La ciudad ideal a través de la historia
المدينة الفاضلة عبر التاريخ
Géneros
وفي القاعة الثالثة نرجع مرة أخرى إلى العلوم الأقل سرية، كالحساب والهندسة والجبر، وهي التي تنمي الملكات العقلية وتساعد على حل المسائل العلمية باجتهاد ملحوظ. وهنا أيضا يتلقى الطلاب علم الأعداد الصوفية الذي لعب دورا بالغ الأهمية في فلسفة عصر النهضة. فقد تصور المخططون لعصر النهضة أن من المستحيل ألا يكون الله، وهو المخطط الأول، قد نظم العالم وفقا لقواعد ومقاييس متناسقة. ومن المؤكد أن المهندس الأعظم ، كما يقول أندريا، «لم يخلق هذه الآلية (الميكانيزم) المهولة بطريق المصادفة العشوائية، ولكن بحكمته العميمة أكملها بالمقاييس والأعداد والنسب، وأضاف إليها عناصر الزمن المتميزة بالتجانس العجيب.» وهذه الخطة المثيرة للإعجاب لا يمكن اكتشافها «ببوصلات الفلسفة البشرية»، بل عن طريق الوحي الإلهي وحده، الذي ليس من السهل الإحاطة بأسراره. ويجب التزام نفس الحذر عند التنبؤ بالمستقبل، فلا ينكر أندريا قيمة التنبؤات، ولكنه ينبه إلى أن الله قد احتفظ لنفسه (بالعلم) بالمستقبل، ولم يكشف عنه إلا لعدد محدود من الناس وعلى فترات متباعدة جدا.
وتشترط معرفة الحساب والهندسة لدخول القسم الرابع المخصص للموسيقى. والموسيقى في مدينة المسيحيين تتطلع لمحاكاة الموسيقى السماوية ولا تشجع «جنون الرقص، وعبث الأغاني الشعبية، وصخب العربدة البشعة. وقد طردت كل هذه الأشياء من الجمهورية ولم يعد يسمع عنها. وآلاتهم الموسيقية، التي يملكون عددا كبيرا ومتنوعا منها ويعزف عليها كل فرد تقريبا ببراعة، يتم تكييف أنغامها مع الآلات الإلهية كما تطوف جوقتهم الموسيقية، المخصصة كذلك للموسيقى الدينية الجادة، بشوارع المدينة مرة كل أسبوع، بالإضافة إلى أيام العطلات.»
ويخصص القسم الخامس للفلك والتنجيم «الجديرين بالجنس البشري كأي فن آخر». فلا يليق بالإنسان «أن ينظر إلى السماء بغفلة لا تقل عن غفلة الحيوان». والذين لا يعرفون قيمة التنجيم في الشئون البشرية، أو ينكرونه بحماقة وغباء، يجب أن يحكم عليهم بحفر الأرض وزرع الحقول، لأطول فترة ممكنة، وفي أسوأ طقس ممكن. ولكن التنجيم هنا أبعد ما يكون عن القيام بالدور الأساسي الذي قام به في «مدينة الشمس». ويقول «سكان مدينة المسيحيين» إنهم لا يطمئنون للاعتماد على النجوم في كل شيء «من اللحظة الأولى للوجود والميلاد، ولا للتسليم بالقضاء في الحياة والموت ابتداء من هذه اللحظة؛ ولهذا يؤكدون بدلا من ذلك أنهم يبحثون عن الوسيلة التي يمكنهم بها أن يتحكموا في النجوم، كما يتخلصون بالإيمان الصادق من نير العبودية لها إذا وجد.»
وفي القاعة السادسة يتعلمون الفلسفة الطبيعية والتاريخ المدني والكنسي. وهم يرون أن معرفة العوالم المختلفة والمخلوقات التي تعيش فيها يجب أن تقترن بمعرفة أحداث المأساة البشرية. ويؤكد أندريا الحاجة (الشديدة) لمعرفة الحقيقة التاريخية، ولكنه يحذر أيضا من أولئك الذين لا يرون إلا شرور الجنس البشري، والجرائم الفظيعة، والحروب البشعة، والمذابح المرعبة، ويتجاهلون بذور الفضيلة، وكرامة الروح البشرية، (والعهود الطويلة) التي توافر فيها السلام والاستقرار. «وهناك باحثون تدفعهم الجرأة الكافية على إنكار هذه الحقائق واعتبارها من قبيل الخرافات، والواقع أنهم يستحقون هم أنفسهم بجدارة أن تروى عنهم الخرافات ...»
لقد رأينا كيف اهتم مشروع أندريا التعليمي بأكمله بالتربية الأخلاقية بقدر اهتمامه بنشر المعرفة. وعلى الرغم من هذا فقد خصص القسم الخامس للأخلاق، بحيث تتضمن دراسة جميع الفضائل الإنسانية من الناحيتين النظرية والعملية، بالإضافة إلى فن الحكم والمحبة المسيحية، كما أكد أن أقيم الخصال الإنسانية هي المساواة، والرغبة في السلام، واحتقار الثروة.
والمدرسة الأخيرة مخصصة للاهوت، ويتلقى فيها الطلاب دروسا عن الكتاب المقدس وما فيه من جوانب «القوة، والبلاغة، والتأثير، والعمق»، كما يدرسون اللاهوت العملي الذي يتعلمون منه كيفية الصلاة والتأمل. ولديهم كذلك مدرسة للتنبؤ، لا لتعليم التكهن بالمستقبل، بل لاختبار أولئك الذين حباهم الله موهبة التنبؤ، وملاحظة مدى اتساق الروح التنبئية وصدقها.
وبجانب القاعات الثماني التي انتهينا من وصفها توجد حجرتان لدراسة الطب وحجرتان أخريان لدراسة التشريع. والدراسة الأخيرة أكاديمية بحتة، إذ ليست هناك حاجة للمحامين في مدينة المسيحيين. ومع ذلك فلم يختف المحامون والموثقون، لسبب أو لآخر، من المدينة، إذ يخبرنا أندريا أنهم يعهدون إليهم بنسخ أي شيء يحتاجون إليه، وذلك حتى لا يركنوا للكسل والفراغ.
وليس هناك ما يثير الدهشة في أن يعطي أندريا للكيمياء والعلوم الطبيعية والتشريح والرياضيات والفلك قدرا كبيرا من الأهمية، إذ كانت هي العلوم التي لا يخطر على بال رجل من رجال عصر النهضة أن يتجاهلها، إلا إذا تصورنا أن الإغريقي كان يمكنه أن يتجاهل الموسيقى والرياضة البدنية ويسقطها من نظام التعليم. غير أن المدهش حقا هو ذلك الموقف الحديث والعقلاني الذي يتخذه أندريا في عرضه لمنهج التعليم. فالمختبرات التي يصفها ليست مخصصة لكبار العلماء كما هو الحال في بيت سليمان الذي نجده عند بيكون، وإنما هي متاحة للطلاب، إذا كانت قد نظمت بطريقة جذابة إلى أقصى حد ممكن، فلم يكن ذلك لمجرد «العرض»، بل لأن «دخول العلم (إلى العقل) من خلال العينين أكثر سهولة من دخوله عن طريق الأذنين، كما أنه يكون محببا إلى النفس في الظروف الراقية المهذبة أكثر منه في الظروف المتدنية الكريهة. والذين يتصورون أن التعليم لا يتم إلا في الكهوف المظلمة وبملامح متجهمة، إنما يخدعون في الحقيقة أنفسهم.»
ويعد أندريا أول من أدخل تعليم الفنون التصويرية في خطة مشروعه التعليمي والتربوي. ففي مدينة المسيحيين «ستوديو» (مرسم) أو «محل متسع جدا لفن التصوير»، ولا تقتصر أهمية الرسم والتصوير والنحت على تزيين المدينة بالصور والتماثيل الجميلة والنافعة، بل يتعداه إلى تشجيع التعليم الفني، لأن «الذين يمارسون العمل بالفرشاة يدخلون أي مكان ومعهم عيونهم المجربة، وأيديهم المدربة على المحاكاة، كما يجلبون معهم ما هو أهم من ذلك، وهو الحكم المنصف المتمرس على الأشياء، بعيدا عن العقم أو التدني.» ومع ذلك فإن المرء معرض للوقوع في حبائل الشيطان حتى وهو يستعمل الفرشاة، ولهذا «ينبه على الفنانين في مدينة المسيحيين تنبيها مشددا بأن يحرصوا على الطهر حتى لا يسمموا أعين الأبرياء بصور غير طاهرة ...»
وقد اهتم أندريا، بجانب اهتمامه بإصلاح التعليم، بتكوين «كلية» أو جمعية يمكن أن تضم جميع العلماء وتزودهم بالوسائل الضرورية للقيام ببحوثهم. وقد وضع في رسالته «الشهيرة» - التي نشرت في عام 1614م وتم توزيعها مخطوطة قبل ذلك في عام 1610م - معالم خطة للبحث العلمي، وقدم فيها نموذجا لكلية أو جمعية من الباحثين يمكنها القيام «بإصلاح عام» للعالم المتمدن بأسره. وقد بين الأستاذ «هيلد»، في المقدمة التي صدر بها ترجمته الإنجليزية «لمدينة المسيحيين»، كيف أثرت آراء أندريا في الكتاب والفلاسفة الذين أسسوا الجمعية الملكية في لندن. ويحتمل أيضا أن يكون بيكون قد اطلع على أعمال أندريا، وأن تكون هذه الأعمال قد أثرت في فكرته المبتكرة عن «بيت سليمان».
Página desconocida