إني أعتقد أن رأس التربية الصحيحة، وأساس التهذيب الجيد هو أن نعلم أبناءنا أن كل ما يحتاجون إليه لا يهبط إليهم من السماء، بل هو يصنع بأيدي الناس، وأن نعلمهم أن كل ما يعيشون به ومنه مصنوع بأيدي أناس لا يحبونهم ولا يعرفونهم. نعم، إن تفهيم ذلك للأطفال وغرسه في صدورهم أمر عزيز المنال (ولكني أسأل الله أن يفهم ذلك كل طفل عندما يكبر ويشب)، على أن الطفل يدرك ويفهم أن خادمته تنظف ما يوسخ وهي غاضبة، وأنها تمسح حذاءه بلا مسرة ولا انشراح صدر، وأنها إذا فعلت ذلك كله إنما هي لا تفعله حبا به، بل لأسباب أخرى يجهلها، فإذا لم يخجل من عمله كانت مبادي تربيته قاصرة، وكان مستقبله عبوسا؛ إذ تتأصل في صدره أصول الغطرسة القبيحة. فعليك أيتها العزيزة أن تحمي بنيك من هذه المنكرات، واسمعي في ذلك نصيحة رجل قد وقف مع الشيخوخة والهرم على حافة قبره، فعلمي أولادك أن يخدموا أنفسهم، ويقضوا حاجاتهم بأيديهم، علميهم أن يملئوا أباريقهم، وأن يطرحوا ماء الغسل، وأن ينظفوا أثوابهم، وأن يمسحوا أحذيتهم، وأن يمهدوا أسرتهم وفرشهم، وأن يضعوا النظام في غرفهم، وثقي أيتها العزيزة أن هذه الأعمال التي أوصيك الآن بها هي على حقارتها الأساس الكبير لسعادة أبنائك ونجاحهم في الأعمال الخطيرة، بل هي أهم من درس اللغات، ومعرفة التاريخ، وخطط البلدان ... إلخ إلخ.
ولا أكتمك أن الصعوبة في الوصول إلى هذه الغاية ليست في تعليم الطفل أن يفعل ذلك، بل في حمله على أن يفعله بلا تذمر، وبما أن الولد يفعل كل ما يفعله أبواه فلهذا أنا أقول لك اشتغلي أنت في شئونك وشئون بيتك على مرأى من أولادك، فإذا فعلت وجدت في العمل لذة كبيرة، واصبري واثبتي في ذلك شهرا تعرفي صدق ما أقول، ويكن أبناؤك أكبر مسرة بالعمل منك، فإذا زدت على ما قلته لك أنك حملتيهم على العمل في الحقل والبستان والحديقة زدتيهم في ذلك انتفاعا، وإن يكن العمل في الحديقة شيئا يعد قتلا للوقت، ولم يختلف أخلاقيان ولا مهذبان عاقلان على أن أحسن تهذيب للنفس وأفضل تربية للبدن هي بأن يقوم الناشئ بأعماله وبحاجاته؛ لأنه بالعمل يدرك أن الناس كلهم إخوة متساوون، فالطفل يعرف إذا اعتمل واشتغل لنفسه لماذا لا يترك النجار أو الحداد أو الصراف أعمالهم التي يرتزقون منها هم وعيالهم، ولكن كيف يفهم الطفل والناشئ الذي لا يشتغل، بل تقدم له حاجاته، ويخدم في كل شئونه كبيرة كانت أو صغيرة، سبب اشتغال غيره لأجله بما هو قادر على فعله؛ فتفسير ذلك كله يكون عنده واحدا، وهو أن الناس قسمان؛ قسم سائد وقسم مستعبد، فإذا أتيناه بعد ذلك بكل برهان، وأقمنا له كل حجة على أن الناس متساوون، وعلى أنهم إخوة في شروط الحياة ومرافقها، كذب ذلك بدليل ما يلاقيه من خدمة غيره له منذ الصباح حتى المساء، ومتى سقطت حجة واحدة أمام الطفل الناشئ سقطت كل حجة، فإذا لم يقتنع بهذا في البداءة عز على أهله وإن كانوا شيوخا، وعلى الشيوخ وإن كانوا علماء أن يقنعوه بأمر أو قول عن التهذيب وكرم الخلق. نعم، إنه يسمع بأذنيه، ولكن نبضات قلبه تقول له إن كل ما يلقى عليك كذب ومين، فلا يصدق واحدا من أهله ولا غيرهم، وينتهي أمره بأنه يكذب كل ما يقال له عن كل أدب وفضيلة.
ولم يبق لي قبل ختام كتابي هذا إلا أن أقول لك كلمة واحدة في هذا الموضوع، وهي أنه إذا تعذر على الطفل أو الناشئ أن يقوم بكل ما أوصيتك به فلا أقل من أن يشعر بأنه قد أنقص مما فرض عليه حتما، وأضرب لك مثلا: إن الولد إذا لم ينظف أثوابه ولم يمسح حذاءه أفهميه أنه لا يقدر على الخروج بأثواب متسخة وبحذاء بلا مسح، وأنه إذا لم يملأ إبريقه ولم ينظف طسته لا يعطى ماء ليشرب أو ليغسل، وحذار من أن يأخذك الخجل إذا لم تدعيهم يخرجون ويشربون، فإن أكثر الأعمال السيئة ناتجة عن خجل الناس من أنهم لم يأتوها مع معرفتهم فسادها.
وهاك الرسالة الثانية بحروفها:
كتاب غريب وجوابه
باكو في 6 أكتوبر سنة 1899
إلى الحكيم العظيم المحترم ليون نيكولا يفتش تولستوي، سلام باحترام كثير من أندريا باسيليفيتش لابسف.
أريد أن أعترف لك باختصار أنني بدأت أومن منذ سنة 1869، فقد قال المسيح: من أراد أن يكون معي فليحمل صليبه وليترك نفسه ويتبعني. فهذا القول يدل على أن كل واحد يمكنه أن يكون كالمسيح، وقال أيضا: ليس العبد أفضل من سيده، يكفي العبد أن يكون كسيده. يعني أن كل رجل من تلامذة المسيح يجب أن يكون رجلا كاملا كما كان السيد.
ورغبة في أن أكون أنا كاملا أيضا قطعت كل علاقة لي في هذا العالم؛ فتركت اسمي واعتقادي وعيلتي، وأصبحت مالك أمري أقول للناس: «لست منكم، ولكنني إنسان وحيد مفرد، أنا ملك نفسي.»
فمن أجل هذا قبضوا علي وأخذوني إلى القاضي ليسألني عن اعتقادي ، فلما وصلت إليه جلست، فقال لي: انزع قبعتك. فأجبته: أمام من؟ قال: أمام السلطة. فقلت: ما هو مصدر السلطة؟ فقال: الله. فقلت: هل أنت الله لأنزع أمامك قبعتي؟ فأجاب: كلا. فقلت: إذا لم تكن الله فلماذا تطلب مني أن أنزع قبعتي؟
Página desconocida