تأليف
أحمد فؤاد الأهواني
الفلسفة والمجتمع
الإنسان مدني بالطبع، يعيش في مجتمع يتعاون أفراده على النهوض بحاجاته المختلفة، ولا بد له من توفير بعض الحاجات الضرورية، أقلها المأكل والملبس والمسكن والدفاع عن النفس من المخاطر. ومنذ أزمنة موغلة في القدم، يقدرها العلماء بما لا يقل عن عشرة آلاف عام قبل الميلاد، ارتقى الإنسان سلم الحضارة مع ابتكار الأدوات التي يستخدمها في الطحن، والطهو، والنسج، والطعن، والنزال. وتعقدت هذه الأدوات شيئا فشيئا، حتى ابتعد الإنسان أشواطا بعيدة عن حالة الفطرة، أو الحالة الحيوانية، وأصبح لا يتيسر له أن يعيش إلا إذا تعلم كيف يصنع هذه الأدوات والآلات، وكيف يستخدمها ويسخرها في تحقيق مصالحه.
ثم تناقلت الأجيال اللاحقة عن السابقة ما اكتسبته البشرية في آلاف من السنين، وأصبح «التعلم» و«التعليم» الوسيلة لنقل الحضارة من جيل إلى جيل. فكان «التعلم» عن طريق المحاكاة سبيلا غير مقصود لهذا الانتقال. وأضحى «التعليم» مرتبة أعلى في الحضارة يدل على وعي المجتمع بأهدافه وغاياته التي يتجه إليها ويسعى إلى بلوغها.
هذا التعليم المقصود الموجه إلى غاية - لا جرم - يحتاج إلى شعور بالغايات، وإلى معرفة بالطرق الموصلة إلى هذه الغايات، مع تنظيم هذه الطرق واختيار أفضلها إصابة للغرض، وأكثرها استقامة إلى بلوغ الهدف. ونهض جماعة من أصحاب الغيرة على مصالح قومهم، يفكرون في أقوم السبل إلى التعليم، وظهر في كل أمة أفراد يعدون منها بمنزلة القادة، كانوا يسمون غالبا بالكهان أو العرافين، وأحيانا بالحكماء، يرسمون لجماعتهم طريق السلامة والصلاح في السياسة والأخلاق والاقتصاد والدين والفن والعلم.
وافترق الكهان أو الحكماء عن غيرهم بأمور ثلاثة؛ التميز بالمعرفة، واحتكارها، وصياغتها.
فقد شعر الكاهن أن علمه بالطب لعلاج الأبدان، والسحر لتسخير القوى الطبيعية أو تجنب ضررها وتخفيفها، أكسبه سلطانا على الناس جعلهم يلجئون إليه كلما حزبهم أمر، فيمنحهم التمائم والتعاويذ والأعشاب التي يتداوون بها. هذا السلطان جعله يشعر بالتميز عنهم، والمنزلة فيهم، وبحث عن علة هذه المنزلة، فرأى أنها ترجع إلى المعرفة؛ فأقبل عليها، واستزاد منها، واحتفظ بها سرا لنفسه حتى يظل متميزا عن غيره.
ومن هنا نشأ احتكار المعرفة.
والمعرفة النظرية طريقها وعر، محفوف بالأشواك، لا بالورود والرياحين. إنه طريق يحتاج إلى الدأب والمثابرة، مع إنعام النظر وإدامة التأمل واستخلاص الفكر، واستنتاج القواعد العامة من المشاهدات والتجارب، ثم تطبيق القاعدة لمعرفة صحتها، وتصحيحها إذا تبين فيها خطأ، مما يحتاج إلى زمن طويل قد لا يقاس بعمر الفرد، بل بعمر أجيال وأجيال. إن ما بلغته البشرية اليوم من علم ومعرفة، إنما هو ثمرة الإنسانية كلها منذ انبثاق فجر الحضارة. إنه تاريخ الفكر البشري، مر - ولا يزال - بمرحلتين؛ مرحلة احتكار، ومرحلة إباحة. ففي مرحلة الاحتكار يحتفظ فرد، والأغلب بضعة أفراد قليلين، بأسرار المعرفة التي إما أن يكون قد حصلها بنفسه، أو أخذها عن معلمه، وحفظها عنه، ليودعها تلميذا آخر، وهكذا، بحيث تتسلسل المعرفة في أسرة معينة، أو جماعة معينة، جيلا بعد جيل؛ ولذلك كان هذا الضرب من «التعليم» سرا من الأسرار، وكانت مدارسه سرية، وتعاليمه «مستورة» أو «باطنية». أما النوع الآخر فهو التعاليم المباحة المنشورة، والتي يسمح للناس بمعرفتها. ألا ترى إلى مباحث الذرة والتفجير الذري وصنع القنبلة الذرية والهيدروجينية كيف تحتفظ بها بعض الدول في العصر الحاضر سرا من الأسرار؟ بل أيسر من هذا، ألا ترى كيف تحتفظ الشركات الصناعية ب «سر الصنعة»؛ حتى لا يزاحمها في السوق أحد؟ فلا عجب أن تنشأ في القديم المدارس السرية وتحتكر المعرفة، وما يتبعها من نفوذ وسلطان.
Página desconocida