Lo racional y lo irracional en nuestra herencia intelectual
المعقول واللامعقول في تراثنا الفكري
Géneros
وجد الجاحظ أن كتابه قد طال، وخشي أن يمله القارئ لطوله هذا، فأورد دفاعا عنه كشف به لنا عن طريقته في كتابته، فهو يقول: «ينبغي لمن كتب كتابا ألا يكتبه إلا على أن الناس كلهم له أعداء، وكلهم عالم بالأمور، وكلهم متفرغ له، ثم لا يرضى بذلك حتى يدع كتابه غفلا، ولا يرضى بالرأي الفطير؛ فإن لابتداء الكتاب فتنة وعجبا، فإذا سكنت الطبيعة وهدأت الحركة، وتراجعت الأخلاط، وعادت النفس وافرة، أعاد النظر فيه، فتوقف عند فصوله توقف من يكون وزن طبعه في السلامة أنقص من وزن خوفه من العيب»، ثم يردف هذه العبارة المنهجية الجميلة التي كنت أتمنى لو قرأها عدد كبير ممن يتصدون اليوم للكتابة قبل أن ينضجوا لها؛ فلعلهم إذا رأوا في سعة اطلاع الجاحظ وحدة ذكائه وسيطرته على القلم، أن هذا كله لم يمنعه - كما يقول - من التردد والحرص قبل أن يعرض ما يكتبه على الناس، أقول: لعل ذلك يردعهم بعض الشيء عن سرعة الجري إلى الطابع والناشر بكل غث يرد على خواطرهم ... يردف الجاحظ عبارته المنهجية السابقة بعبارة أخرى تبين في وضوح طريقه في السير، إذ يقول: «فرأيت أن جملة الكتاب وإن كثر عدد ورقه، أن ذلك ليس مما يمل ويعتد علي فيه بالإطالة؛ لأنه وإن كان كتابا واحدا فإنه كتب كثيرة، وكل مصحف منها فهو أم على حدة، فإن أراد قراءة الجميع لم يطل عليه الباب الأول حتى يهجم على الثاني، ولا الثاني حتى يهجم على الثالث، فهو أبدا مستفيد ومستظرف، وبعضه يكون جماما لبعض، ولا يزال نشاطه زائدا، ومتى خرج من آي القرآن صار إلى الأثر، ومتى خرج من أثر صار إلى خبر، ثم يخرج من الخبر إلى شعر، ومن الشعر إلى نوادر، ومن النوادر إلى حكم عقلية ومقاييس سداد، ثم لا يترك هذا الباب ولعله أن يكون أثقل والملال إليه أسرع، حتي يفضي به إلى مزح وفكاهة، وإلى سخف وخرافة، ولست أراه سخفا إذ كنت إنما استعملت سيرة الحكماء وآداب العلماء.»
إن الصورة التي لا تبرح ذهني إذ أراني أقف مع القوم أرقب ما ينشطون به في عالم الفكر، هي هذه العصبية الثقافية التي فرقتهم فرقتين، تتعصب إحداهما للتراث العربي الأصيل ومعظمه كما نعلم لغة وشعر، وتتعصب الأخرى للمنقول من ثقافات الآخرين ، وربما تبادر إلى الذهن عن الجاحظ - لهذا الإلمام الواسع بالثقافتين معا - أنه يقف من هذا الصراع موقفا محايدا؛ فكتاب واحد مثل «البيان والتبيين» كفيل له بأن يوضع في مقدمة الفريق الأول، وكتاب واحد أيضا مثل «الحيوان» كفيل له بأن يوضع في مقدمة الفريق الثاني، لكنه مع ذلك أشد حنينا إلى الجانب العربي الخالص، يدلنا على ذلك موقفه من حركة الترجمة الذي أسلفنا لك ذكره، كما يدلنا عليه أقوال له صريحة، منها ما ورد في كتاب الحيوان من أن كل ما ورد في كتب العلماء وارد في أشعار العرب، إذ يقول: «وقل معنى سمعناه في باب معرفة الحيوان من الفلاسفة، وقرأناه في كتب الأطباء والمتكلمين، إلا ونحن قد وجدنا قريبا منه في أشعار العرب والأعراب، وفي معرفة أهل لغتنا وملتنا.»
لقد كان بودي أن أصحب الجاحظ في «البيان والتبيين» كما صحبته في بعض «الرسائل» وفي «الحيوان»، لكن وقفتي معه قد طالت، فضلا عن أن رحلتي هي على طريق العقل، و«البيان والتبيين» أكثره معتمد على «ذوق» الأديب.
الفصل الخامس
زجاجة المصباح
28
لقد اجتزنا حتى الآن من طريق العقل في تراثنا الفكري مرحلتين، رمزنا للأولى بالمشكاة؛ لأن التفكير العقلي فيها كان أقرب إلى إدراك البديهة الحاضرة منه إلى الحجاج المنطقي الذي يقدم المقدمات لينتهي منها إلى نتائجها، وإنما أردنا بذلك التفكير الفطري المعتمد على السليقة السليمة، ما كان في القرن السابع. ثم انتقلنا إلى مرحلة ثانية عقلية، امتدت خلال قرنين، هما الثامن والتاسع، ورأينا أن نقسم تلك المرحلة قسمين، جعلنا أحدهما للقرن الثامن، ورمزنا له بالمصباح ، وجعلنا ثانيهما للقرن التاسع الذي رأيناه امتدادا لمصباح العقل، ولكن وهجه اشتد لمعانا في هذه الفترة الثانية بالقياس إلى الفترة الأولى من المرحلة نفسها، وها نحن أولاء ننتقل إلى مرحلة ثالثة من الطريق، نغطي بها معالم القرن العاشر، وها هنا سيعلو التفكير العقلي من المقدمات المباشرة إلى مقدمات أعم وأشمل، أو بمعنى آخر، فهو سيعلو من مستوى العلوم إلى مستوى الفلسفة.
ولما كنت في هذه الرحلة الثقافية أستهدف ينابيع الثقافة بالمعنى الوسط لهذه الكلمة، فلا هو المعنى الذي يضيق حتى يكون هو التخصص، ولا هو المعنى الذي يتسع حتى يشمل طرائق العيش بأسرها، إنما هو معنى وسط بين الضيق والسعة، كان تطبيق ذلك بالنسبة لتفكير القرن العاشر المتميز بلون فلسفي، هو ألا أقف عند «الفلاسفة» الذين تناولوا «الفلسفة» بمعناها الاصطلاحي المعروف، كالفارابي وابن سينا، بل أكتفي من أصحاب الفكر الفلسفي عندئذ بمن أخذوا «الفلسفة» بمعنى أوسع قليلا، كإخوان الصفا، وأبي حيان التوحيدي، وربما أضفنا إليهما رجلا يمثل النقد الأدبي إذا رأينا هذا النقد عنده يرتكز على ما يشبه المبادئ الفلسفية العامة مثل عبد القادر الجرجاني (وإن لم يكن مقيما ببغداد) ورجلا آخر يمثل البحث اللغوي من زاوية فلسفية أيضا، مثل ابن جني.
29
أما «إخوان الصفا وخلان الوفا» فهم جماعة تألفت خفية في القرن العاشر الميلادي، وكان موطنها بين البصرة لطائفة منهم وبغداد لطائفة، ولم يعرف شيء عن أشخاصهم إلا خمسة يكتنفهم كثير من الغموض والشك، ذكرهم لنا أبو حيان التوحيدي في «الإمتاع والمؤانسة»، وكما هو واضح من نعتهم، هم جماعة ربطت بينهم روابط العشرة الأخوية الصافية المنزهة عن الهوى، المبرأة من كل خيانة وغدر، وقد تآلفت قلوبهم على الطهر وصدق النية وتبادل النصح الخالص، واشتركوا معا في وضع مذهب فكري زعموا له أنه يقربهم من سعادة الحياة الآخرة، ولعلنا نكون أقرب إلى الوصف الصحيح لو قلنا عن مضمون تلك الرسائل: إنه «تلخيص» جيد شامل للنظرة العلمية الفلسفية عندئذ، أو قل إنها خلاصة ما قد وصلت إليه معارف القوم في ذلك الحين، لكنهم عرضوا مادتهم في تلك الرسائل عرضا شائقا تخللته القصص الموضحة الشارحة لما أرادوه، فكأنهم جماعة من أصحاب الأدب الفلسفي، أو الفلسفة الأدبية، يريدون فلسفة وعلما، ويتوسلون إلى ذلك بأسلوب الأدب التصويري.
Página desconocida