Lo racional y lo irracional en nuestra herencia intelectual
المعقول واللامعقول في تراثنا الفكري
Géneros
ولم يكن ليمضي قتل الخراساني بغير أثر مهما خطب أمير المؤمنين وأجاد في الخطاب دفاعا عن فعلته؛ فمنذ نشأت دنيا الناس، ولعله كذلك إلى أن تنتهي هذه الدنيا، والقتال على السلطان دائر الرحى بين الطامعين فيه، فإذا انتصر طامع على طامع، كانت الفضائل كلها للمنتصر، والخبائث كلها للمهزوم، وماذا نتوقع لقاتل منتصر أن يقول؟ أيقول: أيها الناس، قد قتلته وإني لخبيث وإنه لطيب؟! فإذا انتزع بنو العباس أسباب السلطان من بني أمية، كان الحق كله والفضل كله في أيدي العباسيين، وكان الشر كله والرذيلة كلها من صفات أعدائهم، وإذا أمسك المنصور بالخراساني، كان المنصور هو الذي «يسعى في ضياء الحق» وأما غريمه «فكان حسن ظاهره إنما يخفي باطنا قبيحا».
20
وإذا كان قيام الدولة العباسية، الذي ارتكز فيما ارتكز على تأييد جبهة فارسية في خراسان، يقودها أبو مسلم، ثم إذا كان الحكم العباسي لم يكد يبدأ حتى انقلب على مؤيده أبي مسلم فقتله، أقول: إنه إذا كان هذا كله من قبيل السياسة وما يلحق بها من معارك، فإن هذه المقدمات السياسية قد أنتجت نتائج ثقافية لم تكن لأول وهلة تبدو لازمة الظهور من تلك المقدمات، ومن هذه النتائج ما هو واقع في صميم النشاط العقلي الذي هو هدفنا الأول من هذا الكتاب، ولكن من هذه النتائج أيضا ما قد أسرف في مجانبة العقل وحدوده.
ونبدأ بهذا الجانب اللامعقول الذي أنتجه الصراع السياسي الذي ألممنا بطرف يسير منه، فنقول: إن ردود الفعل التي ظهرت بين الفرس لقتل الخراساني، كانت كثرتها الغالبة عجبا في عجب من إيغالها في سمادير الوهم والخرافة، لقد أيد هؤلاء الفرس قيادة أبي مسلم في نصرتها للعباسيين، لا لأنهم صدروا في ذلك التأييد عن عقيدة بأن بني العباس في ذواتهم هم أفضل عنصرا من بني أمية في ذواتهم، بل أيدوها لأن استبدال أسرة حاكمة جديدة بأسرة حاكمة قديمة، قد يفتح أمامهم أملا أوصدت أبوابه على أيدي الأسرة القديمة، وهو أن يكون للفارسي المسلم من الحقوق ومن المنزلة ما لزميله العربي المسلم، وها هو ذا الخراساني قد قتل على أيدي الحكام الجدد، إذن فليتمردوا بطريقة أخرى، وهي أن يقاوموا بثقافتهم الفارسية القديمة ثقافة العرب، وكان لهذه المقاومة الثقافية وجهان؛ أحدهما يدخل في باب المعارف العقلية العلمية، وأما الآخر فهو جهالة يرفضها العقل رفضا صريحا لا تردد فيه، وحسبك من هذا الوجه اللامعقول أن تعلم أن المدار في معظم الأحيان كان هو تأليه أبي مسلم الخراساني، وأنه بقتله إنما صعد روحه إلى السماء ليعود في رجعة أخرى، ولم يمت على نحو ما يتصور الناس الموت في سائر الرجال.
فلم يكد يسير في الناس نبأ الخراساني، حتى خرج بخراسان رجل يسمى «سنباد» مطالبا بدمه، ثم ما هو إلا أن تبعه في ثورته أتباع كثيرون من المجوس، حتى اضطر الخليفة المنصور أن يوجه إليه جيشا من عشرة آلاف، وإنه ليروى (راجع الكامل لابن الأثير، ج5، ص481 من طبعة دار صادر ببيروت) أن هزيمة سنباد أمام جيش الخليفة إنما جاءت نتيجة لحادث وقع، فشتت أعوان سنباد، وذلك أنه لما قدم جيش الخليفة قدم سنباد ما بين يديه من النساء السبايا المسلمات، وكن راكبات على جمال، فما كدن يبلغن معسكر المسلمين، حتى قمن على ظهور جمالهن ينادين: وامحمداه! ذهب الإسلام! وعندئذ وقعت الريح في أثوابهن، فنفرت الإبل وعادت إلى عسكر سنباد، فتفرق العسكر فزعا، ومن ثم كانت هزيمتهم.
ولم يلبث الخليفة أن قام في وجهه ثائرون آخرون من أهل خراسان، يعرفون باسم «الراوندية» مطالبين هم كذلك بدم أبي مسلم؛ على أن أهم ما يستوقف النظر في حركتي سنباد والراوندية، هو دعوتهم إلى عقائدهم الأولى، وإنه لمما يجدر ذكره بشأن جماعة الرواندية هؤلاء مفارقة تستحق التأمل، وهي أنهم - وهم الخارجون على تعاليم الإسلام غيظا مما نزل بقائدهم أبي مسلم - وقد ظمئت نفوسهم إلى شيء يروي ميولهم القديمة التي كانت تلتمس دائما ذلك الإنسان الرباني الذي يصل لهم ما بين السماء والأرض، فخيل إليهم يومئذ أنه لم يكن بين الناس من يستحق هذه المنزلة إلا الخليفة المنصور نفسه، فوفدت جماعاتهم إلى قصر المنصور يصيحون قائلون: هذا ربنا، وهذا قصره! فغضب المنصور وأخذ رؤساءهم وحبسهم، فحمل أصحابهم نعشا خاليا، ومروا به حتى صاروا على باب السجن فرموا به، وحملوا على الناس هناك، ودخلوا السجن عنوة، وأخرجوا أصحابهم.
والذي يهمنا بصورة خاصة من هذه الأحداث وأمثالها، هو أنه لا يعقل أن يكون قتل رجل كأبي مسلم الخراساني مبررا كافيا لمثل تلك الردة إلى ديانات الفرس فيما قبل الإسلام، وبمثل تلك السرعة وذلك الاتساع، مما يدل - فيما نرى - دلالة قوية على أن الإسلام لم يكن عند القوم أكثر من غطاء خارجي أبعد ما يكون عن ثبات الجذور، فكانت تكفيه أقل هبة من هواء ليطير فتنكشف العقائد الراسخة من تحته، وإذا قلنا «العقائد» فقد قلنا «الثقافة» أيضا، وهي كلها مما قد يرضي شيئا في وجدانهم، لكنه مبتور الصلة «بالعقل» وكل ما يتصل بالنظرة «العقلية» بسبب من الأسباب.
كانت حكمة الساسة من المسلمين قد حملتهم على أن يعدوا أتباع المجوسية (الزرادشتية) في فارس مماثلين لأهل الكتاب في أسس التعامل، أي إنهم أحرار في عقيدتهم الدينية ما داموا يدفعون الجزية، غير أن كثيرين جدا من الفرس قد آثروا اعتناق الإسلام، ثم ما لبثوا أن حاولوا تحوير الإسلام بما يتفق مع عقائدهم الأولى، فإذا تعذر عليهم ذلك، أبقوا على الإسلام ظاهرا، وأحيوا عقائدهم الأولى باطنا، حتى إذا ما سنحت بارقة من أمل أن يكون لهم السلطان، نفضوا عن أنفسهم ذلك الظاهر، وأبدوا أمام الأعين ما كانوا يبطنون.
ولم تكن المجوسية (أو الزرادشتية) وحدها هي القائمة في بلاد فارس عندما دخلها الإسلام، بل كان هنالك إلى جانبها ديانتان أخريان، هما المانوية والمزدكية، أما الأولى فهي تنسب إلى «ماني» (ولد 216 ميلادية ومات 276م)، وأهم مبادئها أن الكون قائم على أساسين يتنافسان؛ أحدهما للخير، والآخر للشر، وقد تمثلا في النور والظلمة، ثم ذهبوا إلى جانب ذلك مذهب القائلين بالتناسخ، وهي عقيدة نقلوها عن البوذية، وأما الديانة الثانية - أعني المزدكية - فتنسب إلى «مزدك» وهي ذات جانبين؛ جانب ديني يكمل ما قاله به «ماني» من تنافس بين النور والظلمة، بأن يجعل النصر للنور، وجانب اجتماعي يبيح شيوعية النساء والأموال.
إننا في هذا الكتاب نتعقب مسار «العقل» في تراثنا الفكري، فلما أن بلغ بنا السير أواسط القرن الثامن الميلادي، ووقفنا وقفة تمهد لنا النقلة من البصرة إلى بغداد، لفت أنظارنا ما اقترن بقيام الدولة العباسية عندئذ من مناصرة الفرس لها على سبيل الانتقام لثقافتهم القديمة التي أريد لها أن تنسخ نسخا، ولقوميتهم التي أريد لها أن تموت أو أن تتراجع إلى الصفوف الدنيا من طبقات المجتمع، ثم لفت أنظارنا بعد قليل كيف جاء موت الخراساني بأمر من الخليفة المنصور، بمثابة الضغطة على الزناد، فانفجر القوم يبدون من أنفسهم ما كانوا قد أخفوه، وكان هذا الذي أخفوه - كما أشرنا في إشارة عابرة - عقائد إلحادية لا تتسق مع منطق العقل حتى حين يكون هذا المنطق في أدنى درجاته وأيسرها، لكن رب ضارة نافعة كما يقولون؛ فمن هذا «اللامعقول» نبتت حركات عقلية نعتز بها إلى اليوم، تمثلت في فكر المعتزلة ومنطقهم؛ إذ هم يؤيدون بالعقل وحجته بنيان الدين، وكان الذين حفزهم إلى ذلك هو ما تعرض له هذا البنيان من سهام طائشة قذف بها قوم غاضبون، فحجب سعار الغضب عن أعينهم معالم الطريق. لكننا كذلك لا بد أن نضيف هنا نتيجة أخرى نتجت أيضا عن إحياء فريق من الفرس لدياناتهم الأولى، وهي أن دعوتهم تلك كانت بغير شك مساعدة على تقوية النظرة الصوفية عند أصحابها؛ فمهما اختلف المتصوفة المسلمون عن جماعات الزنادقة أولئك، فهم يلتقون معهم في الركون إلى غير طريق «العقل» في محاولتهم اختراق حجب المادة ليشهدوا وراءها «الحق»، أو ليدمجوا ذواتهم مع ذلك «الحق» دمجا، ولا عجب أن رأينا الناس يتأرجحون عند الحكم على المتصوفة، بين أن يجعلوهم في قمة الإيمان وأن يجعلوهم مع الملحدين أو الكافرين.
Página desconocida