كل ما كتب ديدرو أن الرجل كان قلقا على مصير الأخلاق، وقد قال: إن أكبر ما كان يتمنى أن يضع كتابا جامعا في هذا الموضوع، وإنه لو أتيح له ذلك، لكان هذا أعظم ما يعتز به في آخر أيامه، وهاك وصفه لما حدث: «لقد هبت الشروع، ولم أجرؤ على أن أسطر الكلمات الأولى من الكتاب، فقد قلت لنفسي: إنني إن فشلت أو لم أخرجه للناس على أكمل وجه، كنت عدوا للفضيلة من حيث لا أحتسب، وزينت لهم الرذيلة دون أن أقصد، ولم أرني أهلا للقيام بهذا العمل الرفيع، وهكذا كانت هذه أمنية شغلت خاطري دائما دون أن تتحقق.»
14
وديدرو يمثل قلق رجال عصره على الأخلاق واهتمامهم بها أتم تمثيل، فإن الفلاسفة عموما كانوا حريصين على أن يعدهم الناس «رجال الفضيلة» حرص ديدرو وهيوم على هذا؛ ولهذا الحرص علته، فهم جميعا يدركون أن خصومهم يعتبرونهم أعداء للأخلاق والفضيلة، وأنهم إن عجزوا عن أن يوجدوا بدلا من المبادئ الأخلاقية المستندة إلى النصرانية، مبادئ تقوم على قواعد جديدة أكثر توطيدا كان هذا العجز إقرارا منهم على أنفسهم بأن كل ما أتوه من سلب وطعن في عقائد النصرانية كان مجرد عبث عابثين، وكان الفلاسفة يعرفون تماما أن أنفذ تهمة وجهها إليهم أولياء المسيحية هي أن الكفر يهدم أسس المبادئ الخلقية والنظام الاجتماعي، ولذا ذهب ديدرو إلى أنه يجب على الفلاسفة أن يواجهوا هذا الاتهام، وأنه لا يكفيهم أنهم أعلم من رجال اللاهوت، بل يلزمهم أن يثبتوا أنهم أفضل منهم، وأن الفلسفة أقدر على تكوين الأخبار من النعمة الإلهية الموصوفة بالغناء والنفوذ.
15
وكيف تثبت الفلسفة أنها أقدر من النعمة الإلهية المستغنية النافذة، إن كانت كل بضاعتها ما قررته من «أن المبدأ الأول للوجود سيان لديه الخير والشر، كما هو سيان لديه الحرارة والبرودة»؟ ولذا كان ديدرو بعيد النظر سديد الرأي حقا، حينما أحجم عن وضع كتابه الجامع في الأخلاق خشية الفشل، فالفشل أسوأ أثرا من ترك الموضوع، والفيلسوف الذي يهدم قواعد الأخلاق المستمدة من الدين، ثم يعجز عن أن يحل محلها مبادئ مستمدة من الطبيعة يستحق أن يسمى «ولي الشر»، وقد قامت الأخلاق، وقام النظام الطبيعي منذ أن عرفه الإنسان على الإيمان بالله، واقترنت الحياة الطيبة في يقين الناس بالعناية الإلهية العلية على كل شيء، فإذا ما قيل للناس أن لا إيمان ولا عناية إلهية ماذا يكون الحال؟ ماذا يكون الحال إذا ما ترك الإنسان لأحكام تقديره لا يقيه واق شر جبلته، إن دنيا هذا حالها لا يستطيع إنسان عاقل أن يتصورها بلا جزع؛ ولهذا كله - وبغض النظر عن الاعتبارات الشخصية والبواعث الخصوصية - أحس الفلاسفة أن إعلانهم الكفر، لا يقل اعترافا بالفشل عن عودتهم للجماعة النصرانية عودة الخراف الضالة لحظيرتها، فأشفقوا جد الإشفاق من أن ينعتوا بالإلحاد، والنعت «ملحد» يفيد في الجو الفكري إذ ذاك كل ما هو منذر بسوء، كل ما هو فحش، كل ما هو بغي، كل ما يفضي للفتنة وشق عصا الجماعة، ولكن ألا يتنافى إشفاقهم هذا مع كونهم مستنيرين؟ لا يتنافى قطعا، فجوهر الاستنارة هو اطمئنان الضمير، وأثمن ما يطلبه الفيلسوف هو المعرفة اليقينية، وكيف يستقيم هذان مع الكفر.
Página desconocida