إذا كنت أيها الحبر ترى في نشر كتابي منفعة للكنيسة فأنا أوافق على نشره، وأعد موافقتي فرضا لازبا علي أمام الحق والكنيسة المقدسة التي عظمت في عيني بعد قراءتي الإهانة التي ألحقها بها الكونت تولستوي ...
وهذا نص الكتاب الأول:
أيها السيد الكلي القداسة، قرأت بالأمس من أيادي الناس جواب الكونت تولستوي على منشور المجمع المقدس، وقد أثر بي تأثيرا سيئا ما ورد به، وهو أن الكنيسة لم تسع لإرشاده ورده عن ضلاله، وبما أن ادعاءه هذا افتراء محض، ولدحضه أورد لكم ما سمعته بأذني من نفس الكونت تولستوي.
منذ عام زرت الكونت في قرية ياسانيا بوليانيا، وفي أثناء إقامتي عنده علمت أن كاهن سجن تولا يتردد عليه مرارا عديدة، فسألت الكونت عما إذا كان يسر بزيارة ذلك الكاهن؛ فأجابني ما نصه بالحرف الواحد: «إن كاهن سجن تولا رجل حسن السيرة دمث الأخلاق لين العريكة، وفوق ذلك فإنه مؤمن إيمانا حقيقيا، وإني أسر كثيرا بمسامرته، غير أن سروري ينعكس لدى معرفتي بأنه يأتي إلي من قبل رئيس الكهنة لإرشادي ووعظي».
أكتب لكم هذه الشهادة وليس لي بذلك غاية سوى إظهار الحقيقة التي لو سكت عنها لم أسلم من نخس الضمير؛ بل كنت أشعر دائما بأني أخشى غضب الكاتب الشهير أكثر من غضب الله عز وجل. ا.ه.
أما بقية ما جاء في جواب الكونت تولستوي فإن الفؤاد يجمد جزعا لتلاوتها، ويقشعر الجسم من هول ما تضمنته تلك الرسالة؛ لأنه يعد تاريخ تجسد المسيح، وتعاليم الفداء، ومعرفة المسيح إلها، تهكما وتجديفا، أعني أنه يمحو بذلك كل الديانة المسيحية، فلما طالعت ذلك، وعرفت أنه كان يتمنى الحصول على رخصة لطبع كل كتبه بخصوص الدين، ولو نال متمناه فلا ريب أنه كان لا يمضي وقت وجيز على الكنيسة إلا ويخرج منها الناس أفواجا، ولا يبقى فيها غير الزعانف فأحاق بي خوف عظيم من أعمال وأفكار هذا الرجل التعيس، وتمثل أمامي يوليان الذي أراد أن يمحو عن وجه الأرض تعليم المسيح، وتذكرت هلاكه وتاريخه المشين، ففهت بنبوة أشعياء النبي على بابل: اصعد إلى السموات، وارفع كرسي فوق كواكب الله، وأصير مثل العلي، لكنه انحدر إلى الهاوية إلى أسفل الجب.
ولقد جمد فؤادي من تجديف الكونت تولستوي الغير المعقول، فإن ذلك ما هو إلا مخاصمة الله وإشهار حرب على المسيح ابن الله الحي الذي سيدين الأحياء والأموات. قال بولص الرسول: «إن كان أحد لا يحب الله الرب يسوع المسيح فليكن أناثيما ماران أثا.» «1 ك ص16 عدد 22»، وجاء في بشارة متى: «من ينكر الرب يسوع فالمسيح ينكره.» «ص10 عدد 33»، ومن ينكر ألوهية يسوع المسيح ويتمسك بهذا التجديف فهو محروم، وإنكاره هذا يجلب عليه اللعنة دون أن يوجهها إليه أحد، ويبعد نفسه عن الله، ويحرمها الحياة الإلهية، ويبتعد عن روح قدسه، ولقد قال الرسول: «ليس أحد وهو يتكلم بروح الله يقول يسوع أناثيما، وليس أحد يقدر أن يقول يسوع رب إلا بالروح القدس.» «1 ك ص12 عدد 3»، وإن الكونت تولستوي قال هذه الأناثيما على الرب يسوع المسيح.
خطرات أفكار لأسقف أرثوذكسي طالع اعتراف تولستوي الجديد
أيجوز بعد هذا الإقرار الجديد الذي جاهر به الكونت تولستوي أن ندعوه تابعا للكنيسة الأرثوذكسية المقدسة أو مؤمنا باستقامة رأيها، فإذا كان أحد لم يزل مشككا بذلك، فلا ريب أنه بعد مطالعته رسالة الكونت الأخيرة تزول من نفسه تلك الشكوك، ولم يكتف الكونت بأنه أنكر جهارا جميع عقائد الديانة المسيحية، وجاهر بالابتعاد عن الكنيسة المستقيمة الرأي، وجحد جميع أسرارها المقدسة، وسمى تعاليمها مجموعة أكاذيب وخداع وخرافات خشنة، وزاد على ذلك بأنه أعلن جميع أقاربه بأن لا يدفنوه حسب طقوس تلك الكنيسة، فهل بعد هذا يجوز للمجمع المقدس أن يصمت بعد أن سمع هرطقة تولستوي وشاهد تعاليمه التي انتشرت بسرعة في سائر أقطار الأرض ولو أنه لم يقبلها أحد ولكنها وجهت التفات الناس إليها؟ ثم أليس أن المجمع بسكوته يكون سببا لعثرة أبناء الكنيسة المؤمنين، وتركهم الإيمان القويم، وخروجهم عن حظيرتها؟ وهل يسوغ للمجمع أن يأذن بالصلاة على جثة تولستوي الذي طبق ذكره أربع أقطار المسكونة؟ أليس أنه يجلب بذلك هزؤ وسخرية جميع أعداء الكنيسة، وعليه نقول: إن المجمع المقدس تصرف بقطعه تولستوي بحكمة زائدة، وما فعل إلا واجباته المطلوبة منه، ولا يختلف في ذلك اثنان، فنسأل الله أن يوطد دعائم الكنيسة، حتى إنها لا تخجل من المجاهرة بمعتقداتها وإيمانها بالله وبنفسها. أما الكونت، فقد اعترف وأقر بأنه ابتعد عن الكنيسة، وأيد أفكاره التي جاهر بها، غير أنه علق بعض ملاحظات على منشور المجمع ضده، وانتقد بعض مواضع منه انتقادا أملاه عليه الغرض الذي تملكه، فاعترض على المجمع لأنه قطعه وحده من الكنيسة مع وجود كثيرين يعتقدون اعتقاده، وصرحوا باعتقادهم في الكلام والحديث والنشرات والكتب، ولكن المجمع لم يقطع أحدا منهم عن الكنيسة سواه، وفي ذلك ما فيه من الانحراف عن جادة الحق والإنصاف، وأشار في كتابه إشارة خفية بأنه هو الكاتب الشهير الذي قبل العالم أفكاره، وترجم كتبه إلى جميع اللغات في نفس وقت ظهورها باللغة الروسية، وأنه لا يجوز مساواته بزعانف الكتاب. ثم قال بأن أتباعه بخصوص الدين قليلون؛ لأن المراقبة كانت تمنع انتشار كتبه الدينية فأضحى وجودها من جراء ذلك كالعدم، ونحن لا نوافقه على ذلك أبدا؛ لأنه وإن كان أتباعه قليلين فمؤلفاته انتشرت في كل مكان عرف به اسم تولستوي، وهذا الاسم أصبح أشهر من نار على علم؛ لأنه ما من إنسان يحسن القراءة في العالم إلا ويعرفه، وإذا كان يجهله بعض بسطاء روسيا فسيأتي وقت يتنور به الجميع ويطالعون مؤلفات تولستوي التي ستدوم إلى الأبد، فينبغي علينا من الآن أن ننبه أفكار البسطاء الذين ستشرق عليهم أنوار العلم في المستقبل، ونوضح لهم بأجلى بيان وأقوى برهان فساد هذه البدعة أو الضلالة، حتى لا ينغروا بسفاسف الأقوال، ويسقطوا في مهاوي الضلال.
وشهرة تولستوي بعثت الكنيسة لأن تفقه واجباتها، فألقت الحرم والقطع على كل من ينكر تعاليمها، ولم تهتم بالكتاب الذين هم في الخفاء فيما سبق، وهذه عادة جرت عليها الكنيسة منذ إنشائها إلى يومنا هذا؛ لأنها تعلم ضعف الجنس البشري، ولذلك تتجاوز كثيرا ما عن هفوات بعض أبنائها الخوارج، ولذلك كانت تقطع الرجل الذي تتيقن تهوره الزائد وتتأكد بأنه لا يمكن إصلاحه وإرجاعه عن ضلاله، وتصرفها هذا إذا تأملناه بعين الحقيقة نراه بالغا منتهى العدالة والإنصاف، وهي تعلم بأن مصير الإنسان النهائي لا يتوقف على قطعة ورق مكتوبة أو مطبوعة، ولا على فرزه من بين أعضائها بالحرم، بل يتوقف على خروجه وابتعاده عن طريق الحق وينبوع الحياة، وحرم الكنيسة في مثل هذه الأحوال لا يكون إلا كشاهد على ذلك، ولو فرضنا أن رجال الكنيسة الروحيين تغاضوا عن وجود شخص شذ بين المؤمنين، وتساهلوا بعدم قطعه، أو أنهم لم يعلموا بوجوده، فإنه لا يستطيع أن يختفي من أمام قضاء الله العادل الذي لا تخفى عنه خافية، وكذلك لا يضر قداسة الكنيسة، وعدا هذا فاللعنة أو الأناثيما ما هي إلا آلة عقاب للانتقام من الخاطي؛ لأن الرب يقول: «لي الانتقام، أنا أجازي، يقول الرب.» والكنيسة تعلم هذه الكلمات أكثر من غيرها، واللعنة الكنائسية ما هي إلا واسطة لإرجاع الخاطئ، وإذ لم يكن ذلك في الإمكان فإنه يقصد بها إعلان جماعة الكنيسة عن ظهور ضلال بدعة، وبذلك تمنع ضلال البسطاء؛ لأنها في قطعها الضال وإظهار زيغه وضلاله توطد عقائد إيمانها وتؤيدها بالبينات الدامغة فتمنع انتشار الضلال، وكما قدمنا إن الكنيسة كانت تجنح إلى مثل ذلك فقط في الحوادث المهمة التي يخشى منها جلب الضرر والتعب كما فعلت الآن بظهور ضلالة تولستوي الشهير.
Página desconocida