La ciudad ideal a través de la historia
المدينة الفاضلة عبر التاريخ
Géneros
وتقدم «مدينة المسيحيين» وصفا موجزا للكلية السابقة الذكر، ولا يتضح من هذا الوصف إن كانت مؤلفة من جميع الراغبين في القيام بالدراسات والبحوث، أو إن كانت مقصورة على فئة قليلة مختارة: «وها هو الوقت قد حان للاقتراب من المقام الذي يقع في قلب المدينة، وهو الذي يمكنك بحق أن تدعوه مركز نشاط الدولة ... هنا يستقر الدين، والعدل، والعلم، من هنا تحكم المدينة، وبلسانهم تنطق الفصاحة. إنني لم أر في حياتي مثل هذا القدر العظيم من الكمال البشري مجتمعا في مكان واحد.»
وإذا كنا لا نعرف على وجه الدقة ما هي طبيعة الكلية أو خصائصها، فإن أندريا يقدم لنا من ناحية أخرى وصفا مفصلا وملموسا للمكتبة، ومستودع الأسلحة، والمختبرات، والحدائق النباتية الملحقة بها.
وفي المختبر المخصص لعلم الكيمياء تفحص «خصائص المعادن، والمياه المعدنية، والخضراوات، بل وحياة الحيوانات، كما تصفى، ويضاف إليها، وتوحد فيما بينها، وذلك خدمة للجنس البشري ولمصلحة الصحة العامة ... هنا يتعلم الناس كيف يتحكمون في النار، ويستغلون الهواء، ويفحصون الماء، ويختبرون الأرض». وهناك صيدلية يجد المرء فيها مجموعة مختارة بعناية من كل ما هو متوافر في الطبيعة «لا للمحافظة على صحة الناس فقط، ولكن للعمل على تقدم التعليم بوجه عام». ولديهم كذلك مكان مخصص للتشريح، حيث يتم تشريح الحيوانات، لأن سكان مدينة المسيحيين يعلمون شبابهم عمليات الحياة والأعضاء المختلفة، وذلك (من خلال ملاحظة) أجزاء الجسم الطبيعي وهم يبينون لهم التكوين العجيب للعظام، ولديهم لهذا الغرض عدد غير قليل من الهياكل العظمية من أنواع مختلفة، كما يصفون لهم تشريح الجسم البشري، وإن كانوا لا يفعلون هذا إلا نادرا، لأن العقول المفرطة في الحساسية تشمئز من مشاهدة العذاب الذي نقاسيه.
ويحظى مختبر التاريخ الطبيعي بأعظم قدر من العناية. وهنا نجد أن التاريخ الطبيعي - كما كان الحال في مدينة الشمس - يصور على الحوائط بالتفصيل وبأكبر قدر من الإتقان والمهارة: إن الظواهر المختلفة التي تحدث في السماء، ومناظر الأرض في المناطق المختلفة، والأجناس البشرية المتعدد، والصور التي تمثل الحيوانات، والأشكال المعبرة عن النمو، وأصناف الأحجار والجواهر النفيسة، كل هذه ليست متاحة ومسماة بأسمائها فحسب، بل إنهم يشرحونها أيضا ويعرفون بطبيعتها وصفاتها. ولكن المختبر لا يحتوي فقط على صور توضيحية، وإنما هو كذلك متحف منظم تنظيما جيدا، وتحفظ فيه جميع العينات الطبيعية التي يمكن أن تكون نافعة أو مضرة لجسم الإنسان، فضلا عن وجود خبير كفء يتولى شرح استعمالاتها وخصائصها. ويدين سكان «مدينة المسيحيين» من يستمدون معرفتهم من الكتب وحدها، «ويترددون عندما يواجهون عشبة صغيرة ...»
وتؤدي الرياضيات بطبيعة الحال دورا مهما، وهناك ورشة «أثرية» للأدوات الفلكية، وقاعة نفيسة للرياضيات «تضم الرسوم البيانية للسماوات، بالإضافة إلى قاعة مشابهة للطبيعيات تحتوي على الرسوم البيانية للأرض».
وإذا كنا قد لاحظنا أن الحرب أو الاستعدادات للحرب تلعب دورا مهما في اليوتوبيات التي سبق الكلام عنه، فإن «مدينة المسيحيين» تذكرهما باختصار شديد: «أما عن الأسلحة (...) فموقفهم منها أكثر ميلا إلى التشكك والنقد. وعلى الرغم من أن (بقية بلاد) العالم تمجد الحرب تمجيدا شديدا، (وتفتخر) بالمحركات الميكانيكية، والمراجم وغيرها من الآلات والأسلحة الحربية، فإن هؤلاء الناس يشعرون بالفزع من كل أنواع الأدوات المميتة أو المتعاملة مع الموت والمكدسة بأعداد كبيرة جدا، ويعرضونها على الزوار وهم يستنكرون قسوة البشر. ومع ذلك فإنهم يحملون الأسلحة - وإن يكن ذلك على غير رغبتهم - لكي يتقوا بها شرورا أعظم، كما يوزعونها على الأفراد ليلجئوا إليها في الظروف الطارئة والحالات المفاجئة.»
وقبل أن نترك «مدينة المسيحيين» نود أن نقتبس الفقرات التالية التي تعبر تعبيرا جيدا عن الطابع المثالي لجماعة أندريا: «ربما يهمك أن تعرف ما هي الفائدة التي ستعود على إنسان - يتصف بالأخلاق الحميدة والمواهب الممتازة - من الحياة في هذه المدينة، على الرغم من أنك لم تسمع شيئا عن المكافآت. حسن! إن المواطن المسيحي في هذه المدينة المسيحية يحل المشكلة بمنتهى السهولة، ففي رضا الله عنه ما يكفي من المجد والكسب ... ورضا الضمير عما قدمه من خير، وكرامة الطبيعة التي قهرت الظلام، وعظمة السيطرة على الانفعالات، وفوق كل شيء الفرحة الطاغية، التي يستحيل التعبير عنها، بصحبة القديسين، كلها تتملك الروح المهذبة وتتغلغل فيها بعمق بحيث لا تترك مجالا للخوف من التخلي عن الملذات الدنيوية.»
وعلى هذا النحو أيضا يمكننا أن نقول عن العقوبات، إنه لا حاجة إليها في مكان يضم معبد الرب المقدس، ودولة مختارة لا تستطيع فيها الحرية المسيحية أن تعيق الأوامر، ناهيك عن التهديدات، وإنما تتوجه طائعة نحو المسيح. ومع ذلك فلا بد من الاعتراف بأن اللحم البشري
60
لا يمكن الانتصار عليه تماما في أي مكان؛ ولهذا فإنه لم يستفد من التحذيرات المتكررة (وفي حالات الضرورة من التقويم الجاد) فلا بد من إخضاعه بالجلد بالسياط. وهناك لهذا الغرض أنواع مناسبة ومختلفة من العلاج، ويتم اختيارها بحيث تصلح لجميع الأفراد. والحق أن العلاج يصبح ميسورا لو تحرر المرء من شهواته الجسدية، أو استبدل العصا الغليظة بنغزات العشق والشبق. إن الوقاية من سهولة ارتكاب الناس للخطيئة هي فن الفنون. ومن جهة أخرى، ما أقبح أن يصب المرء جام غضبه على أولئك الذين يستعجل خرابهم بإلقاء الحجارة عليهم ... وعلى كل حال فإن قضاة مدينة المسيحيين يحرصون في هذا الصدد على إنزال أقصى أنواع العقاب بتلك الآثام التي تقترف في حق الرب، والأقل منها قسوة بتلك التي ترتكب ضد الناس، وأخفها جميعا بالجرائم التي تضر بالملكية. وما أشد اختلاف (بلاد) العالم التي تعاقب اللص المسكين بأقصى مما تعاقب المجدف أو الزاني! ولما كان المواطنون المسيحيون يلزمون الحذر دائما من إراقة الدماء، فإنهم لا يوافقون على أن تكون عقوبة الإعدام شكلا من أشكال العقاب، وعلى العكس من ذلك نجد العالم، الذي يخضب يديه دائما حتى بدم الأخ، يتطوع بإصدار أول حكم يخطر على باله، متوهما بهذه الحيلة أنه لم يمد يده إلى سيف ولا حبل ولا عجلة ولا نار، وإنما استعان بأحد خدام القانون. وليشهد علي المسيح (إذا قلت) إن الحكومات تسير بالتأكيد على المنطق السليم حين تحول الفسقة إلى لصوص، وغير المتعففين إلى زناة، والمتسكعين إلى قتلة، والمحظيات إلى ساحرات شريرات، وذلك لكي يتسنى لها أن تجد الإنسان الذي تتقرب بدمه إلى الله. إن قطع الفروع الأولى للرذيلة واقتلاع جذورها لأكثر إنسانية من بتر سوقها الناضجة. ذلك أن أي إنسان يستطيع أن يدمر إنسانا، غير أن أفضل الناس هو الذي يستطيع أن يصلح. (5) فرانسيس بيكون: «أطلنطا الجديدة»
Página desconocida