وهكذا دخل فرفريوس تاريخ الفلسفة بمدخله وشجرته.
وبموته قفلت المدرسة أبوابها، إن في روما أو الإسكندرية، وانتقلت بروحها إلى الشرق مرة أخرى؛ فظهر يامبليخوس (270-330) شارح أفلاطون وأرسطو مع ميل إلى الأفلاطونية الحديثة، ثم برقليس أو بروقلوس (410-485) الذي تعلم بالإسكندرية، ثم عاد إلى أثينا فرأس الأكاديمية، ومزج بين الفلسفة والعلم الرياضي وحذا حذو الأفلاطونية المحدثة، واشتهر عند الإسلاميين والمسيحيين على السواء في العصر الوسيط.
مدرسة «جنديسابور»
إنها همزة الوصل بين الفلسفة اليونانية والعربية، على الرغم من أنها تقع في فارس. أما كيف انتقلت الفلسفة اليونانية إليها، وبخاصة الفلسفة الإسكندرانية التي تميزت بنزعتها العلمية، فلذلك قصة يجدر بنا أن نرويها.
لم ينقطع النزاع بين الفرس واليونان بعد خضوع اليونان لروما مع اتساع الدولة الرومانية؛ إذا انتقل هذا النزاع فأصبح بين الفرس والرومان، وكان للرومان الغلبة دائما حين كانت الإمبراطورية قوية، فلما بدأت تضعف وتتفكك انعكست الآية، وانهزمت جيوشها أمام جحافل الفرس. وقد أشرنا عند الحديث عن أفلوطين أنه انخرط في جيش الإمبراطور جورديان الثالث مع حملته على الفرس؛ بغية الاطلاع على مذاهب الشرق، وما فيه من حكمة، ولكن فشل الحملة، جعله يعود أدراجه ويتجه إلى روما، حيث افتتح مدرسته. نشبت الحرب لأن فارس قامت بها دولة الساسانيين على يد مؤسسها أردشير، حتى إذا استتب له الأمر أرسل سنة 230 إلى روما يتحدى الإمبراطور ويطلب إعادة الأقاليم التي كانت تابعة للفرس مثل آسيا الصغرى وسوريا، ومات أردشير سنة 241 ولما تبدأ الحرب، التي نهض بها ابنه شابور (241-272)، والتقى بجيش جورديان الذي هزمه أول الأمر، ولكن مصرع جورديان سنة 244 أوقف الحرب، واتفق على أن تحكم فارس أرمينيا، وروما العراق. ثم نشبت الحرب مرة أخرى سنة 258، وكان على رأس الجيش الروماني الإمبراطور فاليريان، ودارت الدائرة على الإمبراطور وانهزم هزيمة ساحقة وأسر هو وجيشه.
أحسن شابور معاملة الأسرى، واستطاع بما منحهم من حرية أن يستفيد منهم، وكان فيهم كثير من الفنيين، أطباء ومهندسين وصناع مهرة، وهؤلاء هم الذين قاموا ببناء السد الكبير على نهر دجيل عند تستر، والمعروف باسم «شاذروان تستر». وأنزل شابور - أو سابور - الأسرى في بقعة قريبة من مدينة سوس، ومن مدينة تستر، فأقاموا بها معسكرا أصبح مدينة «جنديسابور»؛ أي معسكر سابور. وازدهرت المدينة، وأصبحت قاعدة إقليم خوزستان أيام الساسانيين، الذين اتخذوا من مدينة السوس مقرهم الشتوي، ومن «جنديسابور» مقرهم الصيفي؛ لطيب مائها واعتدال هوائها. وظل ملوك الساسانيين كما يقول المسعودي في مروج الذهب حتى زمان هرمز يقيمون ب «جنديسابور» في خوزستان.
وقد نعم الأسرى في ظل الحكم الفارسي بحرية دينية لم ينعموا بها في كنف الرومان، الذين كانوا يضطهدون المسيحيين، مما دفعهم إلى التخفي وممارسة عباداتهم سرا. ولم يكن يعني الفرس أن يحاربوا النصارى، فتركوا لهم حرية بناء الكنائس. ثم إن «جنديسابور» لم تعد تحت حكم هرمز قاعدة العرش؛ ففقدت بذلك أهميتها، وأصبحت خرائب، إلى أن أعاد بناءها سابور الثاني سنة 362 عقب انتصاره على الإمبراطور جوليان، ووقوع عدد من الأسرى في يديه، فأنزلهم المدينة بعد تجديدها، وكانت المسيحية قد انتصرت نهائيا على الوثنية، فأصبح عبء نقل الحضارة اليونانية واقعا على عاتق الكنيسة، وقام بها في الشرق نصارى السريان وكانوا من النساطرة.
ولسنا ندري على التحقيق ما كان من أمر المدرسة في القرنين الرابع والخامس، ولكن المؤكد أن كسرى أنوشروان (531-578) هو الذي أحاط المدرسة برعايته، وطمع أن تكون على مثال المدارس الفلسفية وبخاصة مدرسة الإسكندرية التي كانت تعنى بالرياضيات والطب والفلسفة، وهو الاتجاه الإسكندراني الذي تحدثنا عنه من قبل. وهو الذي رحب بفلاسفة أثينا الذين طردهم جستنيان عندما أغلق أبواب الأكاديمية والمشائية. وعندئذ طبق المنهج الإسكندراني في التعليم، واستعملت الكتب نفسها التي كانت تدرس في الإسكندرية، إن في الطب أو في الرياضيات. ولم تكن «جنديسابور» هي المدينة الوحيدة في فارس التي كانت مقرا للعلوم والفلسفة، بل ظهرت مدارس في مدن أخرى، ذكر ياقوت في معجم البلدان ما يدل على وجودها؛ إذ يقول عند الكلام عن «ريشهر»، «وهي مختصر من ريو أردشير، ناحية من كورة أرجان، كان ينزلها في الفرس كشته دفتران، وهم كتاب كتابة الجستق،
1
وهي الكتابة التي كان يكتب بها كتب الطب والنجوم والفلسفة، وليس بها اليوم أحد يكتب بالفارسية ولا بالعربية.» والمقصود بالنجوم علم الفلك.
Página desconocida