رسالة في معرفة النفس الناطقة وأحوالها لأبي علي بن سينا
1 - في إثبات أن جوهر النفس مغاير لجوهر البدن
2 - في بقاء النفس بعد بوار البدن
3 - في مراتب النفوس في السعادة والشقاوة بعد المفارقة عن الأبدان
خاتمة الرسالة
رسالة في معرفة النفس الناطقة وأحوالها لأبي علي بن سينا
1 - في إثبات أن جوهر النفس مغاير لجوهر البدن
2 - في بقاء النفس بعد بوار البدن
3 - في مراتب النفوس في السعادة والشقاوة بعد المفارقة عن الأبدان
خاتمة الرسالة
رسالة في معرفة النفس الناطقة وأحوالها
رسالة في معرفة النفس الناطقة وأحوالها
تأليف
ابن سينا
رسالة في معرفة النفس الناطقة وأحوالها لأبي علي بن سينا
الحمد لله الذي لا يخيب من بابه آمل، ولا يحرم عن جنابه عامل، ولا يحجب العارفين عن ورود مناهل مشاهدة أنوار جلاله مانع وحائل، ولم يمنع المشتاقين للقائه عن الصعود من حضيض الفراق إلى أوج الوصال ناقص أو كامل، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له شهادة من أخلص لمشاهدة جلاله سره، وعرض في منازل التوحيد على أعين النظار سيره، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله الذي عقد على أجياد أرواح الأبرار قلائد الأسرار، فصلوات الله عليه وعلى آله الأخيار. وبعد؛ فهذه رسالة حررتها في علم النفس، وجعلتها ثلاثة فصول:
الفصل الأول:
في إثبات أن جوهر النفس مغاير لجوهر البدن.
الفصل الثاني:
في بقاء النفس بعد فناء البدن.
الفصل الثالث:
في مراتب النفوس في السعادة والشقاوة بعد مفارقة النفس عن البدن.
ثم ألحقت بها خاتمة أذكر فيها العوالم الثلاثة التي هي عالم العقل، وعالم النفس، وعالم الجسم، وترتيب الوجود من لدن الحق الأول إلى أقصى مراتب الموجودات على الترتيب النازل من عنده تعالى؛ ليكون الناظر في هذه الرسالة مطلعا على جمل من أجناس المخلوقات وشطر من أنواعها، فأهديت هذه الرسالة التي هي مشتملة على أهم المطالب وهو معرفة الإنسان نفسه، وما يئول إليه حاله بعد الارتقاء. وأيضا فإن معرفة النفس مرقاة إلى معرفة الرب تعالى كما أشار إليه قائل الحق بقوله : «من عرف نفسه فقد عرف ربه.» ولو كان المراد بالنفس في هذا الحديث هو هذا الجسم لكان كل أحد عارفا بربه، أعني خصوص معرفة، وليس كذلك؛ فهذه الرسالة تهديك إلى الأسرار المخزونة في عالم النفس الذي غفل عنه الدهماء من الناس، بل أكثر العلماء عنه غافلون؛ ولهذا أوحي إلى رسول الله لما سئل عن حقيقة الروح:
ويسألونك عن الروح قل الروح من أمر ربي ، ثم قال عقيبه:
وما أوتيتم من العلم إلا قليلا
تنبيها على أكثر الناس عن النفس وحقيقة الروح؛ فهذا هو الإشارة المختصرة إلى فوائد هذه الرسالة، فلنشرع فيما ذكر من الفصول بتوفيق الله وحسن هدايته.
الفصل الأول
في إثبات أن جوهر النفس مغاير لجوهر البدن
فنقول: المراد بالنفس ما يشير إليه كل أحد بقوله «أنا». وقد اختلف أهل العلم في أن المشار إليه بهذا اللفظ هو هذا البدن المشاهد المحسوس أو غيره. أما الأول فقد ظن أكثر الناس وكثير من المتكلمين أن الإنسان هو هذا البدن. وكل أحد فإنما يشير إليه بقوله «أنا»، فهذا ظن فاسد لما سنبينه. والقائلون بأنه غير هذا البدن المحسوس اختلفوا، فمنهم من قال إنه غير جسم، ولا جسماني، بل هو جوهر روحاني فاض على هذا القالب وأحياه واتخذه آلة في اكتساب المعارف والعلوم حتى يستكمل جوهره بها ويصير عارفا بربه عالما بحقائق معلوماته، فيستعد بذلك للرجوع إلى حضرته ويصير ملكا من ملائكته في سعادة لا نهاية لها، وهذا هو مذهب الحكماء الإلهيين والعلماء الربانيين. ووافقهم في ذلك جماعة من أرباب الرياضة وأصحاب المكاشفة؛ فإنهم شاهدوا جواهر أنفسهم عند انسلاخهم عن أبدانهم واتصالهم بالأنوار الإلهية، ولنا في صحة هذا المذهب من حيث البحث والنظر براهين:
البرهان الأول:
تأمل أيها العاقل في أنك اليوم في نفسك هو الذي كان موجودا جميع عمرك، حتى إنك تتذكر كثيرا مما جرى من أحوالك، فأنت إذن ثابت مستمر لا شك في ذلك، وبدنك وأجزاؤه ليس ثابتا مستمرا بل هو أبدا في التحلل والانتقاص؛ ولهذا يحتاج الإنسان إلى الغذاء بدل ما تحلل من بدنه؛ فإن البدن حار رطب، والحار إذا أثر في الرطب تحلل جوهر الرطب حتى فني بكليته كما لو يوقد عليه النار دائما فإنه ينحل إلى أن لا يبقى منه شيء؛ ولهذا لو حبس عن الإنسان الغذاء مدة قليلة نزل وانتقص قريبا من ربع بدنه، فتعلم نفسك أن في مدة عشرين سنة لم يبق شيء من أجزاء بدنك، وأنت تعلم بقاء ذاتك في هذه المدة، بل جميع عمرك؛ فذاتك مغايرة لهذا البدن وأجزائه الظاهرة والباطنة؛ فهذا برهان عظيم يفتح لنا باب الغيب، فإن جوهر النفس غائب عن الحواس والأوهام، فمن تحقق عنده هذا البرهان وتصوره في نفسه تصورا حقيقيا فقد أدرك ما غاب عن غيره.
البرهان الثاني:
هو أن الإنسان إذا كان متهما في أمر من الأمور فإنه يستحضر ذاته، حتى إنه يقول إني فعلت كذا أو فعلت كذا، وفي مثل هذه الحالة يكون غافلا عن جميع أجزاء بدنه، والمعلوم بالفعل غير ما هو مغفول عنه، فذات الإنسان مغايرة للبدن.
البرهان الثالث:
هو أن الإنسان يقول: أدركت الشيء الفلاني ببصري فاشتهيته، أو غضبت منه. وكذا يقول: أخذت بيدي ومشيت برجلي وتكلمت بلساني وسمعت بأذني، وتفكرت في كذا وتوهمته وتخيلته. فنحن نعلم بالضرورة أن في الإنسان شيئا جامعا يجمع هذه الإدراكات ويجمع هذه الأفعال، ونعلم أيضا بالضرورة أنه ليس شيء من أجزاء هذا البدن مجمعا لهذه الإدراكات والأفعال، فإنه لا يبصر بالأذن ولا يسمع بالبصر ولا يمشي باليد ولا يأخذ بالرجل؛ ففيه شيء مجمع لجميع الإدراكات والأفاعيل الإلهية. فإذن الإنسان الذي يشير إلى نفسه ب «أنا» مغاير لجملة أجزاء البدن، فهو شيء وراء البدن. ثم نقول إن هذا الشيء الذي إنه هوية الإنسان ومغاير لهذه الجثة لا يمكن أن يكون جسما ولا جسمانيا؛ لأنه لو كان كذلك لكان أيضا منحلا سيالا قابلا للكون والفساد بمنزلة هذا البدن، فلم يكن باقيا من أول عمره إلى آخره، فهو إذن جوهر فرد روحاني، بل هو نور فائض على هذا القالب المحسوس بسبب استعداده، وهو المزاج الإنساني. وإلى هذا المعنى أشير في الكتاب الإلهي بقوله:
فإذا سويته ونفخت فيه من روحي ؛ فالتسوية هو جعل البدن بالمزاج الإنسي مستعدا لأن تتعلق به النفس الناطقة، وقوله:
من روحي
إضافة لها إلى نفسه لكونها جوهرا روحانيا غير جسم ولا جسماني.
فهذا ما أردنا أن نذكره في هذا الفصل.
الفصل الثاني
في بقاء النفس بعد بوار البدن
اعلم أن الجوهر الذي هو الإنسان في الحقيقة لا يفنى بعد الموت ولا يبلى بعد المفارقة عن البدن، بل هو باق لبقاء خالقه تعالى؛ وذلك لأن جوهره أقوى من جوهر البدن لأنه محرك هذا البدن ومدبره ومتصرف فيه، والبدن منفصل عنه تابع له؛ فإذن لم يضر مفارقته عن الأبدان وجوده، إذ البدن موجود باق بعد الموت، فإذن لا يضر وجود النفس، وبقاؤه كان أولى ولأن النفس من مقولة الجوهر، ومقارنته مع البدن من مقولة المضاف، والإضافة أضعف الأعراض لأنه لا يتم وجودها بموضوعها، بل يحتاج إلى شيء آخر وهو المضاف إليه؛ فكيف يبطل الجوهر القائم بنفسه ببطلان أضعف الأعراض المحتاج إليه؟ ومثاله أن من يكون مالكا لشيء متصرفا فيه، فإذا بطل ذلك الشيء لم يبطل المالك ببطلانه؛ ولهذا فإن الإنسان إذا نام بطلت عنه الحواس والإدراكات وصار ملقى كالميت، فالبدن النائم في حالة شبيهة بحال الموتى كما قال رسول الله عليه السلام: «النوم أخو الموت.» ثم إن الإنسان في نومه يرى الأشياء ويسمعها، بل يدرك الغيب في المنامات الصادقة بحيث لا يتيسر له في اليقظة، فذلك برهان قاطع على أن جوهر النفس غير محتاج إلى هذا البدن، بل هو يضعف بمقارنة البدن ويتقوى بتعطله، فإذا مات البدن وخرب تخلص جوهر النفس عن جنس البدن، فإذا كان كاملا بالعلم والحكمة والعمل الصالح انجذب إلى الأنوار الإلهية وأنوار الملائكة والملأ الأعلى انجذاب إبرة إلى جبل عظيم من المغناطيس، وفاضت عليه السكينة وحقت له الطمأنينة، فنودي من الملأ الأعلى:
يا أيتها النفس المطمئنة * ارجعي إلى ربك راضية مرضية * فادخلي في عبادي * وادخلي جنتي .
الفصل الثالث
في مراتب النفوس في السعادة والشقاوة بعد المفارقة عن الأبدان
اعلم أن النفس الإنسانية لا تخلو عن ثلاثة أقسام؛ لأنها إما أن تكون كاملة في العلم والعمل، وإما أن تكون ناقصة فيهما. وإما أن تكون كاملة في أحدهما ناقصة في الآخر. وهذا القسم الثالث على قسمين؛ لأنها إما أن تكون كاملة في العلم ناقصة في العمل أو بالعكس، فتكون أصناف النفوس بحسب القسمة الأولى ثلاثة كما ورد في القرآن:
وكنتم أزواجا ثلاثة * فأصحاب الميمنة ما أصحاب الميمنة * وأصحاب المشأمة ما أصحاب المشأمة ، ثم قال:
والسابقون السابقون * أولئك المقربون . فنقول أما الكاملون في العلم والعمل، فهم السابقون ولهم الدرجة القصوى في جنات النعيم فيلتحقون من العوالم الثلاثة بعالم العقول، ويتنزهون أن يقارنوا درن الأجسام ونفوس الأفلاك مع جلالة قدرها، فهؤلاء هم السابقون الذين هم في المرتبة العليا. وأصحاب اليمين وهم في المرتبة الوسطى يرتفعون عن عالم الاستحالة، ويتصلون بنفوس الأفلاك ويتطهرون عن دنس عالم العناصر، ويشاهدون النعيم الذي خلقه الله تعالى في السماوات من الحور العين، وألوان الأطعمة اللذيذة وألحان الطيور التي تقصر أوصاف الواصفين عن ذكرها وشرحها كما قال عليه السلام حكاية عن ربه: «أعددت لعبادي الصالحين ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر.» فهذه مرتبة المتوسطين من الناس. ولا يبعد أن يتمادى أمرهم إلى أن يستعدوا للفوز بوصول الدرجة العليا، فينغمسوا في اللذات الحقيقية واصلين إلى السابقين بعد انقضاء دهور تأتي عليهم، فهذه مرتبة أصحاب الشمال وهم النازلون في المرتبة السفلى، المنغمسون في بحور الظلمات الطبيعية، المنتكسون في قعر الأجرام العنصرية، المنتحسون في دار البوار، وهم الذين
دعوا هنالك ثبورا * لا تدعوا اليوم ثبورا واحدا وادعوا ثبورا كثيرا .
فهذا شرح أحوال الأرواح البشرية بعد المفارقة عن الأجسام والمهاجرة إلى دار الآخرة، وقد اتفق على صحتها الوحي الإلهي والآراء الحكمية كما شرحناه.
خاتمة الرسالة
في ذكر العوالم الثلاثة التي هي عالم العقل وعالم النفس وعالم الجسم، وترتيب الوجود من لدن الحق تعالى إلى أقصى مراتب الموجودات على الترتيب النازل منه تعالى، فنقول:
إن أول ما خلق الله تعالى جوهر روحاني هو نور محض قائم لا في جسم ولا في مادة، دراك لذاته ولخالقه تعالى، هو عقل محض، وقد اتفق على صحة هذا جميع الحكماء الإلهيين والأنبياء عليهم السلام كما قال
صلى الله عليه وسلم : «أول ما خلق الله تعالى العقل، ثم قال له: «أقبل.» فأقبل. ثم قال له: «أدبر.» فأدبر. ثم قال: «فبعزتي وجلالي ما خلقت خلقا أعز منك، فبك أعطي وبك آخذ وبك أثيب وبك أعاقب».» فنقول هذا العقل له ثلاثة تعقلات:
أحدها:
أنه يعقل خالقه تعالى.
والثاني:
أنه يعقل ذاته واجبة بالأول تعالى.
والثالث:
أنه يعقل كونه ممكنا لذاته.
فحصل من تعقله خالقه عقل هو أيضا جوهر عقل آخر؛ كحصول السراج من سراج آخر.
وحصلت من تعقله ذاته واجبة بالأول نفس، هي أيضا جوهر روحاني كالعقل، إلا أنه في الترتيب دونه.
وحصل من تعقله ذاته ممكنة لذاته جوهر جسماني هو الفلك الأقصى، وهو العرش بلسان الشرع.
فتعلقت تلك النفس بذلك الجسم، فتلك النفس هي النفس الكلية المحركة للفلك الأقصى كما تحرك نفسنا جسمنا، تلك الحركة شوقية بها تتحرك النفس الكلية الفلكية شوقا وعشقا إلى العقل الأول، وهو المخلوق الأول، فصار العقل الأول عقلا للفلك الأقصى ومطاعا له، ثم حصل من العقل الثاني عقل ونفس وجسم؛ فالجسم هو فلك الثاني وهو فلك الثوابت وهو الكرسي بلسان الشرع، وتعلقت النفس الثانية بهذا الفلك.
وهكذا حصل من كل عقل ونفس وجسم، إلى أن ينتهي إلى العقل العاشر. ثم حصل منه العالم العنصري. والعناصر أربعة: الماء والنار والهواء والأرض، وحصلت منها المواليد الثلاثة وهي المعادن والنبات والحيوان، والإنسان الذي هو أكمل الحيوانات، وهو بنفسه يشبه الملائكة، ويمكن أن يبقى بقاء السرمد إذا تشبه بها في العلم والعمل، ويصير هو أيضا أخس من البهائم والسباع إذا اتصف بأخلاقها داخل الأرض واتبع هواه وكان أمره فرطا. وأما إذا تنزه عن طرفي الإفراط والتفريط في الأخلاق وتوسط بينهما، فلم يكن شبعا ولا حاملا في القوة الشهوانية، بل يكون عفيفا؛ فإن العفة توسط الشهوة، ولا يكون أيضا متهورا ولا جبانا، بل يكون شجاعا كسب القوة الغضبية، فإن الشجاعة تتوسط بين التهور والجبانة. وكذلك له حكمة في المعيشة، وهي حسن التدبير فيما بينه وبين غيره، إما بحسب أهل منزله الخاص وهو يتم بين زوج وزوجه، ووالد ومولود، ومالك ومملوك. وإما بحسب أهل المدينة في المعاملات وفي السياسات إن كانت له رتبة في السياسة. وهذه الحكمة توسط في تدبير نفسه وغيره دون الجربزة والبلاهة، وهذه الحكمة غير الحكمة التي هي العلم بالحقائق؛ فإن تلك الحكمة كلما كانت أشد إفراطا كان أحسن، وهذه الحكمة لا ينبغي أن تكون بالإفراط وإلا لكان جربزة، ولا بالتفريط وإلا لكانت بلاهة.
وهذه الخصال الثلاث؛ أعني العفة والشجاعة والحكمة، هي التي سميت «عدالة»؛ فالعدالة هي مجموع هذه الثلاث، فمن اتصف بها وكان أيضا حكيما بالحكمة النظرية التي هي العلم بحقائق الأشياء فقد صار كاملا في العلم والعمل، وصار من جملة من قيل في حقهم:
والسابقون السابقون * أولئك المقربون * في جنات النعيم .
فإن قلت: فهل يمكن أن تحد الحكمة النظرية تحديدا لا يمكن أن يكون أقل منه حتى تسعد بها النفس تلك السعادة، فيكون من السابقين المذكورين؟ قلت: يمكن ذلك التحديد بالتقرير فنقول:
ينبغي أن يكون عالما بوجود واجب الوجود تعالى وصفات جلاله ونعوت كماله وتنزيهه عن التشبيه، ويتصور عنايته بالمخلوقات وإحاطة علمه بالكائنات وشمول قدرته على جميع المقدرات، ثم يعلم أن وجوده يبتدئ من عنده ساريا إلى الجواهر العقلية، ثم إلى النفوس الروحانية الفلكية، ثم إلى الأجسام العنصرية بسائطها ومركباتها من المعادن والنبات والحيوان، ثم يتصور جوهر النفس الإنسانية وأوصافها، وأنها ليست بجسم ولا جسمانية، وأنها باقية بعد خراب البدن إما منعمة وإما معذبة، فهذا القدر من العلم مجمله ومفصله هو القدر الذي إذا حصل للإنسان استسعد بالسعادة التي شرحنا حالها، أعني سعادة السابقين الكاملين. وبقدر ما ينتقص علمه وعمله انتقص من درجاته وقربه من الله تعالى. وأما الذي قد انحطت رتبتهم عن درجة هؤلاء الكاملين علما وعملا، وهم المتوسطون، فيكونون إما كاملين في العمل دون العلم أو بالعكس؛ فهم يكونون محجوبين عن العالم العلوي مدة حتى تنفسخ عنهم تلك الهيئات الظلمانية بتلك الأعمال الردية التي كانوا يعملونها في حياتهم الدنيا، وتتقرر الهيئة النورية قليلا قليلا، فيتخلصوا إلى عالم القدس والطهارة ويلتحقوا بهؤلاء السابقين. وأما الكاملون في العلم دون العمل من القسمين المتوسطين، وهم المتنزهون من أهل الشرائع الذين يعملون الصالحات ويؤمنون بالله واليوم الآخر، ويتبعون الأنبياء فيما أمروا ونهوا عنه، ولكن لا تكون لهم زيادة بسط من حقائق العلوم ولا يعرفون أسرارها والأسرار والتنزيلات الإلهية وتأويلاتها، فهم إذا تخلصوا عن أبدانهم انجذبت نفوسهم إلى نفوس الأفلاك وعرجوا إلى السماوات، فشاهدوا جميع ما قيل لهم في الدنيا من أوصاف الجنة في غاية الشرف والرتبة، يلبسون فيها من سندس وإستبرق وحلوا أساور من فضة متكئين فيها على الأرائك لا يرون فيها شمسا ولا زمهريرا. ولكن لا يبعد أن يفضي بهم الأمر إلى أن يرتقوا إلى العالم العقلي والصقع الإلهي، فينغمسوا في اللذات الحقيقة التي لا يمكن أن يشرحها بيان ولا يكشف عنها مقال ولا يوازنها حال. وإذ قد وصلنا إلى هذا المقام، وكشفنا هذه الأسرار التي عميت عنها أبصار أكثر الناس وغفلوا عن أنفسهم وأحوالهم على الحقيقة، فلنكتف بهذا القدر من الاستبصار للطالبين المسترشدين. جعلنا الله وإياكم من المهتدين، إنه هو البر الرحيم، وصلى الله على سيدنا محمد وآله والطاهرين أجمعين. (تمت الرسالة الشريفة في النفس الناطقة بتوفيق الله وبأمن جوده وكرمه.)
Página desconocida