الفلسفة والمجتمع
الفيثاغورية
الأكاديمية
المشائية
الرواق والحديقة
مدرسة الإسكندرية
مدرسة أفلوطين
مدرسة «جنديسابور»
المدارس الفلسفية الإسلامية
الفلسفة والمجتمع
الفيثاغورية
الأكاديمية
المشائية
الرواق والحديقة
مدرسة الإسكندرية
مدرسة أفلوطين
مدرسة «جنديسابور»
المدارس الفلسفية الإسلامية
المدارس الفلسفية
المدارس الفلسفية
تأليف
أحمد فؤاد الأهواني
الفلسفة والمجتمع
الإنسان مدني بالطبع، يعيش في مجتمع يتعاون أفراده على النهوض بحاجاته المختلفة، ولا بد له من توفير بعض الحاجات الضرورية، أقلها المأكل والملبس والمسكن والدفاع عن النفس من المخاطر. ومنذ أزمنة موغلة في القدم، يقدرها العلماء بما لا يقل عن عشرة آلاف عام قبل الميلاد، ارتقى الإنسان سلم الحضارة مع ابتكار الأدوات التي يستخدمها في الطحن، والطهو، والنسج، والطعن، والنزال. وتعقدت هذه الأدوات شيئا فشيئا، حتى ابتعد الإنسان أشواطا بعيدة عن حالة الفطرة، أو الحالة الحيوانية، وأصبح لا يتيسر له أن يعيش إلا إذا تعلم كيف يصنع هذه الأدوات والآلات، وكيف يستخدمها ويسخرها في تحقيق مصالحه.
ثم تناقلت الأجيال اللاحقة عن السابقة ما اكتسبته البشرية في آلاف من السنين، وأصبح «التعلم» و«التعليم» الوسيلة لنقل الحضارة من جيل إلى جيل. فكان «التعلم» عن طريق المحاكاة سبيلا غير مقصود لهذا الانتقال. وأضحى «التعليم» مرتبة أعلى في الحضارة يدل على وعي المجتمع بأهدافه وغاياته التي يتجه إليها ويسعى إلى بلوغها.
هذا التعليم المقصود الموجه إلى غاية - لا جرم - يحتاج إلى شعور بالغايات، وإلى معرفة بالطرق الموصلة إلى هذه الغايات، مع تنظيم هذه الطرق واختيار أفضلها إصابة للغرض، وأكثرها استقامة إلى بلوغ الهدف. ونهض جماعة من أصحاب الغيرة على مصالح قومهم، يفكرون في أقوم السبل إلى التعليم، وظهر في كل أمة أفراد يعدون منها بمنزلة القادة، كانوا يسمون غالبا بالكهان أو العرافين، وأحيانا بالحكماء، يرسمون لجماعتهم طريق السلامة والصلاح في السياسة والأخلاق والاقتصاد والدين والفن والعلم.
وافترق الكهان أو الحكماء عن غيرهم بأمور ثلاثة؛ التميز بالمعرفة، واحتكارها، وصياغتها.
فقد شعر الكاهن أن علمه بالطب لعلاج الأبدان، والسحر لتسخير القوى الطبيعية أو تجنب ضررها وتخفيفها، أكسبه سلطانا على الناس جعلهم يلجئون إليه كلما حزبهم أمر، فيمنحهم التمائم والتعاويذ والأعشاب التي يتداوون بها. هذا السلطان جعله يشعر بالتميز عنهم، والمنزلة فيهم، وبحث عن علة هذه المنزلة، فرأى أنها ترجع إلى المعرفة؛ فأقبل عليها، واستزاد منها، واحتفظ بها سرا لنفسه حتى يظل متميزا عن غيره.
ومن هنا نشأ احتكار المعرفة.
والمعرفة النظرية طريقها وعر، محفوف بالأشواك، لا بالورود والرياحين. إنه طريق يحتاج إلى الدأب والمثابرة، مع إنعام النظر وإدامة التأمل واستخلاص الفكر، واستنتاج القواعد العامة من المشاهدات والتجارب، ثم تطبيق القاعدة لمعرفة صحتها، وتصحيحها إذا تبين فيها خطأ، مما يحتاج إلى زمن طويل قد لا يقاس بعمر الفرد، بل بعمر أجيال وأجيال. إن ما بلغته البشرية اليوم من علم ومعرفة، إنما هو ثمرة الإنسانية كلها منذ انبثاق فجر الحضارة. إنه تاريخ الفكر البشري، مر - ولا يزال - بمرحلتين؛ مرحلة احتكار، ومرحلة إباحة. ففي مرحلة الاحتكار يحتفظ فرد، والأغلب بضعة أفراد قليلين، بأسرار المعرفة التي إما أن يكون قد حصلها بنفسه، أو أخذها عن معلمه، وحفظها عنه، ليودعها تلميذا آخر، وهكذا، بحيث تتسلسل المعرفة في أسرة معينة، أو جماعة معينة، جيلا بعد جيل؛ ولذلك كان هذا الضرب من «التعليم» سرا من الأسرار، وكانت مدارسه سرية، وتعاليمه «مستورة» أو «باطنية». أما النوع الآخر فهو التعاليم المباحة المنشورة، والتي يسمح للناس بمعرفتها. ألا ترى إلى مباحث الذرة والتفجير الذري وصنع القنبلة الذرية والهيدروجينية كيف تحتفظ بها بعض الدول في العصر الحاضر سرا من الأسرار؟ بل أيسر من هذا، ألا ترى كيف تحتفظ الشركات الصناعية ب «سر الصنعة»؛ حتى لا يزاحمها في السوق أحد؟ فلا عجب أن تنشأ في القديم المدارس السرية وتحتكر المعرفة، وما يتبعها من نفوذ وسلطان.
ولكن المعرفة تحتاج إلى تعبير، ويحتاج التعبير عنها إلى صياغتها في ثوب من اللغة والعبارات؛ حتى يمكن نقلها من شخص إلى آخر. وقد بدأ التعليم شفاها، أو بالاصطلاح الفني «سماعا»؛ أي ما يسمعه التلميذ عن معلمه، أو ما يسمعه الطفل من أهله فيحاكيهم. فلما اهتدى الإنسان إلى تسجيل الألفاظ والعبارات بالكتابة والتدوين؛ أمكن الاحتفاظ بما اهتدى إليه من معرفة، والرجوع إليه عند الحاجة، وتأمله، والنظر إليه، ومراجعته، وتصحيحه، والتقدم به خطوة خطوة إلى الأمام. وأهم من ذلك كله فيما يعنينا الآن، أنه استطاع القيام بتعليم هذه الألوان من المعارف بطريق منظم، وهو الطريق المعروف بالمدارس والتدريس. وأمكن أيضا أن يستقل التلميذ على البعد بالاطلاع على ما جاء في هذه الكتب، وأن يأخذ عنها بغير معلم سماعا، ولو أن طريق السماع أولى وآثر وأكثر فائدة.
ويتبين من هذا الاستعراض السريع للحضارة البشرية، أن قيام المدارس إنما نشأ في عصر متأخر نسبيا في تاريخ هذه الحضارة، يمكن أن يحدد - على وجه التقريب - بالقرن السادس قبل الميلاد من جهة الزمان، وفي بلاد اليونان من جهة المكان. وليس معنى ذلك أنه لم تنهض مدارس قبل ذلك في بقاع أخرى من الدنيا المتحضرة، وبخاصة في أرض مصر التي كانت نبراسا اهتدى به اليونانيون. فنحن نعرف أن قدماء المصريين باعتراف اليونانيين أنفسهم - كما سجل أرسطو في أول كتاب الميتافيزيقا قائلا: إن فلاسفة الإغريق أخذوا عن المصريين علم الهندسة - كانوا أصحاب حضارة عريقة تمتد أكثر من أربعة آلاف سنة قبل الميلاد. وأنهم برعوا في علوم الفلك والرياضيات والطب والكيمياء، إلى جانب تقدمهم في الفنون والآداب؛ كالموسيقى والتصوير والنحت والبناء. ولا نزاع في أن تقدم هذه العلوم والفنون ذلك التقدم العظيم، إنما اعتمد على تعليم منظم ينقله المعلم إلى تلاميذه عن قصد ووعي، غير أن ذلك التعليم نشأ في أحضان الدين، وفي أبهاء المعابد، وعلى أيدي الكهنة. وقد احتفظ الكهنة بتلك المعارف لأنفسهم، وجعلوها من جملة أسرارهم. بل إن بعض العلوم التي استقلت عن الدين كالهندسة والبناء، ظلت محصورة في طوائف معينة يتوارثها الأبناء عن الآباء، كما كانت الحال في سائر المهن والحرف والصنائع الأخرى. ولم يخرج قدماء المصريين من معارفهم إلى النور سوى المبادئ الأولية الضرورية لكل صغير؛ مثل الحساب والهندسة العملية، وبقيت المعارف الراقية العالية محجوبة عن الانتشار.
وقد استطاع بعض المفكرين - من قدماء الإغريق في القرن السادس قبل الميلاد - الوصول إلى تلك المعارف، والاتصال بالكهنة، فأخذوا عنهم آخر ما انتهى إليه العلم المصري، ونقلوه إلى بلادهم وأذاعوه، وسموا المعرفة الجديدة التي ابتدعوها «فلسفة»؛ فكانت هذه الصناعة الفكرية لفظا ومعنى بضاعة إغريقية، باعتراف الغرب والشرق على السواء، ولا يزال اسم الفلسفة دليلا قاطعا على هذه النسبة. أما أولئك المفكرين الذين وفدوا إلى أرض مصر ينهلون من مائها شرابا يروي الأبدان، ومن معارفها أنوارا تضيء النفوس والأرواح، وتغذو الأذهان والعقول، فإنهم عدد كبير سجل لنا التاريخ بعض أسمائهم، يكفي أن نذكر منهم طاليس، وفيثاغورس، وأفلاطون. وقد أنشأ كل منهم بعد عودته من رحلته مدرسة فلسفية، تختلف كل منها عن الأخرى شكلا وموضوعا ومكانا، ولكل منها أثر بالغ في تاريخ الفكر من جهة، وفي التأثير على المجتمع من جهة أخرى.
فقد يبدو لكثير من الناس في الوقت الحاضر أن الفلسفة، هذه الصناعة الجديدة التي ظهرت مباينة للدين والعلم على السواء، مهمة بعيدة كل البعد عن الحياة الاجتماعية، وأن المشتغلين بها قوم انعزلوا بأنفسهم مع أفكارهم وأوهامهم وأحلامهم، ثم طلعوا على الناس بهذه الأفكار الغريبة غير المألوفة. وهذا باطل، ووهم شائع انتشر عند الجمهور في العصور المتأخرة التي تدهورت فيها حال الفلسفة، وأمست بعيدة عن الحياة، منعزلة عن مطالب المجتمع. •••
فإذا رجعنا إلى الماضي البعيد في القرن السادس قبل الميلاد، وهو وقت ظهور الفلسفة، رأينا أن طاليس كان متصلا اتصالا وثيقا بحاجات المجتمع في عصره، وأن فلسفته قامت لخدمة مصالح قومه. نشأ في مدينة ملطية أحد ثغور آسيا الصغرى، وهو أحد الحكماء السبعة، وكان يؤخذ رأيه في سياسة المدينة. وقد خدمت اختراعاته الفلكية الملاحين، ويقال إنه وضع تقويما فلكيا يعد أقدم ما عرف من نوعه، بين فيه أوجه القمر، وحركة الاعتدالين، والتنبؤ بحالة الطقس. ولما كان معظم أهل ملطية من البحارة والتجار الذين يخرجون إلى البحر في سفنهم، يطوفون بثغور البحر الأبيض للتجارة؛ فإن مثل ذلك التقويم - لا جرم - يخدم المجتمع الذي نشأ فيه خدمة جليلة. ثم إن طاليس لم يكن بعيدا عن المشاركة في السياسة؛ فهو الذي نصح المدن الأيونية بالاتحاد للوقوف في وجه خطر الفرس. وهكذا كانت الفلسفة في خدمة المجتمع سياسيا واقتصاديا، وكان الفلاسفة على صلة وثيقة بحاجات المجتمع الذي يعيشون فيه.
وكذلك كان حال فيثاغورس الذي ازدهر بعد نصف قرن من طاليس، والذي هجر موطنه الأصلي في ساموس فرارا من حكم طاغيتها بوليقراطس، وزار مدن الشرق، واستقر في مصر زمنا طويلا، ينهل من معارفها، ويدرس فيها الفلك والهندسة والعقائد، وأخيرا استقر في مدينة كروتون بجنوب إيطاليا، حيث أسس مدرسته المشهورة التي سنفرد لها حديثا خاصا فيما بعد. شارك في السياسة التي جرفته تياراتها، وجنت على فرقته، وقضت على عدد كبير منهم. ولكن اتجاه فيثاغورس ومدرسته كان إلى الدين والأخلاق أكثر منه اتجاها سياسيا، فكانت مشاركته للمجتمع وسعيه إلى التقدم به عن ذلك الطريق الديني الأخلاقي. أما طاليس ومدرسته، فكانت عنايته بالعلم والنظر في الطبيعة، وأثمرت مباحثه العلمية في ترقية المجتمع من هذا السبيل. وهكذا نرى أن الفلسفة اتجهت منذ القديم وجهتين رئيستين، كل منهما تحاول التقدم بالبشرية؛ إحداهما علمية تجريبية، والأخرى أخلاقية، والتقت الوجهتان في بعض الأحيان عند بعض الفلاسفة، وبخاصة الشوامخ منهم. ويؤيد تاريخ المدارس الفلسفية ما نذهب إليه مما سيتبين عند الحديث عن هذه المدارس. ولكنها على اختلافها وتعددها، إنما كانت تعكس حاجات المجتمع، وتعد مرآة تصور ما يقوم عليه المجتمع من نظم وقوانين وشرائع، وما يسوده من آداب وفنون وعلوم، بحيث يتسنى للمواطن أن يفهم طبيعة الحياة في المجتمع الذي يعيش فيه، ويترتب على هذا الفهم التمكن من الاندراج في عجلة هذه الحياة، مسهما في تسييرها لا في تعطيلها.
ولكن المدارس الفلسفية لم تقف عند تحليل النظم الاجتماعية، ومحاولة فهمها، إلا لكي تعمل على رسم خطوط جديدة لمجتمع أفضل؛ بابتداع أنظمة جديدة تعمل على تطوير المجتمع وترقيته. ولو أنها قنعت بمرحلة الفهم والتسجيل، ما كانت مدارس فلسفية جديرة بأن تحمل هذا الاسم، وفي المدارس العادية كفاية في القيام بهذه المهمة. أما المدارس الفلسفية فلأنها بحكم وظيفتها من الهداية والإرشاد، فهي تقوم بدور القيادة الفكرية التي تأخذ بيد الأمة إلى الأمام.
وليس معنى ذلك أن كل المدارس الفلسفية كانت مجددة في الفكر، يتعمق أصحابها في البحث، ويشاركون في الإحساس بمطالب المجتمع، ويعملون على رفاهته وتنميته؛ إذ تصاب المدارس بما يصيب كل كائن حي من شيخوخة، وما يصحبها من جمود وتهدم واندفاع نحو الفناء. وقد نشأت مدارس ثم ماتت، وبقى بعضها واستمر يعيش على «تعليم» كتب القدماء وشرحها أو تلخيصها. •••
مر بنا أن المدارس الفلسفية لم تنشأ إلا في بلاد اليونان في القرن السادس قبل الميلاد، وكان بعضها يتخذ ل «التعليم» مقرا ثابتا، وينزل في دار محددة، على حين لا يتقيد بعضها الآخر بمقر ثابت أو دار معروفة، وإنما يأخذ التلميذ عن أستاذه مباشرة ثمرة لزومه وصحبته. وهذا النوع الأخير كان يقتصر في الأغلب على تلميذ واحد، مثل طاليس وتلميذه أنكسمندريس، ثم أنكسمانس تلميذ أنكسمندريس، ويعرف هؤلاء بالمدرسة الأيونية نسبة إلى أيونية، أو الملطية نسبة إلى مدينة ملطية، أو الطبيعية؛ لأنها اتجهت في بحثها إلى الطبيعة. وليست هذه التلمذة تلمذة تلقين بل تلمذة صحبة، كما نقول إن الشيخ محمد عبده تلميذ جمال الدين الأفغاني، نعني أنه صحبه، وأصبح صاحبه، وأعجب بتعاليمه، وصادفت هوى في نفسه، فأخذها عنه وأذاعها، وقد يتطور بها ويحورها. وكانت هذه التلمذة - التي هي ثمرة الصحبة - شائعة في بلاد اليونان، فكان زينون تلميذ بارمنيدس وصاحبه، كما كان أفلاطون تلميذ سقراط.
ومن الواضح أن هذه المدارس التي لم تتقيد بمكان، ولا ب «تعليم» منظم وبرنامج محدد، كانت موقوتة بزمان أصحابها، على حين أن المدارس التي اتخذت دورا ل «التعليم» مثل الأكاديمية أو اللوقيون استمرت زمانا طويلا، وتتابع عليها التلاميذ، واستمرت تؤثر في تيار الفكر المحلي والعالمي على السواء. وما بالك بمدرسة تستمر قائمة تسعة قرون من الزمان، نعني المدرستين اليونانيتين الكبيرتين الأكاديمية والمشائية. •••
ومن الطبيعي - والمدارس الفلسفية بهذه الوفرة - ألا يتسع لذكرها كلها هذا الكتاب الصغير، وفضلا عن ذلك، فإن الإحاطة الشاملة تخرج عما قصدنا إليه، وتجعل البحث تاريخا للفلسفة، وتأريخا للفكر. حقا لا يمكن لمن يرغب في الحديث عن المدارس - من حيث بناؤها وفصولها والنظام الذي تجري عليه في حياتها التعليمية - إلا أن يتعرض للمذهب الفلسفي الذي تنادي به هذه المدرسة أو تلك، غير أن التوسع في ذكر المذهب يبعد بنا عن القصد.
لهذا كله، لن يتسع المقام إلا للحديث عن بعض المدارس، وبخاصة الكبرى منها، وما كان ذا صلة وثيقة بالحضارة العربية، مع العناية بذكر المدارس الفلسفية العربية التي تعد جزءا من تراثنا.
الفيثاغورية
أعجب مدرسة فلسفية هي المدرسة التي أنشأها فيثاغورس في مدينة كروتون بجنوب إيطاليا في القرن السادس قبل الميلاد؛ فهي عجيبة في تكوينها، وعجيبة في تعاليمها، وعجيبة في أثرها.
وأول مظاهر العجب أنها تسمى الفيثاغورية، ولا يقال مدرسة فيثاغورس. والفرق بين التسميتين كبير؛ لأن مدرسة فيثاغورس تنسب إلى شخص صاحبها، وتنقضي بوفاته، أما الفيثاغورية، فإنها على الرغم من انتسابها إلى فيثاغورس، إلا أنها تتجاوز شخصه إلى جماعة الفيثاغوريين؛ فالمدرسة في حقيقة أمرها تخضع لهيئة من القادة على رأسهم فيثاغورس، وهذا هو السر في أن المدرسة لم تنقرض بموت رئيسها. وأيضا فإن فيثاغورس نفسه تلفه غلالات من الغموض والأساطير، مما جعل كثيرا من المؤرخين يشكون في وجوده.
ولسنا نغالي غلو هؤلاء المؤرخين، فلا بد أن فيثاغورس كان شخصية حقيقية، على الرغم من نسيج الخرافات الذي تراكم حول سيرته. وقد كان القرن السادس كله عصر هزات واضطرابات وانقلابات فكرية في شتى أنحاء العالم المعروف. إنه عصر كونفوشيوس وبوذا وزرادشت. وهو العصر الذي ظهرت فيه الفلسفة اليونانية على يد حكماء اليونان. وأدت يقظة الشرق الشديدة إلى الضغط على آسيا الصغرى، وعلى مصر التي احتلها قمبيز فترة قصيرة من الزمن. أما بلاد اليونان، فقد انتقل مفكروها من آسيا الصغرى إلى جنوب إيطاليا، ومنهم فيثاغورس. وكان الإغريق يعدون كل بلد ينزلون فيه جزءا من وطنهم؛ فالمدن التي أنشئت في جنوب إيطاليا، وصقلية، وشمال أفريقيا، ومصر، كلها مدن إغريقية، يتكلم أهلها اللغة اليونانية ، ويسيرون في الحكم على النظام اليوناني، فضلا عن اصطناع الشعر والتمثيل والأدب المأثور عن اليونانيين. فلا غرابة أن تنشأ مدارس في معظم تلك المدن على نسق ما كان معروفا في الوطن الأم.
ولكن مدرسة فيثاغورس كانت بعيدة عن الروح الإغريقية الأصيلة، غريبة عن تراث آلهة أوليمبوس. وما أثر عن أربابها من حكمة ترجع إلى العقل، وغريبة عن ديونيسوس إله الخمر، وما عرف عنه من اندفاع مع الهوى والعاطفة والخيال. فقد جلب فيثاغورس تعاليمه من الشرق الذي طاف بأرجائه، ففيه ديانة جديدة جاءت من طراقيا مع الإله أورفيوس، وفيه نزعة إلى الزهد لا تتفق مع النزعة الديونيسية بوجه خاص.
ويحيط الغموض بشخصية أورفيوس، فهو إله، أو نبي، أو شاعر، أو موسيقار يفتن بموسيقاه الكائنات من شتى الأصناف. وللنحلة الأورفية رأي في أصل العالم وحقيقة الإنسان؛ ففي البدء كان الزمان، ونشأ عن الزمان الأثير والعماء، وشكل الزمان بيضة في الأثير تفتحت فخرج منها النور، وانفلقت نصفين أصبح أحدهما السماء والآخر الأرض. وتزوجت جايا (الأرض) أورانوس (السماء)؛ فأنجبا ثلاث بنات وستة بنين. ولكن أورانوس ألقى بالأبناء في نهر تارتاروس حين علم بأن أبناءه سيقضون عليه. وغضبت جايا، فأنجبت التيتان وهم مردة جبابرة، وكرونوس، وريا، وأقيانوس، وتيش.
وتمضي الأسطورة فتصور لنا كيف ولد ديونيسوس من زيوس، ثم خطف التيتان الطفل وأكلوه، وكيف أعاد زيوس ديونيسوس إلى الحياة مرة ثانية، وكيف سلط على التيتان البرق والرعد فأحرقهم وجمع رمادهم، وخلق منهم الإنسان، فأصبح بذلك مركبا من طبيعتين؛ طبيعة التيتان وهي طبيعة الشر والإثم، وطبيعة ديونيسوس وهي طبيعة إلهية سامية.
واصطنعت الفيثاغورية النحلة الأورفية، وبخاصة نظريتها في النفس ونزعتها السرية.
وحين افتتح فيثاغورس مدرسته، اجتذبت عددا كبيرا من الأتباع، قيل إن عددهم بلغ ما يقرب من عشرة آلاف، وهو عدد ليس ثمرة الإحصاء، ولكنه ظن وتخمين؛ لأن العدد المثالي للمدينة الإغريقية كان ذلك العدد. ومع ذلك فليس من المستغرب أن تبلغ المدرسة هذا العدد؛ لأنها كانت تشمل الرجال والنساء على السواء. نقول مدرسة تجوزا؛ لأنها كانت أشبه بفرقة دينية، ونظام من الإخوة، قريب من الفرق الصوفية التي انتشرت في الإسلام.
والمدرسة إلى ذلك كانت ذات وجهين؛ أحدهما رياضي، والآخر أخلاقي وديني. أما الجانب الرياضي، فلم يكن يصلح لهذا العدد الكبير من الطلبة بطبيعة الحال، بل كان مقصورا على قلة قليلة من الخاصة. ومعنى ذلك أن المدرسة - ولو أنها كانت كلها سرية - إلا أنها كانت تقدم دروسا للخاصة في العلوم الرياضية، وأخرى للجمهور في الدين والأخلاق. وقد بقي هذا التقليد سائدا في كثير من المدارس الفلسفية، وسنجده عند أرسطو الذي كان يلقي دروسا للخاصة في الصباح، وأخرى للجمهور في المساء. وهذه التعاليم الخاصة هي التي كانت تحجب عن الجمهور، وتسمى بالتعاليم المستورة، ويسميها الغزالي: المضنون به على غير أهله.
ومن الطبيعي أن تكون الرياضيات التي علمتها الفيثاغورية في القرن السادس قبل الميلاد ساذجة بدائية، تمثل أول درجة من درجات هذا «العلم». نقول «العلم» ونعني بذلك الفرق بينه وبين المعرفة العملية التجريبية؛ لأن الإنسانية لم تبلغ المرحلة العلمية بمعنى الكلمة إلا بعد أن مرت مئات - بل آلاف - من السنين، تقتصر على المعرفة التجريبية القائمة على الحس. والرياضة من حساب وهندسة كانت أول العلوم التي اهتدى الإنسان إليها، وذلك على يد فيثاغورس وشيعته. ولم يكن الحساب قد انفصل عن الهندسة؛ لأن الحساب - وهو علم العدد - كان يصور على هيئة أشكال هندسية. فقد كان علماء ذلك الزمان يستخدمون «لوح المعداد»، وهو لوح يملأ بالرمل ويخط عليه الأشكال المطلوبة. وبالنسبة للحساب يستخدم الحصى أو البلي، ويوضع وضعا هندسيا، أي أن حصاة واحدة تدل على نقطة، واثنتان موضوعتان جنبا إلى جنب هما الخط، وثلاث حصوات مثلث، وأربع مربع، وهكذا؛ ومن هنا قالوا بالأعداد المثلثة والأعداد المربعة.
وقد وجدوا في الأعداد خصائص عجيبة عند جمعها وطرحها وضربها، وغير ذلك من العمليات. مثال ذلك أن مجموع مربعي العددين المتواليين 3، 4 يساوي مربع العدد التالي لهما وهو 5؛ أي 9 + 16 = 25، وهذه الخاصية العددية هي التي طبقت في الهندسة في نظرية فيثاغورس المشهورة، القائلة بأن مجموع مربعي ضلعي المثلث قائم الزاوية يساوي مربع الوتر، فإذا فرضنا أن طول أحد الضلعين ثلاثة والآخر أربعة، كان طول الوتر خمسة. وليس المهم الكشف عن صحة هذه النظرية، أو المسألة الهندسية بطريقة عملية، وإنما المهم «إثبات» صحتها ب «البرهان» الرياضي، أي نظريا لا عمليا. وكان فيثاغورس يعلي من شأن «النظر» على العمل، وهو صاحب قسمة الناس هذه القسمة المشهورة إلى نظار وجمهور، فالجمهور هم جملة الناس وجمهرتهم المشتغلون بأمور الدنيا والمعاش، من زراعة وتجارة ومهن أخرى، يزاولونها بأيديهم، أما «النظار» فإنهم لا يشاركون في هذه الأعمال، ولكن «ينظرون»؛ أي يتفرجون من بعيد على الذين يعملون. وقد استمر هذا التقليد الذي يفصل بين النظر والعمل من جهة، ويعلي من شأن النظر على العمل من جهة أخرى، في الفلسفة اليونانية كلها؛ أخذ به أفلاطون ثم أرسطو، وانتقل هذا التراث إلى العرب عند نقل الفلسفة اليونانية، وأخذت به أوروبا بعد عصر النهضة والعصر الحديث، ولم يبدأ يتغير هذا المبدأ الفيثاغوري إلا في هذا القرن العشرين.
ويرجع بنا الحديث إلى الرياضيات فنقول: إن ما يخيل إلينا اليوم من مسائل حسابية وهندسية في غاية البساطة، ومما يدرسه الصبيان في سن متقدمة بالمدارس، كان في ذلك العهد في غاية الصعوبة، ولا يقوى على فهمه وإدراكه إلا قلة قليلة جدا هم الفلاسفة. ونحن لا نعرف كم كان عدد هذه الحلقة من الخاصة الملتفين بفيثاغورس؛ لطبيعة السرية التي ضربت حول التعاليم الرياضية، إلى درجة أن أي واحد يفشي هذه التعاليم كان يعاقب بالطرد.
واختلفت الآراء في أمر ذلك الذي أفشى هذه التعاليم الرياضية، فقيل إنه «فيلولاوس» وكان فيثاغوريا، كتب كتابا من ثلاثة أجزاء اشتراه ديون حاكم سراقوسة بصقلية حسب طلب أفلاطون؛ فتيسر بذلك أن يطلع أفلاطون على آراء فيثاغورس الرياضية. ولكن هذه الرواية ينقضها ما كان يعرفه سقراط من أتباع الفيثاغوريين، وبخاصة أن أفلاطون نفسه كان يعرف صلة سقراط بهؤلاء الأتباع، مما نجده مدونا في أول محاورة «فيدون». والأرجح أن الذي أفشى تعاليمهم هو «هيباسوس» الذي دون هذه التعاليم في كتاب ، وكان ذلك في حياة فيثاغورس نفسه، وعوقب لهذا السبب بالطرد من الفرقة الفيثاغورية.
ولم تكن الفيثاغورية مدرسة بمقدار ما كانت فرقة تقوم على نظام من الأخوة، وكأنها دير أو معبد. وكان جميع أفرادها يعيشون معيشة زهد وبساطة، ويلبسون زيا موحدا وهو البياض، ولا ينتعلون، بل يمشون حفاة الأقدام. وقد سبقت الإشارة إلى أن سقراط كان من جملة أتباعهم، فلا غرابة أن يسلك مسلكهم، فكان يمشي حافي القدمين.
والفيثاغورية أول مدرسة فتحت أبوابها لتعليم المرأة، وبذلك قررت الفيثاغورية مبدأ مساواة المرأة بالرجل، قبل أن يقرره أفلاطون في جمهوريته بقرنين من الزمان. ومن الغريب أن أفلاطون، على الرغم من المناداة بالمساواة بين الرجل والمرأة، لم يؤثر عنه أنه فتح أبواب الأكاديمية لأي امرأة. وعلى العكس كانت هناك مدارس فلسفية في اليونان ضمت نساء إلى جانب الرجال، مثل مدرسة إبيقور.
إن تحرير المرأة مرتبط ارتباطا وثيقا بتعليمها، ولم تستطع المرأة أن تظفر بالتعليم العالي إلا منذ أواخر القرن التاسع عشر وأوائل هذا القرن فقط. أما قديما، فلم تظهر إلا محاولات كانت أشبه بومضات لا تكاد تبرق حتى تختفي، ولم يقدر لها الاستمرار؛ ولهذا لم يذكر التاريخ امرأة كانت صاحبة مذهب فلسفي، أو عالمة بالرياضيات أو الطبيعيات، ويبدو أن رأي سقراط في المرأة من جهة تعلمها الفلسفة كان سيئا؛ فقد ذهبت زوجته بصحبة أبنائهما إلى السجن تزوره قبل إعدامه، ولم تكد تراه حتى أخذت تولول وتصيح، فقال لرفقائه: أخرجوا هذه المرأة. ونحن نجد هذا الحديث مسجلا في أول محاورة «فيدون».
وقد اشتهرت المرأة الفيثاغورية بالعفة والفضيلة، وأنها أفضل نساء الإغريق؛ والعلة في ذلك أنها تعلم الأدب وبعض مبادئ الفلسفة، كما كانت تعلم تدبير المنزل والأمومة. إن اشتراك المرأة مع الرجل على هذا النطاق الواسع جعل المدرسة الفيثاغورية شيئا أشبه بمجتمع مثالي أو مدينة فاضلة. وكانت المدن الفاضلة الشغل الشاغل لفلاسفة اليونان، حتى ليمكن القول إن هدف الفلسفة صياغة المجتمعات المثالية أو المدن الفاضلة، كما هي الحال في جمهورية أفلاطون. ولكن معظم المدن الفاضلة كانت من قبيل «الطوبيات» تصورها أصحابها في الخيال، ولم تطبق عمليا بالفعل، فيما عدا بعض المدن الفاضلة القليلة، ومنها مدرسة فيثاغورس.
وإذا كانت الفيثاغورية قد قبلت هذا العدد الكبير من الأتباع والمريدين، فإن التعاليم التي كانت تقدم لهم هي تلك الخاصة بالدين والأخلاق لا بالعلوم الرياضية. وقد عرفنا أن النحلة التي آمنوا بها هي الأورفية. والأولى أن الفيثاغورية لم تتعصب لديانة بعينها، بل أخذت من كل ديانة بطرف، وبذلك عمل فيثاغورس على التوفيق بين الأديان المختلفة؛ فأخذ من طقوس بابل ومصر وتراقيا وعقائد اليونانيين إلى جانب الأورفية. وقد ظلت هذه النزعة التوفيقية مصاحبة للفيثاغورية على مدى حياتها. وعندما ظهرت الفيثاغورية الجديدة بالإسكندرية في القرون الثلاثة الأولى بعد الميلاد، امتازت بهذه النزعة التوفيقية، وبخاصة بعد ظهور المسيحية، حتى إذا انتقلت الفيثاغورية إلى العرب في القرن الرابع الهجري (العاشر الميلادي)، لازمتها هذه السمة مما نجده واضحا في رسائل «إخوان الصفا وخلان الوفا»؛ فإن أصحابها كتموا أسماءهم، وزعموا أن تعاليمهم سرية، وبدءوا رسائلهم بعلم العدد، كما دعوا إلى الزهد وتطهير النفس.
إن بلوغ السعادة القصوى لا يتم إلا بتطهير النفس، ويقوم هذا التطهير على عدة مبادئ ومعتقدات، على رأسها الاعتقاد في انفصال النفس عن الجسد، وسمو النفس وتعاليها على البدن، وبقائها بعد فنائه، ثم الاعتقاد بتناسخ الأنفس، ثم اتباع طريق الزهد والرياضة لتصفية النفس وتطهيرها.
سادت فكرة التناسخ عند الفيثاغوريين بعد انتقالها إليهم من فلسفات الهند ومن الأورفية. وكان فيثاغورس - فيما يروى - مؤمنا أشد الإيمان بهذه العقيدة، ويقال إنه رأى شخصا يضرب كلبا يعوي، فأوقفه عن ضربه؛ لأنه عرف من صوت الكلب أنه أحد أصدقائه الذين ماتوا وتناسخت روحه في هذا الكلب. وتبعا لهذه العقيدة، فإن صاحب الأعمال الصالحة في حياته الدنيا تحل نفسه عند الموت في جسد شخص صالح، وأن صاحب الأعمال الطالحة تحل نفسه في جسد حيوان؛ وهذه هي السعادة والشقاوة في نظرهم.
كانت هذه الآراء شائعة في مدرسة فيثاغورس، وكشف أفلاطون عنها في محاورة «فيدون» التي يتحدث فيها عن خلود النفس . وكان سقراط يدين بالفيثاغورية، ولكنه أخذ يفكر في مبلغ ما في هذه الآراء من صواب، فقبل بعضها ورفض بعضها الآخر؛ قبل رأيهم - أو رأي النحلة الأورفية - في أن البدن سجن للنفس، ولكن ليس على المرء أن يفر من هذا السجن بالانتحار؛ لأننا أشبه بالقطيع الذي يملكه الراعي، ولا تملك الخروج على أمره. ولا بد للمرء أن يمضي فترة العقوبة مسجونا في هذا البدن. غير أن سقراط رفض فكرة التناسخ، على الرغم من قبوله فكرة التطهير.
إن فكرة «التطهير» التي بدأت منذ فيثاغورس ومدرسته في القرن السادس قبل الميلاد، تقلبت في أدوار مختلفة، واتخذت أشكالا متباينة عند سقراط وأفلاطون وأرسطو في الزمن القديم، حتى إذا بلغنا العصر الحاضر، رأينا مدرسة التحليل النفساني - ونعني بها مدرسة فرويد - تعتمد في العلاج على فكرة «التطهير»
Catharsis . والهدف من «التطهير» الفيثاغوري هو التخلص من «عجلة الميلاد»، أي التخلص من التناسخ في بدن حيوان، وبذلك يظل المرء يشقى طول مدة التناسخ، ويخرج من شقاء إلى شقاء. ولم يكتف فيثاغورس لتحقيق التطهير باتباع قواعد معينة في الطعام، والقيام بعبادات منظمة معينة على أيدي الكهنة، ولكنه أضاف إلى الزهد والعبادة شيئا جديدا هو ممارسة العلم الرياضي والموسيقى لتصفية النفس، كما يستخدم الدواء لتصفية الجسم. ومن المعروف أن فيثاغورس رفع الموسيقى من المرتبة العملية، فأصبحت علما نظريا، فأضحت علم التناسب، وأقامها على سلم يتميز بطول النغمات عدديا؛ وبذلك ارتفع فيثاغورس ب «التطهير» من مجرد نزعة عملية إلى مرتبة نظرية. وقد اتبع سقراط وأفلاطون هذه الطريقة في «التطهير»، فكانا يجمعان بين الزهد والسيرة الفاضلة، وبين اكتساب العلوم الرياضية وبخاصة الهندسة. وكان أفلاطون يكتب على باب مدرسته: «من لم يكن مهندسا فلا يدخل علينا.» واستفاد أرسطو من طريقة التطهير في الفن؛ فالتراجيديا بما فيها من مواقف تبعث على الخوف والرعب والشفقة وغير ذلك، تجعل المتفرج يتقمص هذه المواقف وينفعل بهذه الانفعالات، فتخرج من باطن نفسه، ويتطهر منها، وروي أن بعض المرضى العصبيين كانوا يعالجون في القرن الرابع قبل الميلاد بالطريقة الفيثاغورية، وبخاصة بواسطة الموسيقى.
والمدرسة الفيثاغورية عظيمة الأثر في تاريخ الفكر الفلسفي؛ ذلك أن التفسير الرياضي للكون كان سائدا حتى زمان أفلاطون، الذي اشترط أن يتعلم الطالب الهندسة قبل أن يتعلم الفلسفة؛ والعلة في ذلك أن الرياضيات علوم يقينية، مضبوطة، مستمدة من العقل ذاته لا من الخارج، وأساسها البديهيات الفطرية في العقل، والتي لا تحتاج إلى برهان، وإنما يكفي مجرد تصورها للاعتقاد فيها؛ مثال ذلك بديهية المساواة وبديهية الكبر والصغر؛ أي إن الأشياء المساوية لشيء واحد متساوية، وإن الكل أعظم من الجزء. وقد بين أفلاطون في محاوراته أن الخادم الذي لم يتلق أي «تعليم»، يستطيع أن يدرك هذه الحقائق البديهية من ذاته، مما يدل على أنها مفطورة في العقل. وقد استمر هذا التيار الذي يعتقد في فطرية البديهيات الرياضية، منذ زمان أفلاطون حتى ديكارت وكانط ورسل في الوقت الحاضر.
ولكن في نفس الوقت الذي ظهر فيه هذا التيار الرياضي عند فيثاغورس، ظهر أيضا تيار آخر يفسر العالم تفسيرا طبيعيا؛ إما بمادة واحدة، كما كانت الحال عند طاليس، أو أنكسيمندريس، أو أنكسمانس. وقد انتهى الأمر بهذا التيار الطبيعي عند أرسطو إلى تفسير الموجودات بأنها مركبة من هيولى وصورة، إلى جانب رد العناصر إلى أربعة أساسية؛ هي النار والهواء والماء والأرض. وقد سيطر التفسير الأرسطوطاليسي على العالم حوالي عشرين قرنا من الزمان، إلى أن عاد العالم مرة أخرى إلى التفسير الرياضي للموجودات، لا على نحو ما كانت تفسر قديما، بل بمعادلات رياضية.
إن الذي وجه الدراسات هذا التوجيه الرياضي هو فيثاغورس، ولذلك لم يكن من الغريب أن يقول برتراند رسل في كتابه «تاريخ الفلسفة الغربية»: «إني لا أرى شخصا غير فيثاغورس كان له أثر يماثله في عالم الفكر؛ لأن ما يبدو لنا أفلاطونيا، نجده في جوهره عند التحليل فيثاغوريا.»
الأكاديمية
أشهر مدرسة فلسفية في التاريخ القديم، وأطولها عمرا؛ فقد أنشئت في أثينا زمان أفلاطون في القرن الرابع قبل الميلاد، وظلت تقوم بتدريس الفلسفة حتى النصف الأول من القرن السادس بعد الميلاد، عندما أغلق الإمبراطور جستنيان أبوابها، ومع ذلك لم تمت بإغلاقها، بل استمرت تعيش بعد أن هاجر فلاسفتها أثينا، وذهبوا إلى فارس، حيث رحب بهم كسرى أنوشروان، وأنزلهم في مدينة جنديسابور.
ولا تزال الأكاديمية حية باسمها في جميع اللغات؛ فالأكاديمية عنوان على نوع خاص من معاهد البحث العلمي، وهي تطلق في الأغلب على العلوم أكثر مما تطلق على الفنون والآداب. والصفة من الأكاديمية، أي الأكاديمي، تدل على المفكر المتعمق في البحث، مع الجدة والأصالة.
وقد تيسر للأكاديمية هذا الاستمرار المتصل على مر الزمان، بفضل النظام المحكم الذي وضعه لها مؤسسها أفلاطون.
فقد كانت هناك قبل إنشاء الأكاديمية مدارس في اليونان، كما كانت هناك مدارس في الشرق القديم. وقد أشرنا إلى الفيثاغورية التي ظهرت قبل ذلك بقرنين من الزمان، كما أشرنا إلى مدارس الطبيعيين. وفي القرن الخامس ظهرت مدارس السفسطائيين، وكانت تلك المدارس تؤدي وظيفة معينة هي «تعليم» الخطابة والبيان، فكانت بذلك تعد اليونانيين لتولي الوظائف العامة التي ظهرت مع ظهور الديمقراطية.
إن المدارس لم تكن تظهر إلا لحاجة ماسة؛ فهي تخرج الحكام والساسة؛ إذ كانت مشكلة الحكم هي الشغل الشاغل للأذهان، أو إنها تعد الطلاب لشغل وظائف الكهنة وخدمة المعابد، وذلك بفهم أسرار الدين، ومعرفة مراميه، ووظيفته في خدمة المجتمع، أو إنها تعد الطلاب لأمور الدنيا من معرفة بالحساب والتجارة والاقتصاد وغير ذلك. ولكن مدارس السفسطائيين كانت مختلفة في وظيفتها عن هذه الاتجاهات الثلاثة، ولم تكن تعلم الحق بمقدار ما كانت تعلم التغلب على الخصوم. ومن أجل ذلك نهض أفلاطون ينشئ الأكاديمية يعارض بها «تعليم» السفسطائيين.
ومن الغريب أن سقراط الذي لم يؤثر عنه أنه كان صاحب مدرسة، قد صوره أرستوفان - الشاعر الهزلي المشهور - في تمثيلية السحب، صاحب مدرسة يعلم الشباب الجدل بالحق وبالباطل، ولكن هذا التصوير الكاريكاتوري لا يتفق مع الحقيقة؛ لأن سقراط أفنى حياته يطلب الحق ولا يرضى بالباطل، وقدم للمحاكمة لاتهامه بإفساد الشباب، أي إنه كان يزعزع عقائدهم في القيم السائدة.
فلما أعدم سقراط، حزن عليه تلميذه أفلاطون حزنا شديدا، وسخط على الديمقراطية التي كان يعدها مسئولة عن محاكمته والحكم عليه، ثم رحل أفلاطون عن أثينا، وطاف بكثير من بلاد الشمس ليلتقي بزملائه الفلاسفة. ذهب إلى ميجارا ومكث عند إقليدس الميجاري زمنا. ورحل إلى مصر حيث التقى بكهنتها، ودرس النظم المصرية في الدين و«التعليم» والحكم والفنون، وأعجب بثبات هذه النظم.
فلما قضى في مصر وطره، رحل غربا في شمال أفريقيا إلى مدينة «قورينا»، وهي مدينة أنشأها اليونانيون في الجبل على مقربة من البحر. وفي القرن السادس بعد الميلاد خربتها الزلازل، واندثرت حضارتها، ودفنت تحت الأنقاض، ثم كشف حديثا عن آثارها كاملة، ولكنا لا ندري أين كانت تقع المدرسة القورينائية. وقد ذهب أفلاطون ليلقى هناك ثيودورس الرياضي، ويتذاكر وإياه العلم الرياضي.
ثم توجه بعد ذلك إلى تارنتوم بجنوب إيطاليا، وكانت معقل الفيثاغوريين، حيث التقى بزعيم المدرسة أرخيتاس الرياضي المشهور. جمع أرخيتاس بين العلم الرياضي والفلسفة والسياسة، كما كان قائدا مظفرا، وقد انتخبه أهل مدينته حاكما عليهم، فكان بذلك الحاكم الفيلسوف الذي لعبت صورته في خيال أفلاطون، ورأى في هذه الصورة النموذج لرئيس المدينة الفاضلة.
ولم يلبث أفلاطون أن اتجه إلى صقلية، واتصل في سراقوسة بديون شقيق زوجة ديونيسوس طاغية سراقوسة، وغضب ديونيسوس على أفلاطون بسبب انتقاد الفيلسوف لسياسته، فأمر به أن يباع في أسواق العبيد، وبيع فعلا في إيجينا بثلاثين ميناي، وافتداه تلاميذه، وفكوا أسره، وعاد إلى أثينا سنة 387 قبل الميلاد، وقد بلغ الأربعين من العمر، فبادر بإنشاء الأكاديمية.
اختار للمدرسة مكانا خارج أسوار أثينا، على مقربة من بابها الغربي، وهو عبارة عن بستان كان ملكا للبطل «أكاديموس»، الذي ينسب إليه المكان؛ فقيل أكاديمية. وكان يؤدي إلى هذا البستان طريق يحف به من الجانبين تماثيل عظماء اليونان، ومنهم بركليس. وكان ذلك المكان أثيرا عند سقراط لنضرة زرعه، وصفاء مائه، وكثرة جداوله. وقد وصفه أفلاطون في افتتاح محاورة «فيدروس»، حيث ذهب سقراط وتلميذه «فيدروس» - وكلاهما حافي القدمين - يخوضان في ماء الجدول، ثم جلسا على الأرض في ظل شجرة باسقة. وإلى جانب ذلك ، كان المكان مقدسا، وهب للإلهة «أثينا»، وأقيم فيه معبد لتمجيدها، تحيط به أحراج شجر الزيتون، الذي كان يمنح زيته للفائزين في أعياد «الباناثيناي» أكبر أعياد أثينا. هذا فضلا عن ملعب رياضي أنشأه قائد أثينا المسمى قيمون في أوائل القرن الخامس.
في هذا المكان المقدس، أو هذه الضاحية البديعة، اشترى أفلاطون البستان وقطعة الأرض التي أقيم عليها بناء المدرسة. ولسنا نعرف على التحقيق على أي هيئة كان مبنى المدرسة، وأكبر الظن أنها كانت تشمل معبدا لربات الفنون، وحجرات للأساتذة والطلبة، وقاعات للاجتماعات، والاستماع إلى المحاضرات، وتناول الطعام مشتركين معا. وقد جرت العادة في أيام الصيف أن يستمع الطلبة للمحاضرات في «مماشي» البستان، أو في ظل الرواق. وهذه العادة، مع أنها كانت عامة في معظم المدارس الفلسفية في ذلك الحين، نعني أن يتلقى الطلبة الدرس وهم يمشون حول الأستاذ، إلا أن المدرسة التي اختصت باسم المشائين هي مدرسة أرسطو دون غيرها من المدارس.
وكانت المدرسة أشبه بفرقة دينية، فيها المعبد الموهوب لربات الفنون، والذي كان الطلبة يقدمون إليها الأضحية في أوقات معلومة، وبخاصة لهرمس إله الحكمة. وكانت المعيشة بين أعضاء المدرسة - رئيسا وطلبة - مشتركة في الملبس، والمأكل، والنوم، وبعض لوازم اختصت بها المدرسة؛ مثل طريقة تصفيف الشعر، واتخاذ قلنسوات فوق الرأس، والاتكاء على العصا.
كان أفلاطون صاحب المدرسة، ومالك الأرض والبناء، وهو الرئيس. وقد وضع للمدرسة نظاما للرئاسة بعد وفاته، هو نظام التعيين بالوصية. غير أن الرئاسة أصبحت تتم فيما بعد بالانتخاب السري من جميع أعضاء المدرسة.
ولم يكن أفلاطون - على عكس السفسطائيين - يتناول أجرا على «التعليم»؛ فقد كان هناك مدارس في أثينا تتقاضى أجورا فادحة مثل مدرسة «إيسقراط» التي كانت تعلم الخطابة بوجه خاص. وقد امتنع أفلاطون عن أخذ الأجر على «التعليم» اتباعا لسنة سقراط الذي كان يرى أن المعرفة لا تعلم؛ بل تنكشف للإنسان من باطن النفس، أو أن العلم تذكر والجهل نسيان بحسب عبارته المشهورة، فكيف يتقاضى المعلم أجرا على شيء لا يملكه ولا يمنحه؟! وإذا كان سقراط على فقره، لم يؤثر عنه تناول الأجر، فمن باب أولى يمتنع أفلاطون سليل الأرستقراطية والثراء. وفضلا عن ذلك، فإن «ديون» دفع مبلغا كبيرا هو الذي اشترى به أفلاطون الأرض والبستان، وكان الأغنياء يمنحون المدرسة هبات سخية، كما كان الطلبة الأثرياء يعينون المدرسة، كل على قدر استعداده.
وحيث كانت طبيعة الدراسة تعتمد على الحوار والمناقشة، فلم يكن من المهم أن تتم الدراسة داخل قاعات مجهزة بأدوات، وبخاصة الأدوات والأجهزة العلمية، التي يحتاج إليها كل من الأستاذ والتلميذ لتوضيح بحثه. كان المحاضر في الأكاديمية يجلس فوق كرسي عال في الرواق، ويجلس حوله التلاميذ على أرائك من الحجر. وأيضا فقد كان من المألوف أن يحاضر الأستاذ وهو يمشي وحوله تلاميذه. ولم يؤثر عن أفلاطون أنه كان يحاضر من كتاب، أو حتى من مذكرات مدونة. ولكن بعض تلاميذه كانوا يقيدون عنه بعض المذكرات وبخاصة محاضراته «في الخير».
ومن طريف ما يروى أن أحد التلاميذ ذهب يستمع عن أفلاطون هذه المحاضرات التي ذاع صيتها عن الخير، فأصيب بخيبة أمل شديدة؛ لأنه سمع محاضرات في الهندسة والفلك.
والثابت أن أفلاطون كان يرى أن الفلسفة لا تدون، وقد تأثر في ذلك بأستاذه سقراط الذي أنفق حياته يناقش ويحاور، ولم يخلف شيئا مدونا. حقا ظهر قبل أفلاطون وقبل سقراط جماعة من الفلاسفة دونوا فلسفتهم في كتب، وكانت تلك الكتب متداولة، وبعضها يباع بثمن زهيد، وكان بعض تلك الكتب منظوما في قصائد مثل فلسفة بارمنيدس أو إنبادوقليس. ولكن أفلاطون اختلف عنهم؛ لأن الحكمة الصحيحة لا تدون. وقد كتب في الخطاب السابع إلى ديون ما نصه: «إن حقائق الفلسفة لا يمكن التعبير عنها بالألفاظ كما يمكن في غيرها من الموضوعات؛ ذلك أنه بعد أن يتلقى المرء المعرفة من مرشد صادق في هذه الدراسات الفلسفية، وبعد الانقطاع بعض الوقت إلى صحبة ذلك المرشد، إذا ببريق من الفهم يضيء النفس ... ولست أعتقد أن الكتب المؤلفة في هذا الباب تفيد الناس أي فائدة، اللهم إلا بالنسبة لعدد قليل ممن يستطيع أن يكشف الحق بنفسه .»
والسبب الحقيقي الذي من أجله رفض أفلاطون - كما رفض سقراط من قبل - تدوين الفلسفة، هو أن وظيفتها إحياء النفوس وصقلها وتزكيتها؛ لتكشف الحقائق بنفسها من ذات نفسها، لا أن تأخذ الحقائق عن الفلاسفة، وأن تتلقنها وتحفظها وترددها، كما أصبحت في العصر المدرسي، فجمدت وماتت.
ولكن وصية أفلاطون لم تنفذ حرفيا؛ فإن بعض تلاميذه - وبخاصة أرسطو - روى لنا آراء أستاذه، لا على سبيل الرواية التاريخية، بل ساقها في معرض النقد، كما فعل في كتاب ما بعد الطبيعة، حين صور آراء أفلاطون في أن المثل أعداد، ثم نقدها. ومع ذلك فإن الاعتماد على أرسطو في معرفة رأي أفلاطون خطر ولا يؤمن، كما أنه من الخطورة الاعتماد على أفلاطون في معرفة آراء سقراط.
فنحن نعرف أن أفلاطون كتب عدة محاورات، بقي منها ثمان وعشرون واحدة، من أهمها الجمهورية والنواميس، وأجرى فيها الحوار على لسان سقراط، مما يجعل المرء يعتقد أن ما ورد في هذه المحاورات إنما هو آراء سقراط لا أفلاطون. والحق في ذلك أن بعض المحاورات يصور أفكار سقراط، وهي المحاورات السقراطية، وبعضها الآخر يصور آراء أفلاطون، والمؤرخون مختلفون في تحديد هذا النوع أو ذاك. هذه المحاورات، سواء منها السقراطية أم الأفلاطونية، خاطب بها أفلاطون الجمهور الواسع وليس خاصة تلاميذه. وقد لقيت المحاورات نجاحا منقطع النظير، وكان الناس يقرءونها بصوت عال، وكانت تمثل على خشبة المسرح زمان شيشرون. ومع أن أفلاطون حذر طلابه من تدوين الفلسفة، وأعلن صراحة أن هذه المحاورات لا تعبر عن آرائه الفلسفية، إلا أن المتأخرين اعتمدوا عليها في معرفة فلسفته، وبخاصة في نظرية المثل. وكانت المحاورات، أو على الأقل بعضها؛ مثل فيدون، وطيماوس، والجمهورية، تدرس في الأكاديمية حتى زمانها المتأخر، ويتولى الأساتذة شرحها. وكان الطلبة الذين يرحلون إلى أثينا لتعلم الفلسفة، يجدون بغيتهم في هذه المحاورات وشروحها؛ ففي القرن الثالث بعد الميلاد نجد فرفريوس الصوري يحضر بعض الوقت على لونجينوس في أثينا شروحه على محاورات أفلاطون.
ليس معنى ذلك أن المحاورات لم تكن في زمان أفلاطون، ووقت كتابته لها، تدرس في الأكاديمية. كانت متداولة، ولكنها لم تكن أساس التدريس. كان الطلبة يطلعون عليها كأي فرد من أفراد الجمهور، ولعلهم كانوا ينتقدون الأفكار التي عرضها أستاذهم فيها؛ ولذلك تعاقبت المحاورات، يعدل اللاحق منها السابق، وتطورت آراؤه بفضل حرية النقد والمناقشة. وكان النقد جريئا مرا لا يرحم، أطلعنا أرسطو الذي كان تلميذا بالأكاديمية على طرف منه، وأرسطو هو القائل في كتاب الأخلاق: أحب أفلاطون وأحب الحق، ولكن حبي للحق أعظم. إنه يعترف بصداقته لأستاذه، ومحبته له، ولكنه لا يتنازل عن التمسك بالحق في سبيل الصداقة.
ولما كان الغرض الأساسي من إنشاء الأكاديمية تخريج طائفة من الحكام والساسة، فمن الطبيعي أن تكون دراسة الشرائع وأصولها وأنظمة الحكم الصالح، هي التي تكون منهج الدراسة؛ ولهذا السبب لجأ إليها أهل المدن المجاورة يطلبون رأيها في التشريع، كما فعل إيبامنونداس عندما طلب تشريعا لمدينة ميجالوبوليس. وإلى جانب ذلك، كانت الأكاديمية تدرس العلوم الرياضية من حساب وهندسة وفلك وموسيقى. وقد مر بنا كيف كان يتوقع الذين حضروا دروسه في «الخير» أن يسمعوا شيئا عن الفضائل، فإذا بهم لا يسمعون إلا فلكا وحسابا وكلاما عن الواحد والمحدود وغير ذلك من الأمور الرياضية. ذلك أن الرياضة كانت عند أفلاطون مدخلا لا غنى عنه إلى الفلسفة؛ ولذلك كتب على باب الأكاديمية العبارة المشهورة: «من لم يكن مهندسا فلا يدخل علينا.» ومن الفروض الفلكية التي كانت سائدة في المدرسة، انتظام حركة الأجرام السماوية، وعلى أساس هذا الفرض، كان علماء الأكاديمية يفسرون تحير الكواكب.
من أولئك العلماء الذين عاونوا أفلاطون، وكانوا سبب شهرة الأكاديمية رياضيا؟ من الصعب معرفة أسمائهم واحدا واحدا. ثم إن التلاميذ بالنسبة لأستاذهم لم يكونوا طلبة بمقدار ما كانوا أصحابا. ونحن نعلم أن أفلاطون ذهب للقاء ثيودورس الرياضي، وأرخيتاس الفيثاغوري، وإقليدس الميجاري، كل في موطنه، ولم يكن بالنسبة إليهم تلميذا، كذلك كان يحضر المدرسة عند أفلاطون عدد من الأصحاب يمكن أن يعدوا من علماء الأكاديمية؛ منهم ثياتيتوس، وأيدوكسس، بل يذهب بعض المؤرخين إلى أنهم فعلا من تلامذة أفلاطون.
ولسنا نعلم عن ثياتيتوس إلا النزر القليل، ومع ذلك، فقد خلد أفلاطون اسمه حين جعل محاورة برأسها تحمل اسمه، وكل ما نستفيده عن حياته من هذه المحاورة، أنه كان من أهل أثينا، وأنه تعلم على يدي سقراط وثيودورس القورينائي، وأنه كان معاصرا لأرخيتاس وأفلاطون. ويبدو أنه كان رياضيا بارعا، وصاحب كشوف جديدة في هذا العلم العجيب؛ مما حدا بأفلاطون إلى أن يخلد اسمه. والمشهور أن هذه المحاورة تبحث في نظرية المعرفة وكيفية اكتسابها، أمن الحس أم من العقل؟ ولكن ثياتيتوس إلى جانب ذلك، بل قبل أن يكون فيلسوفا، فهو رياضي له رأي في الأعداد الصماء، والكميات الصماء - أي التي لا تخضع للقياس - ورأي في المجسمات المنتظمة.
أما «يودكسس» فأصله من كنيدوس، تعلم الهندسة على يد أرخيتاس، ثم رحل إلى أثينا وهو في الثالثة والعشرين من العمر، بعد افتتاح الأكاديمية بعامين (افتتحت الأكاديمية 387ق.م.) وكان في صباه شديد الفقر، ولكنه اكتسب ثروة كبيرة من «التعليم»، بعد أن ذهب إلى مصر، وظفر بشهرة واسعة في الفلسفة والرياضة والفلك. وقد طلع بنظرية جديدة في التناسب، واكتشف «القطاع الذهبي»، أي «أجمل» قسمة لخط أو كمية، قسمة ذات وسط وطرفين. ويمكن القول إنه أنشأ علم الفلك مفسرا حركات الكواكب بنظرية كرات تدور على محاورها، ومتحدة المركز.
ليس معنى ذلك أن هذين الاثنين هما وحدهما العالمان اللذان تخرجا في الأكاديمية؛ فهناك أسماء تتردد أيضا؛ منها ليوداماس، ونيقوليدس، وليون. وهؤلاء الثلاثة كان لهم أثر في تقدم الهندسة وتنظيم دراستها، وزيادة نظرياتها، وترتيبها ترتيبا علميا؛ فكانوا بذلك أصحاب الفضل في التمهيد لظهور إقليدس صاحب الهندسة.
ومن الطبيعي أن يكون منهج البحث ملائما للعلوم الرياضية التي اشتهرت بها الأكاديمية. وقد بدأت المناهج تتميز بوضوح منذ سقراط الذي اشتهر بمنهج «التهكم والتوليد». والمنهج السقراطي يعتمد أساسا على الحوار؛ لأن المباحث التي خاض فيها هي العلوم الإنسانية من أدب وفن ولغة وشعر ودين وأخلاق واجتماع وسياسة. وقد اتبع هذا المنهج في الأكاديمية وتصوره المحاورات أجمل تصوير، وهو منهج يقوم على تعريف المعاني الكلية، وتحديد الألفاظ، والاستقراء.
والأصل في المحاورة أنها مناقشة تتم بين شخصين - أو أكثر - وتسمى باللغة اليونانية «ديالوج» من المقطعين «ديا» و«لوجوس»؛ أي الكلام أو القول بين اثنين. وقد تطور الحوار عند سقراط إلى «الجدل» عند أفلاطون، وهو يعني باليونانية «ديالكتيك»، من المقطعين «ديا» و «لكتيكون» أي كلام أو حديث. والفرق بين «الديالوج» و«الديالكتيك» أن الحوار حديث بين شخصين، و«الجدل» حديث بين الشخص نفسه. فهو تفكير يدور داخل النفس، ومنه عند أفلاطون جدل صاعد ومنه جدل نازل. و«الجدل» بهذا المعنى هو المنهج الفلسفي بلا منازع؛ لأن النفس تصعد إلى المثل أي الحقائق، ثم تنزل من عالم المثل إلى عالم الحس، وتهبط من عالم الثبات إلى عالم التغير.
أما المنهج الملائم للرياضيات، فهو التحليل والقسمة، ويقال إن أفلاطون هو الذي اخترع طريقة التحليل، ثم وهب المنهج إلى تلميذه ليوداماس. والتحليل باليونانية «أنالوسيس»
Analysis ، وهو الذي أصبح فيما بعد أساس المنطق الأرسطي في كتابيه الرئيسين أنالوطيقا الأولى وأنالوطيقا الثانية، أي القياس والبرهان. خذ مثالا لذلك فكرة «المساواة» وكيف يحللها في محاورة «فيدون» من النظر إلى قطع متساوية من الخشب. ويقول بروقلس في تعليقه على الكتاب الأول لإقليدس عن ليوداماس: «إن أفلاطون شرح له طريقة التحليل، فكانت عونا له في الكشف عن أمور هندسية كثيرة.»
ولقد اشتهرت الأكاديمية باستخدام منهج القسمة، وبخاصة القسمة الثنائية. وفي محاورة السفسطائي نموذج لهذا المنهج. والقسمة مفيدة في التصنيف والتعريف. تدور محاورة السفسطائي بين ثيودورس القورينائي، وثياتيتوس الرياضي، وسقراط، وشخص رابع من إيليا. وقد حاول المتحاورون - وهم كما نرى رياضيون - تحديد معاني السفسطائي، والسياسي، والفيلسوف. فالسفسطائي يعالج فنا من الفنون، والفنون إما أن تكتسب وإما أن تبتدع.
والفنون المكتسبة إما أن تكون بالتعلم أو المحاكاة، وهي كالتجارة، والحرب، والصيد.
والصيد أنواع؛ منه اقتناص الأحياء، ومنه اقتناص غير الحي.
وصيد الأحياء أنواع؛ مثل صيد السمك في البحار، والطيور في الهواء، والدواب على ظهر الأرض، وذلك بضروب مختلفة من الشباك والفخاخ والصنانير. والسفسطائي صائد ، وفنه مكتسب، وصناعته اقتناص الناس من ذوي الحسب والمال، يقدم لهم علما مقابل ما يأخذه من أجر. فهذا نموذج للقسمة الثنائية، ومنهج القسمة وفائدته في التعريف والتصنيف.
ولم تكن الأكاديمية مقصورة في أبحاثها على العلوم الرياضية فقط، بل كانت تبحث أيضا في علوم الحياة. ولكن اتجاه المدرسة بوجه عام كان نحو الرياضيات. وقد احتفظ أحد شعراء الكوميديا بصورة تحكي ما كان يجري في الأكاديمية من بحث في النبات، قال أفكراتس شاعر الكوميديا في تمثيليته التي يدور فيها الحوار على النحو التالي: - أخبرني عن أفلاطون، وسبيسيبوس، ومينديموس، ماذا يعملون الآن؟ أي فكرة عميقة يبحثونها؟ وأي جدل شديد يدور بينهم؟ - إني أعرف كل شيء وسأخبرك ببساطة. في عيد البناثيناي رأيت جماعة من الشباب في ملعب الأكاديمية، وهناك سمعت أمورا بعيدة عن التصديق؛ كانوا يعرفون ويقسمون العالم الطبيعي، ويميزون عادات الحيوان وطبائع الشجر وأنواع الخضر، ورأيت معهم «يقطينا» كانوا يبحثون من أي نوع هو. - وهل قرروا أي نبات هو، ومن أي نوع؟ أخبرني إن كنت تعرف. - حسنا! لقد ظلوا جميعا أول الأمر صامتين، وانحنوا فوقها بعض الوقت يتأملونها. وفجأة وهم ما زالوا يفحصونها، قال أحد التلاميذ إنها خضر مستديرة، وقال آخر إنها حشيش، وثالث إنها شجرة. فلما سمع طبيب صقلي كان موجودا هناك ذلك الحديث، انفجر ساخطا على الهراء الذي ينطقون به. - أحسب أنهم لا بد غضبوا غضبا شديدا، وصاحوا في وجهه؛ إذ من الفظاظة أن يفعل ذلك في وسط الحديث. - لم أحفل بالتلاميذ، ولكن أفلاطون الذي كان موجودا أخبرهم في عطف شديد، وبغير انزعاج أن يحاولوا من البدء تعريف نوعها. ثم مضوا في تعريفاتهم.
ويتضح من النص السابق أن الأكاديمية كانت تبحث في علوم الحياة. ثم إن سبيسيبوس ابن أخت أفلاطون، وخليفته في رئاسة المدرسة، كتب فيما بعد مؤلفات في الحيوان والنبات، بقي منها أجزاء تبحث في الأسفنج والمحار. وليس بعيدا أن الأكاديمية زمان أفلاطون كانت مجهزة بالأدوات العلمية والخرائط، ولا نزاع أنها كانت مجهزة بالكتب. ولكن يمكن القول إن الأكاديمية اتجهت على العموم وجهة رياضية، على حين اتخذت مدرسة أرسطو - وهي اللوقيون - طابعا بيولوجيا طبيعيا. •••
يتضح مما سبق أن الأكاديمية اهتمت ببحث سائر العلوم والمعارف، ولكنها قدمت بعضها على بعضها الآخر، بحسب اتجاهها في الفلسفة. ويمكن تقسيم العلوم بحسب أهميتها أربعة أقسام؛ هي الفلسفة، ثم العلوم الإنسانية من سياسة وأخلاق ونفس واجتماع، ثم العلوم الرياضية من حساب وهندسة وفلك وموسيقى، ثم العلوم الطبيعية وعلوم الحياة.
والفلسفة تاج هذه العلوم كلها، وهي الغاية التي ينتهي إليها الطالب، بعد أن يتبحر في العلوم، وبخاصة الرياضيات. وتجتمع فلسفة أفلاطون في كلمة واحدة هي «المثل». وأفلاطون هو الذي ابتدع الفلسفة المثالية، ولا تزال المثاليات حتى اليوم تعتمد في نزعتها عليه. «المثل» عند أفلاطون هي النماذج الثابتة الأزلية التي بها يفسر وجود الموجودات ومعرفتها. ولقد كانت المشكلة التي واجهها مفكرو الإغريق والتمسوا لها الحل هي أصل هذه الموجودات الكائنة، والتي تظهر إلى الوجود ثم تولي عنه، أي تفسير التغير والكثرة، أهذه الكثرة حقيقية أم أنها ترتد إلى شيء واحد؟ وهل هذا التغير الذي نشاهده حقيقي، أم أنه مظهر فقط يخفي وراءه ثباتا؟
واختلفت وجهات نظر الفلاسفة اليونانيين اختلافا كبيرا منذ القرن السادس؛ بعضهم يقول بمبدأ واحد مادي؛ كالماء، أو الهواء، أو النار. وبعضهم الآخر يذهب إلى القول بالعناصر الأربعة مثل إنبادوقليس. وبعضهم الثالث يقول بالذرات مثل ديمقريطس ومدرسته. هذا إلى الفيثاغوريين الذي فسروا الموجود بالمبدأ الرياضي، وبالشكل الهندسي. ثم ظهر بارمنيدس في إيليا بجنوب إيطاليا، فقرر أن «الوجود موجود»، وأنه واحد، وأنه ثابت، وهذا هو طريق الحق. أما إذا سار الإنسان في طريق «الظن»، فإنه يرى الموجود كثيرا، ومتغيرا.
والمثال الأفلاطوني جمع بين الواحد الفيثاغوري، وبين الواحد البارمنيدي.
المثال الثابت الواحد هو أصل الموجودات المحسوسة المتغيرة.
هذا هو الحل السعيد الذي اهتدى إليه أفلاطون لتفسير وجود الموجودات الكثيرة المتغيرة في عالم الحس.
ولكنه فطن إلى عجز هذه النظرية وقصورها عن توضيح كثير من المشكلات التي تعرض للذهن. وقد انتقد أفلاطون نفسه، وراجع فكره، كما يتضح من محاورة بارمنيدس. وتساءل عن أصل المحسوسات: أهي «تشارك» في المثال، أم هي «محاكاة» للمثال؟ و«المشاركة» تفترض أن يكون المثال كلا، وأن يكون كل واحد من المحسوسات جزءا من هذا الكل. و«المحاكاة» تذهب إلى أن المثال أصل، ثم تتعدد المحسوسات عنه، كما تتكثر الصور في المرايا. وعندما نقلت الفلسفة اليونانية إلى العرب، أعجب الغزالي بنظرية «المحاكاة» وتشبيه النفس بالمرآة التي تنعكس على صور المثل، فاصطنع هذه النظرية في كثير من كتبه.
والمثال لأنه معقول فلا مادة فيه، والمحسوس لأنه مجسم مشخص فإنه مادي. فكيف نشأ المحسوس المادي من المعقول اللامادي؟ هذا هو جوهر المشكلة التي اضطر أرسطو - تلميذ أفلاطون - إلى حلها بقوله إن المحسوس مركب من مبدأين؛ الهيولى والصورة. والقول بأن العالم مادي، وليس معنى ذلك أن فلسفة أرسطو مادية، بل تدل على تسليمه بوجود المادة إلى جانب الصورة.
وتتدرج «المثل» عند أفلاطون حتى تقف عند ثلاثة هي؛ الحق والخير والجمال. ولا تزال هذه القسمة الثلاثية دارجة مألوفة حتى اليوم. •••
طال عمر الأكاديمية تسعة قرون؛ إذ أنشئت 327ق.م. في أثينا، وأغلق الإمبراطور جستنيان أبوابها 529 بعد الميلاد. وتقلبت في أثناء عمرها المديد في عدة أطوار هي الأكاديمية القديمة والوسطى والحديثة، ثم الأكاديمية بعد الميلاد. والتقسيم المذكور يرجع إلى مؤرخي الفلسفة من المحدثين، وهو مصطنع بعض الشيء؛ إذ الحق في ذلك أن الطابع الذي يسود المدرسة في زمن معين، إنما يرجع إلى شخصية رئيسها وتوجيهه.
تولى رئاسة المدرسة بعد موت أفلاطون أسبيسيبوس ابن أخته، الذي أتم تنظيم المدرسة في شكلها الأخير. واستمر رئيسا من 347 (أي بعد موت أفلاطون) إلى 339ق.م، وخلفه زينوقراط 339-315ق.م، ثم بوليمون 315-270ق.م، ثم أقراطس بعد 270ق.م، وينتهي معه طور الأكاديمية القديمة، التي امتازت بالسير في الطريق الذي رسمه أفلاطون. وقد لمعت في تلك الفترة أسماء كثير من العلماء والفلاسفة، نذكر منهم يودقسس، وهرقليدس، وغيرهما. ويقال إن كرانتور تلميذ بوليمون هو أول من وضع شروحا لمحاورات أفلاطون.
ثم تحولت الأكاديمية إلى نزعة الشك ، بدأت مع الرئيس أرقليساوس، الذي يعد منشئ الأكاديمية الوسطى، ثم أصبح هذا الاتجاه واضحا قويا على يد كارنيادس، وتسمى الأكاديمية في عهده (213-129ق.م.) بالأكاديمية الثالثة. وقد أرسله الأثينيون في سفارة إلى روما ونجح في مهمته.
وأكاديمية رابعة تحت رئاسة فيلون من أهل لاريسا، وقد وجهها وجهة رواقية. وأكاديمية خامسة برئاسة أنطيوخس العسقلاني (توفي 68ق.م)، الذي وفق بين الأفلاطونية والأرسطية والرواقية، وتسمى هذه الأكاديمية الخامسة عادة بالأكاديمية الجديدة.
ويمكن القول إن كارنيادس وفيلون وأنطيوخس كان لهم الفضل في نشر تعاليم الأكاديمية بعد انتقالها إلى «جنديسابور» محتفظة بهذه التعاليم بفيلون وأنطيوخس واستمع إليها.
ومما يروى أن سللا عندما حاصر أثينا سنة 86ق.م. احتاج إلى خشب، فقطع أشجار الأكاديمية، التي انتقلت منذ ذلك الحين داخل أسوار أثينا. ومهما يكن من شيء، فإن تاريخ الأكاديمية حتى القرن الخامس بعد الميلاد غامض، وكل ما نعرفه أنها ازدهرت في القرن الخامس، وتجددت، وأصبحت مركزا للأفلاطونية المحدثة، المتأثرة بالفلسفة الإسكندرانية. وقد لمعت في هذه الفترة أسماء مشهورة بوجه خاص في الفلسفة العربية؛ منهم بروقلس، وفلوطارخس، وسوريانس، ودومنيونس، وماريانوس، وإيزودورس، والدمشقي الذي كان آخر رئيس للمدرسة، أي من 510 إلى 529 بعد الميلاد.
ويبدو أن السبب الرئيس في إغلاق الأكاديمية - كذلك «اللوقيون» - أنها كانت مهد التعاليم الوثنية. وكانت المسيحية قد تغلبت وسادت، وأرادت أن تقضي على كل أثر للوثنية. وقد آثر فلاسفة الأكاديمية أن يهجروا المدرسة إلى مكان آخر يمارسون فيه تعاليمهم بحرية، ورحب بهم كسرى أنوشروان، وأنزلهم في «جنديسابور»، وترك لهم حرية البحث، فنقلوا معهم الفلسفة والعلوم والطب. وظلت الأكاديمية في العالم الروماني، إلى أن انتقلت إلى بغداد زمان العباسيين، ونقلت علومهم وفلسفتهم إلى اللغة العربية. وهكذا نرى أن المدرسة الأصلية زالت من أثينا، وتغير مكانها، وكذلك لغتها، ولكن تعاليمها لم تمت، وظلت الأكاديمية حية بأفكارها وفلسفتها، وقد عادت تعاليمها المثالية وفلسفتها الرياضية إلى الظهور مرة أخرى في الوقت الحاضر، معدلة بطبيعة الحال مع مقتضيات العصر، والتطور الكبير الذي حدث خلال عشرين قرنا من الزمان.
المشائية
«اللوقيون أو الليسيه»
مدارس «الليسيه» معروفة بهذا الاسم، ومشهورة في مصر، وهي تلك المدارس التي تعلم الطلبة حتى يظفروا بإجازة البكالوريا؛ أي المرحلة السابقة مباشرة على التعليم الجامعي. وهذا النوع من «التعليم» في «الليسيه» منتشر في فرنسا، وعنها أخذنا هذا اللون من المدارس.
و«الليسيه»
Lycée
هي الاسم الفرنسي الذي أصبح يطلق على الاسم اليوناني
Lyceum ، أو الأصح بالرسم اليوناني
Lykeum ، وقد عربها القدماء فقالوا: «اللوقيون»، وهي المدرسة التي أنشأها أرسطو في أثينا، وكان يمارس «التعليم» فيها، وأصبحت تنافس الأكاديمية والمدارس الأخرى اليونانية. ومدرسة أرسطو مدرسة فلسفية عليا، وليست ثانوية ك «الليسيه» حديثا، ولذلك ينبغي عدم الخلط بينهما، والاعتقاد بأن «الليسيه» الحاضرة هي «اللوقيون» قديما أو استمرار لها.
وتعرف مدرسة أرسطو باسم آخر، وبخاصة عند العرب، هي مدرسة المشائين؛ لأن المعلم وتلاميذه كانوا يتعلمون وهم يمشون. وسبق أن ذكرنا أن هذه السنة لم تكن مقصورة على الطلبة في مدرسة أرسطو فقط، بل كانت شائعة في جميع المدارس الفلسفية في بلاد اليونان؛ وذلك لطبيعة الجو الحار الذي يسود أثينا معظم أوقات السنة، فكان الطلبة إما أن يسيروا في المماشي تحت ظلال الأشجار، أو يسيروا جيئة وذهابا في «الرواق» داخل المدرسة. مهما يكن من شيء، فقد اشتهرت مدرسة أرسطو باسم المشائين.
وقد ظلت «اللوقيون» باقية في أثينا تنافس الأكاديمية، وتمتاز عنها بلون خاص، إلى أن أغلق الإمبراطور جستنيان أبواب المدرستين. ومع ذلك، فإن تاريخ «اللوقيون» أغمض من صاحبتها، إلا أن «اللوقيون» - أو المشائية - أشهر في الزمن القديم. وكما يتصل إنشاء الأكاديمية باسم صاحبها وفلسفته، كذلك يتصل «اللوقيون» باسم منشئها ومؤسسها وصاحبها أرسطو؛ فهي ثمرة غرسه، ونتاج فلسفته. وإذا كان أفلاطون قد أنفق أربعين عاما يشيد صرح الأكاديمية؛ إذ أنشأها سنة 387 ق.م. واستمر رئيسا لها، إلى أن توفي سنة 347ق.م، فإن أرسطو لم يستمر على رأس مدرسته سوى اثني عشر عاما؛ لأنه لم يفتتحها إلا وهو في الخمسين من عمره. ولكن لماذا ترك أرسطو الأكاديمية التي تعلم فيها، وكان من أبرز تلاميذها، وقرر أن ينشئ مدرسة أخرى؟ والجواب عن هذا التساؤل يقتضي منا أن نشير إلى سيرة أرسطو بإيجاز.
ولد أرسطو 384ق.م. بمدينة ستاجيرا من أعمال خلقيس، ولذلك حين يقال الفيلسوف الاستاجيري لا تنصرف هذه التسمية إلا إليه، أو حتى حين يقال الاستاجيري
The Stagirite
فقط. وكان أبوه نيقوماخوس من نسل أسقلبيادس طبيبا للملك أمنتاس الثاني ملك مقدونيا، الذي أنجب فيليب والد الإسكندر. وكان الأطباء يورثون أبناءهم صناعتهم، ومن هنا نشأ أرسطو على محبة العلوم الطبيعية وعلم الحياة، وتدرب في صباه على التشريح والجراحة. ولما بلغ الثامنة عشر أوفد إلى أثينا حيث التحق بالأكاديمية، وظل فيها عشرين عاما. حقا كانت هناك عدة مدارس فلسفية في أثينا، ولكن الأكاديمية كانت أفضلها وأرقاها. وقد تأثر أرسطو بشخصية أفلاطون وتعاليمه إلى الأعماق، وانطبع بطابع لا يمحى، على الرغم من معارضة الفيلسوف الاستاجيري لنظرية «المثل». وكان صاحب الأكاديمية يعرف في تلميذه فضله وذكاءه؛ فسماه «القراء»، و«العقل»، أي عقل المدرسة. وكثيرا ما يصف أرسطو نفسه في كتبه بقوله إنه أحد الأفلاطونيين، أو بنص عبارته: «نحن الأفلاطونيين»؛ مما يدل على ولائه للأكاديمية.
ويذهب بعض المؤرخين من المحدثين إلى تكذيب الروايات القديمة التي تجمع على بقاء أرسطو عشرين عاما تلميذا بالأكاديمية. وهم يرون أنه اختلف إلى أكثر من أستاذ، وبخاصة في البلاغة، مثل إيسقراط وديموستين، وأنه كان يتردد على الأكاديمية بين حين وآخر. ولكن الذي يدحض هذا التصوير، أن أرسطو كان يعارض مدرسة أيسقراط، وكذلك مدرسة ديموستين؛ لأنهما يعلمان على طريقة السفسطائيين التغلب على الخصم بسحر البلاغة ورنين الألفاظ، لا بقوة المنطق والتفكير السديد المحكم. ومما يروى أن أرسطو كان يلقي دروسا في الخطابة - وهو طالب في الأكاديمية - على الجمهور ينافس بها دروس إيسقراط.
ويبدو أن الطابع العام لجميع المدارس الفلسفية قديما كان واحدا؛ فالمدرسة جماعة من الباحثين والمفكرين يرتبطون بروح مشتركة، ويشاركون في آراء أساسية، وفي الوقت نفسه يحتفظ كل واحد منهم باستقلاله في البحث. وهذا الاستقلال يفسر لنا اتجاه أرسطو منذ كان في الأكاديمية إلى متابعة البحث في العلم الطبيعي، كما ذكرنا قبلا.
لم يكن أرسطو الذي سماه أفلاطون «القراء » و«العقل»، ليقبل أن يستمر في الأكاديمية تحت رئاسة سبيسيبوس، الذي مضى - بعد موت أفلاطون - يوجه المدرسة نحو الرياضة، وأن يقلب الفلسفة - كما يقول أرسطو - إلى رياضيات.
مهما يكن من شيء، فلسنا ندري الأسباب الحقيقية التي من أجلها هجر أرسطو الأكاديمية، ورحب بدعوة زميل قديم له في تلك المدرسة هو «هرمياس»، الذي أصبح حاكم أسوس، وجمع حوله حلقة صغيرة من الأفلاطونيين. وبعد ثلاث سنوات ذهب إلى ميتلين في جزيرة لسبوس، حيث لقي صديقه ثاوفراسطس زميله في الأكاديمية، وخليفته فيما بعد على رئاسة «اللوقيون». وترجع مباحث أرسطو ومشاهداته في العلم الطبيعي والبيولوجي إلى إقامته في أسوس وميتلين. وفي سنة 343ق.م. دعاه الملك فيليب لتثقيف ابنه الإسكندر؛ فعلمه إلياذة هوميروس، ومبادئ الحكم. ولكن حقيقة «التعليم» الذي تلقاه الإسكندر من معلمه غير معروف. فلما توفي فيليب 335ق.م. عاد أرسطو إلى أثينا، وأنشأ «اللوقيون»، وتلقى من تلميذه الإسكندر معونات كبيرة مالية وأدبية.
أنشأ «اللوقيون» مدرسة فلسفية تختلف في اتجاهها عن الأكاديمية التي عنيت بالعلوم الرياضية. كانت الأكاديمية تقع خارج أسوار أثينا في الشمال الغربي من المدينة، فاختار أرسطو لمدرسته موقعا في الطرف المقابل من المدينة شرقي الأسوار - أو الشمال الشرقي - على مقربة من طريق مراثون، أكبر الظن بين جبل ليقابيتوس ونهر أليسوس، حيث كانت تقع أيكة مقدسة موهوبة للرب أبولون لوقيوس وربات الفنون. وكانت تلك الأيكة من الأمكنة المحببة إلى سقراط، وكان يرتادها كثيرا. أما لوقيوس التي منها اشتق «اللوقيون»، فهو صفة لأبولون، وتعني الذئب، أو رب النهار.
ولما كان أرسطو أجنبيا، أي ليس مواطنا أثينيا، فلم يكن له الحق في امتلاك الأرض؛ ولذلك استأجر بعض الأبنية وجعلها نواة مدرسته. وفي جوار ذلك المكان، كان «يتمشى» هو وتلاميذه في المماشي، وتحت ظل الأشجار، ذهابا وجيئة، ولذلك سمي أتباعه بالمشائين، ولو أن هذا الأسلوب في «التعليم» - كما ذكرنا من قبل - لم يكن مقصورا على أرسطو وحده، والتعاليم المشائية هي المأخوذة عن مدرسة أرسطو.
ومما يروى أن أرسطو كان يلقي نوعين من الدروس؛ صباحية لخاصة تلاميذه ، وتسمى «سماعية» أو «مستورة». ومسائية للجمهور الواسع، وهذه أقل صعوبة من الأولى، وتسمى علانية أو «منشورة»
Exeteric . ليس معنى ذلك أن أرسطو كان يضفي على دروسه الصباحية صفة السرية، وأنه كان يحجبها عن الجمهور، كلا، بل الأمر أن دروس الصباح كانت تهم فئة قليلة من المشتغلين بالمسائل الفلسفية العويصة؛ كالمنطق، والميتافيزيقا، والعلم الطبيعي، على حين أن الدروس الأخرى كالأخلاق والسياسة، كانت تجذب أسماع الجمهور ويعجب بها، ويقبل عليها.
وأكبر الظن أن أرسطو جمع في مدرسته بضع مئات من الكتب المخطوطة - ولم تكن الكتب إلا مخطوطة بطبيعة الحال - فكانت أول مكتبة في التاريخ، وأصبحت نموذجا احتذت مثالها مكتبة الإسكندرية وغيرها من المكتبات. وكذلك اقتنى عددا من الخرائط ومتحفا من نماذج شتى لأحجار ومعادن ونباتات وحيوانات؛ ليستعين بها على توضيح محاضراته. ويقال إن الإسكندر وهبه مبلغا كبيرا من المال لاقتناء هذه الأشياء، وأمر جميع الصيادين في الإمبراطورية أن يقدموا له نماذج مما يصيدونه في الجو أو على ظهر الأرض أو في الماء.
ولم يكن الإسكندر وحده راعي أرسطو وحاميه، بل كذلك «أنتيباتر» الذي خلف الإسكندر في مقدونيا وصيا على العرش. ونحن لا نعلم حقيقة العلاقة التي كانت تربط بين أرسطو وأنتيباتر الذي يعرف عنه ميول نحو البحث الفلسفي، ولكنه كان صديق أرسطو عندما عاش في بلاط فيليب، ويكفي أن هذه الصداقة بلغت من الوثاقة حدا يجعل أرسطو ينص في وصيته على تعيين أنتيباتر منفذا لها.
وهكذا لقيت «اللوقيون» التأييد من أكبر ملك عرفه التاريخ، وأخلص وصي على عرش مقدونيا، فلا غرابة أن تبدأ المدرسة قوية إلى الحد الذي تبرز فيه على الأكاديمية نفسها، ولم يكن زينوقراط رئيسها الثالث الذي انتخب بعد موت أسبيسيبوس خليقا أن يقف في كفة واحدة مع أرسطو، ولعل ذلك كان من جملة الأسباب التي دعته إلى افتتاح مدرسة جديدة؛ لأنه أنف أن يعمل تحت رئاسة زينوقراط.
ونحن إذا كنا نجهل حقيقة الدروس التي كانت تلقى في الأكاديمية، ولا نعلم سوى الجانب الشعبي من تعاليم أفلاطون في محاوراته التي كان يخرجها للجمهور بين حين وآخر، هذه المحاورات التي لا يزال معظمها موجودا بين أيدينا حتى اليوم، فإن هذا الجانب الشعبي في تعاليم أرسطو، نعني محاوراته الرائعة الأسلوب التي وصفها شيشرون بأن أسلوبها يجري كأنه نهر من ذهب، أضحى مفقودا منذ فقدت هذه المحاورات، بعد أن استمرت ثلاثة قرون من الزمان، يقرؤها جمهور المثقفين، جنبا إلى جنب مع محاورات أفلاطون. ولكننا لحسن الحظ نعلم تمام العلم حقيقة الدروس التي كان يلقيها أرسطو في داخل المدرسة؛ لأن كتبه - ابتداء من المنطق إلى الميتافيزيقا - لا تزال باقية، وسنتحدث عنها فيما بعد.
ولا بد أن الأبنية التي كانت تشغلها المدرسة كانت متعددة واسعة، يتخذ بعضها لسكنى الطلبة، وبعضها الآخر حجرات للمحاضرات، وبعضها الثالث لحفظ الكتب والخرائط وما أشبه. وأحد هذه الأبنية كان معبدا لربات الفنون - أو متحفا كما نقول اليوم
Museum - ولفظ المتحف بالأجنبية نسبة إلى «موزايوس»؛ أي ربات الفن. وأقيم في المتحف تمثال لأرسطو، يقول ثاوفراسطس إنه تمثال نصفي، وقد أوصى أن يوضع في المعبد.
ولما كان أرسطو أجنبيا عن أثينا، ولم يكن له حق امتلاك الأرض كما ذكرنا، فقد وهب ديمتريوس الفاليري - تلميذ ثاوفراسطس - الأرض وما عليها من أبنية لثاوفراسطس. وفي وصية ثاوفراسطس التي حفظها لنا التاريخ يقول: «البستان، والممشى
، والمساكن الملحقة بالبستان، أهبها كلها لأصدقائنا الذين يرغبون في بحث الأدب والفلسفة بحثا مشتركا، ما دام ليس من الميسور لكل الناس أن يكونوا مقيمين إقامة دائمة، بشرط ألا يفسد أحد الأبنية أو يقصرها على استعماله الخاص. ولكن الشرط أن يملكوا المدرسة، وكأنها معبد من الأملاك العامة، وأن يعيشوا معا معيشة لائقة على أساس من الصحبة والصداقة.»
وتدل هذه الوصية على أن روح أرسطو التي زرعها في تلاميذه، كانت لا تزال ترفرف عليهم. وقد وضع لهم أرسطو دستورا للمدرسة يتبعونه في الطعام والشراب والنوم. ومن دستور المدرسة أن يجتمعوا مرة كل شهر حول مائدة للطعام أو الشراب، على طريقة مأدبة أفلاطون ؛ رمزا للمعيشة المشتركة. وفي وصية ستراتون الرئيس الذي تولى بعد ثاوفراسطس رئاسة المدرسة ، نجد قائمة بالأدوات التي وهبها للرئيس الذي عهد إليه بالمدرسة من بعده، وهذه الأدوات هي الملاءات الخاصة بالولائم، وكئوس الشراب، وجميع الأثاث الموجود في صالة الطعام. ويبدو أن هذه الأدوات استمرت تستكمل على مر الزمن، حتى إن المدرسة تحت رئاسة ليقون الذي تولى بعد ستراتون وجهت إليها كثير من الشكوى؛ لأن الطلبة الفقراء لا يستطيعون المشاركة في المآدب بسبب ما فيها من ترف شديد. مهما يكن من شيء، فإن أرسطو كان قد وضع دستورا للشراب وللمآدب، كما كانت الحال في الأكاديمية، وفي معظم المدارس الفلسفية التي وجدت في ذلك الحين.
ولسنا ندري شيئا عن الرسوم الدراسية، ولكن يبدو أنها كانت بحسب مقدرة كل طالب، ولعل الفقراء لم يكونوا يدفعون شيئا. ولذلك كانت المدرسة تعيش على هبات الأغنياء من جهة، وعلى ما يدفعه الطلبة القادرون من جهة ثانية.
ولسنا ندري عدد التلاميذ الذين كانوا يحضرون دروس أرسطو، ولكن يبدو أنهم كانوا عددا وفيرا؛ فقد حدثنا ديوجينيس اللايرسي في كتابه «سيرة الفلاسفة» عند الكلام عن ثاوفراسطس، أن 2000 طالب اعتادوا حضور دروسه. ولو أننا نشك في هذا العدد، فإذا كان ثاوفراسطس وهو تلميذ أرسطو وأقل منه شهرة حظي بهذا العدد من التلاميذ، فلا بد أن عدد تلاميذ أرسطو كان أكثر. ولم يبين ديوجينيس عددهم، ولكنه قال إنهم كثير، أبرزهم ثاوفراسطس. ولا بد أن هذا العدد الكبير هو الذي كان يحضر الدروس المسائية، أما الدروس الصباحية، أو السماعية، فلم يكن العدد يتجاوز بضعة عشر تلميذا.
فما هي الدروس التي كان أرسطو يلقيها عليهم؟
يختلف أرسطو عن أستاذه أفلاطون مزاجا ومنهاجا وفلسفة؛ صاحب الأكاديمية كان يرى أن الفلسفة شيء يدرك بالحدس، والرؤية الباطنة، واتصال النفس بالحقائق الأزلية، ولذلك عرف الفلسفة بأنها «رؤية» الحق، وجدير بمن يبلغ الحق عن هذا الطريق، أن يحتفظ به سرا من أسرار النفس؛ إذ يصعب التعبير عن الحق باللفظ واللغة. ولذلك حذر أفلاطون في أكثر من موضع من محاوراته الناس أن «يدونوا» الفلسفة؛ لأنها تدرك وتحس فقط. وقد ذكرنا قبلا أن محاورات أفلاطون لم يودعها فلسفته التي كان يدرسها في الأكاديمية، وإنما عرفنا تلك الدروس مما ذكره بعض تلاميذه، ونقلوه عنه، وعلى رأسهم أرسطو.
كان ذلك رأي أفلاطون: إن الفلسفة حوار يدور بين عقلين، أو «جدل» يصعد في باطن النفس إلى آفاق المثل الخالدة، ويهبط من سماء المثل إلى عالم المحسوسات والتغير. ولكن أرسطو كان له في الفلسفة رأي آخر؛ فهي البحث عن العلل الأولى والغايات الأخيرة، وهي ضرب من البحث المنظم الذي يعتمد على منهج آخر خلاف الحوار وخلاف الجدل، ذلك المنهج هو «المنطق» الذي ابتكره أرسطو حتى اشتهر به، ولقبه المتأخرون وبخاصة العرب: «صاحب المنطق».
ولم يكن أرسطو يذهب إلى القول بعدم تدوين الفلسفة؛ لأن وجهة نظره نحو تفسير الموجودات تختلف عن وجهة نظر أفلاطون. فالفلسفة عند أرسطو هي «العلم بالموجود من حيث هو موجود»، أي إنه يقر ويعترف بالموجود المحسوس. وما دام الأمر كذلك، فالمحسوس مركب بلا نزاع من «مادة»، أو بالاصطلاح اليوناني الذي دخل لغة العرب من «هيولى». أما أفلاطون فقد ضرب عن المادة صفحا، وفسرها تفسيرا رياضيا، وزعم أن «المثل» هي أصل الموجودات المحسوسة.
من هنا كان اتجاه أرسطو طبيعيا، وكان اتجاه أفلاطون رياضيا. ولعل هذا الخلاف في الاتجاه كان من جملة الأسباب التي دعت أرسطو أن يهجر الأكاديمية، وأن يفتتح مدرسة جديدة. والفلسفة الطبيعية تبحث في أمور غير تلك التي تبحث فيها الفلسفة الرياضية، فضلا عن اختلاف المنهجين، واختلاف الأسلوبين، واختلاف النزعتين.
وقد خلف لنا أرسطو مؤلفات في جميع المعارف، ابتداء من المنطق بأجزائه، والطبيعة، وعلوم الحياة، إلى الميتافيزيقا والأخلاق والسياسة. وكانت تلك المؤلفات متداولة في داخل المدرسة حوالي ثلاثة قرون من الزمان، إلى أن رتبها أندرونيقوس الرودسي في القرن الأول قبل الميلاد هذا الترتيب المعروف حتى اليوم، واكتسبت هذه المؤلفات أسماء لم تكن لها زمان أرسطو.
مثال ذلك أن كتاب «الميتافيزيقا» لم يؤلفه أرسطو بهذا الاسم، بل الفن الذي يبحث فيه هو إما الفلسفة الأولى، وإما الإلهيات. أما «الميتافيزيقا» فهو اسم وضعه أندرونيقوس للدلالة على ترتيب الكتب التي جاءت «بعد» الكتب الطبيعية؛ لأن «ميتا» باليونانية تدل على «بعد»، ولذلك قال العرب في ترجمتهم لهذا الكتاب إنه كتاب «ما بعد الطبيعة». وحقيقة أمره أنه ليس كتابا واحدا، بل أربعة عشر كتابا مرتبة على حسب الحروف الأبجدية اليونانية.
والمنطق الذي تركه لنا أرسطو يتألف من ستة كتب أساسية؛ هي (1) المقولات. (2) العبارة. (3) القياس. (4) البرهان. (5) الجدل. (6) السفسطة. وقد أضاف العرب فيما بعد إلى هذه الكتب الستة ثلاثة أخرى؛ مدخلا يسمى «إيساغوجي»؛ أي المدخل إلى المقولات، وهو من عمل فرفريوس الصوري، ثم الخطابة والشعر. والشعر بوجه خاص كتاب فني يبحث في الفن والجمال، ولا صلة له بالمنطق، ولكن العرب متأثرون ببعض شراح أرسطو جعلوه ضربا من القياس. ولم يكن أرسطو يعرف مصطلح «المنطق»، فهذا المصطلح من وضع شيشرون في عصر متأخر، ولكنه كان يعني - بما نقول عنه «المنطق» - «التحليلات». وصناعة التحليل عنده تمر في مرحلتين أولى وثانية؛ فالأولى هي القياس، والثانية هي البرهان. والمقصد من «المنطق» هو البرهان الذي يؤدي إلى معرفة اليقين في الأمور العلمية؛ لأنه يعتمد على مقدمات أولى يقينية. و«المنطق» عند أرسطو، وعند المشائين بوجه عام، هو أداة التفكير، هو «الأرجانون»؛ أي الآلة التي إذا أحسن المرء استخدامها توصل إلى التفكير الصحيح.
وهكذا نرى أن البرهان منهج ضروري للبحث في الطبيعيات، وقد كان أرسطو مبتكرا إلى حد ما لهذا المنهج الذي استخدمه منذ كان في أسوس وميتلين. وعندما افتتح «اللوقيون»، وكان يتتبع الظواهر الطبيعية للوصول منها إلى القواعد الكلية السارية في العالم الطبيعي. وله من الكتب في هذه الموضوعات كتاب الطبيعة، والسماء، والكون والفساد، والآثار العلوية، ثم الكتب النفسية وعلى رأسها كتاب النفس، والطبيعيات الصغرى التي تشمل الحس والمحسوس، والذكر والتذكر، والنوم والأرق، وغير ذلك. ثم الكتب التي تبحث في علم الحيوان، وقد اقتبس الجاحظ في الحيوان كثيرا من آراء أرسطو، وذكره في أكثر من موضع.
وها هنا يمكن تقدير قيمة المساعدة التي أمر بها الإسكندر المقدوني، حين طلب من الصيادين في الجو والبر والبحر أن يقدموا نماذج مما يصيدون لأرسطو، أو على أقل تقدير أن يصفوا له ما لا يتيسر لهم تقديمه من أصناف الحيوان. وهذا المنهج الذي يعتمد على وصف النماذج المختلفة يسميه أرسطو «التاريخ الطبيعي»، وفيما يختص بالحيوان يسميه «تاريخ الحيوان»؛ يقصد بذلك تسجيل أصنافه المتعددة. ولم يتبع أرسطو هذه الطريقة فيما يختص بالبحث الطبيعي فقط، بل كذلك عندما بحث الدساتير ونظم الدولة. إنه يقيم نظريته السياسية بعد التقصي والاستقراء.
لم يكن أرسطو صاحب المنطق فقط، بل يمكن القول إنه صاحب كل علم، وواضع أسس معظم فروع العلوم الطبيعية؛ فهو صاحب الحيوان، وهو صاحب النفس، الذي ظل كتابه في علم النفس عمدة لهذا العلم عشرين قرنا من الزمان. وقد استمرت نظرية العناصر الأربعة حتى القرن الثامن عشر هي النظرية السائدة في العلوم الطبيعية. وهكذا نجد أن فلاسفة العصر الوسيط سموه بحق «المعلم الأول». واستمرت كتبه هي العمدة التي يعول عليها، والأصل الذي يعد أقصى ما يتمناه المرء أن يقوم بشرحها؛ ولذلك قامت المشائية كمدرسة على كتب «المعلم الأول» وشروحها. واشتهر الشراح في هذه المدرسة شهرة مؤسسها، ولا يمكن الفصل في هذه المدرسة بين «المعلم الأول» وبين شراحه. وكيف يمكن هذا الفصل، ولم تظهر كتبه إلا بعد ثلاثة قرون من الزمان، ولم يكن ترتيبها على هذا النحو الموجود بين أيدينا؟ ويبدو أن كثيرا من هذه الكتب من عمل المدرسة لا من عمل أرسطو وحده.
ولما توفي أرسطو، تولى رئاسة المدرسة ثاوفراسطس ثمانية وثلاثين عاما (323-286ق.م)، ويعد المؤسس الثاني لمدرسة «اللوقيون»، بخاصة أن أرسطو لم يستمر في المدرسة إلا ثلاثة عشر عاما. وفد إلى أثينا من جزيرة لسبوس، وحضر على أفلاطون في الأكاديمية، وعرف أرسطو في ذلك الحين، وتوطدت الصداقة بينهما. ولما هجر أرسطو أثينا قبل وفاته بعام، عهد برئاستها إلى ثاوفراسطس، ووهب له في وصيته المكتبة والمذكرات التي كان يلقي منها محاضراته، والتي نشرت فيما بعد على أنها مؤلفات «المعلم الأول».
وقد ذكرنا من قبل أن عدد الذين كانوا يحضرون دروسه بلغ الألفين ، ولعل هذا العدد كان يحضر دروس الخطابة والأخلاق وما أشبه. والأشبه أن الرقم مبالغ فيه. وقد تابع ثاوفراسطس جهود أرسطو في تأسيس المدرسة واستكمالها؛ فوسع الحديقة، ونظم الأوقات والمناهج للتدريس. واشتهر بكتابه في النبات، وله في هذا الفن كتابان في الواقع هما تاريخ النبات، وعلل النبات، ظلا عمدة هذا العلم في الزمن القديم والعصر الوسيط. والعرب يعرفون ثاوفراسطس ويبجلونه، وترجموا كتبه. وجاء في وصيته ما فحواه أن المال الذي أودعه عند هيبارخوس ينفق منه أولا على إتمام تجديد بناء المتحف، وما فيه من تماثيل الآلهة. وثانيا أن يوضع في المعبد تمثال أرسطو كما كان من قبل. وثالثا تجديد بناء الرواق المجاور للمتحف، بشرط أن يكون جميلا كما كان، وأن يوضع في الرواق السفلي المناضد وعليها خرائط البلاد التي اجتازها الرواد المستكشفون. وأيضا يجب إصلاح المذبح وتجميله. إلى قوله: وإني أوصي بإتمام تمثال نيقوماخوس في الحجم الطبيعي، وقد دفعت الأجر المتفق عليه للمثال براكستيلس ... وإني أوصي أن تتألف هيئة المدرسة من هيبارخوس، ونيلوس، وسطراطون، وقالينوس، وديموتيموس، وديمارتوس، وقالستينمس، وميلانتيس، وبانقريون، ونيقيبوس.
والوصية طويلة لم نذكر إلا بعضها؛ لنبين كيف كان رئيس «اللوقيون» يفكر في مصلحة المدرسة حيا وميتا، وكيف كان يعنى بتجميلها، كما وضح لنا عدد الخلفاء البارزين الذين كانوا يديرون أمور المدرسة. وهذه الهيئة أشبه شيء بمجلس إدارة للنظر في جميع شئون المدرسة، ويعد رئيس المدرسة رئيس مجلس الإدارة.
تولى المدرسة أسطراطون من 286 إلى 268ق.م، وقد اشتهر باسم أسطراطون الطبيعي؛ بسبب انقطاعه لبحث الطبيعة. وقد علم بطليموس فيلاديلفوس الذي نفحه مبلغا عظيما من المال يضاهي ما أعطاه الإسكندر لأرسطو. وله مؤلفات كثيرة ذكر ديوجينيس أسماءها، كما أثبت وصيته التي جاء فيها أنه يعهد برئاسة المدرسة إلى «ليقون»؛ لأن الآخرين أصبحوا إما طاعنين في السن، وإما في غاية الانشغال. ويبدو من النظر في وصية رؤساء المدرسة أن الرئاسة كانت في بعض الأحيان بالنص والتعيين، كالحال في تولية «ليقون»، وفي بعض الأحيان الأخرى بالانتخاب من جماعة الفلاسفة الذين يديرون أمور المدرسة، ويعيشون معا معيشة مشتركة.
واستمر «ليقون» حوالي نصف قرن رئيسا للمدرسة، من 268 إلى 225ق.م، ولم يؤثر عنه الاشتغال بالعلم الطبيعي، بل اتجه إلى الأخلاق والسياسة والبلاغة. ومنذ ذلك الوقت، بدأت مدرسة الإسكندرية تنتزع الراية من المدارس الأثينية التي لم يعرف عنها تجديد أو ابتكار.
ثم توالى الرؤساء على المدرسة، ويهمنا أن نتحدث قليلا عن الرئيس الحادي عشر، وهو أندرونيقوس الرودسي. وكانت مدته من 78 إلى 47 قبل الميلاد. وترجع أهميته إلى أنه هو المسئول عن ترتيب كتب أرسطو على النحو الموجود بين أيدينا الآن، أو أنه هو الذي أعد كتب أرسطو للنشر على هذا النحو. ولسنا نقصد بالنشر أنه طبعها؛ فلم تكن المطبعة قد اخترعت بعد، وإنما كانت الكتب تنسخ على لفائف من أوراق البردي أو رقائق الجلد. ويكفي أن تتصور «المكتبة» الملحقة بالمدرسة، والأبنية التي تتسع لمثل هذه الكتب الضخمة. وقد احتذت برجامون والإسكندرية في إنشاء مكتباتها حذو مكتبة أرسطو.
ولعلنا نترك حديث المدرسة بعض الوقت؛ لنتحدث عن قصة كتب أرسطو، تلك القصة التي تشبه الأسطورة؛ ذلك أن ثاوفراسطس حين حضرته الوفاة، أوصى بمكتبته إلى زميله وصاحبه نيلوس، وكان في تلك المكتبة الخاصة مؤلفات أرسطو. ولما كان نيلوس مواطنا من طروادة بآسيا الصغرى، فقد حمل الكتب معه هناك، حيث أنشأ حلقة أفلاطونية (وكان نيلوس يدرس بالأكاديمية مع ثاوفراسطس وأرسطو). وحين أراد حكام برجامون إنشاء مكتبة تنافس مكتبة الإسكندرية، خشي ورثة نيلوس أن يستولى على مكتبتهم، فأسرعوا بإخفائها في كهف، وظلت حبيسة المغارة قرنا ونصف قرن، إلى أن سمع بخبرها أبيليقون الضابط المرتزق في جيش ميثريادس، وكان جماعا للكتب، فاشتراها بثمن بخس. وكانت الرطوبة قد محت كثيرا من الكتابات الموجودة باللفائف، ولم يستطع أبيليقون أن يرتب هذه المؤلفات، وأن يصدر منها نشرة صحيحة. وأرسلت الكتب إلى روما، حيث أراد تيرانيون النحوي أمين مكتبة شيشرون أن يرتب الكتب، ولم يفلح. أما النشرة الصحيحة، فهي تلك التي أشرنا إليها من عمل أندرونيقوس الرودسي. ويعد عمله في هذا الترتيب والنشر شرحا لمؤلفات أرسطو؛ فهو أول شارح .
احتاج أرسطو إلى شراح؛ لأن العهد كان قد بعد بين تعليمه في القرن الرابع قبل الميلاد، وبين العصور الجديدة بعد ثلاثة قرون؛ أي منذ القرن الأول قبل الميلاد. وكانت فلسفات جديدة قد ظهرت إلى الوجود، وأصبحت هي السائدة؛ كالرواقية، والإبيقورية، والإسكندرانية، ثم الأفلاطونية المحدثة. ولما تدهورت مباحث الفلسفة، أخذ المشتغلون بها من المتأخرين يخلطون بين هذه الفلسفات كلها، على الرغم من أن الأسس التي تقوم كل منها عليها مختلفة. هذا إلى أن أوائل الخلفاء على مدرسة أرسطو لقرب عهدهم منه، كانوا يحسنون فهم كتبه واتجاهاته، فلما انقضى ذلك الرعيل الأول، خلف من بعدهم خلف أصبحت هذه المؤلفات بالنسبة إليهم أشبه بالطلاسم التي تحتاج إلى تفسير أو إلى شرح. ومن هنا ظهرت الحاجة إلى الشراح.
والشراح للمشائية كثيرون، وصلت بعض كتبهم إلى العرب الذين كانوا على معرفة وثيقة بهم، ولكن أشهر الشراح بإطلاق بالنسبة إلى العالم العربي الإسكندر الأفروديسي في القرن الثالث بعد الميلاد، وثامسطيوس في الرابع بعد الميلاد، وسمبلقيوس في القرن السادس بعد الميلاد. وقد اتصل العرب بهذه الحركة؛ فكان ابن رشد من أكبر شراح أرسطو، لا تقل منزلته عن الإسكندر الأفروديسي أو ثامسطيوس. وقد نقلت شروح ابن رشد إلى اللغة اللاتينية، وعرفت أوروبا أرسطو والمشائية عن طريق ابن رشد.
ولا تزال مدرسة أرسطو على الرغم من أنها أغلقت نهائيا أبوابها في أثينا عندما طرد الإمبراطور جستنيان الفلاسفة سنة 529 حية حتى اليوم، ونقلت أفكارها إلى جميع اللغات، ولا يزال منطق أرسطو مستخدما، ولا تزال اتجاهاته الفلسفية الرئيسة باقية، وعلى رأسها أن الفلسفة هي العلم بالموجود، أو هي العلم بالعلل الأولى والغايات الأخيرة. وبقيت الأرسطية ولا تزال عنوانا على تفسير الموجودات بالهيولى والصورة، أي بمبدأين لا بمبدأ واحد. والقول بالقوة والفعل باعتبار أن القوة تقابل المادة، والفعل يقابل الصورة، وعلى القول بنظرية الوسط في الأخلاق.
الرواق والحديقة
كانت المدارس الفلسفية في اليونان كثيرة، أشرنا إلى أبرزها وأهمها وأعظمها أثرا في تاريخ الفكر البشري. وورد في أثناء ذلك ذكر بعض المدارس التي لم تلبث أن انقرضت بموت أصحابها. وفي أواخر القرن الرابع وأوائل الثالث قبل الميلاد، ظهرت أربع مدارس؛ هي الكلبية والشكاك والرواقية والإبيقورية، وأشهرها الرواقية والإبيقورية. فالرواقية نسبة إلى مكان التعليم في الرواق، والإبيقورية نسبة إلى صاحبها إبيقور، الذي كان يعلم في الحديقة.
وعلى الرغم من زوال المدرستين منذ القرن الأول للميلاد تقريبا، إلا أن روح الرواقية لا تزال سارية حتى اليوم، على حين اكتسبت الإبيقورية معنى منحرفا، وأصبح الشخص الذي يوصف بأنه إبيقوري إنما يدل ذلك على انهماكه في الشهوات وإسرافه في الملذات.
نبدأ بالحديث عن الرواقية فنقول: إن الذي أسس هذه المدرسة هو زينون الرواقي، أصله من مدينة أكتيوم بجزيرة قبرص، وهي مدينة يونانية استقر بها مهاجرون من فينيقيا التي تقع على الشاطئ المقابل للجزيرة. ويروى أنه خرج في تجارة فغرقت السفينة على مقربة من بيرايوس ميناء أثينا، فلما نجا توجه إلى أثينا، واستقر بها، ودرس فيها، وكان فيما يقال في الثلاثين من عمره. فلما استقر به المقام، اشترى من وراق كتاب زينوفون عن سقراط، وهو المذكرات المشهورة، فأعجب به وسأل: أين يوجد رجل مثل سقراط؟ فأشار عليه الوراق باتباع أقراطيس الكلبي. وتنقل زينون عشرين عاما بين المدارس الفلسفية في أثينا، ثم أخذ يعلم الفلسفة في رواق مشهور بأثينا كان محلى بنقوش بوليجبنوتس أشهر الرسامين اليونانيين في القرن الخامس قبل الميلاد. وكان ذلك الرواق فيما مضى منتدى للأدباء والشعراء يلتقون فيه، وكان إلى ذلك مباحا لكل طارق، فلما اتخذه زينون مكانا للتعليم، سمي وأتباعه بالرواقيين.
الواقع كانت طريقة التعليم في اليونان، كما ذكرنا، تتم بين المعلم وتلاميذه؛ إما في رواق، وإما على ممشى بين الأشجار؛ أي في حديقة. فالأكاديمية - وهي التي سماها العرب أقاذيميا - كانت في الأصل حديقة سميت باسم البطل أكاديموس. وكان كبار السفسطائيين الذين علموا في بيوت أشراف أثينا يلقون دروسهم وهم يمشون في الرواق. ذلك أن القصور كانت تبنى بحيث يفسح فيها مكان لأروقة تقام على أعمدة تلقي ظلا يخفف من حرارة الجو. ولكن بعض المدارس اشتهرت تاريخيا بنسبتها إلى خاصية معينة؛ مثل مدرسة المشائين، وحديقة إبيقور، ورواق الرواقية.
والرواقية مذهب تغير على مر الزمن؛ فهي على يد مؤسسها زينون خلافها على يد أبكتيتوس أو مرقص أوريليوس مثلا. ولكنها على الرغم من تطورها، وعلى الرغم من هجرها لاتجاهات مادية أو طبيعية، فقد بقي لها طابع عام لا يزال حتى اليوم يميزها عن أي مدرسة فلسفية أخرى. والرواقي صفة تطلق - وبخاصة في اللغات الأوروبية - على الشخص الذي يمتاز بثلاثة أمور كلها أخلاقية؛ هي التحرر من الأهواء، وعدم الخضوع للأفراح والأحزان، والاستسلام لقانون القضاء. فإذا تيسر لأحد أن يملك زمام نفسه على هذا النحو؛ فهو الحكيم الرواقي. ويمكن القول بعبارة أخرى، إن الحكيم الرواقي هو الذي يصبر على أحداث الزمان، ويرضى بما يجري عليه ولا حيلة له فيه من العطاء أو الحرمان، وهذا شيء ليس من اليسير أن يتقبله كل إنسان.
والرواقية مدرسة عجيبة ظهرت في بلاد اليونان، ولكن مؤسسها غير يوناني، وجمعت بين السيد والعبد على صعيد واحد، ولم تميز بين شرقي ولا غربي، ولم تستقر في مكان واحد أو داخل جدران مدرسة واحدة، ومع ذلك انتشرت تعاليمها، ولا تزال سارية حتى الآن. وتطورت آراؤها على مر العصور، ولكنها احتفظت بطابع أخلاقي يميزها عما عداها.
استمرت رسميا خمسة قرون، من الثالث قبل الميلاد، إلى الثاني بعد الميلاد. أول ممثليها زينون، وآخرهم مرقص أوريليوس المتوفى 180ب.م. وتقسم المدرسة عادة إلى قديمة ووسطى وحديثة؛ فالقديمة في أثينا، ويمثلها زينون وكليانتس وكريسبوس. ووسطى يمثلها بناثيوس وبوزيدونيوس، وحديثة في روما يمثلها سينيكا وأبيكتيتوس ومرقص أوريليوس. ثم تسربت آراؤها إلى المسيحية واستمرت في التراث الغربي حتى الوقت الحاضر. وقد كان لها أثر كبير على الحكام والملوك الذين اعتنقوا هذه الفلسفة، حتى قيل إن معظم الملوك بعد الإسكندر المقدوني كانوا من أتباع الرواقية.
وتقوم الرواقية على مبدأين أساسيين مع التوفيق بينهما؛ وهما الحتمية الكونية والحرية الإنسانية . والأول منهما خاص بالطبيعة، والثاني بالإنسان؛ ذلك أن حوادث الكون محكومة بقوانين صارمة، وليس ثمة في نظر الرواقيين صدفة أو اتفاق. وعندهم أن كل شيء في هذا العالم مسوق نحو غاية ومدبر لخدمة الإنسان، وهذه هي نظرية العناية الإلهية. وعلى الإنسان أن يسعى بإرادته، ومحض حريته واختياره إلى أن يتوافق مع القوانين العامة للطبيعة. فالفضيلة إذن تقوم في حرية الإرادة الموافقة للطبيعة. وما دام الأمر كذلك، فلا بد أن يكون الحكيم الرواقي سيد نفسه، لا يهمه فقر أو غنى، ولا تصده أي قوة خارجية عن الفضيلة.
ولما كانت آراء هذه المدرسة غير منفصلة عن حياة أصحابها، فلنشرع في الحديث عن أبرزهم، مبتدئين بمؤسسها.
ذكرنا أن زينون الرواقي - وهو خلاف زينون الإيلي تلميذ بارمنيدس - من أصل فينيقي. ولد في قبرص بمدينة أكتيوم، وازدهر في أوائل القرن الثالث من قبل الميلاد. وكان أبوه تاجرا، فاشتغل زينون في صباه بالتجارة، وركب البحر متجها إلى بلاد اليونان يبيع شحنة من الأرجوان، غير أن السفينة تحطمت، فذهب إلى أثينا، وأخذ يدرس الفلسفة. ويحكى في سبب ذلك أنه اختلف إلى دكان وراق (أي صاحب مكتبة)، وقرأ عنده مذكرات زينوفون التي روى فيها أحاديث سقراط، فأعجب بالمحاورات إعجابا شديدا وسأل أين يمكن أن يجد شخصا مثل سقراط. ولقد ظلت شخصية سقراط المثل الأعلى للرواقية في شتى عصورها؛ إذ أعجب الرواقيون بموقفه في المحاكمة، ورفضه الهرب من السجن، وهدوئه في مواجهة الموت، وعلى الجملة سيرته الأخلاقية الفاضلة. كما أعجب الرواقيون كذلك ببساطة سقراط في الطعام والشراب والملبس، وعدم مبالاته بالحر أو البرد، وعزوفه عن الرفاهية والترف؛ من أجل ذلك اقترنت الرواقية بالزهد والأخلاق الفاضلة.
عاش زينون حتى بلغ التسعين، وظفر بشهرة واسعة، وكان له تلاميذ كثيرون في المدرسة التي خلفه على رئاستها كليانتس. اشتهر بأمرين؛ الأول: التمسك بأن الأرض مركز الكون؛ ولذلك يجب الحكم على أرسطارخوس بالإعدام لإلحاده بسبب قوله إن الشمس مركز الكون لا الأرض. والثاني: قصيدته التي نظمها في تقديس زيوس.
غير أن خليفته في المدرسة وهو كريسيبوس (280-207ق.م.) هو الذي يعزى إليه تثبيت دعائم المدرسة، وتنظيم المذهب، والعناية بالمنطق ونظرية المعرفة. وكان زينون يقول إن الفلسفة بستان والمنطق سوره، والطبيعة شجره، والأخلاق ثمره؛ وبذلك جعل الأخلاق لب الفلسفة، والمباحث النظرية من طبيعة ومنطق تابعة لها. ولكن يبدو أن كريسبوس أفرد للدراسة النظرية مكانا أوسع، وبخاصة المنطق، الذي أضحى جزءا من الفلسفة، لا كما ذهب أرسطو آلة لتحصيلها فقط. ومن أقواله في الأخلاق إن الرجل الفاضل سعيد دائما، والشرير شقي أبدا، وإن النفس تبقى بعد فناء البدن إلى أن يحين الاحتراق العام.
ثم انتقلت الرواقية إلى روما غربا، مع ظهور الإمبراطورية الرومانية. وتعدل المذهب أولا على يد بناثيوس (توفي 110ق.م)، الذي أدخل في الرواقية عناصر أفلاطونية، وهجر مادية المدرسة القديمة، وكان صديقا لشيبيو. كما أثر في شيشرون صاحب الفضل في نشر الرواقية بين الرومان. وقد تعلم بوزيدونيوس من بناتيوس وخلفه. وبوزيدونيوس إغريقي من سوريا، شهد في صباه نهاية الدولة السلوقية في سوريا، ودفعه ما رآه من فوضى إلى الهجرة غربا، فذهب أولا إلى أثينا، حيث رضع لبان الرواقية في ظل الرواق. غرب إلى أقصى غرب الإمبراطورية الرومانية في شمال أفريقيا وإسبانيا وفرنسا. وقد تعلم شيشرون على بوزيدونيوس في رودس وعنه أخذ هذا المذهب. وقد اتجه وجهة رياضية موفقا بين تعاليم أفلاطون الأصلية - لا تعاليم الأكاديمية التي اصطنعت مذهب الشك - وبين الأخلاق الرواقية.
ذكرنا أن الرواقية في عصرها المتأخر اشتهرت برجال ثلاثة، على رأسهم سنيكا (من 3ق.م. إلى 65ب.م)، أصله إسباني، عاش أبوه في روما، تثقف ثقافة سياسية هيأته للاشتغال بالسياسة، فأصبح وزيرا للإمبراطور كلاوديوس، الذي نفاه إلى كورسيكا بسبب عداوته لزوجته مسالينا، ثم استدعته أجريبا زوجة الإمبراطور الثانية، وعينته معلما لابنها البالغ من العمر إحدى عشرة سنة. وهذا الصبي هو الذي أصبح فيما بعد الإمبراطور نيرون. وهكذا كان سنيكا معلم الإمبراطور، كما كان أرسطو معلم الإسكندر، ولكن شتان بين التلميذين، وبين المعلمين. وقد لقي سنيكا من تلميذه جزاء سنمار؛ إذ غضب نيرون عليه عقب اتهامه بالتآمر على حياته، ومحاولة تنصيب إمبراطور آخر على العرش. وقد سمح له أن ينفذ حكم الإعدام على الطريقة الرومانية بأن ينتحر، فاختار أن يقطع شريانه. ومع أنه كان يزدري المال، إلا أنه جمع ثروة كبيرة، قيل إنها بلغت مليونا من الجنيهات.
أما أبكتيتوس (60-100 بعد الميلاد) فكان عبدا إغريقيا، حرره نيرون واتخذه وزيرا. عاش في روما وعلم بها حتى سنة 90، إلى أن نفاه الإمبراطور دومتيان - ولم يكن يحب أرباب الفكر والنظر - مع من نفاهم من الفلاسفة. وذهب أبكتيتوس إلى نيقوبوليس في أبيروس، حيث أخذ يعلم ويؤلف.
أما الإمبراطور مرقص أوريليوس (121-180) فقد عاش حياة رواقية فاضلة. تميز عصره بوقوع كوارث عديدة؛ من زلازل، وأوبئة، وحروب طويلة دامية. وكان ابنه الإمبراطور كومودس من أسوأ الأباطرة سيرة، ولكنه أخفى نواياه الشريرة عن أبيه مدة حياته. وقد اشتهر مرقص أوريليوس بكتابه الذي نشر بعد وفاته، وهو «التأملات». وهو عبارة عن خواطر كان يدونها لنفسه، ولم يكن يعدها للنشر. وقد اتهمت زوجته «فاوستينا» بفساد السيرة، ولكن زوجها لم يشك في شرفها. وقد اضطهد أوريليوس المسيحيين لخروجهم على دين الدولة الذي كان يعتبره ضرورة سياسية. وعلى الجملة عاش مرقص أوريليوس حسن السيرة نقي السريرة.
كانت فلسفة أبكتيتوس ومرقص أوريليوس ملائمة للعصر الذي عاشا فيه، ذلك العصر الذي تميز بالقلاقل والاضطرابات والكوارث، ولم يكن ثمة أمل في تحسين تلك الأحوال التي سارت من سيئ إلى أسوأ، حتى انتهى الأمر بسقوط الإمبراطورية الرومانية؛ من أجل ذلك كانت الأخلاق الرواقية التي بشرا بها وسارا عليها أفضل أخلاق ملائمة لذلك الصبر؛ إذ كانت تدعو إلى الصبر على الأذى، واحتمال المصائب، والرضا بالقضاء، أكثر منها رسالة أمل ورجاء.
وفلسفتهما متشابهة إلى حد كبير. ومن أقوال أبكتيتوس: إننا نعيش مساجين على الأرض، وفي بدن أرضي. ومن أقوال مرقص أوريليوس: ما أنت أيها الإنسان سوى روح ضئيلة تحمل على كاهلها جثة. •••
وقد أصبحت حديقة إبيقور عنوانا على البحث الفلسفي في الأخلاق واعتمادها على اللذة، وعلى الصحبة الفلسفية لتبادل الآراء. وقد شاع عن إبيقور أن مذهبه هو الإقبال على اللذة، والحق أن أحدا لم يظلم مثلما ظلم إبيقور، إن في سيرته أو في مذهبه. وقد أشاع عنه خصومه الشائعات وألصقوا به التهم جزافا. وأكبر الظن أن خصومه في الفكر هم الرواقيون أصحاب الرواق، والذين كانت مدرستهم تنافس حديقته. قيل مثلا إن أمه كانت كاهنة مشعوذة، وكان يطوف معها من دار إلى أخرى يرتلان الأدعية الدينية. كما كان يساعد أباه في مهنة تعليم الصبيان لقاء أجر ضئيل. ولو صحت الرواية السابقة عن أمه، فيكون في ذلك السر في كراهية إبيبقور فيما بعد للخرافات الدينية التي تميزت بها تعاليمه.
أبوه أثيني استقر في ساموس، وهناك أنجب ابنه إبيقور سنة 342ق.م، وفيها أمضى الصبي حداثته، وشرع يدرس الفلسفة وهو في الرابعة عشر من عمره. وفي الثامنة عشر ذهب إلى أثينا يبغي أن يكون مواطنا أثينيا، ولكن في ذلك الوقت طرد المستعمرون في ساموس، فلجأ مع أسرته إلى آسيا الصغرى. وقد تعلم إبيقور المذهب الذري على يد ناوزيفانس أحد أتباع ديمقريطس.
بدأ يفتتح مدرسة فلسفية سنة 311 في ميتلين، ثم في لامباسكوس.
وفي سنة 307 افتتح مدرسته في أثينا، وظل يعلم بها إلى أن توفي سنة 270، فكانت بذلك رابع مدرسة كبرى في أثينا بعد الأكاديمية و«اللوقيون» والرواق. وتعد حديقة إبيقور مدرسة منظمة كالثلاث الأخرى، وهذا سر بقائها حتى نهاية القرن الأول قبل الميلاد؛ إذ تعلقت بمكان ثابت، وكان لها رؤساء تولوا إدارتها بعد موت صاحبها، وهذا على عكس المدرستين اللتين أشرنا إليهما في بداية هذا الفصل؛ وهما مدرسة الكلبيين ومدرسة الشكاك.
اشترى إبيقور في أثينا بيتا وحديقة هي التي كان يقوم بالتدريس فيها، ومنذ ذلك الوقت أصبحت حياته هادئة لا يعكر صفوها سوى اعتلال صحته.
اشترك بالمدرسة منذ إنشائها في ميتلين إخوته الثلاثة وبعض الأصدقاء، ولكن عدد التلاميذ أخذ يزداد في أثينا. ولم تقتصر المدرسة على قبول طلبة الفلسفة فقط، بل ضمت الأصدقاء والأطفال والعبيد والصواحب. وكان لاشتراك المرأة في الحديقة أثره في التشنيع على المدرسة ، وذريعة اتخذها خصومه لاتهامه بالباطل؛ إذ لم يكن من المألوف فتح أبواب المدارس الفلسفية للمرأة، فيما عدا مدرسة فيثاغورس التي كانت في واقع الأمر فرقة دينية.
والرابطة الأساسية التي كانت تجمع بين أفراد المدرسة هي الصداقة. وكانت حياة الجماعة - أو الفرقة - في المدرسة بسيطة جدا، لا لأن تعاليم المدرسة كانت تنصح بالبساطة، كما هي الحال في سائر المدارس الأخرى، بل لحاجتها إلى المال. وكان طعام إبيقور الخبز والماء، وكذلك باقي التلاميذ، وفي ذلك كفاية لحفظ الحياة. ومن أقوال إبيقور: إن بدني لينتشي حين أعيش على الخبز والماء، وإني لأبصق على اللذات المترفة، لا لذاتها، بل بسبب ما تجلبه من عواقب غير حميدة.
اعتمدت المدرسة على الهبات التي كان يطلبها صاحبها من الأصدقاء ومن التلاميذ، وهذه الهبات بعضها من الطعام الذي يحتفلون به في أعيادهم، وبعضها من المال. وقد جاء في إحدى الروايات أنه سأل أحدهم أن يهب المدرسة جبنا يأكلونه في العيد.
وكان إبيقور سليط اللسان على أصحاب الفضل عليه في تعلم الفلسفة؛ إذ أنكر كل فضل لديمقريطس ولوقيبوس صاحبي المذهب الذري، ووجه إليهما أقذع الشتائم. والمذهب الإبيقوري مادي ذري من جهة النظر إلى الفلسفة الطبيعية، وداع إلى اللذة في الأخلاق.
اللذة هي الخير، وهي بدء الحياة السعيدة ونهايتها.
ومن أقواله التي حفظت في كتب المؤرخين: لست أدري كيف أتصور الخير إذا نزعت عنه لذة الذوق، ومتعة المرأة، وبهجة السمع والبصر؟
ومن أقواله أيضا: أول كل خير وأساسه لذة البطن، وحتى الحكمة والثقافة فإنهما يرجعان إليها.
ومع أن اللذة هي مبدأ الحياة، إلا أن الإنسان لا ينبغي أن يقبل عليها دون نظر إلى عواقبها، فإن كانت وخيمة، فلا بد من التضحية بها، بل تحمل الألم المؤقت في سبيل اللذة المستقبلة. واللذة عنده هي البعد عن الألم وتجنبه أكثر منها إقبال على المتعة. وهذا هو السبب في الزهد في الطعام؛ لأن عواقب التخمة وخيمة. والصلة الجنسية لا تؤدي إلى خير أبدا، والسعيد السعيد من لم يصب منها بضرر. أما رأس الفضائل فهي الصداقة، وهي لا تنفصل عن اللذة؛ إذ من دونها لا يعيش المرء آمنا بغير خوف.
والخوف محور آخر لفلسفة إبيقور، وتجنبه هو الذي يحقق اللذة، ومن أقواله في ذلك: لا تسرف في الأكل خشية سوء الهضم، ولا في الشرب خشية ما يحدث صباح اليوم التالي. واحتقر السياسة والمرأة وسائر الأعمال الشهوانية. على الجملة: عش واتق الخوف.
ومصادر الخوف أمران - في زمانه طبعا - الدين والموت، وهما متصلان؛ لأن الدين الذي كان سائدا كان يعلم أن الموتى أشقياء؛ ولذلك نادى بفلسفة تستبعد من الدين ما يجعله يبعث الخوف. ومذهبه أن الآلهة لا تتدخل في شئون البشر، وأن الروح تفنى بفناء البدن. إنه لا ينكر وجود الآلهة، فهي موجودة، ولكنها لا تتدخل في أعمال البشر، ولا تعنى بهم، فلا حاجة للخوف منها، أو إغضابها واستجلاب رضائها، أو الذهاب إلى الجحيم بعد الموت.
وفلسفته الطبيعية ذرية، وهي استمرار لفلسفة ديمقريطس؛ فالعالم مركب من ذرات وخلاء، ولكن الذرات ليست خاضعة دائما لقوانين طبيعية صارمة؛ أي لفكرة الضرورة التي سادت الفلسفة اليونانية وجاءت من الدين.
والذرات عند إبيقور لها ثقل؛ ومن أجل ذلك تقع باستمرار، لا نحو مركز الأرض، بل إلى «تحت». وبين حين وآخر تنحرف بعض الذرات عن السقوط إلى تحت متأثرة بإرادة باطنة حرة. والنفس مادية ومركبة من ذرات تتخلل سائر أجزاء البدن. •••
ثم خلف إبيقور على الحديقة رؤساء يذكرهم ديوجينيس لايرتوس في تاريخه، ولكن لم يشتهر أي واحد منهم، اللهم إلا لوكريتيوس الذي عاش في روما، وكتب قصيدته المشهورة «في طبيعة الأشياء»، شرح فيها فلسفة إبيقور. ولم تعرف القصيدة في زمانه (عاش 99-55ق.م)، بل في عصر النهضة.
مدرسة الإسكندرية
لم تكد مدرسة الإسكندرية تظهر إلى الوجود حتى كسفت بنورها مدارس أثينا، وانتزعت منها راية العلم والفلسفة، واستمرت تتزعم الحركة الفكرية زهاء ثمانية قرون، من القرن الثالث قبل الميلاد عند إنشائها، إلى القرن الخامس بعد الميلاد.
تميزت المدرسة خلال هذه الفترة من الزمان بنزعتها العلمية وبخاصة العلم الرياضي، ولم يؤثر عنها في عصرها الأول قبل الميلاد الاشتغال بالفلسفة، ولكنها منذ القرن الأول بعد الميلاد أخذت تنظر في فلسفة الأديان بوجه خاص، بعد ظهور المسيحية والصراع الفكري بينها وبين وثنية اليونان والرومان وديانة قدماء المصريين، فضلا عن ديانات أخرى وافدة من الشرق؛ مثل اليهودية والزرادشتية والمانوية. وفي خضم هذه التيارات الفكرية والدينية، ظهر في الإسكندرية «الفيثاغورية الجديدة»، تحاول التوفيق بين الأديان، وهذه «الفيثاغورية الجديدة» هي الأصل الذي نبعث منه جماعة «إخوان الصفا وخلان الوفا» في القران الرابع الهجري عند المسلمين. وظهرت كذلك «الأفلاطونية المحدثة» تحاول التوفيق بين أفلاطون وأرسطو مع ميل إلى الأفلاطونية، وهذه النزعة هي التي رفع رايتها آخر كبار الفلاسفة في الزمن القديم، وهو أفلوطين الذي سنفرد لمدرسته حديثا خاصا فيما بعد.
لم يكن لثغر الإسكندرية وجود قبل أن ينشئ المدينة الإسكندر الأكبر عقب غزو مصر. توفي الإسكندر سنة 323ق.م. بعد أن وضع حدا للثقافة الإغريقية التي كانت تتميز بالتمسك بالفكر اليوناني، وقصره على نفسها، وبدأت الثقافة «الهلنستية»؛ أي تلك التي امتدت خارج بلاد اليونان في سائر العالم المعروف في ذلك الزمان، والذي أخضعه الإسكندر لسلطانه يبغي إنشاء «عالم واحد» وثقافة واحدة. ولكن المؤسس الحقيقي لهذه المدينة التي قدر لها أن تكون مركز العلم والفلسفة والثقافة في العالم الجديد، هو بطليموس الأول، الذي حكم مصر بعد موت الإسكندر، وكان صديقه ورفيق صباه، واشترك معه في حملات آسيا الصغرى، فلما أسس الإسكندرية، دفن فيها رفات الإسكندر، وأنشأ بها الفنارة إحدى عجائب الدنيا السبع، وأنشأ المتحف والمكتبة. استمر حكمه حتى سنة 285، فلما تولى ابنه (285-247) بطليموس فيلادلفوس كان حكمه امتدادا لحكم أبيه، ثم بلغت دولة البطالسة ذروة مجدها في ظل بطليموس الثالث (247-222).
كان بطليموس يعرف أن مجد الدول وارتفاع منزلتها وخلود ذكرها، يرجع في المحل الأول إلى ما يسودها من علم وعرفان، وأن دولا كثيرة كانت تمتاز بوفرة المال أو قوة السلطان، ومع ذلك زالت ولم يبق لها في التاريخ ذكر؛ لذلك اتجه بطليموس في منافسته لأثينا بوجه خاص إلى انتزاع زعامتها الفكرية عنها؛ وذلك بإنشاء مدرسة فلسفية على نسق الأكاديمية أو «اللوقيون»، فكانت مدرسة الإسكندرية أقرب إلى «اللوقيون» منها إلى الأكاديمية، بحكم أن ديمتريوس وسطراطون اللذين وضعا دعائم المدرسة كانا خليفتين على «اللوقيون». ولكن النظام الذي جرت عليه المدرسة لم يكن مشابها تماما لمدرسة أرسطو لأسباب كثيرة؛ على رأسها أن «اللوقيون» ارتبطت باسم مؤسسها وهو أرسطو، واستمرت تبث تعاليمه المشائية، ولم تتوقف مدرسة الإسكندرية على أي شخص، أو ترتبط بأي عالم أو فيلسوف، وإنما كانت مؤسسة ثقافية تهيئ للباحثين فرصة البحث، وللدارسين مهمة الدارسة. إنها أشبه بأكاديمية علوم أو معهد عال للأبحاث، مقره في ذلك الزمان «المتحف»، وباليونانية «موزايوم»، ومنه اسم المتحف حديثا كالمتحف المصري بالقاهرة
Museum ، غير أن المتاحف الحديثة أصبحت مقرا للآثار القديمة، فتغير بذلك معناها عن الزمن القديم.
والمتحف معبد أو هيكل لربات الفنون (موزايوس) التسع، وهن بنات زيوس ونيموسيني، وهذه التسع هي ربة التاريخ، والشعر الغنائي، والكوميديا، والتراجيديا، والترانيم، والرقص والموسيقى، وشعر الغزل، والفلك، والشعر الحماسي. وهذا يدل على أن اتجاه المتحف كان في الأغلب نحو الشعر بأنواعه المعروفة في اليونانية، ولكن شهرة المتحف قامت على العلوم أكثر منها على الآداب والشعر.
بني المتحف جزءا من القصور الملكية، له طريق عام، ورواق ذو مظلة تحفه الأرائك، ينتهي إلى بيت واسع يعقد العلماء متشاركين في المتحف اجتماعاتهم في قاعته الكبيرة. وكان يشغل عدة أبنية في المدينة الملكية المطلة على الميناء، وهذا الأبنية مهيأة لشتى الأغراض العلمية. ويعيش أعضاء المدرسة معا، وما يملكونه فهو شركة بينهم. ويرأسهم كاهن كان لملك يعينه في القديم.
والمتحف أدنى إلى أن يكون معهدا للبحوث منه إلى أن يكون جامعة أو مدرسة. وليس بين يدينا من الوثائق ما يؤيد أنه مكان للتعليم. إنه تعليم بين أستاذ ومعاونيه، ولم يكن ثمة إدارة أو امتحانات، أو درجات جامعية. وكان المتحف مزودا بالأدوات والأجهزة الفلكية، وأدوات التشريح، وحدائق للنبات. ومن الطبيعي أن يستغرق بناء المتحف ونموه زمنا، وأن يحتاج مع ذلك إلى الاستقرار، وقد كفل له ذلك كله بطليموس الأول والثاني والثالث. وكان لتجربة ديمتريوس وأسطراطون الفضل في إرساء النظام الوحيد للمتحف، وكان كل منهما رئيسا لمدرسة عريقة، وعالما فاضلا. تعلم أسطراطون على يد ثاوفراسطس، واستدعاه بطليموس ليعلم ابنه سنة 300ق.م، واستمر يعمل حتى سنة 288، إلى أن رجع لرئاسة «اللوقيون» بعد وفاة ثاوفراسطس.
ومن أشهر العلماء الذين اقترن اسمهم بمدرسة الإسكندرية في عصرها الأول إقليدس وأرشميدس، وأبولونيوس، وأبولودورس. تعلم إقليدس أولا في أثينا، ودرس الرياضيات في الأكاديمية. وعقب اضطراب الأمور في أثينا، ذهب إلى الإسكندرية، وعاش في ظل بطليموس الأول والثاني. وتروى عنه أقاصيص كثيرة نذكر منها أن بطليموس سأله ذات مرة: أيوجد طريق أقصر إلى الهندسة من طريق «الأصول»؟ فأجابه: لا يوجد طريق ملكي للهندسة. و«الأصول» هو الكتاب الذي ألفه إقليدس حاويا كل شيء عن الحساب والهندسة حتى زمانه، ويعرف باسم «أصول الهندسة»، وهذه هي الترجمة العربية للعنوان في عصر الترجمة. وقد ظل هذا الكتاب بترتيب نظرياته الهندسية أساسا لهذا العلم حتى اليوم، نعني بالنسبة للهندسة الإقليدية. وسائر الرياضيين الذين لمعت أسماؤهم بعد ذلك، إنما كانوا شراحا لإقليدس، وإذا كانت لهم إضافات في هذا الباب فهي في حل بعض مسائل، أو ترتيب وتبويب يوضح هذا العلم للطلبة. وقد عرف العرب هؤلاء الرياضيين الذين ظهروا في الإسكندرية في عصرها المتأخر قبل الفتح، مثل بابوس، عاش في القرن الثالث بعد الميلاد، وثاون الإسكندري من القرن الرابع، وبرقلوس ومارينوس وكلاهما من القرن الخامس.
ومن كبار الرياضيين في مدرسة الإسكندرية في عصرها الأول، أرشميدس، وأرسطارخوس، وأبولونيوس. وأولهما أشهر من أن يذكر، ولا يزال طلبة المدارس حتى اليوم يحفظون قاعدته المشهورة في علم الطبيعة عن الأجسام الطافية.
ومن أشهر علمائها في عصرها الثاني بطليموس الفلكي صاحب المجسطي. عاش بالإسكندرية في القرن الثاني بعد الميلاد، ونبغ فيها، وكانت مصر قد خضعت للحكم الروماني وانقرضت دولة البطالسة، ولكن الثقافة والعلم واللغة استمرت باليونانية. عرف العرب كتابه الذي ترجموه بقولهم «المجسطي»، فسار هذا الكتاب بينهم سيرة «أصول» إقليدس. ومن أبرز الأسس التي قام عليها النظام الفلكي في هذا الكتاب القول بأن الأرض مركز المجموعة الشمسية، ويعرف هذا بالنظام البطلمي، وظل مأخوذا به إلى أن جاء كوبرنيق فأحدث ثورته المشهورة في علم الفلك، قائلا إن الأرض هي التي تدور حول الشمس.
وقد حدثنا العرب عن مدارس التعليم بالإسكندرية في عصرها المتأخر، وقد حفظ لنا مؤرخوهم روايات كثيرة عن تلك المدارس، ولا حيلة لنا إلا الأخذ بها. روى القفطي في كتابه أخبار الحكماء أن الإسكندرانيين هم «الذين رتبوا بالإسكندرية دار العلم ومجالس الدرس الطبي، وكانوا يقرءون كتب جالينوس ويرتبونها على هذا الشكل الذي تقرأ اليوم عليه، وعملوا لها تفاسير وجوامع تختصر معانيها، ويسهل على القارئ حفظها وحملها في الأسفار. فأولهم - على ما رتبه إسحاق بن حنين - اصطفن الإسكندراني، ثم جاسيوس، وأنقيلاؤس، ومارينوس. فهؤلاء الأربعة عمدة الأطباء الإسكندرانيين، وهم الذين عملوا الجوامع والتفاسير.»
نقلنا هذا النص على طوله لنبين أن المدارس الفلسفية كانت موجودة بالإسكندرية منذ أنشئت حتى الفتح العربي، ولم ينقطع «دار العلم» أو «مجلس التعليم والدرس» منذ أن كان ذلك في المتحف، وظل في الأغلب مستمرا فيه إلى أن تخرب في القرن الثالث وظهرت مدارس أخرى؛ إذ في أكبر الظن أن الإسكندرية كانت تحتضن أكثر من مدرسة. ولا بد على كل حال في التعليم من مقر أو دار أو مجلس، بعبارة أخرى من مدرسة ثابتة تشد إليها الرحال.
ولا تحسبن أننا حين قصرنا الحديث على الرياضيين والفلكيين والأطباء، قد بعدنا عن موضوع المدارس الفلسفية، بل ذلك من صميم الفلسفة؛ لأن الفلسفة في عصرها الذهبي كانت تعتمد على العلم، وكان الفلاسفة علماء. وحين أنشئ المتحف نهض بإنشائه رئيسا «اللوقيين»، وهما اللذان وجهاه هذه الوجهة العلمية. وعندما انتقلت الفلسفة إلى العرب، كان فلاسفتهم علماء أو أطباء أو رياضيين، وجمعوا بين العلم والفلسفة، مثل ابن سينا وابن رشد.
لم يكن المتحف مقر مدرسة الإسكندرية وحده، وإنما أنشئ معه شيء آخر لا تتم المدارس إلا به، وهذا الشيء هو المكتبة. وقد عرفت المكتبات من قبل إنشاء الإسكندرية، وبخاصة في أثينا كعبة الثقافة العالمية منذ القرن الخامس قبل الميلاد. ثم شرعت مدن أخرى تحذو حذوها، وتنشئ مكتبات تحتفظ فيها بمؤلفات الشعراء والأدباء والعلماء والفلاسفة. ولم يشأ بطليموس الأول أن تكون عاصمة ملكه أقل شأنا من غيرها من المدن؛ فأمر بإنشاء مكتبة ظفرت في المستقبل بشهرة عظيمة لكثرة ما كانت تحتوي عليه من مؤلفات.
أسس المكتبة ديمتريوس الفاليري (من مدينة فاليرون في أتيكا). عاش الشطر الأكبر من حياته في القرن الرابع. كان تلميذ ثاوفراسطس، واشتغل بالسياسة وأصبح حاكم أثينا من سنة 317 إلى 307، ثم نفي من أثينا، فرحب به بطليموس وعهد إليه بإنشاء المكتبة، التي استغرقت زمنا ورعاية وعناية لاستكمالها؛ بغية الحصول على الكتب المختلفة في شتى الفنون.
كانت هيئة الكتاب مختلفة اختلافا بينا عن هيئته المألوفة لنا في الوقت الحاضر. كتاب اليوم مطبوع على ورق رقيق وفي حجم دقيق، وكتاب الأمس مخطوط على ورق البردي وحجمه كبير. كانت الكتب عبارة عن لفائف من ورق البردي؛ ولذلك كانت تشغل مكانا واسعا، وبخاصة إذا اشتملت المكتبة على آلاف كثيرة من الكتب. وقد بلغ عدد ما في مكتبة الإسكندرية 200000 في عهد مؤسسها بطليموس الأول، ونمت حتى بلغ عدد كتبها 700000 زمان يوليوس قيصر.
فكيف تسنى جمع هذا العدد الغزيز؟ لقد اتخذ ملوك البطالسة كل سبيل للحصول على الكتاب، ولم يبخلوا بمال أو سلطان، ومن هذه الوسائل أن بطليموس الثالث أصدر أمره بأن يؤخذ من كل وافد في البحر ما معه من كتب، فإذا لم تكن موجودة بالمكتبة، أخذت منه وأعطي بدلها نسخة يقوم النساخ بإنجازها. وكان لرؤساء المكتبة الفضل الأكبر في اكتسابها هذه السمعة الطيبة. وهذه قائمة بأسماء الأوائل منهم: (1) ديمتريوس الفاليري
284ق.م. (2) زنودوتس الأفسوسي
284-260 (3) كاليماخوس القورينائي
260-240 (4) أبولونيوس الروديسي
240-235 (5) أراتستنس القورينائي
235-195 (6) أرستوفانس البيزنطي
195-180 (7) أبولونيوس أيدوجرانس
180-160 (8) أرسطارخس
160-145
ونود أن نقف بعض الشيء عند اثنين؛ كاليماخوس وأراتستينس؛ لأن الحديث عنهما يعرج بنا على مدرسة فلسفية هي المدرسة القورينائية. سميت كذلك نسبة إلى «قورينا» في ليبيا، ومكانها الآن مدينة شحات. أنشأ المدينة مهاجرون من جزيرة كريت في القرن السابع في الجبل، وعلى مقربة من البحر، وجعلوها بما شيدوه من معبد وملعب (جمنزيزم) ومحكمة، وغير ذلك مدينة يونانية تماما. وقامت بها مدرسة فلسفية أسسها أرستبوس صاحب المذهب الأخلاقي الذي اشتهر بالإقبال على اللذة، وحقيقة المذهب أنه يهدي المرء إلى «فن الحياة». وفي «قورينا» عمل ثيودورس الرياضي الذي تعلم في أثينا، وعاد إلى موطنه، وزاره أفلاطون في شبابه وعاش معه زمنا. ويبدو أن المدرسة جمعت بين الدراسات الأدبية والفلسفية والرياضية، فكان أراتستينس من أشهر الرياضيين.
ولد كاليماخوس ب «قورينا» حول سنة 300 وبها درس، ثم أكمل تعليمه في أثينا، وعين رئيسا لمكتبة الإسكندرية سنة 260، وتوفي 240. وهو الذي صنف كتب المكتبة، وعمل كتالوجا قسمه ثمانية أقسام بحسب المؤلفين؛ (1) شعراء الدراما. (2) شعراء الحماسة والغناء. (3) المشرعون. (4) الفلاسفة. (5) المؤرخون. (6) الخطباء. (7) البلغاء. (8) منوعات. وأكبر الظن أن الرياضيين والأطباء والعلماء كانوا تحت القسم الخاص بالفلاسفة.
عاش أراتستينس (276-194) في القرن الثالث، تعلم ب «قورينا» ثم درس في أثينا، واختص بالرياضيات والفلك والجغرافيا. دعاه بطليموس الثالث وعينه عضوا بالمتحف، ثم رئيس المكتبة سنة 235، واستمر بها إلى أن توفي، أي زهاء أربعين عاما. وقد اشتهر أراتستينس بأن قياسه لمحيط الأرض كان أقرب قياس إلى الصواب؛ وذلك على أساس قياس المسافة بين الإسكندرية وأسوان، وهي مسافة معروفة، واعتباره أن أسوان تقع على مدار السرطان؛ أي خط عرض 23 تقريبا. وهنا يحق لنا التساؤل عن الصلة بين المتحف والمكتبة؛ فقد رأينا علماء شغلوا منصب الرئاسة بالمكتبة، ولعلهم مارسوا نشاطهم العلمي بها. وأكبر الظن أن المكتبة، ولو أنها كانت مستقلة، إلا أنها كانت تخدم المتحف الذي يستعين علماؤه بما فيها من مؤلفات. مهما يكن من شيء، ليس بين أيدينا ما يلقي ضوءا على هذه الصلة.
مرت بالمكتبة محن كثيرة انتهت إلى زوالها، وأول محنة أصابتها عند حصار يوليوس قيصر للإسكندرية، وكانت المكتبة عامرة مزدهرة، فلما أحرق قيصر الميناء، امتدت ألسنة النيران إلى المكتبة. ويقال إن أنطونيو وهب كليوباترا 200000 كتاب من برجام سنة 41ق.م، تعويضا لما فقد منها.
ولما بدأ ساعد المسيحية يشتد شيئا فشيئا منذ القرن الثاني، كان المسيحيون يعتقدون أن المكتبة والمتحف جناحان لقلعة الكفر والإلحاد. ونحن نعلم أن المسيحية لقيت عناء شديدا في مكافحة الوثنية القائمة على الفلسفة اليونانية، وكان الصراع بين المسيحية دينا، والوثنية ثقافة وأدبا وفلسفة صراعا مرا لم تستطع المسيحية أن تتغلب عليها إلا في القرن الرابع. وحين تنصر الأباطرة أنفسهم فأيدوا الدين بسلطان الدولة. وقد دمرت المكتبة في عهد الإمبراطور ثيودوسيوس، وذلك بأمر البطريق ثيوفيل بطريق الإسكندرية (385-412) الذي كان معاديا للوثنية. وقد شاع أن عمر بن الخطاب هو الذي أمر عامله عمرو بن العاص بحرق المكتبة، وهي قصة العرب منها براء؛ لأن المكتبة كما رأينا لم يكن لها وجود عند الفتح العربي.
ومن المعروف تاريخيا أن ثمة مدارس فلسفية مسيحية نشأت في الإسكندرية، واستطاعت هذه التعاليم المنظمة أن تكافح وثنية اليونان. وأقدم هذه المدارس تلك التي أنشأها بنتينس
الذي رأس المدرسة الرواقية في الإسكندرية، وكان قد تحول إلى المسيحية. ثم تولى رئاسة هذه المدرسة كليمنت الإسكندري. ولد بالإسكندرية 150ق.م، وتحول إلى المسيحية بعد أن درس في عدة مدن، وأعجبه تعليم بنتينس فتبعه، ورأس المدرسة سنة 200ق.م، ومن هذه المدرسة ظهر أوريجين الذي أخذ من كليمنت من جهة، ومن أمونيوس سكاس من جهة أخرى. ويعد أوريجين مؤسس الأفلاطونية المحدثة في رواية، كما يعد أمونيوس سكاس (175-250) هو المؤسس في رواية أخرى. ولد أمونيوس من أبوين مسيحيين، ولكنه ارتد عن المسيحية إلى الفلسفة اليونانية وديانتها. وكانت تعاليمه شفوية سماعية، ويقال إنه وفق بين تعاليم أفلاطون وأرسطو.
مدرسة أفلوطين
إذا كانت بوادر الأفلاطونية المحدثة بدأت من أوريجين، فإن حامل لوائها بمعنى الكلمة هو أفلوطين. وعلى الرغم من أن مدرسته كانت في روما، إلا أنه يعد من مدرسة الإسكندرية؛ فهو فيلسوف إسكندراني، وأكثر من هذا فهو مصري.
ولد في ليقوبوليس - وهي أسيوط حاليا - بمصر الوسطى سنة 205، وتوفي 270 بعد الميلاد. ولا ندري شيئا عن نشأته الأولى وأسرته؛ لأنه كما يقول تلميذه فرفريوس الصوري، كان يأبى أن يتحدث عن آبائه وأقربائه وموطنه. وفرفريوس هو الوحيد الذي كتب سيرة أفلوطين، وهو الذي نشر تاسوعاته، وسنتكلم عنه بعد حديثنا عن أفلوطين، وما نعرضه الآن عن أفلوطين مستمد مما دونه فرفريوس، فلا حاجة للإشارة إلى الموضع الذي أخذنا عنه. قال فرفريوس:
على الرغم من امتناعه بوجه عام عن الحديث عن حياته الخاصة، إلا أنه روى لنا بعض التفصيلات خلال أحاديثه معنا؛ ففي الثامنة والعشرين من عمره أصابته حمى الفلسفة، فاتجه إلى أبرز معلميها بالإسكندرية، إلا أنه كان يعود بعد الاستماع إلى محاضراتهم حزينا مهيض الجناح. فلما رأى أحد أصدقائه ما هو عليه من خيبة أمل، وكان يعرف مزاجه، صحبه إلى أمونيوس الذي لم يكن قد حضر عليه بعد. وبعد أن سمع أفلوطين محاضراته، قال لصاحبه متعجبا: هذا هو الرجل الذي كنت أنشده.
ومنذ ذلك اليوم استمر يتبع أمونيوس حتى بلغ من تقدمه في الفلسفة أنه رغب في الاطلاع على مناهج الفرس والمذهب السائد بين حكماء الهند. وصادف أن الإمبراطور جورديان كان يعد حملة يجردها على الفرس، فالتحق أفلوطين بالجيش وذهب مع الحملة، وكان عند ذلك في التاسعة والثلاثين من العمر؛ إذ كان قد أمضى أحد عشر عاما في صحبة أمونيوس. وانهزم الجيش في العراق، وقتل الإمبراطور، وهرب أفلوطين إلى أنطاكية، ثم ذهب إلى روما واستقر بها وهو في الأربعين من العمر.
كانت روما عاصمة الإمبراطورية، وقلب العالم المتحضر في ذلك الزمان، فاجتذبت إليها عددا من العلماء والفلاسفة والأدباء. في هذه العاصمة أنشأ أفلوطين مدرسته، التي ظفرت بتأييد الإمبراطور، فكفاه بذلك مئونة الإنفاق على المدرسة. ولم تقتصر المدرسة على الإمبراطور جاليانوس الذي حكم من 260 إلى 268، وكان أديبا فيلسوفا، بل شاركته زوجته الحضور على أفلوطين. ويبدو أن المدرسة كانت تستقبل النساء كما تستقبل الرجال، وإحداهن سيدة تدعى «جمانا» كان أفلوطين يسكن في دارها. ويبدو كذلك أن المدرسة كانت تفتح أبوابها لكل طالب؛ فقد ذكر فرفريوس في السيرة التي كتبها عن أفلوطين، أنه كان يمتنع من الجلوس أمام المصورين أو النحاتين ليرسموا صورته أو ينحتوا له تمثالا ، حتى إن تلميذه أميليوس حين طلب منه أن يسمح بالوقوف أمام مصور أجابه: «ألا يكفي أن نحمل هذه الصورة التي قيدتنا الطبيعة فيها؟ أتحسب حقا أنني يجب أن أرضى بأن أترك لخلفي صورة للصورة؟» فلما أبى أفلوطين، عهد أميليوس إلى صديق له اسمه «كاتريوس» يجيد الرسم، فأدخله إلى المدرسة يستمع إلى دروس أفلوطين، وكانت الدروس مباحة لكل طالب.
كان هدف أفلوطين من المدرسة أن تكون نبراسا يهدي النفوس إلى التقوى والصلاح والخير، فكان يصرف تلاميذه عن الاشتغال بأمور الدنيا، ويحملهم على حياة من الزهد توصل إلى شفاء النفس بالتجرد عن جميع العلائق وإماتة سائر الشهوات. وكان هو نفسه مهملا أمر جسده محتقرا إياه، ممتنعا عن أكل اللحم. وقد استهوت هذه التعاليم كثيرا من التلاميذ، حتى إن «روجاتيانوس» عضو الشيوخ نزل عن أملاكه وأمواله وعبيده وألقابه، وسار في طرق الزهد حتى أصبح لا يأكل إلا مرة واحدة كل يومين. وكان للناس - رجالا ونساء - فيه اعتقاد عظيم، حتى إنهم عندما كانت تحضرهم الوفاة يعهدون بأبنائهم وبناتهم وما يملكون لرعايته ووصايته، فكان منزله يعج بالصبيان والبنات، وكان إلى ذلك يقوم بتعليمهم الأدب والشعر، ويأخذهم بيدهم إلى طريق الفلسفة، ويحتفظ بأموالهم لا يمسها حتى يبلغوا مبلغ الرجال وسن الرشد.
وكانت المدينة الفاضلة الحلم الذي راود معظم الفلاسفة اليونانيين، وعلى رأسهم أفلاطون صاحب الجمهورية أو المدينة الفاضلة المثالية. وانتهز أفلوطين فرصة منزلته عند الإمبراطور جاليانوس وزوجته سالونينا، تلك المنزلة التي كادت تبلغ التقديس والعبادة، فطلب منهما أن يعيش هو وأتباعه في «كامبانيا» التي كانت فيما يروى مدينة للفلاسفة في قديم الزمان، ثم تهدمت وخربت. ورأى أفلوطين إعادة بناء المدينة، وأن يعيش السكان في ظل القوانين التي يضعها لهم، ويسمي المدينة «فلاطونوبوليس»
. ومعنى بوليس
باليونانية مدينة، ومنها هليوبوليس إحدى ضواحي القاهرة، ومعناها مدينة الشمس. وعزم أفلوطين الإقامة مع أتباعه في تلك المدينة لولا أن حساده في البلاط حالوا بين الإمبراطور وبين تنفيذ وعده.
وكان بالمدرسة تلاميذ كثيرون، إلا أن أشهرهم كان أميليوس، وكذلك طبيب من الإسكندرية اسمه أسطوخيوس لزم أفلوطين في أواخر حياته إلى أن توفي، واتبع مذهب أفلوطين وأصبح فيلسوفا على الحقيقة. هذا إلى جانب فرفريوس كاتب هذه السيرة، والذي عهد إليه أفلوطين بمراجعة كتابه ونشره. وكان أفلوطين في التاسعة والخمسين عندما اتصل به فرفريوس قادما من أثينا. وظل أفلوطين زهاء عشر سنوات لا يدون شيئا ولا يكتب فلسفته، بل يتحاور مع جماعة من الأصحاب على أساس ما تعلمه من أمونيوس. ويمضي فرفريوس في روايته بعد ذلك قائلا: إنني حين أول ما التقيت به، كان قد ألف خمسا وعشرين مقالة - وستسمى المقالة فيما بعد تاسوعا - حصلت عليها، على الرغم من أنه لم يعطها إلا لعدد قليل جدا. الحق أنها وزعت بعناية شديدة، ولم يضع أفلوطين لهذه المقالات عناوين، فاجتهد كل من حصل عليها أن يضع لها العنوان المناسب. وظللت على صلة وثيقة به مدة ست سنوات، وألف بعد ذلك أربعا وعشرين مقالة أخرى، ثم أرسل لي حين كنت بصقلية وقبل وفاته بمدة قصيرة أربعا أخرى، فأصبحت جملتها أربعا وخمسين. وعندما نشر فرفريوس هذه المقالات قسمها ستة أجزاء، في كل جزء تسع مقالات، ومن هنا جاء اسمها وهو تاسوعات أفلوطين. وقد نقل بعضها في عصر الترجمة، وسميت كتاب «الربوبية»، ونسبت خطأ لأرسطو، قام بالترجمة ابن ناعمة الحمصي وصححها يعقوب الكندي.
ويمضي فرفريوس قائلا: وكان لا بد من مراجعة ما كتبه؛ لأنه لم يكن يطيق إعادة قراءة ما كتب، ولم تكن حالة بصره تسمح له بذلك. وكان خطه رديئا، يسيء الربط بين الألفاظ، ولا يعنى بقواعد الإملاء؛ لأن عنايته الوحيدة اتجهت نحو الفكرة، وقد لزمته هذه العادات طول حياته. وقد تعود أن يتصفح خطة بحثه في ذهنه من أولها إلى آخرها، حتى إذا جلس لتدوينها جرى القلم على الورق بما احتفظ به في ذهنه بجرة واحدة، وكأنه ينسخ من كتاب مفتوح. وإذا عرض له أن يتحدث مع شخص ما، أقبل عليه بكل حواسه مع الاحتفاظ بتسلسل فكره واضحا أمام ذهنه. حتى إذا انصرف محدثه، لا يرجع أبدا إلى ما سبق أن كتبه، بل يصل ما انقطع وكأن شيئا لم يصرفه عن التفكير. وهكذا كان يعيش في داخل نفسه ومع الآخرين في آن واحد.
أما في محاضراته ، فكان بارعا في العرض مع قدرة فائقة على الابتكار والفهم. وهو حين يتكلم كان نور عقله يضيء وجهه بشكل واضح. وكان على استعداد أن يتلقى الاعتراضات ويجيب عنها بنفس القوة التي وجهت إليه. وقد استمر فرفريوس يوجه إليه مدة ثلاثة أيام أسئلة عن ارتباط النفس بالبدن، واستمر يجيب عنها بغير انقطاع. كان موجز الأسلوب، مركز الفكر، معناه أوسع من لفظه، ملهما في تعبيره. وقد جمع في كتاباته بين مذاهب الرواقية والمشائية، مدمجا بوجه خاص فيها ميتافيزيقا أرسطو. حصل العلم النظري بالهندسة والميكانيكا والبصريات والموسيقى، غير أنه لم يكن على استعداد للمضي في دراستها دراسة تامة عميقة.
وطريقته في التعليم في أثناء المحاضرات أن تقرأ رسائل المؤلفين بصوت عال، من الأفلاطونيين سفيروس أو كرونيوس، أو كايوس، أو أتيكوس. ومن المشائين أسباسيوس، والإسكندر، وأوراستوس وغيرهم. ولكنه لم يتبع أي واحد منهم اتباعا أعمى، بل اتخذ لنفسه وجهة نظر شخصية مبتكرة، مطبقا منهج أمونيوس في فحص المسائل.
حدث ذات يوم أن حضر أوريجين في حجرة درسه، فاحمر وجه أفلوطين وأوشك أن ينهي المحاضرة، فلما رغب إليه أوريجين أن يستمر أجابه: إن نار الحماسة لتخبو حين يشعر المتكلم أن السامعين لن يتعلموا منه شيئا.
وإليك حكم لونجينوس - أحد فلاسفة ذلك العصر، كان يعيش ويعلم في أثينا - على أفلوطين، من خطاب له أرسله إلى فرفريوس، قال: عندما كنت صبيا أفسحت رحلات والدي الطويلة لي فرصة رؤية أفضل معلمي الفلسفة، وظللت على اتصال بجميع الأحياء منهم في المدن التي كنت أرحل إليها. كان بعضهم يصوغ أفكاره في مؤلفات يتركها لفائدة الخلف، وكان بعضهم الآخر يقنع بأن يفهم عنه السامعون. وممن لم يكتب أمونيوس وأوريجين، وقد حضرت عليهما بنفسي وأعترف بامتيازهما على أقرانهما. وهناك كذلك في أثينا ثيودورس وبوبولس. وممن كتب من الأفلاطونيين إقليدس وديمقريطس وبرقلينوس، ثم اثنان لا يزالان يعلمان الفلسفة في روما، وهما أفلوطين وصاحبه أميليوس. وهذان وحدهما يظهر عليهما الروح الصادقة لصناعة التأليف في المسائل التي يعالجانها. ويبدو أن أفلوطين يلقي على مبادئ فيثاغورس وأفلاطون ضوءا أسطع من أي فيلسوف سبقه. ويحذو أميليوس عن قصد حذو أفلوطين، وقد اصطنع معظم آرائه.
يتضح من ذلك أن حياة المدرسة كانت شديدة الجدل، مع سيادة روح البحث الحر، وأن الطلبة كانوا يتعلمون كتابة المقالات وإنشاء الرسائل، هذا إلى قراءة نصوص الفلاسفة وشرحها والتعليق عليها. وكان الطلبة يقرءون أبحاثهم ويناقشون فيها علانية. وإلى جانب ذلك تراسلت المدارس من شتى المدن فيما بينها، يتبادل الأساتذة والطلبة الأفكار، ويتحاورون على البعد، كما رأينا في المراسلات بين لونجينوس وفرفريوس. وهكذا استطاع أفلوطين بأصالة تفكيره أن يجدد الأفلاطونية، وأن يمزج بينها وبين المشائية والرواقية والفيثاغورية، وأن يخرج بمذهب جديد، ومدرسة جديدة، تعد آخر المدارس الفلسفية اليونانية.
الجديد في هذه الفلسفة منهجها، ونظرتها إلى النفس، وتفسيرها للوجود. منهجها التأمل في باطن النفس، والترقي إلى آفاق أعلى بطريق الجدل صعودا حتى تبلغ النفس منبع النور والبهاء، ثم تهبط بعد ذلك وقد استفادت من الحق. وقد كان الجدل منهج أفلاطون، ولكن جدل أفلوطين مختلف عنه من حيث اعتماده اعتمادا مطلقا على التأمل الباطن، واستخلاص الحقائق من النفس ذاتها، على حين أن جدل أفلاطون كان يبدأ من المحسوسات ومن المباحث في الرياضة، والنظر إلى الأشكال الرياضية ليصعد منها إلى المثل، إلى الصور المجردة، ثم يهبط بعد ذلك إلى العالم المحسوس، بعد أن يكون الفيلسوف قد عرف المثل ليصلح من حال المدينة. لم يكن أفلاطون هاربا من عالم الواقع، هائما في عالم المعقولات، كلا، كان هربه مؤقتا ليعود مرة أخرى إلى الواقع يصلح من أمره، ويحقق فيه الخير والعدل. أما أفلوطين، فإن الظروف السياسية والاجتماعية التي سادت العالم في زمانه، مع بداية انهيار الإمبراطورية الرومانية وانتشار الفساد، مع كثرة الحروب التي خربت البلاد، جعلته يهرب من ذلك العالم الذي فقد الناس الأمل في صلاحه إلى عالم آخر؛ إما بالانطواء داخل النفس، وإما بالرجاء في حياة أخرى أسعد من الحياة الدنيا. وقد قال أفلوطين بالطريقين؛ أن يحصر الإنسان نفسه في داخل نفسه وينطوي عليها ويزهد في مباهج الحياة الدنيا، كما رأينا من سيرته، وأن يسعى إلى السعادة في الحياة الآخرة. ولا شك أن المسيحية التي كانت معاصرة لفلسفة أفلوطين قد تأثرت بتعاليمه، كما تأثر مذهبه بآراء فلاسفة المسيحيين الذي ظهروا في الإسكندرية.
ويختلف الأساس الفلسفي عند أفلوطين عن الأساس الذي قامت عليه الفلسفة اليونانية من قبل إلى أفلاطون وأرسطو. حاولت الفلسفة اليونانية تفسير الوجود؛ أي بيان كيفية وجود الموجودات؛ فذهب بارمنيدس أن الوجود موجود؛ أي إنه حقيقة أولية لا تحتاج إلى إثبات، وعند أفلاطون أن الوجود نوعان معقول ومحسوس، وأن الوجود المعقول - نعني عالم المثل - أصل الوجود المحسوس. ولكن الموجودات المحسوسة التي نشهدها في هذا العالم ليست إلا ظلالا وأوهاما، أما الحقيقة فهي أمثال هذه الموجودات. والمثال معقول؛ ولذلك كانت فلسفة أفلاطون مثالية. ولما جاء أرسطو لم يفصل هذا الفصل في الوجود بين عالمين، بل قال إن الموجود مركب من مبدأين؛ المادة والصورة. صفوة القول: الفلسفية اليونانية فلسفة وجود، وتعريف أرسطو للفلسفة الأولى - أو الميتافيزيقا - أنها هي العلم بالموجود من حيث هو موجود.
أما فلسفة أفلوطين فهي فلسفة واحد. «الواحد» في قمة الوجود، وأعلى منه، وعن «الواحد» يصدر العقل، وعن العقل تصدر النفس، وهكذا يبدأ أفلوطين بثالوث متدرج في القيمة، على رأسه «الواحد». ومن هنا كانت فلسفته مختلفة عن أفلاطون وأرسطو. أما مفهوم «الواحد» عنده فليس واضحا متميزا؛ فهو تارة الله، وهو تارة أخرى الخير، وهو تارة ثالثة الأول. مهما يكن من شيء، فإن «الواحد» أعلى من الوجود.
إذن كيف جاء الوجود عن «الواحد»؟ أول موجود صدر عن «الواحد» هو العقل، فاض عنه لأنه صورة من «الواحد»، أو شبح له، ثم يصدر عن العقل النفس التي هي صورة أدنى من العقل.
ولكن كيف يعرف الإنسان أنه جزء من النفس الكلية؟ وكيف وصل إلى معرفة العقل ومعرفة العالم الإلهي الذي هو فوق العقل؟ فلنترك أفلوطين يحدثنا عن هذه المعرفة التي تتم بطريق الجدل، وذلك من الترجمة العربية القديمة التي أصلحها الكندي، قال:
إني ربما خلوت بنفسي، وخلعت بدني جانبا ، وصرت كأني جوهر متجرد بلا بدن، فأكون داخلا في ذاتي، راجعا إليها، خارجا من سائر الأشياء، فأكون العلم والعالم والمعلوم جميعا. فأرى في ذاتي من الحسن والبهاء والضياء ما أبقى له متعجبا بهتا، فأعلم أني جزء من أجزاء العالم الفاضل الشريف الإلهي، ذو حياة فعالة. فلما أيقنت بذلك ترقيت بذاتي من ذلك العالم إلى العالم الإلهي، فصرت كأني موضوع فيه، متعلق به، فأكون فوق العالم العقلي كله، فأرى كأني واقف في ذلك الموقف الشريف الإلهي، فأرى هناك من النور والبهاء ما لا تقدر الألسن على صفته ولا تعيه الأسماع. فإذا استغرقني ذلك النور والبهاء، ولم أقو على احتماله، هبطت من العقل إلى الفكرة والرؤية، فإذا صرت في عالم الفكرة والرؤية حجبت الفكرة عني ذلك النور والبهاء، فأبقى متعجبا كيف انحدرت من ذلك الموضع الشامخ الإلهي، وصرت في موضع الفكرة ...
لقد عرفت الفلسفة الإسلامية أفلوطين عن هذا الكتاب، ولكنه نسب خطأ إلى أرسطو، وكان ذلك علة التوفيق بين الحكيمين أفلاطون وأرسطو، ابتداء من الفارابي إلى ابن سينا، فقالوا بمراتب الوجود وتسلسلها عن الأول.
وبعد وفاة أفلوطين خلفه في رئاسة المدرسة بروما تلميذه وناشر التاسوعات وهو فرفريوس الصوري (232-305). ولد بصور وأمضى شبابه بها، وحصل كثيرا من المعارف الدينية والفلسفية في فلسطين وسوريا، ثم ذهب إلى أثينا وتعلم على لونجينوس، وانتقل إلى روما حيث التحق بمدرسة أفلوطين، وتولى رئاستها بعد موته، وتمتع بشهرة واسعة وسمعة طيبة، وحضر عليه كثير من الطلبة منهم «يامبليخوس» الذي يعد من أشهر الأفلاطونيين المحدثين في سوريا.
عرف فرفريوس في العالم العربي منذ عصر الترجمة، واستمر يؤثر في الفلسفة العربية بكتاب له يسمى «إيساغوجي» سنعود إلى الحديث عنه بعد قليل. فإذا كان العرب قد جهلوا أفلوطين بسبب ذلك الخلط الذي وقع في ترجمة كتابه، فقد عرفوا تلميذه معرفة وثيقة، وقبلوا بعض آرائه ورفضوا بعضها الآخر. ومهما يكن من شيء، فإن آراء فرفريوس في جملتها امتداد لآراء أستاذه، ولو أنه نحا بها نحوا آخر. ولهذه الشهرة عند العرب نطيل في عرض مذهبه بعض الشيء.
له مؤلفات كثيرة منها؛ «فلسفة الكهانة»، يصور فيه العبادات الدينية في هياكل الوثنيين بحسب ما كانت تمارس عند المصريين والكلدانيين والسريان. ومنها «صور الآلهة»، يدافع فيه عن الوثنية ويبين أن عبادة الأصنام لا تنطوي على كفر كما يزعم المسيحيون واليهود؛ لأنها رموز محسوسة تقرب إلى الإله. وله كتاب «الرد على النصارى» يبدو أنه كتبه بدافع سياسي؛ لأن الإمبراطور في روما أصبح يخشى تزايد قوة المسيحيين، إلى جانب المحنة التي كانت الإمبراطورية تمر بها من شيوع البؤس والفقر والخراب، وتهديد الولايات بالانفصال وانقضاض البرابرة على أطراف الإمبراطورية تمر بها من شيوع البؤس والفقر والخراب الفلسفة اليونانية، وهي القائمة على العقل، على الدين المستند إلى الإيمان. وله كذلك رسالة «في الرد على أنابو»، وهو كاهن مصري، يرد فيه على عقائد قدماء المصريين معليا شأن الفلسفة.
كان أفلوطين قد تكلم في خلود النفس وقدم أدلة جديدة خلاف أدلة أفلاطون التي ذكرها في محاورة فيدون، فقال في التاسوعات إن النفس «ليست بجرم وإنها لا تموت ولا تفسد ولا تفنى، بل هي باقية دائمة»، وإن النفس النقية الطاهرة التي لم تدنس بأوساخ البدن هي التي إذا فارقت تعود إلى الجوهر النفساني الأعلى، أما التي تتصل بالبدن وتخضع لشهواته، فإذا فارقت لم تصل إلى عالمها إلا بتعب شديد. ومعنى ذلك أن النفس - كما ذكرنا من قبل - متوسطة بين عالم العقل وعالم الهيولى، فإذا شغلت بالنظر العقلي اتصلت بعالم العقل، وإذا انغمست في الشهوات هبطت إلى عالم الهيولى. وهذا هو رأي فرفريوس كذلك، إلا أنه بدلا من الحياة العقلية الصرفة ينادي بممارسة العبادات والطقوس وطهارة النفس بالزهد والامتناع عن الشهوات.
وكان أفلوطين مثل معظم الفلاسفة الأقدمين يميز بين العالم المحسوس والمعقول، ولكنه تميز عن السابقين بمنهجه الجدلي الذي يتأمل في باطن النفس ليصعد من ذلك إلى عالم العقل، وفي ذلك يقول: «إن من قدر على خلع بدنه، وتسكين حواسه ووساوسه وحركاته، قدر أيضا في فكرته على الرجوع إلى ذاته، والصعود بعقله إلى العالم العقلي ...»
1
فأفلوطين كما نرى لا يخلط بين النفس والعقل، ولا يقول إلا بالتأمل والنظر، أما فرفريوس فإنه يشترط فضائل عملية من زهد وامتناع عن أكل اللحوم، وغير ذلك؛ كي تصعد النفس إلى عالم المعقولات. ويبدو أنه كان يقول «إن ذات النفس تصير هي المعقولات»، ولذلك اعترض عليه ابن سينا فقال: «فهذا من جملة ما يستحيل عندي؛ فإني لست أفهم قولهم إن شيئا يصير شيئا آخر، ولا أعقل أن ذلك كيف يكون ... وأكثر ما هوس الناس في هذا هو الذي صنف لهم «إيساغوجي»، وكان حريصا على أن يتكلم بأقوال مخيلة شعرية صوفية يقتصر منها لنفسه ولغيره على التخيل، ويدرس أهل التمييز على ذلك كتبه في العقل والمعقولات وكتبه في النفس.»
والذي صنف «إيساغوجي» هو فرفريوس. و«إيساغوجي» باللغة اليونانية تعني المقدمة أو المدخل. وكتابه المدخل إلى مقولات أرسطو، ألفه لتلميذه خريساريوس الذي كان يطلب العلم في مدرسة أفلوطين، وهو أحد أعضاء مجلس الشيوخ في روما، قرأ مقولات أرسطو فعجز عن فهمها، فكتب إلى فرفريوس وهو في صقلية يقص عليه أمره ويطلب عونه، فصنف له مدخلا إلى المقولات يشرح فيه الكليات الخمس؛ وهي الجنس والنوع والفصل والخاصة والعرض العام، فاشتهر الكتاب الصغير حتى وصفه العرب بأنه «سار مسير الشمس حتى يومنا هذا».
ومعنى المقولة: ما يقال عن الشيء، وهذا في غاية الأهمية في تعريف الشيء وتحديد ماهيته. ماذا نقول عن سقراط؟ (1) إنسان. (2) طويل. (3) أبيض. (4) في الدار ... إلى آخر المقولات العشر. إنسان مقولة الجوهر، طويل مقولة الكم، أبيض مقولة الكيف، وهكذا. والمقولات العشر ضرب من تصنيف الموجودات. أما الكليات الخمس؛ الجنس والنوع والفصل والخاصة والعرض العام، فإنها ضرورية للتعريف والقسمة والبرهان. فأنت تقول الإنسان: حيوان ناطق، وهو التعريف المشهور. فإنسان نوع، وحيوان جنس، وناطق فصل. وهذا التعريف يسمى الحد التام. والقسمة تقتضي تمييز الكلي إلى أجزائه، ومنها القسمة الثنائية. وهناك تقسيم للموجودات مشهور، يعرف ب «شجرة فرفريوس» نسبة إليه، وهي على النحو الآتي:
وهكذا دخل فرفريوس تاريخ الفلسفة بمدخله وشجرته.
وبموته قفلت المدرسة أبوابها، إن في روما أو الإسكندرية، وانتقلت بروحها إلى الشرق مرة أخرى؛ فظهر يامبليخوس (270-330) شارح أفلاطون وأرسطو مع ميل إلى الأفلاطونية الحديثة، ثم برقليس أو بروقلوس (410-485) الذي تعلم بالإسكندرية، ثم عاد إلى أثينا فرأس الأكاديمية، ومزج بين الفلسفة والعلم الرياضي وحذا حذو الأفلاطونية المحدثة، واشتهر عند الإسلاميين والمسيحيين على السواء في العصر الوسيط.
مدرسة «جنديسابور»
إنها همزة الوصل بين الفلسفة اليونانية والعربية، على الرغم من أنها تقع في فارس. أما كيف انتقلت الفلسفة اليونانية إليها، وبخاصة الفلسفة الإسكندرانية التي تميزت بنزعتها العلمية، فلذلك قصة يجدر بنا أن نرويها.
لم ينقطع النزاع بين الفرس واليونان بعد خضوع اليونان لروما مع اتساع الدولة الرومانية؛ إذا انتقل هذا النزاع فأصبح بين الفرس والرومان، وكان للرومان الغلبة دائما حين كانت الإمبراطورية قوية، فلما بدأت تضعف وتتفكك انعكست الآية، وانهزمت جيوشها أمام جحافل الفرس. وقد أشرنا عند الحديث عن أفلوطين أنه انخرط في جيش الإمبراطور جورديان الثالث مع حملته على الفرس؛ بغية الاطلاع على مذاهب الشرق، وما فيه من حكمة، ولكن فشل الحملة، جعله يعود أدراجه ويتجه إلى روما، حيث افتتح مدرسته. نشبت الحرب لأن فارس قامت بها دولة الساسانيين على يد مؤسسها أردشير، حتى إذا استتب له الأمر أرسل سنة 230 إلى روما يتحدى الإمبراطور ويطلب إعادة الأقاليم التي كانت تابعة للفرس مثل آسيا الصغرى وسوريا، ومات أردشير سنة 241 ولما تبدأ الحرب، التي نهض بها ابنه شابور (241-272)، والتقى بجيش جورديان الذي هزمه أول الأمر، ولكن مصرع جورديان سنة 244 أوقف الحرب، واتفق على أن تحكم فارس أرمينيا، وروما العراق. ثم نشبت الحرب مرة أخرى سنة 258، وكان على رأس الجيش الروماني الإمبراطور فاليريان، ودارت الدائرة على الإمبراطور وانهزم هزيمة ساحقة وأسر هو وجيشه.
أحسن شابور معاملة الأسرى، واستطاع بما منحهم من حرية أن يستفيد منهم، وكان فيهم كثير من الفنيين، أطباء ومهندسين وصناع مهرة، وهؤلاء هم الذين قاموا ببناء السد الكبير على نهر دجيل عند تستر، والمعروف باسم «شاذروان تستر». وأنزل شابور - أو سابور - الأسرى في بقعة قريبة من مدينة سوس، ومن مدينة تستر، فأقاموا بها معسكرا أصبح مدينة «جنديسابور»؛ أي معسكر سابور. وازدهرت المدينة، وأصبحت قاعدة إقليم خوزستان أيام الساسانيين، الذين اتخذوا من مدينة السوس مقرهم الشتوي، ومن «جنديسابور» مقرهم الصيفي؛ لطيب مائها واعتدال هوائها. وظل ملوك الساسانيين كما يقول المسعودي في مروج الذهب حتى زمان هرمز يقيمون ب «جنديسابور» في خوزستان.
وقد نعم الأسرى في ظل الحكم الفارسي بحرية دينية لم ينعموا بها في كنف الرومان، الذين كانوا يضطهدون المسيحيين، مما دفعهم إلى التخفي وممارسة عباداتهم سرا. ولم يكن يعني الفرس أن يحاربوا النصارى، فتركوا لهم حرية بناء الكنائس. ثم إن «جنديسابور» لم تعد تحت حكم هرمز قاعدة العرش؛ ففقدت بذلك أهميتها، وأصبحت خرائب، إلى أن أعاد بناءها سابور الثاني سنة 362 عقب انتصاره على الإمبراطور جوليان، ووقوع عدد من الأسرى في يديه، فأنزلهم المدينة بعد تجديدها، وكانت المسيحية قد انتصرت نهائيا على الوثنية، فأصبح عبء نقل الحضارة اليونانية واقعا على عاتق الكنيسة، وقام بها في الشرق نصارى السريان وكانوا من النساطرة.
ولسنا ندري على التحقيق ما كان من أمر المدرسة في القرنين الرابع والخامس، ولكن المؤكد أن كسرى أنوشروان (531-578) هو الذي أحاط المدرسة برعايته، وطمع أن تكون على مثال المدارس الفلسفية وبخاصة مدرسة الإسكندرية التي كانت تعنى بالرياضيات والطب والفلسفة، وهو الاتجاه الإسكندراني الذي تحدثنا عنه من قبل. وهو الذي رحب بفلاسفة أثينا الذين طردهم جستنيان عندما أغلق أبواب الأكاديمية والمشائية. وعندئذ طبق المنهج الإسكندراني في التعليم، واستعملت الكتب نفسها التي كانت تدرس في الإسكندرية، إن في الطب أو في الرياضيات. ولم تكن «جنديسابور» هي المدينة الوحيدة في فارس التي كانت مقرا للعلوم والفلسفة، بل ظهرت مدارس في مدن أخرى، ذكر ياقوت في معجم البلدان ما يدل على وجودها؛ إذ يقول عند الكلام عن «ريشهر»، «وهي مختصر من ريو أردشير، ناحية من كورة أرجان، كان ينزلها في الفرس كشته دفتران، وهم كتاب كتابة الجستق،
1
وهي الكتابة التي كان يكتب بها كتب الطب والنجوم والفلسفة، وليس بها اليوم أحد يكتب بالفارسية ولا بالعربية.» والمقصود بالنجوم علم الفلك.
أخذ طب اليونان عن مدرستين؛ مدرسة أبقراط الذي توفي في القرن الثالث قبل الميلاد، ومدرسة جالينوس (توفي 200 بعد الميلاد). وأصل جالينوس من برجام بآسيا الصغرى، ولكنه عاش معظم حياته في روما، ولا بد أنه اتصل بالإسكندرية وأطبائها. واعتمدت مدرسة الإسكندرية على كتبه، واختاروا منها ستة عشر كتابا لا بد لطالب الطب من حفظها، وعليها اعتمدت مدرسة «جنديسابور» الطبية، ونقلتها إلى السريانية، وعن هذه الكتب المترجمة إلى السريانية نقلت إلى اللغة العربية في عصر الترجمة. ومن أطباء الإسكندرية الذين تابعوا جالينوس؛ أوريباسيوس، وإيتيوس، وأهرن، الذي يسميه العرب أهرن القس، وهو طبيب وكاهن يهودي عاش في الأغلب في القرن الخامس، وترجم «كناشه» أي كتابه الواقع في ثلاثين مقالة إلى السريانية ثم إلى العربية. ويلوح أن الذي أذاع كتب أهرن طبيب فارسي النشأة، يهودي المذهب، سرياني اللسان، يسمى ماسرجويه أو ماسرجيس، تولى نقل كتاب أهرن في خلافة مروان بن الحكم (64-65ه) إلى العربية.
ولكن مدرسة «جنديسابور» الطبية لم تقف عند طب بقراط وجالينوس، بل أخذت أيضا بالطب الهندي الذي يعتمد على الأعشاب المعروف أثرها بالتجربة، وعلى التعاويذ والتمائم لطرد الأرواح الشريرة التي كانوا يعتقدون أنها تسبب المرض. ويروى أن كسرى استدعى من الهند طبيبا ليعلم الطب على الطريقة الهندية في مدرسة «جنديسابور»، وكذلك عني كسرى بالأعشاب الهندية واستجلب بعضها إلى فارس وزرعها في ضواحي «جنديسابور»، ومنها «السكر» الذي يصنع من قصب «السكر». ولفظة «سكر» هذه سنسكريتية، درجت في اللغة الفارسية ومنها إلى العربية. وقد استخرج «السكر» من عصير القصب حوالي القرن الرابع الميلادي في الهند، فلما زرع في «جنديسابور» أنشئت معاصر خاصة له. وفي ذلك الوقت كان «السكر» يستخدم في العلاج، ولم يتخذ بدلا من عسل النحل وسيلة للتحلية إلا في زمان متأخر .
قلنا إن الفرس اهتموا بالطب والنجوم والفلسفة وعلم النجوم، وهو الذي نسميه علم الفلك، عنوا به عناية كبيرة، ووضعوا ب «جنديسابور» مرصدا على نسق ما كان موجودا في الإسكندرية. وعندما نقل العرب هذا العلم أخذوه عن الفرس؛ ولذلك نجد كثيرا من المصطلحات الفارسية المعربة؛ مثل زيج، وهو لفظة من اللغة البهلوية المستخدمة زمان الساسانيين معناه السدى الذي ينسج فيه لحمة النسيج، ثم أطلق على الجداول العددية لمشابهة خطوطها الرأسية بخيوط السدى. وأقدم كتاب ترجم في علم الفلك هو «زيج الشاه».
وأما الفلسفة فإن كتب أرسطو ومنطقه بوجه خاص كانت على رأس الكتب الفلسفية التي نقلها السريان لحاجتهم إليها في مباحثهم الدينية.
ويبدو أن اللغة الأساسية التي كانت مستخدمة في المدرسة هي السريانية، باعتبار أنها لغة الأساتذة من جهة، ولغة المراجع في شتى العلوم بعد نقلها من اليونانية إلى السريانية، فكان لا بد للطالب من تعلم السريانية ليتمكن من التحصيل. ولا نزاع أن الأسرى الذين نزلوا «جنديسابور» كانوا يتكلمون اليونانية إلى جانب السريانية، ثم تعلموا الفارسية. ويلوح أن بعض الكتب قد ترجم إلى الفارسية أيضا عن طريق السريانية، كما حدث فيما بعد حين نقلت العلوم والفلسفة من السريانية إلى العربية. وهذه الكتب السريانية في طب جالينوس، ومنطق أرسطو، وبعض الكتب الفلكية والرياضية، هي التي عنها نقل المترجمون في العصر العباسي، وذلك بعد إنشاء بغداد التي لم تكن مسرفة البعد عن «جنديسابور»، فاجتذبت العاصمة الجديدة بتشجيع الخلفاء والأمراء، وما كانوا يغدقونه على العلماء كثيرا من أطباء النساطرة وعلمائهم، فجعلوا يهجرون موطنهم الأصلي في المدرسة الفارسية ليستقروا في عاصمة الخلافة.
وأول خليفة استقدم طبيبا من «جنديسابور» هو المنصور العباسي؛ حين أصيب بعلة شديدة ترجع إلى اضطراب الهضم، وكان ممعودا، فدعا جرجيس بن بختيشوع رئيس مدرسة «جنديسابور» وبيمارستانها. وظل جرجيس في بلاط الخليفة ببغداد، من سنة 148 إلى 152 هجرية، حيث استأذن في العودة إلى «جنديسابور». وفي خلافة الهادي استقدم بختيشوع بن جرجيس بن بختيشوع؛ ليكون طبيب البلاط، ولكن نشأ بينه وبين أبي قريش طبيب زوجة الهادي نزاع، فرئي أن يستغنى عنه. فلما تولى هارون الرشيد طلبه لمداواته من صداع مزمن، ثم استمر في خدمة الخلافة من أسرة بختيشوع الابن الثالث وهو جرجيس بن بختيشوع الذي كان طبيبا لجعفر بن يحيى البرمكي، ثم أصبح طبيب الرشيد ورئيس الأطباء، وخدم الأمين والمأمون، وله مؤلفات طبية باللغة العربية، توفي سنة 213ه.
وأنشأ المأمون سنة 215 هجرية بيت الحكمة في بغداد، وجعله مقرا للترجمة من السريانية، ومن اليونانية إلى العربية، وجعل على رأسه يوحنا بن ماسويه، وهو طبيب سرياني من مدرسة «جنديسابور»، هاجر إلى بغداد وأنشأ بها بيمارستانا إلى أن قلده المأمون رئاسة بيت الحكمة. وكان حنين بن إسحاق أشهر المترجمين من تلاميذه.
ورب معترض يقول إن بيت الحكمة لم يكن مدرسة فلسفية، بل دار للترجمة، وليست ترجمة الكتب فلسفة، بل إن مدرسة «جنديسابور» نفسها لم تكن مدرسة فلسفية؛ لأنه لم يؤثر عنها أنه قد ظهر منها فلاسفة يعرفون بهذا الوصف، وإنما الذي برز منهم أطباء يقومون بالعلاج ويديرون البيمارستانات.
وهو اعتراض له وجاهته، ولكن الحق أن مدرسة الإسكندرية نفسها في عصرها المتأخر في القرنين الرابع والخامس، لم تكن مدرسة فلسفية بمقدار ما كانت مدرسة علمية رياضية وطبية، فيما عدا الأفلاطونية الجديدة التي أنشأها أمونيوس سكاس وأعلنها أفلوطين. وفيما عدا ذلك فهل يمكن أن نسمي بطليموس صاحب المجسطي، أو منيلاوس، أو نيقوماخوس، أو بابوس وغيرهم فلاسفة. وكذلك الأطباء من أمثال أوريباسيوس وأهرن. وفضلا عن ذلك، فإن هؤلاء الرياضيين والأطباء لم يكونوا من الأعلام كإقليدس أو جالينوس، بل كانوا أصحاب مختصرات وشروح بغية مصلحة التعليم. هذا وقد كانوا إلى جانب ذلك يعرفون مذاهب أفلاطون وأرسطو والرواقيين وغيرهم من الفلاسفة، فهم وإن لم يكونوا فلاسفة، إلا أنهم كانوا مؤثرين للحكمة ومعلمين لها، إلى جانب معرفتهم بالرياضيات والطبيعيات والطب. وكان ذلك حال مدرسة «جنديسابور»؛ فهي استمرار للتعليم الإسكندراني وبخاصة في الطب. ولما انتقل أطباؤها إلى بغداد، كان لا بد أن ينهضوا أول الأمر بحركة الترجمة، تلك الحركة التي استغرقت زهاء قرن من الزمان .
ولكن ظهر من بين هؤلاء المترجمين وفي إبان حركة النقل، فيلسوف إسلامي هو أول من سمي من العرب فيلسوفا، وكان صاحب مدرسة، وهو الكندي.
المدارس الفلسفية الإسلامية
(1) مدرسة الكندي
لم يظهر في الإسلام مدارس فلسفية منظمة تفتح أبوابها للطلبة كما كان الحال في أكاديمية أفلاطون أو «لوقيون» أرسطو، أو حديقة إبيقور؛ وإنما ظهرت على معنى الصحبة والأتباع وتقليد المذهب. وهذا على عكس مدارس الفقه واللغة والتفسير والحديث، التي أنشئت منذ القرن الخامس الهجري، وانتشرت في جميع أنحاء العالم الإسلامي، ورتب لها الأساتذة والكتب والجرايات، وأقيمت لها أبنية خاصة؛ وعلة ذلك أن الفلسفة كان ينظر لها بعين الارتياب، واتهم المشتغلون بها بالكفر والإلحاد، فلم يكن يتسنى للدولة أن ترعاها.
ثم إن الفلاسفة الإسلاميين لم يكونوا فلاسفة فقط، بل اشتغل معظمهم بالطب أو الرياضيات، ثم اتصلوا من ذلك بالفلسفة، ولم تنقطع صلتهم بالطب أو بالرياضيات، فكانوا حكماء وأطباء في آن واحد. وكانت هناك مدارس طبية ملحقة بالبيمارستانات يتخرج فيها الأطباء. ولكن حديثنا أساسا عن المدارس الفلسفية، فأين كانت تلك المدارس؟ الأرجح أن الفلاسفة كانوا يعقدون تلك المدارس، والأصح أن يقال «المجالس» في دورهم، ولم يكن عدد أتباعهم كبيرا، بل بضعة نفر.
ومن هذا القبيل مدرسة الكندي، وهو أبو يوسف يعقوب بن إسحاق بن الصباح بن عمران بن إسماعيل بن محمد بن الأشعث الكندي، فيلسوف العرب، وأحد أبناء ملوكها؛ لأن كندة كانوا ملوكا على اليمن. تولى إسحاق بن الصباح إمارة الكوفة في خلافة المهدي والهادي والرشيد، وولد ابنه يعقوب بالكوفة سنة 185 هجرية، وبها تعلم القراءة والكتابة والنحو والعربية والفقه وعلم أصول الدين، ولكنه انصرف عن علم الكلام إلى علم الطب والفلك والرياضة والفلسفة، وشارك النقلة في الترجمة، وكان يصلح الكتب المترجمة بأسلوبه العربي الفصيح، وفسر كثيرا من كتب أرسطو، وألف كتبا مبتكرة جعلت مؤرخي الفلسفة الإسلامية يصفونه بأنه فيلسوف العرب. وقد نبغ في خلافة المأمون والمعتصم، وكان مؤدب أحمد بن المعتصم بالله، وعاش زمان المتوكل، وتوفي سنة 255 هجرية.
إن الكندي فيلسوف على الحقيقة ، جدير بهذا الاسم، ويعد استمرارا للتعليم الإسكندراني الذي ورثه العرب بعد نقله إلى اللغة العربية، بعد أن دفع هذا التراث دفعة قوية، وطعمه بالديانة الإسلامية موفقا بين الدين والفلسفة.
وقد عاصر الكندي المترجمين، حتى قيل إنه أحد أربعة من حذاقهم، والثلاثة الآخرون هم: حنين بن إسحاق، وثابت بن قرة، وعمر بن الفرخان الطبري. والحق أنه لم يكن مترجما بمقدار ما كان مصلحا للتراجم الغثة، وكان إلى ذلك مقتبسا للفكر اليوناني يلخصه ويأخذ زبدته، وكان يصطنع مترجمين من السريان ينقلون إليه ما يريد من كتب، ومن المعروف أن الذي كان يترجم لحسابه يسمى «أسطاث». وكان الكندي يعرف اللغة السريانية معرفة جيدة، وألف بهذه اللغة رسالة صغيرة. أما معرفته للغة اليونانية فمشكوك فيها.
وله مؤلفات غزيرة بلغت زهاء مائتين وستين كتابا ورسالة في شتى فنون المعرفة؛ من منطق ورياضيات وفلك وموسيقى وعلوم طبيعية وميتافيزيقا وأخلاق وسياسة وكيمياء وغير ذلك؛ مما يجعلنا نقول إنه كان فيلسوف الحضارة العربية في القرن الثالث الهجري. ومعظم كتبه كان يوجهها إما للمعتصم، أو لأحمد بن المعتصم، أو لبعض الإخوان والتلاميذ، الذين كانوا يستفسرون عن مسائل، تعد الرسالة ردا على تلك الأسئلة. ومعظم الرسائل الباقية بين أيدينا تجري على هذا النحو من السؤال والجواب، مما يؤكد أن الكندي لم يكن مترجما ناقلا، بل كان مفكرا أصيلا حصل المعارف السابقة وتمثلها، ثم أبدى رأيه بعد ترجيح وجهة نظر على أخرى، وإضافة آراء جديدة. ونضرب مثالا لذلك برسالة يجيب فيها عن ثلاث مسائل مختلفة، الأولى: لم صار البخار يجمد في الجو؟ والثانية: عن الصحو والغيم. والثالثة: إذا كانت الأعداد بلا نهاية، فهل يمكن أن تكون المعدودات بلا نهاية. وليس من الضروري أن يكون السائل قد تراسل فعلا مع الكندي؛ إذ لعله قد باحثه، وكانت نتيجة المباحثة تقييد هذه الرسالة. وكذلك كان يفعل مع تلميذه أحمد بن المعتصم بالله، ولذلك جاءت رسائله ذات هيئة تعليمية مرتبة.
ويبدو أن الكندي كان يستقبل تلاميذه في داره، حيث كان يقتني مكتبة واسعة من أكبر المكتبات، حتى سميت بالمكتبة «الكندية». ولهذه المكتبة قصة جديرة بالرواية؛ إذ كان محمد وأحمد ابنا موسى بن شاكر في أيام الخليفة المتوكل يكيدان كل من ذكر بالتقدم في معرفة، فدبرا على الكندي حتى ضربه المتوكل، ووجها إلى داره فأخذا كتبه بأسرها، وأفرداها في خزانة سميت «الكندية»، واسترجع الكندي مكتبته فيما بعد حين رضي عنه المتوكل.
ومن تلاميذه أبو العباس أحمد بن محمد الخراساني، كان ممن ينتمي إلى الكندي، وعليه قرأ، ومنه أخذ. ومنهم ابن كرنيب أبو أحمد الحسين بن أبي إسحاق بن إبراهيم الكاتب، وكان يعد من جملة المتكلمين. ومنهم علي بن الجهم، وكان من الشعراء المختصين بالمتوكل. وعدوا منهم كذلك جماعة باسم نفطويه، وحسنويه، وآخرون على هذا الوزن.
وطريق المعرفة عند الكندي إما حسي، وإما عقلي، أو هما معا. ولا بد مع ذلك من أمور أربعة يتبعها طالب الفلسفة؛ وهي الطلب والبحث والأداة والزمان. فالطلب سعي إلى غاية، والبحث تفتيش عن الخفايا، والمعرفة ثمرة البحث، والبحث نتيجة الطلب. وأدوات البحث الرياضة والمنطق. والزمان داخل في كل فعل إنساني، على عكس العلم الإلهي الذي «يتم بلا طلب، ولا تكلف، ولا بحث، ولا بحيلة من الرياضيات والمنطق، ولا بزمان». ويهمنا من هذه الأمور الأربعة الرياضة والمنطق.
فقد ورث العرب فلسفة أفلاطون كما ورثوا فلسفة أرسطو، وكان أفلاطون يعتمد في الفلسفة على المنهج الرياضي، وكان أرسطو يعتمد على المنطق. ولما كان الكندي فيلسوفا رياضيا في المحل الأول، فلا عجب أن يجعل الرياضة مدخلا لا بد منه لتعلم الفلسفة. وفي ذلك يقول بعد ذكر كتب أرسطو التي يحتاج الفيلسوف التام إلى اقتناء علمها، إنه يجب اقتناء علم الرياضيات قبل ذلك؛ «فإنه إن عدم أحد علم الرياضيات التي هي علم العدد والهندسة والتنجيم والتأليف (أي الموسيقى)»، وإن طالب الفلسفة إذا لم يحصل العلوم الرياضية تحصيلا وافيا؛ فلن يتسنى له معرفة الفلسفة معرفة صحيحة.
لذلك كان العلم الرياضي، مع أنه أوسط في الطبع، إلا أنه أول في التعليم.
ولكن فلاسفة العرب بعد الكندي لأنهم اتجهوا وجهة مشائية، فقد اتخذوا من المنطق أداة لتعلم الفلسفة، كما هي الحال عند الفارابي وابن سينا فيما بعد.
ويعد الكندي أول مصنف للعلوم عند العرب، وهو صاحب قسمة العلوم قسمين؛ دينية وفلسفية، وتبعه في هذا التقسيم سائر الذين صنفوا العلوم ابتداء من الفارابي إلى ابن خلدون. والذي دفعه إلى إضافة العلوم الدينية أن الإسلام جاء بعلوم لا غنى عنها؛ مثل علم النبوة وعلم أصول الدين، وما يتصل بهما من فقه وحديث وتفسير وغير ذلك.
وقد شق الكندي طريق العلوم الرياضية من حساب وهندسة وفلك وموسيقى، وكان يعد في العصر الوسيط أحد ثمانية من كبار علماء الفلك في العالم في ذلك الزمان. اشتهر في أوروبا بكتبه التي ترجمت إلى اللغة اللاتينية، والتي لا يزال بعضها موجودا.
وهو صاحب أول مدرسة موسيقية في الإسلام، من الناحية النظرية. وقد وضع رسائله في الموسيقى لفائدة المتعلمين، وبيان طريقة تعلمهم. يقول في إحدى رسائله عند الكلام على طريقة جس الأوتار: «وهو سبيل ومدخل إلى التعليم، والألف للأصابع في التنقل على الدساتين، فإن من استعمل ذلك وأحكمه وأسرع فيه، قبل أن يقصد إلى التعلم؛ كان أسرع للقبول، وسهلت عليه محاكاة الأستاذ ...»
وعلى الرغم من البحث النظري في الموسيقى وأصولها وحسابها الرياضي، فإن الكندي يرى أن فنون تعليم الموسيقى «موجودة عند أهل هذه الصناعة، وأخذها عنهم، وتعلمها منهم نظرا، أسرع وأقرب إلى الفهم منها من الكتاب.»
وقد عني الكندي بالفنون العملية التي تشكل حضارة الأمة من الناحية المادية، ولذلك اشتغل بالكيمياء، وما يتصل بالكيمياء من أصباغ وأحماض. وليس ببعيد أنه كان يجري في داره تجارب كيميائية. وله رسالة في السيوف تدل على معرفة وثيقة بصناعة الحديد والصلب، استمدها من الاختلاط بأرباب هذه الصناعة؛ وهذا كله يثبت أن الفلسفة في ذلك العصر لم تكن منعزلة عن المجتمع وحاجاته والرغبة في العمل على رقيه وتقدمه.
ويتلخص مذهبه الفلسفي في أمرين يستهدفان غرضا يريد الوصول إليه؛ أما الغرض فإثبات «الواحد الحق» وهو الله سبحانه. ولما كان الإسلام يرمي إلى إثبات الوحدانية، وأن الله «الواحد» مبدع العالم من عدم، وكانت الفلسفة في صميمها تبغي معرفة الإله «الواحد» الحق، فلا منافاة بين الدين والفلسفة، أو بين الحكمة والشريعة. وليس الاشتغال بالفلسفة كما يتهمها رجال الدين كفرا؛ إذ لا يوجد في الدين ما ينص على تحريمها وكفرها.
والأمر الثاني محاولته التوفيق بين أفلاطون وأرسطو. وقد رأينا أن ذلك التوفيق بدأ بالإسكندرية، وعند أفلوطين وفرفريوس بوجه خاص. ولكن جوهر فلسفة أفلاطون التي تؤمن بالمثل أصلا للموجودات، يخالف جوهر فلسفة أرسطو التي تعد فلسفة وجود قبل كل شيء، وتخالف جوهر فلسفة أفلوطين التي تعتمد على «الواحد»، وتصدر عنه الموجودات بسلسلة من «الفيض». ولم يستطع الكندي أن يحل هذه المشكلة، وأن يدمج فلسفة الوجود وفلسفة «الواحد» في مذهب جديد يوفق بينهما. وهذا ما فعله الفارابي فيما بعد.
صفوة القول: لم يكن الكندي رئيسا لمدرسة في بغداد بالمعنى المقصود من مدرسة عبارة عن بناء يشتمل على حجرات يجري فيها التعليم بطريقة منظمة؛ إذ كانت تلك المدارس لأسباب تاريخية وقفا على النصارى وملحقة في الأغلب بالأديرة، بعد انتقال الفلسفة والعلوم من الإسكندرية إلى أنطاكية، ومن أنطاكية إلى حران، وإلى «جنديسابور»، ومنها إلى بغداد؛ ولذلك قال الدكتور مايرهوف في بحثه عن انتقال التعليم من الإسكندرية إلى بغداد: إن «الكندي الذي عاش آنئذ في بغداد، وكان أول فيلسوف مسلم، لم يكن يدير أي مدرسة، وإنما كان يعطي دروسا خاصة.»
استطاع الكندي أن يبرز كفيلسوف، وأن يرتفع عن مجرد اتباع الكتب المترجمة، وأن يخلق في بغداد جيلا من التلاميذ، ولم يكونوا كثيرين، أشهرهم ثلاثة هم: ابن كرنيب الذي كان صاحب مدرسة في بغداد، وأحمد بن الطيب السرخسي، وأبو زيد البلخي.
أما الذي اشتهر بين العرب حتى سمي المعلم الثاني، فهو الفارابي. (2) مدرسة الفارابي
أبو نصر، محمد بن محمد بن طرخان بن أوزلغ الفارابي. ولد 259 هجرية، وتوفي 339. والفارابي نسبة إلى مدينة فاراب بين حدود فارس وتركيا. انتقل إلى بغداد وتعلم بها الفلسفة على شخص يسمى يوحنا بن حيلان، فأتقن المنطق، وانتهى به المطاف إلى بلاط سيف الدولة الحمداني، فخدمه، ولازمه، وتوفي بدمشق سنة 339 هجرية. سمي المعلم الثاني في أكبر الظن؛ لأنه أدخل صناعة المنطق عند العرب، باعتبار أن أرسطو - صاحب المنطق - هو المعلم الأول. وقد طعن على الكندي وقيل إنه يجهل المنطق، ولا يعرف بوجه خاص صناعة التحليل، أو البرهان، وأن الذي ذلل المنطق، ويسره، وفسره، هو الفارابي. والحق أن الكندي كان رائدا شق الطريق، وكان يكابد في وضع المصطلح العربي المقابل للمصطلح اليوناني، وقد هجر كثيرا من المصطلحات التي وضعها، ولم تستقر في الواقع إلا زمان الفارابي، الذي يعد صاحب الفضل في استقرارها. وأيضا فإن الكندي - كما ذكرنا - لم يكن يؤمن بالمنطق أداة أولى لتحصيل الفلسفة، وآثر عليها الرياضيات؛ لذلك لم يكن يعنيه كثيرا أن يتعمق في صناعة المنطق، على الرغم من أن ثبت مؤلفاته يدل على أنه فسر معظم كتب أرسطو المنطقية.
وللفارابي كتب كثيرة معروفة؛ منها آراء أهل المدينة الفاضلة، وإحصاء العلوم، وتحصيل السعادة، والتنبيه على سبيل السعادة، والجمع بين رأيي الحكيمين، وغير ذلك من الرسائل المطبوعة. وله من الكتب المخطوطة الشيء الكثير، إلا أن معظمها مفقود، وكتابه الموسيقى الكبير تحت الطبع في الوقت الحاضر.
ثم إنه لم يتعلم على يوحنا بن حيلان فقط، بل على أبي بشر متى بن يونس أيضا. وذكر ابن خلكان كيفية اتصاله بأبي بشر، وتعلمه منه، بما يوضح كيف كان يجري التدريس، قال: «ولما دخل بغداد، كان بها أبو بشر متى بن يونس الحكيم المشهور، وهو شيخ كبير، وكان يقرأ الناس عليه فن المنطق، وله إذ ذاك صيت عظيم وشهرة وافية، ويجتمع في حلقته كل يوم المئون من المشتغلين بالمنطق، وهو يقرأ كتاب أرسطوطاليس في المنطق، ويملي على تلامذته شرحه، ولم يكن في ذلك الوقت مثله في فنه. وكان حسن العبارة في تآليفه، لطيف الإشارة، وكان يستعمل في تصانيفه البسط والتذليل، حتى قال بعض علماء هذا الفن: ما أرى أبا نصر الفارابي أخذ طريق تفهيم المعاني الجزلة بالألفاظ السهلة إلا من أبي بشر. وكان أبو نصر يحضر حلقته في غمار تلامذته، فأقام أبو نصر كذلك برهة، ثم ارتحل إلى مدينة حران وفيها يوحنا بن حيلان الحكيم النصراني، فأخذ عنه طرفا من المنطق. ثم إنه قفل راجعا إلى بغداد وقرأ بها علوم الفلسفة، وتناول جميع كتب أرسطوطاليس، وتمهر في استخراج معانيها والوقوف على أغراضه فيها.» من هذا يتضح أن أبا بشر متى بن يونس كان رئيس مدرسة في بغداد، ولكنه لم يكن هو الذي ابتدعها، بل تعلم على غيره في سلسلة متصلة من التعليم الفلسفي.
ولكي نفهم موضع الفارابي في هذه السلسلة، يحسن أن نتتبعها من بدايتها بالإسكندرية، وذلك عن رواية نقلها ابن أبي أصيبعة في طبقات الأطباء عن كلام للفارابي في ظهور الفلسفة، وأنه كان زمان اليونانيين حتى أرسطو، ثم انتقل إلى الإسكندرية في حكم البطالسة حتى كليوباترا، ولما استولى الرومان على مصر، استنسخوا الكتب الموجودة بالإسكندرية، وأصبح للفلسفة موضعان للتعليم؛ أحدهما في روما، فلما انتصرت النصرانية زالت مدرسة روما وبقيت الإسكندرية، وانتقل منها التعليم إلى أنطاكية واستمر بها إلى أن بقي «معلم واحد، فتعلم منه رجلان، وخرجا ومعهما الكتب، فكان أحدهما من أهل حران، والآخر من أهل مرو. فأما الذي من أهل مرو، فتعلم منه رجلان؛ أحدهما إبراهيم المروزي، والآخر يوحنا بن حيلان. وتعلم من الحراني إسماعيل الأسقف، وقويري، وسارا إلى بغداد، فتشاغل إسماعيل بالدين، وأخذ قويري في التعليم. وأما يوحنا بن حيلان، فإنه تشاغل أيضا بدينه. وانحدر إبراهيم المروزي إلى بغداد فأقام بها. وتعلم من المروزي متى بن يونان (أي يونس) ... وقال أبو نصر الفارابي عن نفسه إنه تعلم من يوحنا بن حيلان إلى آخر كتاب البرهان.»
وإذا كنا قد عرفنا طرفا من طريقة أبي بشر، فإن الغموض يلف شخصية يوحنا بن حيلان. ويبدو أن تأثر الفارابي بأبي بشر كان أعظم. وقيل إن الفارابي كان أصغر سنا من أبي بشر، ولكنه كان أحد ذهنا، وأعذب كلاما؛ وسبب ذلك أن الفارابي كان يجتمع بأبي بكر بن السراج النحوي، فيأخذ عنه النحو، ويأخذ عنه ابن السراج المنطق.
ولسنا ندري إلا النزر اليسير عن طريقة الفارابي في التدريس. ويمكن استخلاص هذه الطريقة من ثبت كتبه الوارد في طبقات الأطباء لابن أبي أصيبعة؛ فقد كان الفارابي قصير النفس في التأليف، وكتبه تعاليق. ويبدو أنه في التأليف كان يستغرق زمنا طويلا؛ لأن كتاب آراء أهل المدينة الفاضلة بدأ في تصنيفه ببغداد، «وحمله إلى الشام في آخر سنة ثلاثين وثلاثمائة، وتممه بدمشق في سنة إحدى وثلاثين وثلاثمائة، وحرره، ثم نظر في النسخة بعد التحرير، فأثبت فيها الأبواب، ثم سأله بعض الناس أن يجعل له فصولا تدل على قسمة معانيه، فعمل الفصول بمصر سنة سبع وثلاثين ...» ويهمنا في هذا الخبر أن جماعة من التلاميذ سألوه أن يرتب الكتاب، ولكن من الصعب معرفة أسماء هؤلاء التلاميذ. ويبدو كذلك أن الفارابي كان يضيق بالكتابة، ويستحسن الإملاء على تلاميذه، من ذلك أن له كتاب «شرح كتاب البرهان لأرسطوطاليس، على طريق التعليق، أملاه على إبراهيم بن عدي، تلميذ له بحلب.» ومن ذلك أيضا كتاب يسميه ابن أبي أصيبعة «كلام أملاه على سائل سأله عن معنى ذات ومعنى جوهر، ومعنى طبيعة.»
وأعظم تلاميذه يحيى بن عدي المنطقي، إليه انتهت الرئاسة ومعرفة العلوم الحكمية في وقته. قرأ على أبي بشر متى، وعلى أبي نصر الفارابي، وهو نصراني يعقوبي، توفي 364ه. كان مترجما عن السريانية، ومعظم مؤلفاته في المنطق. وعن طريق يحيي بن عدي، تسلسلت المدرسة المنطقية في بغداد، فرأسها أبو الخير الحسن بن سوار المعروف بابن الخمار، ولد 331، فيلسوف وطبيب، ومنطقي، وله شروح وتعليقات على أورجانون أرسطو. ثم أبو علي عيسى بن إسحاق بن زرعة، نصراني يعقوبي، له ترجمات لبعض كتب أرسطو، والإسكندرانيين. ثم عبد الله ابن الطيب، تلميذ ابن الخمار، فيلسوف وطبيب، اشتغل بالبيمارستان العضدي، جمع بين الطب والفلسفة، شرح ميتافيزيقا أرسطو وكتبه المنطقية، واتصل بالمراسلة مع معاصره ابن سينا.
لا نود أن نحصي أسماء كل الفلاسفة الذين اشتهروا ببغداد، وأخذ بعضهم عن بعض، فهذا أمر يطول، وفي القدر الذي ذكرناه كفاية لتوضيح مدرسة بغداد الفلسفية، والتي كانت تقوم على منطق أرسطو وشرح كتبه المختلفة في الطبيعيات، والإلهيات، والأخلاق والسياسة، وتهذيب الكتب الطبية والرياضية المأثورة عن مدرسة الإسكندرية.
ولا غرابة أن يدور المذهب الفلسفي حول آراء الفارابي، الذي اعترف له بالرئاسة في الفلسفة، حتى سموه المعلم الثاني. ويمكن تلخيص هذه الآراء في أمور ثلاثة؛ المنطق، وتسلسل الوجود ب «الفيض»، ونظرية الاتصال.
أما المنطق، فهو أداة الفكر، ومعيار النظر، منزلته من الفلسفة منزلة علم النحو من اللغة، إلا أن النحو يعنى بالألفاظ، على حين يعنى المنطق بالمعاني. وقد أثر الفارابي في الفلسفة الإسلامية من جهة المنطق ثلاثة أنواع من التأثير؛ الأول: حسن صياغة العبارة المنطقية، مما يجعلها مقبولة مفهومة. والثاني: العناية بالتحليلات الثانية؛ أي البرهان، بعد أن كان السابقون لا يتجاوزون التحليلات الأولى؛ أي القياس. والثالث: دخول المنطق في علم الكلام، حتى أضحى بعد القرن الخامس الهجري جزءا من مباحثه.
وأما تسلسل الوجود صدورا عن «الواحد»، فإنها نظرية مزج فيها الفارابي بين «الفلسفتين»؛ أي بين أفلاطون وأرسطو، وكذلك أفلوطين، فأصبحت النظرية مستقيمة لا تعتمد على أساسين هما الوجود و«الواحد»، بل على أساس واحد مداره أن الوجود هو «الواحد»، وعن الموجود الأول صدرت جميع الموجودات؛ «على جهة فيض وجوده لوجود شيء آخر.» صدر عن الموجود الأول العقل الأول، ثم يصدر عنه العقل الثاني، وهكذا إلى نهاية العقول العشرة. والعقل العاشر هو الذي يحكم عالم الأرض، عالم الكون والفساد، والعناصر الأربعة. وإنما كانت العقول عشرة لأنها تحرك الكواكب والأفلاك، وهي بحسب علم الفلك اليوناني المتأخر عشرة.
هذه النظرية مشتقة أساسا من الأفلاطونية المحدثة، وتحل مشكلة المادة القديمة عند أرسطو؛ لأن الهيولى في هذا المذهب متصلة بوحدة وجود مع الموجود الأول، وهذا يتعارض تماما مع الإسلام القائل بالخلق من عدم. وقد رأينا أن الكندي كان أقرب إلى روح الإسلام حين نادى بالخلق، بل إنه يستعمل مصطلحا أدق من معنى الخلق، وهو الإبداع. فلما شاعت فلسفة الفارابي عن طريق مدرسته، وعن طريق ابن سينا فيما بعد، لم ينقطع هجوم أهل السنة على الفلاسفة، حتى رفع الغزالي لواء الحملة عليهم في تهافته.
والمقصود بنظرية الاتصال؛ اتصال عقولنا بآخر العقول المتسلسلة عن «الواحد» وهو العقل العاشر. وإذا تيسر لنا الاتصال بالعقل الفعال ؛ أمكن الاطلاع على كل علم بطريق «الفيض» عن الأنوار الإلهية. ويتصل الفيلسوف بهذا العقل بطريق «البحث النظري»، ويتصل النبي أو الولي بطريق «المخيلة» التي تقبل الإلهامات في الرؤيا الصادقة أو في اليقظة على هيئة الوحي. وبهذا المسلك وفق الفارابي بين الحكمة والشريعة؛ لأن الحقائق الدينية والحقائق الفلسفية كلاهما ثمرة «الفيض» الإلهي؛ إما عن طريق المخيلة أو النظر والتأمل. (3) مدرسة ابن سينا
مدرسة الفارابي وهي مدرسة بغداد - وقد عرفت بهذا الاسم - كان معظمها من النصارى، بدأت بأبي بشر متى ويوحنا بن حيلان، وبلغت أوجها عند الفارابي وتلميذه يحيى بن عدي، وكانت تعارض مدرسة الكندي معارضة جوهرية، منهجا وموضوعا.
وإذا بمدرسة ابن سينا التي ظهرت في فارس، تعارض تلك المدرسة وتسفه آراءها وتفسيراتها، وتنتقد رجالها فيما عدا الفارابي. قال ابن سينا في كتاب المباحثات
1
ما نصه: «والذي ذكره من اختلاف الناس في أمر النفس والعقل، وتبلدهم فيه، لا سيما البله النصارى من أهل مدينة السلام.» ومدينة السلام هي بغداد. ثم تكلم بعد ذلك عن خلاصة رأيه في النفس والعقل وغير ذلك من المسائل، وقال إن كتابه الشفاء قضى على تلك الشكوك والتوصل إلى حلها، وإنه كان قد صنف كتابا اسمه «الإنصاف» قسم فيه العلماء إلى مشرقيين - أي علماء فارس - وإلى مغربيين - يريد علماء الشام وبغداد - وتقدم بالإنصاف بين الخلاف بينهما. وتكلم في ذلك الكتاب عن «أثولوجيا» أرسطو، وعن سهو المفسرين، ولكن ذلك الكتاب فقد في بعض الهزائم، وكان كما يقول: «يشتمل على تلخيص ضعف البغدادية وتقصيرهم وجهلهم.» ولكنه استثنى المعلم الثاني من البلاهة والجهل.
وتحدث عن الفارابي وأعلن رأيه فيه، على الرغم من أنه حلقة في سلسلة المدرسة البغدادية، كما رأينا من قبل. قال ابن سينا: «وأما أبو نصر الفارابي، فيجب أن يعظم فيه الاعتقاد، ولا يجري مع القوم في ميدان، فيكاد أن يكون أفضل من سلف من السلف.»
وقد خلف لنا ابن سينا سيرة حياته بقلمه، ثم أكملها تلميذه، أبو عبيد الجوزجاني، فتيسر بذلك معرفة كثير من دقائق حياته العلمية، وطريقته في التدريس، وكيف كان ينصب مجلس التعليم. وهو الشيخ الرئيس، أبو علي، الحسين بن عبد الله بن الحسين بن علي بن سينا، ولد 370ه، وتوفي 428ه. والشيخ تدل على الأستاذية، والرئيس إما لأنه تولى رئاسة الوزارة، والأغلب أنه لقب يدل على أنه رئيس الفلاسفة. أبوه من بلخ، وانتقل إلى بخارى في أيام الأمير نوح بن منصور، وتعلم في بخارى وهو صبي النحو والعربية والقرآن والأدب. وكان أبوه يجتمع في داره بداعي الإسماعيلية، فسمع منه حديث النفس والعقل والفلسفة والهندسة، ثم تعلم حساب الهند من رجل يبيع البقل. وقرأ على الناتلي المتفلسف المنطق والهندسة والفلك، وتعلم الطب بنفسه، ورجع إلى العلوم الفلسفية فقرأها على نفسه، وانتهى إلى كتاب ما بعد الطبيعة لأرسطو، فلم يفهم منه شيئا حتى اشترى كتاب الفارابي في أغراض كتاب ما بعد الطبيعة؛ فانفتح له مغاليق ذلك الكتاب. وعالج نوح بن منصور فأعجب به، وأدخله مكتبته فاطلع على نفائسها وحفظ ما فيها عن ظهر قلب. وتنقل في مدن فارس حتى بلغ جرجان حيث قصده الجوزجاني، الذي ألح عليه أن يهتم بالتصنيف، ويشتغل الجوزجاني بالضبط.
وفي جرجان اشترى له أبو محمد الشيرازي دارا، وأنزله فيها، وكان الجوزجاني يختلف إليه فيها، ولعله كان يستقبل غيره من الطلبة، وهناك أملى على الجوزجاني كتاب المبدأ والمعاد، وأول القانون، وكثيرا من الرسائل. وانتقل إلى الري واتصل بخدمة مجد الدولة، ثم خرج إلى قزوين ومنها إلى همدان، واتصل بشمس الدولة، وتقلد له الوزارة.
في هذه الفترة التي تولى فيها الوزارة، ألف كتابيه العظيمين وهما؛ الشفاء في الفلسفة، والقانون في الطب. قال الجوزجاني يصف مجلسه: «فكان يجتمع كل ليلة في داره طلبة العلم، وكنت أقرأ من الشفاء نوبة، وكان غيري يقرأ من القانون نوبة. فإذا فرغنا حضر المغنون على اختلاف طبقاتهم، وهيئ مجلس الشراب بآلاته. وكان التدريس بالليل لعدم الفراغ بالنهار خدمة للأمير.» وكان من عادة ابن سينا الإملاء في الأغلب، وفي بعض الأحيان كان يكتب نسخة في الموضوع الذي يلتمسه السائل.
ولما كثر تلاميذه، وذاع صيته ، «رسم الأمير علاء الدولة ليالي الجمعات مجلس النظر بين يديه، فحضره سائر العلماء على اختلاف طبقاتهم، والشيخ في جملتهم، فما كان يطاق في شيء من العلوم.»
ولم يذكر الجوزجاني وهو يدون سيرته أي اسم من تلاميذه، وبخاصة تلميذه أبو الحسن بهمنيار الذي لازم الشيخ الرئيس في مجلس تدريسه أثناء توليه الوزارة لشمس الدولة. وقد وصف لنا مجلسه وصفا أدق، قال: «حضرت أنا وجماعة من تلامذة شيخنا الرئيس بكرة سبت مجلس درسه الشريف، فاتفق أن ظهر منا في ذلك اليوم فتور عن إدراك ما كان يحققه الشيخ، فقال لنا: كأنكم صرفتم بارحتكم في التعطيل! فقلنا: نعم. كنا أمس مع جمع من الرفقة في نزهة، فلم يتيسر لنا مطالعة الدرس، ومراجعة ما كنا فيه. فلما سمع ذلك الشيخ تنفس الصعداء وفاضت عيناه بالدموع، وقال: إنما أسفي على أن اللاعب بالحبال قد يبلغ أمره في لعبه الذي هو من الملكات الجسمانية إلى حيث تتحير في غرابة علمه عقول ألف ألف عاقل. ولكنكم لما لم يكن عندكم للحكم والمعارف الحقة مقدار ومنزلة؛ آثرتم البطالة واللهو على اكتساب العلم والفضيلة، فلم تقدروا على أن تنزلوا الملكة الروحانية من أنفسكم منزلة يتحير فيها جهلة الزمان.» وتوفي بهمنيار سنة 458 هجرية، وأهم ما ألفه من الكتب «التحصيل» يشرح فيه فلسفة ابن سينا.
ومن تلامذة بهمنيار، أبو العباس اللوكري، كان عالما بأجزاء علوم الحكمة، دقيقها وجليلها، وعنه انتشرت علوم الحكمة في خراسان. ثم تتلمذ له أفضل الدين الغيلاني، وأخذ عن الغيلاني صدر الدين السرسخي، توفي 545 هجرية، وأخذ عن السرسخي فريد الدين داماد النيسابوري، وهذا الأخير أستاذ نصير الدين الطوسي، آخر تلاميذ هذه المدرسة السينوية، وشارح كتاب الإشارات للشيخ الرئيس، ومجدد التعليم الفلسفي والرياضي، وصاحب حلقة جمعت كثيرا من طلبة الفلسفة والعلوم الهندسية والعقلية، توفي 672 هجرية . وتمتد مدرسة الطوسي حتى تبلغ ذروتها عند ميرادماد (1041ه) في أصفهان وتلامذته.
فما هي تعاليم المدرسة السينوية؟
الحق أنها امتداد لآراء الفارابي، إلا أن ابن سينا كان أوسع عبارة وأكثر شرحا. ولقد كان طبيبا أكثر منه فيلسوفا، وكان كتابه القانون في الطب المرجع في أوروبا اللاتينية حتى أوائل القرن الثامن عشر. وقد تأثرت فلسفته بطبه في اصطناع المنهج التجريبي الدقيق. أما في الفلسفة، فإن الشفاء يعد موسوعة فلسفية تشمل المنطق، والطبيعيات، والرياضيات، والإلهيات، بحسب ما رتبه أرسطو، أو بحسب الفلسفة المشائية، فهو يحذو حذو المعلم الأول وشراحه مع التأليف بين الآراء المختلفة، والتوفيق بينها. وأثره في المنطق لا ينكر، ولا شك أنه مسئول عن إذاعة المنطق بحالته الراهنة في العالم العربي، حتى إن كتاب البصائر النصيرية في علم المنطق، والذي حققه ونشره الأستاذ الإمام محمد عبده، وكان يقوم بتدريسه، يعد تلخيصا أمينا لآراء الشيخ الرئيس.
وأثره في الإلهيات لا يقل عن أثره في المنطق. والمقصود بالإلهيات، أو العلم الإلهي، ما نسميه اليوم بالميتافيزيقا. تحدث فيه عن الواجب، أو واجب الوجود، وعن تسلسل الموجودات عن الواجب، وعن العلل. فواجب الوجود هو الموجود الذي متى فرض غير موجود عرض منه محال. وممكن الوجود هو الذي متى فرض غير موجود أو موجود لم يعرض منه محال. وقد مر بنا أن الكندي كان يصف الله بأنه الحق، وأن الفارابي كان يصفه بأنه «الواحد»، وهنا نرى نظرة ابن سينا وجودية ومنطقية؛ فالله هو واجب الوجود لذاته، والواجب مفهوم منطقي يقابل المستحيل، ويتوسط الممكن بينهما. والموجود هو حجر الزاوية في الفلسفة المشائية، على حين أن «الواحد» كما رأينا فوق الوجود في فلسفة أفلوطين.
أي إن الفرق بين المعلم الثاني والشيخ الرئيس أن الفارابي يجنح إلى الأفلاطونية، على حين يميل ابن سينا إلى المشائية. وليس هذا هو الفرق الوحيد بين الحكيمين وبين المدرستين؛ لأن ابن سينا اصطنع في آخر حياته فلسفة أخرى خلاف المشائية، التي بسطها في الشفاء وفي النجاة، هي التي يسميها الفلسفة المشرقية، كما تتمثل في الإشارات. والفلسفة المشرقية إشراقية، صوفية، متأثرة بالمشرق في فارس.
وقد فطن الغزالي (450-501 هجرية) لما في آراء ابن سينا من خطر على الإسلام، فكتب «تهافت الفلاسفة» يكفرهم في عشرين مسألة، على رأسها القول بقدم العالم ، وعدم علم الله بالجزئيات، ونفي المعاد. ولم يستطع ابن رشد في «تهافت التهافت» أن يقنع الجمهور بعدم صحة هذه التهم، وانتهى الأمر بالفلسفة إلى الانزواء، ودخلت في مباحث علم الكلام الذي أصبح يسمى علم التوحيد. •••
أشرنا إلى أن الأستاذ الإمام الشيخ محمد عبده جدد مدرسة ابن سينا، فاشتغل بالمنطق ورجع إلى كتبه القديمة، كما أنه في «رسالة التوحيد» سلك مسلك الشيخ الرئيس في إثبات «الواجب». ولكن محمد عبده لم يكن ملخصا لابن سينا أو شارحا لآرائه، بل كان صاحب مدرسة فكرية تدعو إلى تجديد النظر الديني بالعودة إلى الإسلام في منابعه الأولى، وإلى إصلاح المجتمع عن طريق إصلاح الدين والأخلاق والفكر، والخروج على التقليد والجمود، وإلى تحكيم العقل والفطرة السليمة. وكان محمد عبده قد أخذ هذا الاتجاه الحر الجديد من جمال الدين الأفغاني، الذي يعد بحق رئيس المدرسة.
وأخذ عن محمد عبده مصطفى عبد الرازق، الذي استطاع أن ينشر تعاليمه الفلسفية في الجامعة المصرية حين عين للتدريس فيها سنة 1927م، وعندئذ أصبح تعليم الفلسفة موجودا في مدرسة ثابتة ويدرس من فوق منبر جامعي. وخلاصة رأي الشيخ مصطفى عبد الرازق أن المسلمين كانت لهم فلسفة أصيلة لا هي يونانية، ولا هي فارسية وهندية، ويمكن التماس هذه الفلسفة في أصول الفقه. وهذه النظرية ليست جديدة مبتكرة كل الابتكار؛ لأن كثيرا من المفكرين في الإسلام لم تنقطع معارضتهم للفلسفة، وبخاصة للمنطق باعتبار أنه أداة البحث فيها، ولابن تيمية كتاب هام في نقد المنطق اليوناني.
ولكن تيارات العصر الحديث لم تكن تسمح بالعزلة عن الأفكار المعاصرة، وعن الفلسفات الأوروبية التي نشأت في أوروبا منذ القرن السابع عشر على يد ديكارت في فرنسا وبيكون في إنجلترا، ثم في القرن الثامن عشر على يد كانط في ألمانيا، فكان لا بد للفلسفة العربية المعاصرة أن تأخذ في الاعتبار هذه الفلسفات الوافدة من الغرب، والعمل على التوفيق بينها وبين تراثنا الفلسفي الموروث.
وكاتب هذه السطور يعتز بأنه كان تلميذا لمصطفى عبد الرازق بالجامعة المصرية، قرأنا عليه البصائر النصيرية في المنطق، ولباب الإشارات لابن سينا في محاضراته. ولازمته بعد ذلك طول حياته، وعليه قمت بتحضير رسالتي، ثم انتقلت إلى التعليم بالجامعة، متابعا روح المدرسة العقلية الحرة التي بدأها جمال الدين، ثم محمد عبده، ثم مصطفى عبد الرازق.
Página desconocida