Lo racional y lo irracional en nuestra herencia intelectual
المعقول واللامعقول في تراثنا الفكري
Géneros
لكننا - وا أسفاه - لم نكد ننزله هذه المنزلة العقلية الرفيعة لحصره حقائق الأشياء في ظواهرها، حتى نجده في المسألة الثامنة قد نقض نفسه بنفسه، ونسخ بيسراه ما كانت خطته يمناه؛ لأنه حين انتقل إلى مسألته الثامنة قدم لنا فكرة تذكرنا بفلسفة ليبنتز بأوروبا في القرن السابع عشر، فما ظنك برجل واحد يعرض عليك في آن واحد أفكارا، بعضها يحملك على أن تضعه مع هيوم - الفيلسوف الإنجليزي التجريبي المعروف - في زمرة واحدة، وبعضها الآخر يحملك على أن تضعه مع ليبنتز - الفيلسوف الأوروبي العقلاني - في زمرة واحدة أيضا؟ اللهم إلا إذا كنت قد أخطأت فهم ما قصد إليه «النظام»، ولنوضح هذا التناقض بين الرأيين فنقول:
لا بد لنا بادئ ذي بدء أن نلقي للقارئ ضوءا يبين له معاني زوجين من المصطلحات الفلسفية التي يكثر ورودها عند الفلاسفة المحدثين والمعاصرين لنا بصورة خاصة، أما أول هذين الزوجين فهو التباين القائم بين «الجوهر» و«العرض»، وأما ثانيهما فهو بين «العلاقات الداخلية» و«العلاقات الخارجية» (ويفضل بعض الكاتبين في الفلسفة من زملائنا أن يقول «الإضافات» بدل «العلاقات»؛ جريا على طريقة العرب الأقدمين في التسمية، كما يفضل أن يقول «المحايثة» بدل «الداخلية»)، والآن فلنستأنف الحديث:
كان الفلاسفة الأقدمون، وكثير من الفلاسفة المعاصرين، عندما يحللون حقائق الوجود الظاهرة ليردوها إلى أول أصولها، ينتهون إلى فكرة شديدة الشبه بما كان ليقوله عامة الناس بفطرتهم السليمة لو أنهم أوتوا القدرة على التعبير الفلسفي عن وجهات نظرهم، وذلك أنهم إذ يرون الأشياء من ظواهرها البادية، كألوانها وأشكالها وأصواتها ... إلخ، لا يتصورون أن تكون هذه الظواهر البادية للحواس معلقة في الخلاء بغير حامل يحملها أو دعامة تسندها، فكيف تكون حقيقة هذا «القط» مثلا هي مجموعة صفات وحركات؟ وهل إذا ما اختفى القط عن مجال إدراكي له بحواسي، بحيث اختفت صفاته وحركاته الظاهرة، أقول عنه إنه انعدم ولم يعد له وجود؟ أئذا تغيرت صفاته وحركاته أقول إنه قط آخر غير القط الذي رأيته منذ حين؟ لا، إنه لا بد أن يكون له جانب آخر ذو ثبات، هو الذي يخلع عليه هويته الثابتة، فيظل هو هو القط بعينه مهما تغيرت صفاته، أو اختفى عن مجال إدراكي الحسي، وإن الأمر ليزداد تعقيدا وعسرا إذا ما وضعنا الإنسان موضع النظر، فقد يسهل علينا أن نتصور فناء القط فناء تاما إذا ما اختفت عن حواسنا صفات بدنه وحركاته، لكنه لا يكون بهذه السهولة كلها إذا ما كان «الإنسان» هو موضع أنظارنا، فهل يسهل علينا أن نقول عن رجل نعرفه على مدى أعوام طوال، اعتورته خلالها تغيرات كثيرة. إنه ليس رجلا «واحدا»، بل هو عدد من الرجال يكثر بمقدار ما كثرت تغيراته؟ وإذا قلنا بل إنه «واحد» كان علينا أن نبحث فيما ربط كثرته ربطا خلع عليه هوية واحدة وتظل واحدة ما عاش، بل ربما تظل واحدة كذلك بعد موته، بدليل أنه سوف يبعث يوم البعث للحساب.
ومن أجل هذا كله؛ وجد الفلاسفة الأقدمون وكثير من المعاصرين ألا مفر من «افتراض» وجود «جوهر» وراء هذه الظواهر البادية، هو الذي يحمل تلك الظواهر، وهو الذي يظل ثابتا وذا دوام؛ ولذلك فهو الذي يضفي على الكائن الواحد وحدانيته وهويته، وأما الظواهر التي تظهر آنا وتختفي آنا، تجيء وتذهب، فيكون الكائن المعين على صفة معينة اليوم وعلى غيرها غدا، فهي «أعراض» تعرض لذلك الكائن دون أن تكون جزءا ضروريا من حقيقته الواحدة الثابتة.
وأمام هذين الطرفين: الجوهر والعرض، ترى أصحاب المذاهب الفلسفية على اختلاف، فمنهم من يجعل الجوهر من الشيء أو من الكائن هو كل حقيقته، ولا معول إطلاقا على الأعراض الطارئة، وهؤلاء هم الفلاسفة «المثاليون»، ومنهم من يتخذ الموقف المضاد، فيقول إن حقيقة الشيء أو الكائن هي ما أدركه منه، فإذا كان هذا الذي أدركه هو صفات تتبدل وتتغير وتظهر وتختفي، كانت هذه الصفات هي حقيقته، فإذا سألتهم: وما الذي يكسب الكائن الواحد هويته الواحدة؟ أجابوك: ليس لكائن ما هوية واحدة، إلا ما تعطيه إياها مجموعة العلاقات التي تربط تلك الصفات الظاهرة، ولما كانت الصفات الظاهرة تجاوز الحصر، كانت العلاقات التي تربطها بعضها ببعض تجاوز الحصر أيضا، ومن ثم أمكننا أن نتصور تركيبة منها تختلف عند كل فرد عنها في سائر الأفراد، وهنا تكمن ما نسميه «بالهوية» الواحدة .
وها نحن أولاء قد مسسنا بالحديث فكرة «العلاقات»؛ فالفلاسفة قديمهم وحديثهم على السواء يفرقون فيها بين نوعين ؛ داخلية، وخارجية. أما الأولى فهي التي تنبثق من طبيعة الشيء نفسه أو من طبيعة الفكرة نفسها، ولا تفرض عليها من الخارج فرضا موقوتا، فالعدد (12) - مثلا - تنبثق منه نفسه عدة علاقات تربطه بسواه، ولا يكون للحوادث الجارية دخل في ذلك؛ فهو «ضعف» العدد (6) وهو «ثلاثة أمثال» العدد (4) وهكذا. إن علاقته بالعدد (6) وبالعدد (4) نابعة من حقيقته، بحيث لا يمكن القول إنها علاقة قد تظهر اليوم وتختفي غدا، ومثل هذه العلاقات النابعة من حقائق الأشياء أو الأفكار، يعممه الفلاسفة المثاليون ليشمل كل كائن في الدنيا وكل فكرة عقلية كائنة ما كانت، ولم لا؟ أليس عندهم أن لكل شيء «جوهرا» ثابتا هو حقيقته؟ إذن فمن هذا الجوهر تلزم بعض العلاقات لزوما منطقيا اقتضته طبيعته، ولم يكن للحوادث العابرة دخل فيها.
لكن فريق التجريبيين من الفلاسفة لا يذهب هذا المذهب، نعم، إن لكل شيء ولكل فكرة علاقات تربطه أو تربطها بسواها، لكنها علاقات تطرأ عليه ولا تنبعث منه، فإذا كانت الورقة التي أكتب عليها الآن هي «فوق» المنضدة، و«على يمين» النافذة، و«تحت» المظلة، فكل هذه العلاقات قد تتغير إذا ما تغير وضعها، فلا مانع عند منطق العقل أن أرى الورقة في لحظة أخرى وقد أصبحت «تحت» المنضدة لا فوقها، و«إلى يسار» النافذة لا إلى يمينها، و«فوق» المظلة لا تحتها، وهم يسمون أمثال هذه العلاقات القائمة بحكم الظروف المحيطة، والتي تتغير إذا تغيرت الظروف دون أن تتغير حقيقة الشيء، يسمونها بالعلاقات الخارجية.
ونعود بعد هذا الاستطراد الطويل إلى صاحبنا «النظام»؛ فلقد أسلفنا له قولا يذهب به إلى أن حقائق الأشياء هي «أعراض اجتمعت» وليس «للجوهر» معنى إلا هذه الأعراض المجتمعة، هذا جميل، إذن فأنت يا صاحبي أميل إلى التجريبيين من طراز الفيلسوف الإنجليزي هيوم، لكنه لا يلبث في المسألة التالية أن يأخذ برأي آخر، يجعل الكائنات «كامنا بعضها في بعض»، وتأخر كائن منها عن كائن هو تأخر في تاريخ الظهور وحده، أي إن أول كائن خلقه الله لو كان قد أتيح لنا أن نحلل مضموناته، لوجدنا كامنا في هذه المضمونات كل الكائنات التي ظهرت بعد ذلك، فليس في الأمر أكثر من أن نتصور ذلك الكائن الأول وكأنه شريط التف حول نفسه، ثم أخذ على مر العصور ينبسط لتظهر كوامنه، فهذا الظهور وإن تأخر وقوعه، إلا أنه من حيث «الوجود» نفسه قد كانت تلك الكوامن موجودة منذ وجد الكائن الأول، وما دام «النظام» قد أخذ بهذا الرأي، فهو فيه لم يعد فيلسوفا تجريبيا من طراز هيوم، بل إنه يصبح بهذا الرأي فيلسوفا مثاليا عقلانيا من طراز ليبنتز، وإنه لمن العجب أن نرى «النظام» هنا يذكر مثالا على سبيل التطبيق لفكرته، هو نفسه المثال الذي يضربه ليبنتز على سبيل التطبيق كذلك، وهو مثل آدم وبنيه الذين هم أفراد الإنسانية جميعا، فكلا الرجلين يعتقد أن لو حللنا آدم - من حيث هو أصل - لوجدنا متضمنا فيه كل فرد إنساني ظهر بعد ذلك على مدار الدهر، تماما كما نجد نتيجة القياس المنطقي في مقدماته، وفي ذلك يقول «النظام» إن خلق آدم عليه السلام لم يتقدم خلق أبنائه؛ لأن هؤلاء الأبناء فروع لزمت عن أصلها، كانت في حالة الكمون أولا ثم انتقلت إلى حالة الظهور بعد ذلك.
وموضع المؤاخذة هو أن «النظام» قد جمع في أقواله رأيين، هما باختلاف منطقهما لا يجتمعان في عقل رجل واحد؛ لأنه إذا كانت حقائق الأشياء هي «ظواهرها»، فمعنى ذلك أن تختفي الأشياء فور اختفاء تلك الظواهر، وإذا كانت حقائق الأشياء هي «جواهر» خافية عنا بذاوتها، بادية لنا فيما يتعلق بها من ظواهر، إذن فبعد اختفاء الظواهر وزوالها تبقى الجواهر قائمة ولودا، فأي هاتين الوقفتين يريد «النظام»؟ في ظني أنه لو خير لتحتم أن يختار - باعتباره مسلما يؤمن بالبعث، والبعث يقتضي أن يكون هنالك جوهر يدوم ولا يفنى - أقول إنه لو خير لتحتم باعتباره مسلما أن يختار الوقفة التي تنفي أن تكون حقائق الكائنات مقصورة على ظواهرها، وأما أن يجمع بين الرأيين معا فأمر يمتنع على المنطق العقلي السليم.
ثم ننتقل مع «النظام » إلى المسألة التاسعة، وهي خاصة بإعجاز القرآن؛ ما مصدره؟ فنرى «النظام» يرد الإعجاز إلى مصدرين معا، فهو - أولا - معجز لأنه ينبئ عن أخبار الماضي وعن أخبار الآتي، وبديهي أنه إذا كان هذا الإنباء دليل إعجاز، فمعناه أنه ليس في وسع بشر أن ينبئ بمثل هذه الأخبار عن الماضي والآتي، وربما كان ذلك لأن الماضي الذي يخبر عنه سابق على كل تسجيل، والآتي الذي يخبر عنه مجاوز لكل استدلال يمكن الاهتداء إليه استنادا إلى الواقع الحاضر، أو إلى الماضي المعلوم للناس؛ لأنه لو كانت أخبار الماضي الواردة في القرآن مما «يجوز» أن نجد له أثرا في وثيقة، ثم لو كانت أخبار الآتي الواردة فيه مما «يجوز» استدلاله استدلالا عقليا مما قد وقع بالفعل، لما قلنا إن ذلك الإخبار معجز للبشر. وأما المصدر الثاني لإعجاز القرآن عند «النظام» فهو في أن الله تعالى قد صرف الناس عن معارضته ومحاكاته؛ لأنه لو لم يصرفهم هذه الصرفة عنه «لكانوا قادرين على أن يأتوا بسورة من مثله بلاغة وفصاحة ونظما»، وهنا كذلك نلاحظ تناقضا في موقف «النظام»؛ لأن التعليل الثاني لا ينفي «قدرة» البشر على أن يأتوا بمثل القرآن، لولا أن الله تعالى صرفهم عن هذه المحاولة، على حين أن التعليل الأول يتضمن نفي هذه القدرة عن البشر؛ صرفهم الله عن ذلك، أو لم يصرفهم.
Página desconocida